دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:47 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة الأعلى

سورة الأعلى
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الأعلى
قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى* إلاّ ما شاء الله} الآية [الأعلى: 6-7].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينسى من القرآن ما شاء الله أن ينساه، وقد جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدلّ على حفظ القرآن من الضياع، كقوله تعالى: {لا تحرّك به لسانك لتعجل به * إنّ علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 16-17]، وقوله: {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} [الحجر: 9].
والجواب: أنّ القرآن وإن كان محفوظاً من الضياع، فإن بعضه ينسخ بعضاً، وإنساء الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بعض القرآن في حكم النسخ، فإذا أنساه آيةً فكأنّه نسخها، ولا بدّ أن يأتي بخيرٍ منها أو مثلها، كما صرّح به تعالى في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} [البقرة: 106]، وقوله تعالى: {وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ والله أعلم بما ينزّل} الآية [النحل:101].
وأشار هنا لعلمه بحكمة النسخ بقوله: {إنّه يعلم الجهر وما يخفى} [الأعلى: 7].


وقوله تعالى: {فذكّر إن نفعت الذّكرى} [الأعلى: 9].
هذه الآية الكريمة يفهم منها أنّ التذكير لا يطلب إلاّ عند مظنّة نفعه؛ بدليل (إن) الشرطية.
وقد جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدلّ على الأمر بالتذكير مطلقاً، كقوله: {فذكّر إنّما أنت مذكّرٌ} [الغاشية: 21]، وقوله: {ولقد يسّرنا القرءان للذّكر فهل من مدّكر} [القمر الآيات: 17].
وأجيب عن هذا بأجوبةٍ كثيرةٍ:
منها: أنّ في الكلام حذفاً؛ أي: إن نفعت الذّكرى، وإن لم تنفع، كقوله: {سرابيل تقيكم الحرّ} [النحل: 81]. أي: والبرد، وهو قول الفرّاء والنحاس والجرجانيّ وغيرهم.
ومنها: أنها بمعنى (إذ). وإتيان (إن) بمعنى (إذ) مذهب الكوفيّين خلافاً للبصريّين.
وجعل منه الكوفيّون قوله تعالى: {اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 112]، وقوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139]، وقوله تعالى: {وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة:23]، وقوله: {لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون)).
وقول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم

وأجاب البصريّون عن آيات: {إن كنتم مؤمنين} بأنّ فيها معنى الشرط، جيء به للتهييج. وعن آية: {إن شاء الله} والحديث بأنّهما تعليمٌ للعباد كيف يتكلّمون إذا أخبروا عن المستقبل. وعن البيت بجوابين:
أحدهما: أنّه من إقامة السبب مقام المسبّب، والأصل: أتغضب إن افتخر مفتخرٌ بحزّ أذني قتيبة، إذ الافتخار بذلك يكون سبباً للغضب، ومسبّباً عن الحزّ.
الثاني: تغضب إن تبيّن في المستقبل أنّ أذني قتيبة حزّتا.
ومنها: أنّ معنى: {إن نفعت الذّكرى} الإرشاد إلى التذكير بالأهمّ، أي: ذكّر بالمهمّ الذي فيه النّفع دون ما لا نفع فيه.

فيكون المعنى: ذكّر الكفار -مثلاً- بالأصول التي هي للتوحيد، لا بالفروع؛ لأنها لا تنفع دون الأصول، وذكّر المؤمن التارك لفرضٍ -مثلاً- بذلك الفرض المتروك، لا بالعقائد ونحو ذلك؛ لأنّه أنفع.
ومنها: أنّ (إن) بمعنى (قد). وهو قول قطربٍ.
ومنها: أنّها صيغة شرطٍ أريد بها ذمّ الكفار واستبعاد تذكّرهم. كما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ومنها غير ذلك.

والذي يظهر لمقيّد هذه الحروف -عفا الله عنه- هو بقاء الآية الكريمة على ظاهرها، وأنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن يكرّر الذّكرى تكريراً تقوم به حجّة الله على خلقه مأمورٌ بالتذكير عند ظنّ الفائدة، أمّا إذا علم الفائدة فلا يؤمر بشيءٍ هو عالمٍ أنّه لا فائدة فيه؛ لأنّ العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه.
وقد قال الشاعر:
لما نافعٌ يسعى اللّبيب فلا تكن ... لشيءٍ بعيدٍ نفعه الدّهر ساعياً
وهذا ظاهرٌ، ولكنّ الخفاء في تحقيق المناط.

وإيضاحه: أن يقال: بأيّ وجهٍ يتيقّن عدم إفادة الذكرى، حتى يباح تركها؟
وبيان ذلك: أنه تارةً يعلمه بإعلام الله به، كما وقع في أبي لهبٍ، حيث قال تعالى فيه: {سيصلى ناراً ذات لهبٍ * وامرأته}الآية [المسد: 3-4].
فأبو لهبٍ هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذّكرى؛ لأن القرآن نزل بأنهما من أهل النار، بعد تكرار التذكير لهما تكراراً تقوم عليهما به الحجّة، فلا يلزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد علمه بذلك أن يذكّرهما بشيءٍ؛ لقوله تعالى في هذه الآية: {فذكّر إن نفعت الذّكرى}.
وتارةً يعلم ذلك بقرينة الحال، بحيث يبلّغ على أكمل وجهٍ، ويأتي بالمعجزات الواضحة، فيعلم أنّ بعض الأشخاص عالمٌ بصحّة نبوّته، وأنه مصرٌّ على الكفر عناداً ولجاجاً. فمثل هذا لا يجب تكرير الذّكرى له دائماً، بعد أن تكرّر عليه تكريراً تلزمه به الحجّة.
وحاصل إيضاح هذا الجواب: أنّ الذّكرى تشتمل على ثلاث حكمٍ:
الأولى: خروج فاعلها من عهدة الأمر بها.
الثانية: رجاء النفع لمن يوعظ بها، وبيّن الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى: {قالوا معذرةً إلى ربّكم ولعلّهم يتّقون} [الأعراف: 164].

وبيّن الأولى منهما بقوله تعالى: {فتولّ عنهم فما أنت بملومٍ} [الذاريات: 54]، وقوله تعالى: {إن عليك إلاّ البلاغ} [الشورى: 48]، ونحوها من الآيات. وبيّن الثانية بقوله: {وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات: 55].

الثالثة: إقامة الحجّة على الخلق، وبيّنها تعالى بقوله: {رسلاً مبشّرين ومنذرين لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّةٌ بعد الرّسل} [النساء: 165]، وبقوله: {ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} الآية [طه:134].
فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا كرّر الذّكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة، فإن كان في الثانية طمعٌ استمرّ على التذكير، وإلاّ لم يكلّف بالدوام. والعلم عند الله تعالى.
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها -مع أنّ أكثر المفسّرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها، وأنّ معناها: فذكّر مطلقاً إن نفعت الذّكرى، وإن لم تنفع-؛ لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادرة منه إلا لدليلٍ يجب الرجوع له.
وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها جنح ابن كثيرٍ حيث قال في تفسيرها: أي ذكّر حيث تنفع التّذكرة. ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه في غير أهله، كما قال عليٌّ رضي الله عنه: ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلاّ كان فتنةً لبعضهم. وقال: حدّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذّب الله ورسوله.

تنبيهٌ
هذا الإشكال الذي في هذه الآية، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب -الذي هو مفهوم المخالفة-، وإمّا على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطاً كان أو غيره كأبي حنيفة فلا إشكال في الآية.

وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاّنيّ، فتكون الآية نصّت على الأمر بالتذكير عند مظنّة النفع، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنّة النّفع، فيطلب من دليلٍ آخر، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقاً). [دفع إيهام الاضطراب: 347-352]


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:48 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة الغاشية

سورة الغاشية
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الغاشية
قوله تعالى: {ليس لهم طعامٌ إلاّ من ضريعٍ} [الغاشية: 6].
تقدّم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {ولا طعامٌ إلاّ من غسلينٍ} [الحاقة: 36].


قوله تعالى: {فيها عينٌ جاريةٌ} الآية [الغاشية: 12].
ظاهر هذه الآية: أنّ الجنّة فيها عينٌ واحدةٌ.

وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على خلاف ذلك، كقوله: {إنّ المتّقين في جنّاتٍ وعيونٍ} [الذاريات: 15].
والجواب: هو ما تقدّم في الجمع بين قوله: {إنّ المتّقين في جنّاتٍ ونهرٍ} [القمر: 54]. مع قوله: {فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ} الآية [محمد: 15].
فالمراد بالعين: العيون، كما تقدّم نظيره في سورة البقرة وغيرها). [دفع إيهام الاضطراب: 353]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:49 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة الفجر

سورة الفجر
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الفجر
قوله تعالى: {وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} [الفجر: 22].
يوهم أنه ملكٌ واحدٌ، وقوله: {صفًّا صفًّا} يقتضي أنه غير ملكٍ واحدٍ، بل صفوفٌ من جماعات الملائكة.
والجواب: أنّ قوله تعالى: {والملك} معناه: والملائكة ونظيره قوله تعالى : {والملك على أرجائها} [الحاقة: 17]. وتقدّم بيانه بشواهده العربية في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ}
الآية [البقرة: 29] ). [دفع إيهام الاضطراب: 354]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:49 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة البلد

سورة البلد
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة البلد
قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1].
هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد -الذي هو مكّة المكرّمة-، مع أنه تعالى أقسم به في قوله: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3].
والجواب من أربعة وجوه:

الأول: وعليه الجمهور: أنّ «لا» هنا صلةٌ على عادة العرب؛ فإنها ربّما لفظت بلفظة (لا) من غير قصد معناها الأصليّ، بل لمجرّد تقوية الكلام وتوكيده، كقوله: {ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألاّ تتّبعن} [طه: 92-93] يعني: أن تتّبعني، وقوله: {ما منعك ألاّ تسجد} [الأعراف: 12] أي: أن تسجد على أحد القولين، ويدلّ له قوله في سورة (ص): {ما منعك أن تسجد لما خلقت} الآية [ص: 75]، وقوله: {لئلاّ يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29]. أي: ليعلم أهل الكتاب، وقوله: {فلا وربّك لا يؤمنون} [النساء: 65] أي: فوربّك، وقوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة} [فصلت: 34] أي: والسيئة، وقوله: {وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها أنّهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95] على أحد القولين، وقوله: {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109] على أحد القولين، وقوله: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألاّ تشركوا} [الأنعام: 151] على أحد الأقوال الماضية.
وكقول أبي النّجم:

فما ألوم البيض إلاّ تسخرا ... لمّا رأين الشّمط القفندرا
يعني: أن تسخر.

وكقول الشاعر:

وتلحينني في اللهو أن لا أحبّه ... وللّهو داعٍ دائبٌ غير غافل
يعني: أن أحبّه. و(لا) زائدةٌ.
وقول الآخر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتًى لا يمنع الجود قاتله
يعني: أبى جوده البخل. و(لا) زائدةٌ، على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولا سيّما على رواية البخل بالجرّ؛ لأنّ (لا) عليها مضافٌ بمعنى لفظة (لا)، فليست زائدةً على رواية الجرّ.
وقول امرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدّعي القوم أنّي أفرّ
يعني: وأبيك.
وأنشد الفرّاء لزيادة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد.
وقول الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله دينهم ... والأطيبان أبو بكرٍ ولا عمر
يعني: وعمر. و(لا) صلةٌ.
وأنشد الجوهريّ لزيادتها قول العجّاج:
في بئر لا حورٍ سرى وما شعر ... بإفكه حتّى رأى الصّبح جشر
فالحور: الهلكة. يعني: في بئر هلكةٍ. و (لا) صلةٌ. قاله أبو عبيدة وغيره.
وأنشد الأصمعيّ لزيادتها قول ساعدة الهذليّ:
أفعنك لا برقٌ كأنّ وميضه ... غاب تسنّمه ضرامٌ مثقّب
ويروى: «أفمنك»، و: «تشيّمه» بدل: «أفعنك»، و«تسنّمه».
يعني: أعنك برقٌ. و(لا) صلةٌ.
ومن شواهد زيادتها قول الشاعر:
تذكّرت ليلى فاعترتني صبابةٌ ... وكاد صميم القلب لا يتقطّع
يعني: كاد يتقطّع.
وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشّمّاخ:
أعائش ما لقومك لا أراهم ... يضيّعون الهجان مع المضيّع
فغلطٌ منه؛ لأنّ (لا) في بيت الشّمّاخ هذا نافيةٌ لا زائدةٌ، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أنّ أهلها يحفظون مالهم، أي: لا أرى قومك يضيّعون مالهم، وأنت تعاتبينني في حفظ مالي.
وما ذكره الفرّاء من أنّ لفظة (لا) لا تكون صلةً إلاّ في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو أغلبي لا يصحّ على الإطلاق؛ بدليل بعض الأمثلة المتقدّمة التي لا جحد فيها، كهذه الآية على القول بأنّ (لا) فيه صلةٌ، وكبيت ساعدة الهذليّ.
وما ذكره الزّمخشريّ من زيادة (لا) في أول الكلام دون غيره، فلا دليل عليه.
الوجه الثاني: أنّ (لا) نفيٌ لكلام المشركين المكذّبين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقوله: {أقسم} إثباتٌ مستأنفٌ.

وهذا القول وإن قال به كثيرٌ من العلماء، فليس بوجيهٍ عندي؛ لقوله تعالى في سورة القيامة: {ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة}؛ لأن قوله تعالى: {ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة} يدلّ على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله: {أقسم}، والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: أنها حرف نفيٍ أيضاً، ووجهه: أنّ إنشاء القسم يتضمّن الإخبار عن تعظيم المقسم به، فهو نفيٌ لذلك الخبر الضّمنيّ على سبيل الكناية، والمراد: أنه لا يعظّم بالقسم، بل هو في نفسه عظيمٌ أقسم به أو لا.
وهذا القول ذكره صاحب الكشّاف وصاحب روح المعاني، ولا يخلو عندي من بعدٍ.
الوجه الرابع: أنّ اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها، والعرب ربّما أشبعت الفتحة بألفٍ والكسرة بياءٍ والضّمّة بواوٍ.
فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن وقّاصٍ الحارثيّ:
وتضحك منّي شيخةٌ عبشميّة ... كأنّ لم ترى قبلي أسيراً يمانيّا
فالأصل: كأن لم تر. ولكنّ الفتحة أشبعت.
وقول الراجز:
إذا العجوز غضبت فطلّق ... ولا ترضاها ولا تملّق
فالأصل: ترضها؛ لأنّ الفعل مجزومٌ بلا الناهية.
وقول عنترة في معلّقته:
ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ ... زيّافةٍ مثل الفنيق المكدم
فالأصل: ينبع. يعني: أنّ العرق ينبع من عظم الذّفرى من ناقته، فأشبع الفتحة فصار ينباع، على الصحيح.
وقول الراجز:
قلت وقد خرّت على الكلكال ... يا ناقتي ما جلت من مجالي
فقوله: (الكلكال) يعني: الكلكل.

وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة الشّعر؛ لتصريح علماء العربية بأنّ إشباع الحركة بحرفٍ يناسبها أسلوبٌ من أساليب اللغة العربية؛ ولأنّه مسموعٌ في النّثر، كقولهم: كلكالٌ، وخاتامٌ، وداناقٌ. يعنون: كلكلاً وخاتماً ودانقاً.
ومثاله في إشباع الضمّة بالواو، وقولهم: برقوعٌ ومعلوقٌ. يعنون: برقعاً ومعلّقاً.
ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهيرٍ:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
فالأصل: يأتك؛ لمكان الجازم.

وأنشد له الفرّاء:

لا عهد لي بنيضال ... أصبحت كالشّنّ البال
ومنه قول امرئ القيس:
كأني بفتخاء الجناحين لقوّةٍ ... على عجلٍ منّي أطأطئ شيمالي
ويروى: صيودٌ من العقبان طأطأت شيمالي.
ويروى: دفوفٌ من العقبان ... إلخ.
ويروى: شملالٌ بدل شيمالٍ. وعليه فلا شاهد في البيت، إلاّ أنّ رواية الياء مشهورةٌ.

ومثال إشباع الضّمّة بالواو قول الشاعر:

هجوت زبّان ثمّ جئت معتذراً ... من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع
وقول الآخر:
الله أعلم أنّا في تلفّتنا ... يوم الفراق إلى إخواننا صور

وإنّني حيثما يثني الهوى بصري ... من حيثما سلكوا أدنوا فأنظور
يعني: فأنظر.

وقول الراجز:

لو أنّ عمراً همّ أن يرقودا ... فانهض فشدّ المئزر المعقود
يعني: يرقد.

ويدلّ لهذا الوجه قراءة قنبلٍ (لأقسم بهذا البلد) بلام الابتداء. هو مرويٌّ عن البزّيّ والحسن. والعلم عند الله تعالى.


قوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربةٍ} [البلد: 16].
يدلّ ظاهره على أنّ المسكين لاصقٌ بالتّراب ليس عنده شيءٌ، فهو أشدّ فقراً من مطلق الفقير، كما ذهب إليه مالكٌ وكثيرٌ من العلماء.
وقوله تعالى: {أمّا السّفينة فكانت لمساكين يعملون} الآية [الكهف: 79] يدلّ على خلاف ذلك؛ لأنه سمّاهم مساكين مع أنّ لهم سفينةً عاملةً للإيجار.
والجواب عن هذا محتاجٌ إليه على كلا القولين.
أمّا على قول من قال: إن المسكين من عنده ما لا يكفيه، كالشافعيّ؛ فالذي يظهر لي أنّ الجواب أنه يقول: المسكين عند الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيءٌ لا يكفيه، فإذا قيّد بما يقتضي أنه لا شيء عنده فذلك يعلم من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين.
وعليه، فالله في هذه الآية قيّد المسكين بكونه ذا متربةٍ، فلو لم يقيّده لانصرف إلى من عنده ما لا يكفيه، فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التّقييد.
وأمّا على قول من قال: بأنّ المسكين أحوج من مطلق الفقير، وأنه لا شيء عنده، فيجاب عن آية الكهف بأجوبةٍ:
منها: أنّ المراد بقوله: {مساكين} أنهم قومٌ ضعافٌ لا يقدرون على مدافعة الظّلمة، ويزعمون أنّهم عشرةٌ، خمسةٌ منهم زمنى.
ومنها: أنّ السفينة لم تكن ملكاً لهم، بل كانوا أجراء فيها، أو أنها عاريةٌ، واللام للاختصاص.
ومنها: أنّ اسم المساكين أطلق عليهم ترحّماً؛ لضعفهم.
والذي يظهر لمقيّده عفا الله عنه: أنّ هذه الأجوبة لا دليل على شيءٍ منها؛ فليس فيها حجّةٌ يجب الرّجوع إليها.

وما احتجّ به بعضهم من قراءة عليٍّ رضي الله عنه: (لمسّاكين) بتشديد السين، جمع تصحيحٍ لمسّاكٍ بمعنى الملاح، أو دابّة المسّوك التي هي الجلود فلا يخفى سقوطه؛ لضعف هذه القراءة وشذوذها.

والذي يتبادر إلى ذهن المنصف أنّ مجموع الآيتين دلّ على أنّ لفظ (المسكين) مشكّكٌ؛ لتفاوت أفراده، فيصدق بمن عنده ما لا يكفيه بدليل آية الكهف، ومن هو لاصقٌ بالتّراب لا شيء عنده بدليل آية البلد، كاشتراك الشّمس والسراج في النّور مع تفاوتهما، واشتراك الثّلج والعاج في البياض مع تفاوتهما.
والمشكّك إذا أطلق ولم يقيّد بوصف الأشدّيّة انصرف إلى مطلقه.

هذا ما ظهر: والعلم عند الله تعالى.
والفقير أيضاً قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال، كقول مالكٍ.

ومن شواهده قول راعي نميرٍ:

أمّا الفقير الّذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد

فسمّاه فقيراً مع أنّ عنده حلوبةً قدر عياله).
[دفع إيهام الاضطراب: 355-363]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:49 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة الشمس

سورة الشمس
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الشمس
قوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 8].
يدلّ على أنّ الله هو الذي يجعل الفجور والتّقوى في القلب.

وقد جاءت آياتٌ تدلّ على أنّ فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته، كقوله تعالى: {فاستحبّوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]،وقوله تعالى: {اشتروا الضّلالة بالهدى} [البقرة: 175]، ونحو ذلك.

وهذه المسألة هي التي ضلّ فيها القدريّة والجبريّة.

أما القدريّة، فضلّوا بالتفريط؛ حيث زعموا أنّ العبد يخلق عمل نفسه استقلالاً، من غير تأثيرٍ لقدرة الله فيه.
وأمّا الجبريّة، فضلّوا بالإفراط؛ حيث زعموا أنّ العبد لا عمل له أصلاً حتى يؤاخذ به.
وأمّا أهل السّنّة والجماعة، فلم يفرّطوا ولم يفرطوا، فأثبتوا للعبد أفعالاً اختياريّةً، ومن الضروريّ عند جميع العقلاء أنّ الحركة الارتعاشيّة ليست كالحركة الاختياريّة، وأثبتوا أنّ الله خالق كلّ شيءٍ، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلاّ بمشيئة الله تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أنّ العبد يفعل اختياراً بالقدرة والإرادة اللّتين خلقهما الله فيه، فعلاً اختياريًّا يثاب عليه ويعاقب.
ولو فرضنا أن جبريًّا ناظر سنّيًّا فقال الجبريّ: حجّتي لربّي أن أقول: إنّي لست مستقلاًّ بعملٍ، وأنّي لا بدّ أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزليّ، فأنا مجبورٌ، فكيف يعاقبني على أمرٍ لا قدرة لي أن أحيد عنه؟

فإنّ السّنّيّ يقول له: كلّ الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعاً تسمع به، وبصراً تبصر به، وعقلاً تعقل به، وأرسل لك رسولاً، وجعل لك اختياراً وقدرةً، ولم يبق بعد ذلك إلاّ التوفيق وهو ملكه المحض، إن أعطاه ففضلٌ، وإن منعه فعدلٌ.
كما أشار له تعالى بقوله: {قل فللّه الحجّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149] يعني أنّ ملكه للتوفيق حجّةٌ بالغةٌ على الخلق، فمن أعطيه ففضلٌ، ومن منعه فعدلٌ.
ولمّا تناظر أبو إسحاق الإسفرايينيّ مع عبد الجبّار المعتزليّ، قال عبد الجبّار: سبحان من تنزّه عن الفحشاء، وقصده أنّ المعاصي كالسّرقة والزّنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله؛ لأنّ الله أعلى وأجلّ من أن يشاء القبائح في زعمهم.
فقال أبو إسحاق: كلمةٌ حق أريد بها باطلٌ.

ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلاّ ما يشاء.
فقال عبد الجبّار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟
فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه؟ أأنت الربّ وهو العبد؟
فقال عبد الجبّار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى عليّ بالرّدى، أتراه أحسن إليّ أم أساء؟
فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكاً لك فقد أساء، وإن كان له فإن أعطاك ففضلٌ، وإن منعك فعدلٌ.

فبهت عبد الجبّار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جوابٌ.
وجاء أعرابيٌّ إلى عمرو بن عبيدٍ وقال له: ادع الله لي أن يردّ عليّ حمارةً سرقت منّي. فقال: اللهمّ إنّ حمارته سرقت ولم تردّ سرقتها فارددها عليه. فقال له الأعرابيّ: يا هذا، كفّ عنّي دعاءك الخبيث؛ إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردّها ولا تردّ.

وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: {وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله} [الإنسان: 30]، فأثبت للعبد مشيئةً، وصرّح بأنّه لا مشيئة للعبد إلاّ بمشيئة الله جلّ وعلا، فكلّ شيءٍ صادرٌ عن قدرته ومشيئته جلّ وعلا، وقوله: {قل فللّه الحجّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149].

وأمّا على قول من فسّر الآية الكريمة بأنّ معنى: {فألهمها فجورها وتقواها}: أنه بيّن لها طريق الخير وطريق الشرّ، فلا إشكال في الآية. وبهذا المعنى فسّرها جماعةٌ من العلماء.
والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 364-366]


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:50 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة الليل

سورة الليل
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الليل
قوله تعالى: {إنّ علينا للهدى} [الليل: 12].
يدلّ على أنّ الله التزم على نفسه الهدى للخلق. مع أنه جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدلّ على عدم هداه لبعض الناس، كقوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} [المائدة: 108]، وقوله: {والله لا يهدي القوم الظّالمين} [البقرة: 258]، وقوله: {كيف يهدي الله قوماً كفروا} الآية [آل عمران: 86]، إلى غير ذلك من الآيات.
والجواب هو ما تقدّم من أنّ الهدى يستعمل في القرآن خاصًّا وعامًّا، فالمثبت العامّ والمنفيّ الخاصّ، ونفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ.
وأما على قول من قال: إنّ معنى الأية: أنّ الطريق الذي يدلّ علينا وعلى طاعتنا هو الهدى لا الضلال. وقول من قال: إنّ معنى الآية: أنّ من سلك طريق الهدى وصل إلى الله فلا إشكال في الآية أصلاً). [دفع إيهام الاضطراب: 367]


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:50 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة الضّحى

سورة الضّحى
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الضّحى
قوله تعالى: {ووجدك ضالاًّ فهدى} [الضحى: 7].
هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان ضالاًّ قبل الوحي، مع أنّ قوله تعالى: {فأقم وجهك للدّين حنيفاً فطرت الله الّتي فطر النّاس عليها} [الروم: 30] يدلّ على أنه صلّى الله عليه وسلّم فطر على هذا الدين الحنيف. ومعلومٌ أنه لم يهوّده أبواه ولم ينصّراه ولم يمجّساه، بل لم يزل باقياً على الفطرة حتى بعثه الله رسولاً. ويدلّ لذلك ما ثبت من أنّ أوّل نزول الوحي كان وهو يتعبّد في غار حراءٍ، فذلك التّعبّد قبل نزول الوحي دليلٌ على البقاء على الفطرة.
والجواب: أنّ معنى قوله: {ضالاًّ فهدى} أي: غافلاً عمّا تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما تعلم بالوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك.

فمعنى الضلال على هذا القول الذّهاب عن العلم.
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282]، وقوله: {لا يضلّ ربّي ولا ينسى} [طه: 52]، وقوله: {قالوا تالله إنّك لفي ضلالك القديم}[يوسف: 95]، وقول الشاعر:
وتظنّ سلمى أنّني أبغي بها ... بدلاً أراها في الضّلال تهيم
ويدلّ لهذا قوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52]؛ لأنّ المراد بالإيمان: شرائع دين الاسلام، وقوله: {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} [يوسف: 3]، وقوله: {وعلّمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113]، وقوله: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلاّ رحمةً من ربّك} [القصص: 86].
وقيل: المراد بقوله: {ضالاًّ} ذهابه وهو صغيرٌ في شعاب مكّة، وقيل: ذهابه في سفره إلى الشام. والقول الأول هو الصحيح.

والله تعالى أعلم. ونسبة العلم إلى الله أسلم). [دفع إيهام الاضطراب: 368-369]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:51 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة التين

سورة التين
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة التين
قوله تعالى: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3].
تقدّم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1].


قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ} [التين: 4].
هذه الآية الكريمة توهم أنّ الإنسان ينكر أنّ ربّه خلقه، لما تقرّر في فنّ المعاني من أنّ خالي الذهن من المتردّد والإنكار لا يؤكّد له الكلام، ويسمّى ذلك ابتدائيًّا. والمتردّد يحسن التوكيد له بمؤكّدٍ واحدٍ، ويسمّى طلبيًّا. والمنكر يجب التّوكيد له بحسب إنكاره، ويسمّى إنكاريًّا.
والله تعالى في هذه الآية أكّد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويمٍ بأربعة أقسامٍ، وباللام، وبقد، فهي ستّة تأكيداتٍ. وهذا التوكيد يوهم أنّ الإنسان منكرٌ لأنّ ربّه خلقه.

وقد جاءت آياتٌ أخرى صريحةٌ في أنّ الكفار يقرّون بأنّ الله هو خالقهم، وهي قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} [الزخرف: 87].
والجواب من وجهين:
الأول: هو ما حرّره علماء البلاغة من أنّ المقرّ إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار، جعل كالمنكر، فأكّد له الخبر، كقول حجل بن نضلة:
جاء شقيقٌ عارضاً رمحه ... إنّ بني عمّك فيهم رماح

فشقيقٌ لا ينكر أنّ في بني عمّه رماحاً، ولكن مجيئه عارضاً رمحه، أي: جاعلاً عرضه جهتهم من غير التفاتٍ، أمارة أنّه يعتقد أن لا رمح فيهم، فأكّد له الخبر.

فإذا حقّقت ذلك، فاعلم أنّ الكفار لمّا أنكروا البعث ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد الأول؛ لأنّ من أقرّ بالأول لزمه الإقرار بالثاني؛ لأنّ الإعادة أيسر من البدء، فأكّد لهم الإيجاد الأول.
ويوضّح هذا: أنّ الله بيّن أنه المقصود بقوله: {فما يكذّبك بعد بالدّين} [التين: 7]. أي: ما يحملك أيّها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء، بعد علمك أنّ الله أوجدك أوّلاً؟ فمن أوجدك أوّلاً قادرٌ على أن يوجدك ثانياً، كما قال تعالى: {قل يحييها الّذي أنشأها أوّل مرّةٍ} الآية [يس: 79]، وقال: {كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده}الآية [الأنبياء: 104]، وقال: {وهو الّذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده} الآية [الروم: 27]، وقال: {يا أيّها النّاس إن كنتم في ريبٍ من البعث فإنّا خلقناكم من ترابٍ} [الحج: 5]، والآيات بمثل هذا كثيرةٌ.

ولذا ذكر تعالى أنّ من أنكر البعث فقد عسى إيجاده الأول، بقوله: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميمٌ} [يس: 78]، وبقوله: {ويقول الإنسان أإذا ما متّ لسوف أخرج حيًّا * أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً} [مريم: 66-67].

وقال البعض: معنى {فما يكذّبك}: فمن يقدر على تكذيبك يا نبيّ الله بالثواب والعقاب، بعد ما تبيّن له أنّا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأول؟

فظهرت النّكتة في جعل الابتدائيّ كالإنكاريّ.
الوجه الثاني: أنّ القسم شاملٌ لقوله: {ثمّ رددناه أسفل سافلين} أي: إلى النّار. وهم لا يصدّقون بالنار؛ بدليل قوله تعالى: {هذه النار الّتي كنتم بها تكذّبون} [الطور: 14].
وهذا الوجه في معنى قوله: {أسفل سافلين} أصحّ من القول بأنّ معناه: الهرم والردّ إلى أرذل العمر؛ لكون قوله: {إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجرٌ غير ممنونٍ} [التين: 6] أظهر في الأول من الثاني.

وإذا كان القسم شاملاً للإنكاريّ فلا إشكال؛ لأنّ التوكيد منصبٌّ على ذلك الإنكاريّ.

والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 370-372]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:51 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة العلق

سورة العلق
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة العلق
قوله تعالى: {ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ} الآية [العلق: 16].
أسند الكذب في هذه الآية الكريمة إلى ناصية هذا الكافر، وهي مقدّم شعر رأسه، مع أنه أسنده في آياتٍ كثيرةٍ إلى غير الناصية، كقوله: {إنّما يفتري الكذب الّذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} [النحل: 105].
والجواب ظاهرٌ، وهو: أنه هنا أطلق الناصية وأراد صاحبها، على عادة العرب في إطلاق البعض وإرادة الكلّ. وهو كثيرٌ في كلام العرب، وفي القرآن.

فمن أمثلته في القرآن هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى: {تبّت يدا أبي لهبٍ} [المسد: 1] يعني: أبا لهبٍ، وقوله: {ذلك بما قدّمت أيديكم} [آل عمران: 182] يعني: بما قدّمتم.

ومن ذلك تسمية العرب الرّقيب عيناً.

وقوله: {خاطئةٍ} لا يعارضه قوله تعالى: {وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به} [الأحزاب: 5]؛ لأنّ الخاطئ هو فاعل الخطيئة أو الخطء -بكسر الخاء- وكلاهما الذّنب، كما بيّنه قوله تعالى: {ممّا خطيآتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً} [نوح: 25]، وقوله: {إنّ قتلهم كان خطئاً كبيراً} [الإسراء: 31].
فالخاطئ: المذنب عمداً، والمخطئ: من صدر منه الفعل من غير قصدٍ، فهو معذورٌ). [دفع إيهام الاضطراب: 373]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
دفع, كتاب


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:57 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir