سورة البقرة
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرة
قوله تعالى: {الم (1) ذلك الكتاب} [البقرة: 1-2].
أشار الله تعالى إلى القرءان في هذه الآية إشارة البعيد، وقد أشار له في آياتٍ أخر إشارة القريب، كقوله: {إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم} [الإسراء: 9]، وكقوله: {إنّ هذا القرآن يقصّ على بني إسرائيل} [النمل: 76].
وكقوله: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ} [الأنعام: 92].
وكقوله: {نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3]، إلى غير ذلك من الآيات.
وللجمع بين هذه الآيات أوجهٌ:
الوجه الأوّل: ما حرّره بعض علماء البلاغة من أنّ وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب أنّ هذا القرءان قريبٌ حاضرٌ في الأسماع والألسنة والقلوب، ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بعد مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق، وعمّا يزعمه الكفّار من أنّه سحرٌ أو شعرٌ أو كهانةٌ أو أساطير الأوّلين.
الوجه الثّاني: هو ما اختاره ابن جريرٍ الطّبريّ في تفسيره من أنّ ذلك إشارةٌ إلى ما تضمّنه قوله: {الم}، وأنّه أشار إليه إشارة البعيد لأنّ الكلام المشار إليه منقضٍ، ومعناه في الحقيقة القريب؛ لقرب انقضائه، وضرب له مثلًا بالرّجل يحدّث الرّجل فيقول له مرّةً: والله إنّ ذلك لكما قلت، ومرّةً يقول: والله إنّ هذا لكما قلت. فإشارة البعيد نظرًا إلى أنّ الكلام مضى وانقضى، وإشارة القريب نظرًا إلى قرب انقضائه.
الوجه الثّالث: أنّ العرب ربّما أشارت إلى القريب إشارة البعيد، فتكون الآية على أسلوبٍ من أساليب اللّغة العربيّة. ونظيره قول خفاف بن ندبة السّلميّ، لمّا قتل مالك بن حرملة الفزاريّ:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدًا على عيني تيمّمت مالكًا
أقول له والرّمح يـــأطر متنه ... تأمّل خفافًا إنّني أنا ذلكـــا
يعني أنا هذا. وهذا القول الأخير حكاه البخاريّ عن معمر بن المثنّى أبي عبيدة. قاله ابن كثيرٍ. وعلى كلّ حالٍ فعامّة المفسّرين على أنّ {ذلك الكتاب} بمعنى: هذا الكتاب.
قوله تعالى: {لا ريب فيه} هذه نكرةٌ في سياق النّفي ركّبت مع «لا»، فبنيت على الفتح.
والنّكرة إذا كانت كذلك فهي نصٌّ في العموم، كما تقرّر في علم الأصول.
و«لا» هذه الّتي هي نصٌّ في العموم هي المعروفة عند النّحويّين: «لا» الّتي لنفي الجنس، أمّا «لا» العاملة عمل «ليس» فهي ظاهرةٌ في العموم لا نصٌّ فيه.
وعليه فالآية نصٌّ في نفي كلّ فردٍ من أفراد الرّيب عن هذا القرآن العظيم.
وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على وجود الرّيب فيه لبعضٍ من النّاس، كالكفّار الشّاكّين، كقوله تعالى: {وإن كنتم في ريبٍ ممّا نزّلنا على عبدنا} [البقرة: 23].
وكقوله: {وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون} [التوبة: 45].
وكقوله: {بل هم في شكٍّ يلعبون} [الدخان: 9].
ووجه الجمع في ذلك: أنّ القرءان بالغ من وضوح الأدلّة وظهور المعجزة ما ينفي تطرّق أيّ ريبٍ إليه، وريب الكفارة فيه إنّما هو لعمى بصائرهم، كما بيّنه بقوله تعالى: {أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى} [الرعد: 19]، فصرّح بأنّ من لا يعلم أنّه الحقّ أنّ ذلك إنّما جاءه من قبل عماه. ومعلومٌ أنّ عدم رؤية الأعمى للشّمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها:
إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ ... فلا غرو أن يرتاب والصّبح مسفرٌ
وأجاب بعض العلماء: بأنّ قوله: {لا ريب فيه} خبرٌ أريد به الإنشاء. أي: لا ترتابوا فيه. وعليه فلا إشكال.
قوله تعالى: {هدًى للمتّقين} [البقرة: 2].
خصّص في هذه الآية هدى هذا الكتاب بالمتّقين، وقد جاء في آيةٍ أخرى ما يدلّ على أنّ هداه عامٌّ لجميع النّاس، وهي قوله تعالى: {شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للنّاس} [البقرة: 185]. ووجه الجمع بينهما: أنّ الهدى يستعمل في القرآن استعمالين:
أحدهما عامٌّ، والثّاني خاصٌّ.
أمّا الهدى العامّ فمعناه: إبانة طريق الحقّ وإيضاح المحجّة، سواءٌ سلكها المبيّن له أم لا.
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وأمّا ثمود فهديناهم} [فصلت: 17]، أي: بيّنّا لهم طريق الحقّ على لسان نبيّنا صالحٍ عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام، مع أنّهم لم يسلكوها، بدليل قوله عزّ وجلّ: {فاستحبّوا العمى على الهدى}.
ومنه -أيضًا- قوله تعالى: {إنّا هديناه السّبيل} [الإنسان: 3]، أي بيّنّا له طريق الخير والشّرّ، بدليل قوله: {إمّا شاكرًا وإمّا كفورًا (3)}.
وأمّا الهدى الخاصّ: فهو تفضّل الله بالتّوفيق على العبد.
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أولئك الّذين هدى الله} [الأنعام: 90]، وقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125].
فإذا علمت ذلك، فاعلم أنّ الهدى الخاصّ بالمتّقين هو الهدى الخاصّ، وهو التّفضّل بالتّوفيق عليهم. والهدى العامّ للنّاس هو الهدى العامّ، وهو إبانة الطّريق وإيضاح المحجّة.
وبهذا يرتفع الإشكال أيضًا بين قوله تعالى: {إنّك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56]، مع قوله تعالى: {وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ} [الشورى: 52]؛ لأنّ الهدى المنفيّ عنه صلّى الله عليه وسلّم هو الهدى الخاصّ، لأنّ التّوفيق بيد الله وحده، {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا} [المائدة: 41].
والهدى المثبت له هو الهدى العامّ الّذي هو إبانة الطّريق، وقد بيّنها صلّى الله عليه وسلّم حتّى تركها محجّةً بيضاء ليلها كنهارها: {والله يدعو إلى دار السّلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ}[يونس: 25].
قوله تعالى: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على عدم إيمان الكفّار.
وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على أنّ بعض الكفّار يؤمن بالله ورسوله، كقوله تعالى: {قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]، وكقوله: {كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم} [النساء: 94]، وكقوله: {ومن هؤلاء من يؤمن به} [العنكبوت: 47].
ووجه الجمع ظاهرٌ، وهو أنّ الآية من العامّ المخصوص؛ لأنّها في خصوص الأشقياء الّذين سبقت لهم في علم الله الشّقاوة، المشار إليهم بقوله: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آيةٍ حتّى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96 - 97]، ويدلّ لهذا التّخصيص قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7].
وأجاب البعض بأنّ المعنى: لا يؤمنون، ما دام الطّبع على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة على أبصارهم، فإن أزال الله عنهم ذلك بفضله آمنوا.
قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة: 7] الآية.
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّهم مجبورون؛ لأنّ من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الإيمان.
وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على أنّ كفرهم واقعٌ بمشيئتهم وإرادتهم، كقوله تعالى: {فاستحبّوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]، وكقوله تعالى: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة} [البقرة: 175]، وكقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، وكقوله: {ذلك بما قدّمت أيديكم} [آل عمران: 182]، وكقوله: {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم} [المائدة: 80].
والجواب أنّ الختم والطّبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم، كلّ ذلك عقابٌ من الله لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرّسل باختيارهم ومشيئتهم، فعاقبهم الله بعدم التّوفيق جزاءً وفاقًا، كما بيّنه تعالى بقوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} [النساء: 155]، وقوله: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم} [المنافقون: 3]، وبقوله: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ} [الأنعام: 110]، وقوله: {فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]، وقوله: {في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضًا} [البقرة: 10]، وقوله: {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}[المطففين: 14]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} [البقرة: 17].
أفرد في هذه الآية الضّمير في قوله: {استوقد} وفي قوله: {ما حوله}، وجمع الضّمير في قوله: {ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون}، مع أنّ مرجع كلّ هذه الضّمائر شيءٌ واحدٌ وهو لفظة «الّذي» من قوله: {مثلهم كمثل الّذي}.
والجواب عن هذا أنّ لفظة: «الّذي» مفردٌ ومعناها عامٌّ لكلّ ما تشمله صلتها. وقد تقرّر في علم الأصول: أنّ الأسماء الموصولة كلّها من صيغ العموم.
فإذا حقّقت ذلك، فاعلم أنّ إفراد الضّمير باعتبار لفظة: «الّذي» وجمعه باعتبار معناها، ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء: أنّ «الّذي» تأتي بمعنى الّذين.
ومن أمثلة ذلك في القرءان الكريم هذه الآية الكريمة؛ فقوله: {كمثل الّذي استوقد} أي: كمثل الّذين استوقدوا. بدليل قوله: {ذهب الله بنورهم وتركهم}.
وقوله: {والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون} [الزمر: 33].
وقوله: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس} [البقرة: 264]، أي: كالّذين ينفقون. بدليل قوله: {لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا} [البقرة: 264].
وقوله: {وخضتم كالّذي خاضوا} [التوبة: 69]، بناءٌ على الصّحيح، من أنّ: «الّذي» فيها موصولةٌ لا مصدريّةٌ.
ونظير هذا من كلام العرب قول الرّاجز:
يا ربّ عبسٍ لا تبارك في أحد ... في قائمٍ منهم ولا في من قعد
إلّا الّذي قاموا بأطراف المسد
وقول الشّاعر -وهو أشهب بن رميلة، وأنشده سيبويه لإطلاق «الّذي» وإرادة «الّذين»-:
وإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالدٍ
وزعم ابن الأنباريّ أنّ لفظة «الّذي» في بيت أشهب جمعٌ «اللذ» بالسّكون، وأن «الّذي» في الآية مفردٌ أريد به الجمع. وكلام سيبويه يردّ عليه.
وقول عديل بن الفرخ العجليّ:
وبتّ أساقي القوم إخوتي الّذي ... غوايتهم غيّي ورشدهم رشدي
وقال بعضهم: المستوقد واحدٌ لجماعةٍ معه. ولا يخفى ضعفه.
قوله تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} [البقرة: 18].
هذه الآية يدلّ ظاهرها على أنّ المنافقين لا يسمعون، ولا يتكلّمون، ولا يبصرون.
وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} [البقرة: 20]، وكقوله: {وإن يقولوا تسمع لقولهم} الآية [المنافقون: 4]، أي: فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، وقوله: {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنةٍ حدادٍ} [الأحزاب: 19]، إلى غير ذلك من الآيات.
ووجه الجمع ظاهرٌ، وهو أنّهم بكمٌ عن النّطق بالحقّ، وإن تكلّموا بغيره، صمٌّ عن سماع الحقّ وإن سمعوا غيره، عميٌ عن رؤية الحقّ وإنّ رأوا غيره.
وقد بيّن تعالى هذا الجمع بقوله: {وجعلنا لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدةً} الآية [الأحقاف: 26]؛ لأنّ ما لا يغني شيئًا فهو كالمعدوم.
والعرب ربّما أطلقت الصّمم على السّماع الّذي لا أثر له، ومنه قول قعنب بن أمّ صاحبٍ:
صمٌّ إذا سمعوا خيرًا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوءٍ عندهم أذنوا
وقول الشّاعر:
أصمّ عن الأمر الّذي لا أريده ... وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر:
فأصممت عمرًا وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخّار
وكذلك الكلام الّذي لا فائدة فيه فهو كالعدم.
قال هبيرة بن أبي وهبٍ المخزوميّ:
وإنّ كلام المرء في غير كنهه ... لكالنّبل تهوي ليس فيها نصالها
قوله تعالى: {فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة} الآية [البقرة: 24].
هذه الآية تدلّ على أنّ هذه النّار كانت معروفةً عندهم؛ بدليل «أل» العهديّة، وقد قال تعالى في سورة «التّحريم»: {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها النّاس والحجارة} [التحريم: 6]، فتنكير النّار هنا يدلّ على أنّها لم تكن معروفةً عندهم بهذه الصّفات.
ووجه الجمع: أنّهم لم يكونوا يعلمون أنّ من صفاتها كون النّاس والحجارة وقودًا لها فنزلت آية «التّحريم»، فعرفوا منها ذلك من صفات النّار، ثمّ لمّا كانت معروفةً عندهم نزلت آية «البقرة»، فعرّفت فيها النّار بـ«أل» العهديّة لأنّها معهودةٌ عندهم في آية «التّحريم».
ذكر هذا الجمع البيضاويّ والخطيب في تفسيريهما، وزعما أنّ آية «التّحريم» نزلت بمكّة.
وظاهر القرآن يدلّ على هذا الجمع؛ لأنّ تعريف النّار هنا بـ«أل» العهديّة يدلّ على عهدٍ سابقٍ، والموصول وصلته دليلٌ على العهد وعدم قصد الجنس، ولا ينافي ذلك أنّ سورة «التّحريم» مدنيّةٌ، وأنّ الظّاهر نزولها بعد «البقرة»،كما روي عن ابن عبّاسٍ، لجواز كون الآية مكّيّةً في سورةٍ مدنيّةٍ كالعكس.
قوله تعالى: {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثمّ استوى إلى السّماء} الآية [البقرة: 29].
هذه الآية تدلّ على أنّ خلق الأرض قبل خلق السّماء، بدليل لفظة: «ثمّ» الّتي هي للتّرتيب والانفصال، وكذلك آية «حم السّجدة»، تدلّ -أيضًا- على خلق الأرض قبل خلق السّماء؛ لأنّه قال فيها: {قل أئنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين}، إلى أن قال: {ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخانٌ} الآية [فصلت: 9-11]. مع أنّ آية «النّازعات» تدلّ على أنّ دحو الأرض بعد خلق السّماء؛ لأنّه قال فيها: {أأنتم أشدّ خلقًا أم السّماء بناها}[النازعات: 27]، ثمّ قال: {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات: 30].
اعلم أوّلًا أنّ ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية «السّجدة» وآية «النّازعات»، فأجاب بأنّ الله تعالى خلق الأرض أوّلًا قبل السّماء غير مدحوّةٍ، ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبعًا في يومين، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرّواسي والأنهار وغير ذلك.
فأصل خلق الأرض قبل خلق السّماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السّماء.
ويدلّ لهذا أنّه قال: {والأرض بعد ذلك دحاها} ولم يقل: خلقها، ثمّ فسّر دحوه إيّاها بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} الآية [النازعات: 31].
وهذا الجمع الّذي جمع به ابن عبّاسٍ بين هاتين الآيتين واضحٌ لا إشكال فيه، مفهومٌ من ظاهر القرآن العظيم، إلّا أنّه يرد عليه إشكالٌ من آية «البقرة» هذه، وإيضاحه: أنّ ابن عبّاسٍ جمع بأنّ خلق الأرض قبل خلق السّماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السّماء.
وفي هذه الآية التّصريح بأنّ جميع ما في الأرض مخلوقٌ قبل خلق السّماء؛ لأنّه قال فيها: {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثمّ استوى إلى السّماء} الآية.
وقد مكثت زمنًا طويلًا أفكّر في حلّ هذا الإشكال، حتّى هداني الله إليه ذات يومٍ ففهمته من القرءان العظيم، وإيضاحه: أنّ هذا الإشكال مرفوعٌ من وجهين، كلٌّ منهما تدلّ عليه آيةٌ من القرءان:
الأوّل: أنّ المراد بخلق ما في الأرض جميعًا قبل خلق السّماء: الخلق اللّغويّ الّذي هو التّقدير، لا الخلق بالفعل الّذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود، والعرب تسمّي التّقدير خلقًا، ومنه قول زهيرٍ:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثمّ لا يفري
والدّليل على أنّ المراد بهذا الخلق التّقدير: أنّه تعالى نصّ على ذلك في سورة «فصّلت» حيث قال: {وقدّر فيها أقواتها}، ثمّ قال: {ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخانٌ} الآية [فصلت: 11].
الوجه الثّاني: أنّه لمّا خلق الأرض غير مدحوّةٍ، وهي أصلٌ لكلّ ما فيها، كان كلّ ما فيها كأنّه خلقٌ بالفعل؛ لوجود أصله فعلًا، والدّليل من القرءان على أنّ وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع، وإن لم يكن موجودًا بالفعل. قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ قلنا للملائكة} الآية [الأعراف: 11]، فقوله: {خلقناكم ثمّ صوّرناكم} [الأعراف: 11]، أي: بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الّذي هو أصلكم.
وجمع بعض العلماء بأنّ معنى قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها}، أي: مع ذلك. فلفظة «بعد» بمعنى «مع». ونظيره قوله تعالى: {عتلٍّ بعد ذلك زنيمٍ} [القلم: 13].
وعليه فلا إشكال في الآية، ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشّاذّة، -وبها قرأ مجاهدٌ:- (والأرض مع ذلك دحاها).
وجمع بعضهم بأوجهٍ ضعيفةٍ؛ لأنّها مبنيّةٌ على أن خلق السّماء قبل خلق الأرض، وهو خلاف التّحقيق.
منها: أنّ «ثمّ» بمعنى الواو.
ومنها: أنّها للتّرتيب الذّكريّ، كقوله تعالى: {ثمّ كان من الّذين آمنوا} الآية [البلد: 17].
قوله تعالى: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماواتٍ} الآية [البقرة: 29].
أفرد هنا تعالى لفظ «السّماء»، وردّ عليه الضّمير بصيغة الجمع، في قوله: «فسوّاهنّ».
وللجمع بين ضمير الجمع ومفسّره المفرد وجهان:
الأوّل: أنّ المراد بالسّماء: جنسها الصّادق بسبع سماواتٍ، وعليه فـ«أل» جنسيّةٌ.
الثّاني: أنّه لا خلاف بين أهل اللّسان العربيّ في وقوع إطلاق المفرد وإرادة الجمع، مع تعريف المفرد وتنكيره وإضافته، وهو كثيرٌ في القرءان العظيم وفي كلام العرب.
فمن أمثلته في القرآن واللّفظ معرّفٌ: قوله تعالى: {وتؤمنون بالكتاب كلّه} [آل عمران: 119]، أي: بالكتب كلّها، بدليل قوله تعالى: {كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه} [البقرة: 285]، وقوله: {وقل آمنت بما أنزل الله من كتابٍ} [الشورى: 15]. وقوله: {سيهزم الجمع ويولّون الدّبر} [القمر: 45]، يعني: الأدبار، كما هو ظاهرٌ. وقوله تعالى: {أولئك يجزون الغرفة} [الفرقان: 75]، يعني الغرف، بدليل قوله تعالى: {لهم غرفٌ من فوقها غرفٌ مبنيّةٌ} [الزمر: 20] وقوله تعالى: {وهم في الغرفات آمنون} [سبأ: 37]. وقوله تعالى: {وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} [الفجر: 22]، أي: الملائكة، بدليل قوله تعالى: {هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله في ظللٍ من الغمام والملائكة} [البقرة: 210]، وقوله تعالى: {أو الطّفل الّذين لم يظهروا}، الآية [النور: 31]، يعني: الأطفال الّذين لم يظهروا. وقوله تعالى: {هم العدوّ فاحذرهم}الآية [المنافقون: 4]، يعني: الأعداء.
ومن أمثلته واللّفظ منكّرٌ: قوله تعالى: {إنّ المتّقين في جنّاتٍ ونهرٍ} [القمر: 54] يعني: وأنهارٍ، بدليل قوله تعالى: {فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ} الآية [محمد: 15]، وقوله تعالى: {واجعلنا للمتّقين إمامًا} [الفرقان: 74]، يعني: أئمّةً، وقوله تعالى: {مستكبرين به سامرًا تهجرون} [المؤمنون: 67]، يعني: سامرين، وقوله: {ثمّ نخرجكم طفلًا} [الحج: 5]، يعني: أطفالًا، وقوله: {لا نفرّق بين أحدٍ منهم} [البقرة: 136]، أي: بينهم، وقوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقًا} [النساء: 69] أي: رفقاء، وقوله: {وإن كنتم جنبًا فاطّهّروا} [المائدة: 6]، أي: جنبين أو أجنابًا، وقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ} [التحريم: 4]، أي: مظاهرون؛ لدلالة السّياق فيها كلّها على الجمع. واستدلّ سيبويه لهذا بقوله: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا} [النساء: 4] أي: أنفسًا.
ومن أمثلته واللّفظ مضافٌ: قوله تعالى: {إنّ هؤلاء ضيفي} الآية [الحجر: 68]، يعني: أضيافي، وقوله: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره} الآية [النور: 63]، أي: أوامره.
وأنشد سيبويه لإطلاق المفرد وإرادة الجمع قول الشّاعر، -وهو علقمة بن عبدة التّميميّ-:
بها جيف الحسرى فأمّا عظامها ... فبيضٌ وأمّا جلدها فصليب
يعني: وأمّا جلودها فصليبةٌ.
وأنشد له -أيضًا- قول الآخر:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإنّ زمانكم زمنٌ خميصٌ
يعني: في بعض بطونكم.
ومن شواهده قول عقيل بن علّفة المرّيّ:
وكان بنو فزارة شرّ عمٍّ ... وكنت لهم كشرّ بني الأخينا
يعني: شرّ أعمامٍ.
وقول العبّاس بن مرداسٍ السّلميّ:
فقلنا أسلموا إنّا أخوكم ... وقد سلمت من الإحن الصّدور
يعني: إنّا إخوانكم. وقول الآخر:
يا عاذلاتي لا تردن ملامةً ... إنّ العواذل ليس لي بأمير
يعني: لسن لي بأمراء.
وهذا في النّعت بالمصدر مطّردٌ كقول زهيرٍ:
متى يشتجر قومٌ يقل سرواتهم ... هم بيننا فهم رضًى وهم عدل
ولأجل مراعاة هذا لم يجمع في القرءان: السّمع والطّرف والضّيف؛ لأنّ أصلها مصادر، كقوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة: 7]، وقوله: {لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواءٌ}، [إبراهي: 43]، وقوله تعالى: {ينظرون من طرفٍ خفيٍّ} [الشورى: 45]، وقوله: {إنّ هؤلاء ضيفي} [الحجر: 68].
قوله تعالى: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} الآية [البقرة: 35]، يتوهّم معارضته مع قوله: {حيث شئتما}.
والجواب: أنّ قوله: «اسكن» أمرٌ بالسّكنى لا بالسّكون الّذي هو ضدّ الحركة، فالأمر باتّخاذ الجنّة مسكنًا لا ينافي التّحرّك فيها وأكلهما من حيث شاءا.
قوله تعالى: {ولا تكونوا أوّل كافرٍ به ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا} الآية [البقرة: 41].
جاء في هذه الآية بصيغة خطاب الجمع في قوله: {ولا تكونوا} {ولا تشتروا}، وقد أفرد لفظة {كافرٍ}، ولم يقل: ولا تكونوا أوّل كافرين.
ووجه الجمع بين الإفراد والجمع في شيءٍ واحدٍ: أنّ معنى: {ولا تكونوا أوّل كافرٍ} أي: أوّل فريقٍ كافرٍ، فاللّفظ مفردٌ والمعنى جمعٌ، فيجوز مراعاة كلٍّ منها، وقد جمع اللّغتين قول الشّاعر:
فإذا هم طعموا فألأم طاعمٍ ... وإذا هم جاعوا فشرّ جياعٍ
وقيل: هو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع، كقول ابن علّفة:
وكان بنو فزارة شرّ عمٍّ... .....
كما تقدّم قريبًا.
قوله تعالى: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} الآية [البقرة: 46].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ الظّنّ يكفي في أمور المعاد.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {إنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئًا} [يونس: 36]، وكقوله: {إن هم إلّا يظنّون} [الجاثية: 24].
ووجه الجمع أنّ الظّنّ بمعنى اليقين، والعرب تطلق الظّنّ بمعنى اليقين ومعنى الشّكّ.
وإتيان الظّنّ بمعنى اليقين كثيرٌ في القرءان وفي كلام العرب.
فمن أمثلته في القرءان هذه الآية، وقوله تعالى: {قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو الله كم من فئةٍ قليلةٍ} الآية [البقرة: 249]، وقوله: {ورأى المجرمون النّار فظنّوا أنّهم مواقعوها} [الكهف: 53]، أي: أيقنوا، وقوله تعالى: {إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه} [الحاقة: 20]، أي: أيقنت.
ونظيره من كلام العرب قول عميرة بن طارقٍ:
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم ... وأجعل منّي الظّنّ غيبًا مرجّما
أي: أجعل منّي اليقين غيبًا.
وقول دريد بن الصّمّة:
فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجّجٍ ... سراتهم في الفارسيّ المسرّد
فقوله: «ظنّوا» أي: أيقنوا.
قوله تعالى لبني إسرائيل: {وأنّي فضّلتكم على العالمين} [البقرة: 47].
لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمّة: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس} الآية [آل عمران: 110]؛ لأنّ المراد بالعالمين عالمو زمانهم، بدليل الآيات والأحاديث المصرّحة بأنّ هذه الأمّة أفضل منهم، كحديث معاوية بن حيدة القشيريّ في المسانيد والسّنن، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((أنتم توفون سبعين أمّةً أنتم خيرها وأكرمها على الله)).
ألا ترى أنّ الله جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلةً حيث قال: {منهم أمّةٌ مقتصدةٌ وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون} [المائدة: 66]، وجعل في هذه الأمّة درجةً أعلى من درجة المقتصد، هي درجة السّابق بالخيرات، حيث قال تعالى: {ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات} الآية [فاطر: 32].
قوله تعالى: {وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} الآية [البقرة: 49].
ظاهر هذه الآية الكريمة يدلّ على أنّ استحياء النّساء من جملة العذاب الّذي كان يسومهم فرعون.
وقد جاء في آيةٍ أخرى ما يدلّ على أنّ الإناث هبةٌ من هبات الله لمن أعطاهنّ له، وهو قوله تعالى: {يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذّكور} [الشورى: 49]. فبقاء بعض الأولاد على هذا خيرٌ من موتهم كلّهم، كما قال الهذلي:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراشٌ وبعض الشّرّ أهون من بعض
والجواب عن هذا: أنّ الإناث وإن كنّ هبةً من الله لمن أعطاهنّ له، فبقاؤهنّ تحت يد العدوّ -يفعل بهنّ ما يشاء من الفاحشة والعار، ويستخدمهنّ في الأعمال الشّاقّة- نوعٌ من العذاب، وموتهنّ راحةٌ من هذا العذاب، وقد كان العرب يتمنّون موت الإناث خوفًا من مثل هذا.
قال بعض شعراء العرب في ابنةٍ له تسمّى مودّة:
مودّة تهوى عمر شيخٍ يسرّه ... ها الموت قبل اللّيل لو أنّها تدري
يخاف عليها جفوة النّاس بعده ... ولا ختن يرجى أودّ من القبر
وقال الآخر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقًا ... والموت أكرم نزّالٍ على الحرم
[وقال بعض راجزيهم:] (*)
إنّي وإن سيق إليّ المهر ... عبدٌ وألفان وذودٌ عشر
أحبّ أصهاري إليّ القبر
وقال بعض الأدباء:
وفي القرءان الإشارة إلى أنّ الإنسان يسوءه إهانة ذرّيّته الضّعاف بعد موته في قوله تعالى: {وليخش الّذين لو تركوا من خلفهم ذرّيّةً ضعافًا خافوا عليهم} [النساء: 9].
قوله تعالى: {وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم} [البقرة: 57].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ الله أكرم بني إسرائيل بنوعين من أنواع الطّعام، وهما المنّ والسّلوى.
وقد جاء في آيةٍ أخرى ما يدلّ على أنّهم لم يكن عندهم إلّا طعامٌ واحدٌ، وهي قوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعامٍ واحدٍ} [البقرة: 61].
وللجمع بينهما أوجهٌ:
الأوّل: أنّ المنّ -وهو التّرنجبين على قول الأكثرين- من جنس الشّراب، والطّعام الواحد هو السّلوى، وهو على قول الأكثرين: السّماني أو طائرٌ يشبهه.
الوجه الثّاني: أنّ المجعول على المائدة الواحدة تسمّيه العرب طعامًا واحدًا وإن اختلفت أنواعه، ومنه قولهم: أكلنا طعام فلانٍ، وإن كان أنواعًا مختلفةً.
والّذي يظهر أنّ هذا الوجه أصحّ من الأوّل؛ لأنّ تفسير المنّ بخصوص التّرنجبين يردّه الحديث المتّفق عليه: ((الكمأة من المنّ ...)) الحديث.
الثّالث: أنّهم سمّوه طعامًا واحدًا؛ لأنّه لا يتغيّر ولا يتبدّل كلّ يومٍ، فهو مأكلٌ واحدٌ. وهو ظاهرٌ.
قوله تعالى: {أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذّبتم وفريقًا تقتلون} [البقرة: 87].
هذه الآية تدلّ على أنّهم قتلوا بعض الرّسل، ونظيرها قوله تعالى: {قل قد جاءكم رسلٌ من قبلي بالبيّنات وبالّذي قلتم فلم قتلتموهم} الآية [آل عمران: 183]، وقوله: {كلّما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقًا كذّبوا وفريقًا يقتلون} [المائدة: 70].
وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على أنّ الرّسل غالبون منصورون، كقوله: {كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي} [المجادلة: 21]، وكقوله: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنّهم لهم المنصورون وإنّ جندنا لهم الغالبون} [الصافات: 171 - 173]، وقوله تعالى: {فأوحى إليهم ربّهم لنهلكنّ الظّالمين ولنسكننّكم الأرض من بعدهم} [إبراهيم: 13 - 14]، وبيّن تعالى أنّ هذا النّصر في دار الدّنيا أيضًا، كما في هذه الآية الأخيرة، وكما في قوله: {إنّا لننصر رسلنا والّذين آمنوا في الحياة الدّنيا} الآية [غافر: 51].
والّذي يظهر في الجواب عن هذا: أنّ الرّسل قسمان: قسمٌ أمروا بالقتال في سبيل الله، وقسمٌ أمروا بالصّبر والكفّ عن النّاس. فالّذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنّصر والغلبة في الآيات المذكورة، والّذين أمروا بالكفّ والصّبر هم الّذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العليّة بقتلهم مظلومين.
وهذا الجمع مفهومٌ من الآيات؛ لأنّ النّصر والغلبة فيه الدّلالة بالالتزام على جهادٍ ومقاتلةٍ.
ولا يرد على هذا الجمع قوله تعالى: {وكأيّن من نبيٍّ قاتل معه ربّيّون كثيرٌ} الآية [آل عمران: 146].
وأمّا على قراءة «قَاتلَ» بصيغة الماضي من فاعل فالأمر واضحٌ، وأمّا على قراءة «قُتل» بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله: «ربّيّون» لا ضمير «نبيٍّ»، وتطرّق الاحتمال يردّ الاستدلال.
وأمّا على القول بأنّ غلبة الرّسل ونصرتهم بالحجّة والبرهان، فلا إشكال في الآية. والله أعلم.
قوله تعالى: {ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} الآية [البقرة: 114].
الاستفهام في هذه الآية إنكاريٌّ، ومعناه النّفي، فالمعنى: لا أحد أظلم ممّن منع مساجد الله.
وقد جاءت آياتٌ أخر يفهم منها خلاف هذا، كقوله تعالى: {فمن أظلم ممّن افترى على الله كذبًا}[الأعراف: 37]،وقوله: {فمن أظلم ممّن كذب على الله} [الزمر: 32]، وقوله: {ومن أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه} الآية [الكهف" 57]، إلى غير ذلك من الآيات.
وللجمع بين هذه الآيات أوجهٌ:
منها: تخصيص كلّ موضعٍ بمعنى صلته؛ أي: لا أحد من المانعين أظلم ممّن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممّن افترى على الله كذبًا، وإذا تخصّصت بصلاتها زال الإشكال.
ومنها: أنّ التّخصيص بالنّسبة إلى السّبق؛ أي: لمّا لم يسبقهم أحدٌ إلى مثله حكم عليهم بأنّهم أظلم ممّن جاء بعدهم سالكًا طريقهم، وهذا يؤول معناه إلى ما قبله؛ لأنّ المراد السّبق إلى المانعيّة والافترائيّة مثلًا.
ومنها -وادّعى أبو حيّان أنّه الصّواب- هو ما حاصله: أنّ نفي التّفضيل لا يستلزم نفي المساواة، فلم يكن أحدٌ ممّن وصف بذلك يزيد على الآخر؛ لأنّهم يتساوون في الأظلميّة، فيصير المعنى: لا أحد أظلم ممّن منع مساجد الله، ومن افترى على الله كذبًا، ومن كذّب بآيات الله. ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلميّة، ولا يدلّ على أنّ أحدهم أظلم من الآخر، كما إذا قلت: لا أحد أفقه من فلانٍ وفلانٍ مثلًا.
ذكر هذين الوجهين صاحب «الإتقان».
وما ذكره بعض المتأخّرين من أنّ الاستفهام في قوله: {ومن أظلم} [البقرة: 114] المقصود منه التّهويل والتّفظيع، من غير قصد إثبات الأظلميّة للمذكور حقيقةً ولا نفيها عن غيره، -كما ذكره عنه صاحب «الإتقان»- يظهر ضعفه؛ لأنّه خلاف ظاهر القرءان.
قوله تعالى: {وللّه المشرق والمغرب} الآية [البقرة: 115].
أفرد في هذه الآية المشرق والمغرب، وثنّاهما في سورة «الرّحمن» في قوله: {ربّ المشرقين وربّ المغربين} [الرحمن: 17]، وجمعهما في سورة «سأل سائلٌ» في قوله: {فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب} [المعارج: 40]، وجمع المشارق في سورة «الصّافّات» في قوله: {ربّ السّماوات والأرض وما بينهما وربّ المشارق} [الصافات: 5].
والجواب: أنّ قوله هنا: {وللّه المشرق والمغرب} المراد به جنس المشرق والمغرب، فهو صادقٌ بكلّ مشرقٍ من مشارق الشّمس -الّتي هي ثلاثمائةٍ وستّون- وكلّ مغربٍ من مغاربها الّتي هي كذلك، كما روي عن ابن عبّاسٍ وغيره.
قال ابن جريرٍ في تفسير هذه الآية ما نصّه:
(وإنّما معنى ذلك: «وللّه المشرق» الّذي تشرق منه الشّمس كلّ يومٍ، «والمغرب» الّذي تغرب فيه كلّ يومٍ، فتأويله إذا كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب، إذا كان شروق الشّمس كلّ يومٍ من موضعٍ منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الّذي بعده، وكذلك غروبها). انتهى منه بلفظه.
وقوله: {ربّ المشرقين وربّ المغربين} [الرحمن: 17] يعني: مشرق الشّتاء ومشرق الصّيف ومغربهما، كما عليه الجمهور. وقيل: مشرق الشّمس والقمر ومغربهما.
وقوله: {بربّ المشارق والمغارب} [المعارج: 40]، أي: مشارق الشّمس ومغاربها كما تقدّم. وقيل: مشارق الشّمس والقمر والكواكب ومغاربها. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {بل له ما في السّماوات والأرض كلٌّ له قانتون} [البقرة: 116].
عبّر في هذه الآية بـ: «ما» الموصولة الدّالّة على غير العقلاء، ثمّ عبّر في قوله: {قانتون} بصيغة الجمع المذكّر الخاصّ بالعقلاء.
ووجه الجمع: أنّ ما في السّماوات والأرض من الخلق منه العاقل وغير العاقل، فغلب في الاسم الموصول غير العاقل، وغلب في صيغة الجمع العاقل.
والنّكتة في ذلك أنّه قال: {بل له ما في السّماوات والأرض}، وجميع الخلائق بالنّسبة لملك الله إيّاهم سواءٌ، عاقلهم وغيره، فالعاقل في ضعفه وعجزه بالنّسبة إلى ملك الله كغير العاقل. ولمّا ذكر القنوت -وهو الطّاعة- وكان أظهر في العقلاء من غيرهم، عبّر بما يدلّ على العقلاء تغليبًا لهم.
قوله تعالى: {قد بيّنّا الآيات لقومٍ يوقنون} [البقرة: 118].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ البيان خاصٌّ بالموقنين.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على أنّ البيان عامٌّ لجميع النّاس، كقوله تعالى: {كذلك يبيّن الله آياته للنّاس لعلّهم يتّقون} [البقرة: 187]، وكقوله: {هذا بيانٌ للنّاس} [آل عمران: 138]، ووجه الجمع: أنّ البيان عامٌّ لجميع الخلق، إلّا أنّه لمّا كان الانتفاع به خاصًّا بالمتّقين، خصّ في هذه الآية بهم؛ لأنّ ما لا نفع فيه كالعدم، ونظيرها قوله تعالى: {إنّما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45] وقوله: {إنّما تنذر من اتّبع الذّكر} الآية [يس: 11]، مع أنّه منذرٌ للأسود والأحمر، وإنّما خصّ الإنذار بمن يخشى ومن يتّبع الذّكر لأنّه المنتفع به.
قوله تعالى: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه} الآية [البقرة: 143].
قوله تعالى في هذه الآية: «إلّا لنعلم» يوهم أنّه لم يكن عالمًا بمن يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه، مع أنّه تعالى عالمٌ بكلّ شيءٍ قبل وقوعه، فهو يعلم ما سيعمله الخلق، كما دلّت عليه آياتٌ كثيرةٌ، كقوله: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنّةٌ في بطون أمّهاتكم فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32]، وقوله تعالى: {ولهم أعمالٌ من دون ذلك هم لها عاملون} [المؤمنون: 63].
والجواب عن هذا: أنّ معنى قوله تعالى: {إلّا لنعلم} [البقرة: 143] أي: علمًا يترتّب عليه الثّواب والعقاب، فلا ينافي كونه عالمًا به قبل وقوعه.
وقد أشار تعالى إلى أنّه لا يستفيد بالاختبار علمًا جديدًا لأنّه عالمٌ بما سيكون حيث قال تعالى: {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم والله عليمٌ بذات الصّدور} [آل عمران: 154].
فقوله: {والله عليمٌ بذات الصّدور} بعد قوله: {ليبتلي}: دليلٌ على أنّه لا يفيده الاختبار علمًا لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هو تعالى عالمٌ بكلّ ما سيعمله خلقه وعالمٌ بكلّ شيءٍ قبل وقوعه، كما لا خلاف فيه بين المسلمين: {لا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ} الآية [سبأ: 3].
قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ} الآية [البقرة: 154].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ الشّهداء أحياءٌ غير أمواتٍ، وقد قال في آيةٍ أخرى لمن هو أفضل من كلّ الشّهداء صلّى الله عليه وسلّم: {إنّك ميّتٌ وإنّهم ميّتون} [الزمر: 30].
والجواب عن هذا: أنّ الشّهداء يموتون الموتة الدّنيويّة، فتورث أموالهم وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين، وهذه الموتة هي الّتي أخبر الله نبيّه أنّه يموتها صلّى الله عليه وسلّم.
وقد ثبت في الصّحيح عن صاحبه الصّدّيق رضي الله عنه أنّه قال لمّا توفّي صلّى الله عليه وسلّم: «بأبي أنت وأمّي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أمّا الموتة الّتي كتب الله عليك فقد متّها»، وقال: «من كان يعبد محمّدًا فإنّ محمّدًا قد مات»، واستدلّ على ذلك بالقرآن، ورجع إليه جميع أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وأمّا الحياة الّتي أثبتها الله للشّهداء في القرءان، وحياته صلّى الله عليه وسلّم الّتي ثبت في الحديث أنّه يردّ بها السّلام على من سلّم عليه، فكلتاهما حياةٌ برزخيّةٌ ليست معقولةً لأهل الدّنيا.
أما في الشّهداء فقد نصّ تعالى على ذلك بقوله: {ولكن لا تشعرون}، وقد فسّرها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأنّهم تجعل أرواحهم في حواصل طيورٍ خضرٍ ترتع في الجنّة، وتأوي إلى قناديل معلّقةٍ تحت العرش، فهم يتنعّمون بذلك.
وأمّا ما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه لا يسلّم عليه أحدٌ إلّا ردّ الله عليه روحه حتّى يردّ عليه السّلام، وأنّ الله وكّل ملائكةً يبلغونه سلام أمّته، فإنّ تلك الحياة -أيضًا- لا يعقل حقيقتها أهل الدّنيا؛ لأنّها ثابتةٌ له صلّى الله عليه وسلّم، مع أنّ روحه الكريمة في أعلى علّيّين مع الرّفيق الأعلى فوق أرواح الشّهداء، فتعلّق هذه الرّوح الطّاهرة -الّتي هي في أعلى علّيّين- بهذا البدن الشّريف الّذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ولا يعلمها الخلق، كما قال في جنس ذلك: {ولكن لا تشعرون} ولو كانت كالحياة الّتي يعرفها أهل الدّنيا لما قال الصّدّيق رضي الله عنه أنّه صلّى الله عليه وسلّم مات، ولما جاز دفنه ولا نصب خليفةٍ غيره، ولا قتل عثمان، ولا اختلف أصحابه، ولا جرى على عائشة ما جرى، ولسألوه عن الأحكام الّتي اختلفوا فيها بعده كالعول، وميراث الجدّ والإخوة، ونحو ذلك.
وإذا صرّح القرءان بأنّ الشّهداء أحياءٌ في قوله تعالى: {بل أحياءٌ}، وصرّح بأنّ هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدّنيا بقوله: {ولكن لا تشعرون}، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السّلام ويردّه، وأصحابه الّذين دفنوه صلّى الله عليه وسلّم لا تشعر حواسّهم بتلك الحياة، عرفنا أنّها حياةٌ لا يعقلها أهل الدّنيا أيضًا.
وممّا يقرّب هذا للذّهن حياة النّائم، فإنّه يخالف الحيّ في جميع التّصرّفات مع أنّه يدرك الرّؤيا، ويعقل المعاني، والله تعالى أعلم.
قال العلامة ابن القيّم رحمه الله في كتاب «الرّوح» ما نصّه: (ومعلومٌ بالضّرورة أنّ جسده صلّى الله عليه وسلّم في الأرض طريٌّ مطرًّا، وقد سأله الصّحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: «إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» ولو لم يكن جسده في ضريحه، لما أجاب بهذا الجواب.
وقد صحّ عنه: أنّ الله وكل بقبره ملائكةً يبلغونه عن أمّته السّلام، وصحّ عنه: أنّه خرج بين أبي بكرٍ وعمر، وقال: «هكذا نبعث».
هذا مع القطع بأنّ روحه الكريمة في الرّفيق الأعلى في أعلى علّيّين مع أرواح الأنبياء.
وقد صحّ عنه أنّه رأى موسى يصلّي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السّماء السّادسة أو السّابعة، فالرّوح كانت هناك ولها اتّصالٌ بالبدن في القبر وإشرافٌ عليه، وتعلّقٌ به؛ بحيث
يصلّي في قبره ويردّ سلام من يسلّم عليه، وهي في الرّفيق الأعلى، ولا تنافي بين الأمرين: فإنّ شأن الأرواح غير شأن الأبدان). انتهى محلّ الغرض من كلام ابن القيّم بلفظه.
وهو يدلّ على أنّ الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدّنيا، قال تعالى: {بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون}، والعلم عند الله.
قوله تعالى: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون} [البقرة: 170].
هذه الآية الكريمة تدلّ بظاهرها على أنّ الكفّار لا عقول لهم أصلًا؛ لأنّ قوله: {شيئًا} نكرةٌ في سياق النّفي، فهي تدلّ على العموم.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على أنّ الكفّار لهم عقولٌ يعقلون بها في الدّنيا كقوله تعالى: {وزيّن لهم الشّيطان أعمالهم فصدّهم عن السّبيل وكانوا مستبصرين} [العنكبوت: 38].
والجواب: أنّهم يعقلون أمور الدّنيا دون أمور الآخرة، كما بيّنه تعالى بقوله: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون يعلمون ظاهرًا من الحياة الدّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 6 - 7].
قوله تعالى: {إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم} الآية [البقرة: 173].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ جميع أنواع الدّم حرامٌ، ومثلها قوله تعالى في سورة «النّحل»: {إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم} [النحل: 115] الآية، وقوله في سورة المائدة: {حرّمت عليكم الميتة والدّم} [المائدة: 3] الآية.
وقد ذكر في آيةٍ أخرى ما يدلّ على أنّ الدّم لا يحرم إلّا إذا كان مسفوحًا، وهي قوله تعالى في سورة «الأنعام»: {إلّا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا} الآية [الأنعام: 145].
والجواب: أنّ هذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيّد، والجاري على أصول مالكٍ والشّافعيّ وأحمد حمل المطلق على المقيّد لا سيّما مع اتّحاد الحكم والسّبب، كما هنا. وسواءٌ عندهم تأخّر المطلق عن المقيّد -كما هنا- أو تقدّم.
وإنّما قلنا هنا: إنّ المطلق متأخّرٌ عن المقيّد؛ لأنّ القيد في سورة «الأنعام»، وهي نزلت قبل «النّحل»، مع أنّهما مكّيّتان إلّا آياتٍ معروفةً، والدّليل على أنّ «الأنعام» قبل «النّحل»، قوله تعالى في «النّحل»: {وعلى الّذين هادوا حرّمنا ما قصصنا عليك} [النحل: 118] الآية، والمراد به: ما قصّ عليه في «الأنعام» بقوله: {وعلى الّذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظفرٍ} [الأنعام: 146] الآية.
وأمّا كون «الأنعام» نزلت قبل «البقرة» و«المائدة» فواضحٌ؛ لأنّ «الأنعام» مكّيّةٌ بالإجماع إلّا آياتٍ منها، و«البقرة» مدنيّةٌ بالإجماع، و«المائدة» من آخر ما نزل من القرآن، ولم ينسخ منها شيءٌ لتأخّرها.
وعلى هذا فالدّم إذا كان غير مسفوحٍ، كالحمرة الّتي تظهر في القدر من أثر تقطيع اللّحم، فهو ليس بحرامٍ؛ لحمل المطلق على المقيّد، وعلى هذا كثيرٌ من العلماء.
وما ذكرنا من عدم النّسخ في «المائدة»، قال به جماعةٌ. وهو على القول بأنّ قوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم} الآية [المائدة: 42]، وقوله: {أو آخران من غيركم} [المائدة: 106] غير منسوخين صحيحٌ، وعلى القول بنسخهما لا يصحّ على الإطلاق، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار ولا يكلّمهم الله يوم القيامة} الآية [البقرة: 174].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ الله لا يكلّم الكفّار يوم القيامة؛ لأنّ قوله تعالى: {ولا يكلّمهم} فعلٌ في سياق النّفي، وقد تقرّر في علم الأصول: أنّ الفعل في سياق النّفي من صيغ العموم، وسواءٌ كان الفعل متعدّيًا أو لازمًا، على التّحقيق، خلافًا للغزاليّ القائل بعمومه في المتعدّي دون اللّازم.
وخلاف الإمام أبي حنيفة رحمه الله في ذلك خلافٌ في حالٍ لا في حقيقةٍ؛ لأنّه يقول: إنّ الفعل في سياق النّفي ليس صيغةً للعموم، ولكنّه يدلّ عليه بالالتزام، أي: لأنّه يدلّ على نفي الحقيقة، ونفيها يلزمه نفي جميع الأفراد.
فقوله: لا أكلت -مثلًا- ينفي حقيقة الأكلٍ، فيلزمه نفي جميع أفراده.
وإيضاح عموم الفعل في سياق النّفي: أنّ الفعل ينحلّ عن مصدرٍ وزمنٍ عند النّحويّين، وعن مصدرٍ وزمنٍ ونسبةٍ عند بعض البلاغيّين، فالمصدر داخلٌ في معناه إجماعًا، فالنّفي الداخلٌ على الفعل ينفي المصدر الكامن في الفعل، فيؤول إلى معنى النّكرة في سياق النّفي.
ومن العجيب أنّ أبا حنيفة رحمه الله يوافق الجمهور على أنّ الفعل في سياق النّفي إن أكّد بمصدرٍ نحو: لا شربت شربًا -مثلًا- أفاد العموم، مع أنّه لا يوافق على إفادة النّكرة في سياق النّفي للعموم.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على أنّ الله يكلّم الكفّار يوم القيامة، كقوله تعالى: {ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلّمون} الآية [المؤمنون 107 - 108].
والجواب عن هذا بأمرين:
الأوّل -وهو الحقّ-: أنّ الكلام الّذي نفى الله أنّه يكلّمهم به هو الكلام الّذي فيه خيرٌ، وأمّا التّوبيخ والتّقريع والإهانة، فكلام الله لهم به من جنس عذابه لهم، ولم يقصد بالنّفي في قوله: {ولا يكلّمهم}.
الثّاني: أنّه لا يكلّمهم أصلًا، وإنّما تكلّمهم الملائكة بإذنه وأمره.
قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ القصاص أمرٌ حتمٌ لا بدّ منه، بدليل قوله تعالى: {كتب عليكم}؛ لأنّ معناه: فرض وحتم عليكم. مع أنّه تعالى ذكر -أيضًا- أنّ القصاص ليس بمتعيّنٍ؛ لأنّ وليّ الدّم بالخيار، في قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه} الآية [البقرة: 178].
والجواب ظاهرٌ، وهو أنّ فرض القصاص وإلزامه فيما إذا لم يعف أولياء الدّم أو بعضهم، كما يشير إليه قوله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا فلا يسرف في القتل} الآية [الإسراء: 33].
قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيّة} الآية [البقرة: 180].
هذه الآية تعارض آيات المواريث بضميمة بيان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّ المقصود منها إبطال الوصيّة للوارثين منهم، وذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ الله أعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه، فلا وصيّة لوارثٍ)).
والجواب ظاهرٌ، وهو أنّ آية الوصيّة هذه منسوخةٌ بآيات المواريث، والحديث المذكور بيانٌ للنّاسخ.
وذهب بعض العلماء إلى أنّها محكمةٌ لا منسوخةٌ، وانتصر لهذا القول ابن حزمٍ غاية الانتصار.
وعلى القول بأنّها محكمةٌ فهي من العامّ المخصوص، فالوالدان والأقربون الّذين لا يرثون لا وصيّة لهم؛ بدليل آيات المواريث والحديث، وأمّا الوالدان اللّذان لا ميراث لهما كالرّقيقين، والأقارب الّذين لا يرثون فتجب لهم الوصيّة على هذا القول، ولكنّ مذهب الجمهور خلافه.
وحكى العبّاديّ في «الآيات البيّنات» الإجماع على أنّها منسوخةٌ، مع أنّ جماعةً من العلماء قالوا بعدم النّسخ.
قال مقيّده عفا الله عنه: التّحقيق أنّ النّسخ واقعٌ فيها يقينًا في البعض؛ لأنّ الوصيّة للوالدين الوارثين والأقارب الوارثين رفع حكمها بعد تقرّره إجماعًا، وذلك نسخٌ في البعض لا تخصيصٌ؛ لأنّ التّخصيص قصر العامّ على بعض أفراده بالدّليل، أمّا رفع حكمٍ معيّنٍ بعد تقرّره فهو نسخٌ لا تخصيصٌ كما هو ظاهرٌ.
وقد تقرّر في علم الأصول أنّ تخصيص بعض العمل بالعامّ نسخٌ، وإليه الإشارة بقول صاحب «مراقي السّعود»:
وإني أتى ما خصّ بعد العمل ... نسخ والغير مخصّصًا جلي
والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ} [البقرة: 184].
هذه الآية الكريمة تدلّ بظاهرها على أنّ القادر على صوم رمضان مخيّرٌ بين الصّوم والإطعام، وقد جاء في آيةٍ أخرى ما يدلّ على تعيين وجوب الصّوم، وهي قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} الآية [البقرة: 185].
والجواب عن هذا بأمرين:
أحدهما -وهو الحقّ-: أنّ قوله: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ} منسوخٌ بقوله: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}.
الثّاني: أنّ معنى {يطيقونه}: لا يطيقونه، بتقدير «لا» النّافية، وعليه فتكون الآية محكمةً، ويكون وجوب الإطعام على العاجز عن الصّوم كالهرم والزّمن. واستدلّ لهذا القول بقراءة بعض الصّحابة (يطّوّقونه) بفتح الياء وتشديد الطّاء والواو المفتوحتين، بمعنى: يتكلّفونه مع عجزهم عنه. وعلى هذا القول فيجب على الهرم ونحوه الفدية، وهو اختيار البخاريّ، مستدلًّا بفعل أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} الآية [البقرة: 190].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّهم لم يؤمروا بقتال الكفّار إلّا إذا قاتلوهم، وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على وجوب قتال الكفّار مطلقًا قاتلوا أم لا، كقوله تعالى: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ} [البقرة: 193]، وقوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصدٍ} [التوبة: 5]، وكقوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح: 16].
والجواب عن هذا بأمورٍ:
الأوّل -وهو أحسنها وأقربها-: أنّ المراد بقوله: {الّذين يقاتلونكم} تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفّار، فكأنّه يقول لهم: هؤلاء الّذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الّذين يقاتلونكم. ويدلّ لهذا المعنى قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً} [التوبة: 36]، وخير ما يفسّر به القرآن القرآن.
الوجه الثّاني: أنّها منسوخةٌ بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]، وهذا من جهة النّظر ظاهرٌ حسنٌ جدًّا، وإيضاح ذلك أنّ من حكمة الله البالغة في التّشريع، أنّه إذا أراد تشريع أمرٍ عظيمٍ على النّفوس ربّما يشرعه تدريجًا لتخفّ صعوبته بالتّدريج، فالخمر -مثلًا- لمّا كان تركها شاقًّا على النّفوس الّتي اعتادتها، ذكر أوّلًا بعض معائبها بقوله: {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ} [البقرة: 219]، ثمّ بعد ذلك حرّمها في وقتٍ دون وقتٍ، كما دلّ عليه قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} الآية [النساء: 43]، ثمّ لمّا استأنست النّفوس بتحريمها في الجملة حرّمها تحريمًا باتًّا بقوله: {رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} [المائدة: 90].
وكذلك الصّوم لمّا كان شاقًّا على النّفوس شرعه أوّلًا على سبيل التّخيير بينه وبين الإطعام، ثمّ رغّب في الصّوم مع التّخيير بقوله: {وأن تصوموا خيرٌ لكم} [البقرة: 184]، ثمّ لمّا استأنست به النّفوس أوجبه إيجابًا حتمًا بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}.
وكذلك القتال على هذا القول، لما كان شاقّا على النّفوس، أذن فيه أوّلًا من غير إيجابٍ بقوله: {أذن للّذين يقاتلون بأنّهم ظلموا} الآية [الحج: 39]، ثمّ أوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله: {وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم} [البقرة: 190]، ثمّ لما استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابًا عامًّا بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم} الآية [التوبة: 5].
الوجه الثّالث -وهو اختيار ابن جريرٍ ويظهر لي أنّه الصّواب-: أنّ الآية محكمةٌ، وأنّ معناها: قاتلوا الّذين يقاتلونكم، أي: من شأنهم أن يقاتلوكم.
أمّا الكافر الّذي ليس من شأنه القتال، كالنّساء والذّراريّ والشّيوخ الفانية والرّهبان وأصحاب الصّوامع، ومن ألقى إليكم السّلم فلا تعتدوا بقتالهم؛ لأنّهم لا يقاتلونكم، ويدلّ لهذا الأحاديث المصرّحة بالنّهي عن قتل الصّبيّ، وأصحاب الصّوامع، والمرأة والشّيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه، وأمّا صاحب الرّأي فيقتل كدريد بن الصّمّة.
وقد فسّر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وابن عبّاسٍ والحسن البصريّ.
قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} الآية [البقرة: 194].
هذه الآية تدلّ على طلب الانتقام، وقد أذن الله في الانتقام في آياتٍ كثيرةٍ، كقوله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيلٍ إنّما السّبيل على الّذين يظلمون النّاس} الآية [الشورى: 41-42]، وكقوله: {لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول إلّا من ظلم} [النساء: 148]، وكقوله: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمّ بغي عليه لينصرنّه الله} الآية [الحج: 60]، وقوله: {والّذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}[الشورى: 39]، وقوله: {وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها} [الشورى: 40].
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على العفو وترك الانتقام، كقوله: {فاصفح الصّفح الجميل} [الحجر: 85]، وقوله: {والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس} [آل عمران: 134]، وكقوله: {ادفع بالّتي هي أحسن} [المؤمنون: 96]، وقوله: {ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43]، وقوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199]، وكقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}[الفرقا، 63].
والجواب عن هذا بأمرين:
أحدهما: أنّ الله بيّن مشروعيّة الانتقام، ثمّ أرشد إلى أفضليّة العفو، ويدلّ لهذا قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} [النحل: 126]، وقوله: {لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول إلّا من ظلم} [النساء: 148]، فأذن في الانتقام بقوله: {إلّا من ظلم}، ثمّ أرشد إلى العفو بقوله: {إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوءٍ فإنّ الله كان عفوًّا قديرًا} [النساء: 149].
الوجه الثّاني: أنّ الانتقام له موضعٌ يحسن فيه، والعفو له موضعٌ كذلك؛ وإيضاحه: أنّ من المظالم ما يكون في الصّبر عليه انتهاك حرمة الله، ألا ترى أنّ من غصبت منه جاريته -مثلًا-إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيحٌ وضعفٌ وخورٌ تنتهك به حرمات الله، فالانتقام في مثل هذا واجبٌ، وعليه يحمل الأمر في قوله: {فاعتدوا} الآية.
أي: كما إذا بدأ الكفّار بالقتال فقتالهم واجبٌ، بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه المسلمين بكلامٍ قبيحٍ ونحو ذلك، فعفوه أحسن وأفضل، وقد قال أبو الطّيّب المتنبّي:
إذا قيل حلمٌ قال للحلم موضعٌ ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل
قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم} [البقرة: 217].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ الرّدّة لا تحبط العمل إلّا بقيد الموت على الكفر، بدليل قوله: {فيمت وهو كافرٌ} [البقرة: 217].
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على أنّ الرّدّة تحبط العمل مطلقًا، ولو رجع إلى الإسلام، فكلّ ما عمل قبل الرّدّة أحبطته الرّدّة، كقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} الآية [المائدة: 5]، وقوله: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} الآية [الزمر: 65]، وقوله: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88].
والجواب عن هذا: أنّ هذه من مسائل تعارض المطلق والمقيّد، فيحمل المطلق على المقيّد، فتقيّد الآيات المطلقة بالموت على الكفر، وهذا مقتضى الأصول، وعليه الإمام الشّافعيّ ومن وافقه، وخالف مالكٌ في هذه المسألة وقدّم آيات الإطلاق. وقول الشّافعيّ في هذه المسألة أجري على الأصول، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} الآية [البقرة: 221].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على تحريم نكاح كلّ كافرةٍ، ويدلّ لذلك أيضًا قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10].
وقد جاءت آيةٌ أخرى تدلّ على جواز نكاح بعض الكافرات، وهنّ الحرائر الكتابيّات، وهي قوله تعالى: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5].
والجواب: أنّ هذه الآية الكريمة تخصّص قوله: {ولا تنكحوا المشركات} أي: ما لم يكنّ كتابيّاتٍ، بدليل قوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب}. وحكى ابن جريرٍ الإجماع على هذا.
وأمّا ما روي عن عمر من إنكاره على طلحة تزوج يهوديّةٍ وعلى حذيفة تزوج نصرانيّةٍ، فإنّه إنّما كره نكاح الكتابيّات لئلّا يزهد النّاس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني. قاله ابن جريرٍ.
قوله تعالى: {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ} الآية [البقرة: 228].
هذه الآية الكريمة تدلّ بظاهرها على أنّ كلّ مطلّقةٍ تعتدّ بالأقراء.
وقد جاء في آياتٍ أخر أنّ بعض المطلّقات يعتدّ بغير الأقراء، كالعجائز والصّغائر المنصوص عليها بقوله: {واللّائي يئسن من المحيض} إلى قوله: {واللّائي لم يحضن} وكالحوامل المنصوص عليها بقوله: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} [الطلاق: 4]. مع أنّه جاء في آيةٍ أخرى أنّ بعض المطلّقات لا عدّة عليهنّ أصلًا، وهنّ المطلّقات قبل الدّخول، وهي قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّةٍ تعتدّونها} الآية [الأحزاب: 49].
والجواب عن هذا ظاهرٌ، وهو أنّ آية: {والمطلّقات} [البقرة: 228] عامّةٌ، وهذه الآيات المذكورة أخصّ منها، فهي مخصّصةٌ لها، فهي إذًا من العامّ المخصوص.
قوله تعالى: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234].
هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا وصيّةً لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراجٍ} [البقرة: 240].
والجواب ظاهرٌ، وهو: أنّ الأولى ناسخةٌ لهذه، وإن كانت قبلها في المصحف؛ لأنّها متأخّرةٌ عنها في النّزول، وليس في القرآن آيةٌ هي الأولى في المصحف وهي ناسخةٌ لآيةٍ بعدها فيه إلّا في موضعين: أحدهما هذا الموضع، والثّاني: آية: {يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب: 50]، هي الأولى في المصحف وهي ناسخةٌ لقوله: {لا يحلّ لك النّساء من بعد} الآية [الأحزاب: 52]؛ لأنّها وإن تقدّمت في المصحف فهي متأخّرةٌ في النّزول، وهذا على القول بالنّسخ، ويأتي إن شاء الله تحرير المقام في سورة «الأحزاب».
قوله تعالى: {لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ} [البقرة: 256].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّه لا يكره أحدٌ على الدّخول في الدّين، ونظيرها قوله تعالى: {أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99]، وقوله تعالى: {فما أرسلناك عليهم حفيظًا إن عليك إلّا البلاغ} [الشورى: 48].
وقد جاء في آياتٍ كثيرةٍ ما يدلّ على إكراه الكفّار على الدّخول في الإسلام بالسّيف، كقوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح: 16]، وقوله: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ} [البقرة: 193]، أي: شركٌ، ويدلّ لهذا التّفسير الحديث الصّحيح: ((أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله)) الحديث.
والجواب عن هذا بأمرين:
الأوّل -وهو الأصحّ-: أنّ هذه الآية في خصوص أهل الكتاب. والمعنى: أنّهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدّين مطلقًا، وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
والدّليل على خصوصها بهم: ما رواه أبو داود وابن أبي حاتمٍ والنّسائيّ وابن حبّان وابن جريرٍ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: (كانت المرأة تكون مقلاةً؛ فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تهوّده، فلمّا أجليت بنو النّضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله: {لا إكراه في الدّين} [البقرة: 256]).
المقلاة: الّتي لا يعيش لها ولدٌ، وفي المثل: أحرّ من دمع المقلاة.
وأخرج ابن جريرٍ عن ابن عبّاسٍ قال: نزلت: {لا إكراه في الدّين} في رجلٍ من الأنصار من بني سالم بن عوفٍ يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيّان وكان هو مسلمًا، فقال للنّبيّ: ألا أستكرههما؛ فإنّهما قد أبيا إلّا النّصرانيّة؟ فأنزل الله الآية.
وروى ابن جريرٍ أنّ سعيد بن جبيرٍ سأله أبو بشرٍ عن هذه الآية، فقال: نزلت في الأنصار، فقال: خاصّةً؟ قال: خاصّةً.
وأخرج ابن جريرٍ عن قتادة بإسنادين في قوله: {لا إكراه في الدّين} قال: أكره عليه هذا الحيّ من العرب؛ لأنّهم كانوا أمّةً أمّيّةً ليس لهم كتابٌ يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام، ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقرّوا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلّى سبيلهم.
وأخرج ابن جريرٍ -أيضًا- عن الضّحّاك في قوله: {لا إكراه في الدّين}، قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلّا: لا إله إلّا الله أو السّيف، ثمّ أمر فيمن سواهم أن يقبل منهم الجزية، فقال: {لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ} [البقرة: 256].
وأخرج ابن جريرٍ عن ابن عبّاسٍ -أيضًا- في قوله: {لا إكراه في الدّين} قال: وذلك لمّا دخل النّاس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية.
فهذه النّقول تدلّ على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية ومن في حكمهم، ولا يرد على هذا أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب؛ لأنّ التّخصيص فيها عرف بالنّقل عن علماء التّفسير لا بمطلق خصوص السّبب، وممّا يدلّ للخصوص: أنّه ثبت في الصّحيح: ((عجب ربّك من قومٍ يقادون إلى الجنّة في السّلاسل)).
الأمر الثّاني: أنّها منسوخةٌ بآيات القتال، كقوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} الآية [التوبة: 5]. ومعلومٌ أنّ سورة «البقرة» من أوّل ما نزل بالمدينة، وسورة «براءة» من آخر ما نزل بها، والقول بالنّسخ مرويٌّ عن ابن مسعودٍ وزيد بن أسلم.
وعلى كلّ حالٍ فآيات السّيف نزلت بعد نزول السّورة الّتي فيها: {لا إكراه} الآية، والمتأخّر أولى من المتقدّم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} الآية [البقرة: 284].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنّه لا قدرة له على دفعها.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على أنّ الإنسان لا يكلّف إلّا بما يطيق، كقوله تعالى: {لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها} [البقرة: 286]، وقوله: {فاتّقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].
والجواب: أنّ آية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} منسوخةٌ بقوله: {لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها} ). [دفع إيهام الاضطراب: 7-52]