سورة سبأٍ
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة سبأٍ
قوله تعالى: {وهل نجازي إلّا الكفور} [سبأ: 17].
هذه الآية الكريمة على كلتا القراءتين -قراءة ضمّ الياء مع فتح الزّاي مبنيًّا للمفعول، مع رفع «الكفور» على أنّه نائب الفاعل، وقراءة «نجازي» بضمّ النّون وكسر الزّاي مبنيًّا للفاعل مع نصب «الكفور» على أنّه مفعولٌ به- تدلّ على خصوص الجزاء بالمبالغين في الكفر.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على عموم الجزاء، كقوله: {فمن يعمل مثقال ذرّةٍ} الآية [الزلزلة: 7].
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجهٍ:
الأوّل: أنّ المعنى: ما نجازي هذا الجزاء الشّديد المستأصل إلّا المبالغ في الكفران.
الثّاني: أنّ ما يفعل بغير الكافر من الجزاء ليس عقابًا في الحقيقة؛ لأنّه تطهيرٌ وتمحيصٌ.
الثّالث: أنّه لا يجازى بجميع الأعمال مع المناقشة التّامّة إلّا الكافر. ويدلّ لهذا قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((من نوقش الحساب فقد هلك))، وأنّه لمّا سألته عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله مسرورًا} [الانشقاق: 8 - 9]، قال لها: ((ذلك العرض))، وبيّن لها أنّ من نوقش الحساب، لا بدّ أن يهلك.
قوله تعالى: {قل ما سألتكم من أجرٍ فهو لكم إن أجري إلّا على الله} الآية [سبأ: 47].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّه صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل أمّته أجرًا على تبليغ ما جاءهم به من خير الدّنيا والآخرة.
ونظيرها قوله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلّفين} [ص: 86]، وقوله تعالى: {أم تسألهم أجرًا فهم من مغرمٍ مثقلون} في سورة «الطّور» و«القلم»، وقوله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجرٍ إلّا من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلًا} [الفرقان: 57]، وقوله: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إن هو إلّا ذكرى للعالمين} [الآنعام: 90].
وعدم طلب الأجرة على التّبليغ هو شأن الرّسل كلّهم عليهم صلوات الله وسلامه، كما قال تعالى: {اتّبعوا المرسلين اتّبعوا من لا يسألكم أجرًا} [يس: 20 - 21].
وقال تعالى في سورة «الشّعراء»: {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلّا على ربّ العالمين} في قصّة نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ عليهم وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام.
وقال في سورة «هودٍ» عن نوحٍ: {ويا قوم لا أسألكم عليه مالًا إن أجري إلّا على الله وما أنا بطارد الّذين آمنوا} الآية [هود: 29].
وقال فيها أيضًا عن هودٍ: {يا قوم لا أسألكم عليه أجرًا إن أجري إلّا على الّذي فطرني} [هود: 51]الآية.
وقد جاء في آيةٍ أخرى ما يوهم خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلّا المودّة في القربى} [الشورى: 23].
اعلم أوّلًا: أنّ في قوله تعالى: {إلّا المودّة في القربى} أربعة أقوالٍ:
الأوّل: -ورواه الشّعبيّ وغيره عن ابن عبّاسٍ، وبه قال مجاهدٌ وقتادة وعكرمة وأبو مالكٍ والسّدّيّ والضّحّاك وابن زيدٍ وغيرهم، كما نقله عنهم ابن جريرٍ وغيره- أنّ معنى الآية: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلّا المودّة في القربى} أي: إلّا أن تودّوني في قرابتي الّتي بيني وبينكم، فتكفّوا عنّي أذاكم وتمنعوني من أذى النّاس، كما تمنعون كلّ من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم له في كلّ بطنٍ من قريشٍ رحمٌ، فهذا الّذي سألهم ليس بأجرٍ على التّبليغ؛ لأنّه مبذولٌ لكلّ أحدٍ؛ لأنّ كلّ أحدٍ يودّه أهل قرابته وينتصرون له من أذى النّاس، وقد فعل له ذلك أبو طالبٍ، ولم يكن أجرًا على التّبليغ؛ لأنّه لم يؤمن، وإذا كان لا يسأل أجرًا إلّا هذا الّذي ليس بأجرٍ، تحقّق أنّه لا يسأل أجرًا، كقول النّابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلولٌ من قراع الكتائب
ومثل هذا يسمّيه البلاغيّون: تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ.
وهذا القول هو الصّحيح في الآية، واختاره ابن جريرٍ. وعليه فلا إشكال.
الثّاني: أنّ معنى الآية: {إلّا المودّة في القربى} أي: لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم.
ويروى هذا القول عن سعيد بن جبيرٍ وعمرو بن شعيبٍ وعليّ بن الحسين. وعليه فلا إشكال أيضًا؛ لأنّ الموادّة بين المسلمين واجبةٌ فيما بينهم، وأحرى قرابةٍ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ} [التوبة: 71].
وفي الحديث: ((مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم كالجسد الواحد، إذا أصيب منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى))، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ((لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه))، والأحاديث في مثل هذا كثيرةٌ جدا. وإذا كان نفس الدّين يوجب هذا بين المسلمين تبيّن أنّه غير عوضٍ عن التّبليغ.
وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطعٌ على كلا القولين. وعليه فلا إشكال.
فمعناه على القول الأوّل: لا أسألكم عليه أجرًا، لكن أذكّركم قرابتي فيكم.
وعلى الثّاني: لكن أذكّركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم.
القول الثّالث: وبه قال الحسن: {إلّا المودّة في القربى} أي: إلّا أن تتودّدوا إلى الله وتتقرّبوا إليه بالطّاعة والعمل الصّالح. وعليه فلا إشكال؛ لأنّ التّقرّب إلى الله ليس أجرًا على التّبليغ.
القول الرّابع: {إلّا المودّة في القربى} أي: إلّا أن تتودّدوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم. ذكر ابن جريرٍ هذا القول عن عبد الله بن قاسمٍ.
وعليه أيضًا فلا إشكال؛ لأنّ صلة الإنسان رحمه ليست أجرًا على التّبلي.
فقد علمت الصّحيح في تفسير الآية، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال.
وأمّا القول بأنّ قوله تعالى: {إلّا المودّة في القربى}، منسوخٌ بقوله تعالى: {قل ما سألتكم من أجرٍ فهو لكم} فهو ضعيفٌ.
والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 261-265]