سورة هودٍ
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة هودٍ
قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} [هود: 15].
هذه الآية الكريمة فيها التّصريح بأنّ الكافر يجازى بحسناته، كالصّدقة وصلة الرّحم وقرى الضّيف والتّنفيس عن المكروب، في الدّنيا دون الآخرة؛ لأنّه تعالى قال: {نوفّ إليهم أعمالهم فيها} يعني الحياة الدّنيا، ثمّ نصّ على بطلانها في الآخرة بقوله: {أولئك الّذين ليس لهم في الآخرة إلّا النّار وحبط ما صنعوا فيها} الآية [هود: 16].
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدّنيا نؤته منها} الآية [الشورى: 20]، وقوله تعالى: {ويوم يعرض الّذين كفروا على النّار أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا} الآية [الأحقاف: 20] وعلى ما قاله ابن زيدٍ، وقوله: {ووجد الله عنده فوفّاه حسابه} [النور: 39]، على أحد القولين، وقوله: {وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33]، على أحد الأقوال الماضية في سورة "الأنفال".
وقد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّ الكافر يجازى بحسناته في الدّنيا، مع أنّه جاءت آياتٌ أخر تدلّ على بطلان عمل الكافر واضمحلاله من أصله، وفي بعضها التّصريح ببطلانه في الدّنيا مع الآخرة في كفر الرّدّة وفي غيره.
أمّا الآيات الدّالّة على بطلانه من أصله، فكقوله: {أعمالهم كرمادٍ اشتدّت به الرّيح في يومٍ عاصفٍ} [هود: 18]، وكقوله: {أعمالهم كسرابٍ} الآية [النور: 39]، وقوله: {وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورًا} [الفرقان: 23].
وأمّا الآيات الدّالّة على بطلانه في الدّنيا مع الآخرة، فكقوله في كفر المرتدّ: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة} [البقرة: 217]، وكقوله في كفر غير المرتدّ: {إنّ الّذين يكفرون بآيات الله} إلى قوله: {أولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وما لهم من ناصرين} [آل عمران: 21-22].
وبيّن الله تعالى في آياتٍ أخر أنّ الإنعام عليهم في الدّنيا ليس للإكرام بل للاستدراج والإهلاك، كقوله تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إنّ كيدي متينٌ} [الأعراف: 182 - 183]، وكقوله تعالى: {ولا يحسبنّ الّذين كفروا أنّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذابٌ مهينٌ} [آل عمران: 178]، وكقوله: {فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيءٍ حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44]، وقوله: {أيحسبون أنّما نمدّهم به من مالٍ وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون: 55-56]، وقوله: {قل من كان في الضّلالة فليمدد له الرّحمن مدًّا} [مريم: 75]، وقوله: {ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً} إلى قوله: {والآخرة عند ربّك للمتّقين} [الزخرف: 33 - 35]، إلى غير ذلك من الآيات.
والجواب من أربعة أوجهٍ:
الأوّل -ويظهر لي صوابه؛ لدلالة ظاهر القرآن عليه-: أنّ من الكفّار من يثيبه الله بعمله في الدّنيا كما دلّت عليه آياتٌ وصحّ به الحديث، ومنهم من لا يثيبه في الدّنيا كما دلّت عليه آياتٌ أخر.
وهذا مشاهدٌ فيهم في الدّنيا، فمنهم من هو في عيشٍ رغدٍ، ومنهم من هو في بؤسٍ وضيقٍ.
ووجه دلالة القرآن على هذا: أنّه تعالى أشار إليه بالتّخصيص بالمشيئة في قوله: {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} [الإسراء: 18]، فهي مخصّصةٌ لعموم قوله تعالى: {نوفّ إليهم أعمالهم فيها}، وعموم قوله تعالى: {ومن كان يريد حرث الدّنيا نؤته منها}.
وممّن صرّح بأنّها مخصّصةٌ لهما: الحافظ ابن حجرٍ في فتح الباري في كتاب الرّقاق في الكلام على قول البخاريّ: «باب: المكثرون هم المقلّون، وقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها} الآيتين».
ويدلّ لهذا التّخصيص قوله في بعض الكفّار: {خسر الدّنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11].
وجمهور العلماء على حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد، كما تقرّر في الأصول.
الثّاني -وهو وجيهٌ أيضًا-: أنّ الكافر يثاب عن عمله بالصّحّة وسعة الرّزق والأولاد ونحو ذلك، كما صرّح به تعالى في قوله: {نوفّ إليهم أعمالهم فيها} يعني: الدّنيا، وأكّد ذلك بقوله: {وهم فيها لا يبخسون}، وبظاهرها المتبادر منها -كما ذكرنا- فسّرها ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ ومجاهدٌ وقتادة والضّحّاك، كما نقله عنهم ابن جريرٍ.
وعلى هذا فبطلان أعمالهم في الدّنيا بمعنى أنّها لم يعتدّ بها شرعًا في عصمة دمٍ ولا ميراثٍ ولا نكاحٍ ولا غير ذلك، ولا تفتح لها أبواب السّماء، ولا تصعد إلى الله تعالى، بدليل قوله: {إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه} [فاطر: 10]، ولا تدّخر لهم في الأعمال النّافعة، ولا تكون في كتاب الأبرار في علّيّين، وكفى بهذا بطلانًا.
أمّا مطلق النّفع الدّنيويّ بها فهو عند الله كلا شيءٍ، فلا ينافي بطلانها، بدليل قوله: {وما الحياة الدّنيا إلّا متاع} [آل عمران: 185]، وقوله: {وما هذه الحياة الدّنيا إلّا لهوٌ ولعبٌ وإنّ الدّار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]، وقوله: {ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً} إلى قوله: {للمتّقين} [الزخرف: 33 - 35]، والآيات في مثل هذا كثيرةٌ.
وممّا يوضّح هذا المعنى حديث: ((لو كانت الدّنيا تزن عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى منها كافرًا شربة ماءٍ)).
ذكر ابن كثيرٍ هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: {ولولا أن يكون النّاس أمّةً} الآيات، ثمّ قال: أسنده البغويّ من رواية زكريّاء بن منظورٍ عن أبي حازمٍ عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكره.
ورواه الطّبرانيّ من طريق زمعة بن صالحٍ عن أبي حازمٍ عن سهل بن سعدٍ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((لو عدلت الدّنيا عند الله جناح بعوضةٍ ما أعطى كافرًا منها شيئًا)).
قال مقيّده -عفا الله عنه-: لا يخفى أنّ مراد الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله بما ذكرناه عنه: أنّ كلتا الطّريقين ضعيفةٌ، إلّا أنّ كلّ واحدةٍ منهما تعتضد بالأخرى، فيصلح المجموع للاحتجاج، كما تقرّر في علم الحديث من أنّ الطّرق الضّعيفة المعتبر بها يشدّ بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج.
لا تخاصم بواحدٍ أهل بيتٍ ... فضعيفان يغلبان قويًّا
لأنّ زكريّا بن منظور بن ثعلبة القرظيّ وزمعة بن صالحٍ الجنديّ كلاهما ضعيفٌ، وإنّما روى مسلمٌ عن زمعة مقرونًا بغيره لا مستقلًّا بالرّواية، كما بيّنه الحافظ ابن حجرٍ في التّقريب.
الثّالث: أنّ معنى {نوفّ إليهم أعمالهم} أي: نعطيهم الغرض الّذي عملوا من أجله في الدّنيا، كالّذي قاتل ليقال: جريءٌ، والّذي قرأ ليقال: قارئٌ، والّذي تصدّق ليقال: جوّادٌ، فقد قيل لهم ذلك. وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه.
ويدلّ له الحديث الّذي رواه أبو هريرة مرفوعًا في المجاهد، والقارئ، والمتصدّق، أنّه يقال لكلّ واحدٍ منهم: إنّما عملت ليقال، فقد قيل. أخرجه التّرمذيّ مطوّلًا، وأصله عند مسلمٍ كما قاله ابن حجرٍ. ورواه أيضًا ابن جريرٍ، وقد استشهد معاوية رضي الله عنه لصحّة حديث أبي هريرة هذا بقوله تعالى: {نوفّ إليهم أعمالهم فيها}، وهو تفسيرٌ منه رضي الله عنه لهذه الآية بما يدلّ لهذا الوجه الثّالث.
الرّابع: أنّ المراد بالآية المنافقون الّذين يخرجون للجهاد، لا يريدون وجه الله، وإنّما يريدون الغنائم، فإنّهم يقسم لهم فيها في الدّنيا ولا حظّ لهم من جهادهم في الآخرة، والقسم لهم منها هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فقال ربّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ} [هود: 45] الآية.
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ هذا الابن من أهل نوحٍ عليه السّلام، وقد ذكر تعالى ما يدلّ على خلاف ذلك حيث قال: {يا نوح إنّه ليس من أهلك} [هود: 46].
والجواب: أنّ معنى قوله: {ليس من أهلك} أي: الموعود بنجاتهم في قوله: {إنّا منجّوك وأهلك}، لأنّه كافرٌ لا مؤمنٌ.
وقول نوحٍ: {إنّ ابني من أهلي} يظنّه مسلمًا من جملة المسلمين النّاجين، كما يشير إليه قوله تعالى: {فلا تسألني ما ليس لك به علمٌ} [هود: 46]، وقد شهد الله أنّه ابنه حيث قال: {ونادى نوحٌ ابنه} [هود: 42]، إلّا أنّه أخبره بأنّ هذا الابن عملٌ غير صالحٍ؛ لكفره، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم، وإن كان من جملة الأهل نسبًا.
قوله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلامًا قال سلامٌ} [هود: 46].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ إبراهيم ردّ السّلام على الملائكة.
وقد جاء في سورة " الحجر " ما يوهم أنّهم لمّا سلّموا عليه أجابهم بأنّه وجلٌ منهم من غير ردّ السّلام، وذلك قوله تعالى: {فقالوا سلامًا قال إنّا منكم وجلون} [الحجر: 52].
والجواب ظاهرٌ، وهو: أنّ إبراهيم أجابهم بكلا الأمرين، ردّ السّلام والإخبار بوجله منهم، فذكر أحدهما في " هودٍ " والآخر في " الحجر ".
ويدلّ لذلك ذكره تعالى ما يدلّ عليهما معًا في سورة " الذّاريات " في قوله: {فقالوا سلامًا قال سلامٌ قومٌ منكرون} [الذاريات: 25]؛ لأنّ قوله: {منكرون} يدلّ على وجله منهم.
ويوضّح ذلك قوله تعالى: {فأوجس منهم خيفةً} في " هودٍ " و " الذّاريات "، مع أنّ في كلٍّ منهما {قال سلامٌ}.
قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض} الآية [هود: 107].
تقدّم وجه الجمع بينه وبين الآيات الّتي يظنّ تعارضها معه -كقوله تعالى: {خالدين فيها أبدًا}- في سورة " الأنعام "، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاحٍ في سورة " النّبأ ".
قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربّك ولذلك خلقهم} [هود: 118-119].
اختلف العلماء في المشار إليه بقوله: "ذلك" فقيل: {إلّا من رحم ربّك}، وللرّحمة "خلقهم".
والتّحقيق أنّ المشار إليه هو اختلافهم إلى شقيٌّ وسعيدٍ، المذكور في قوله: {ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربّك}، ولذلك الاختلاف خلقهم، فخلق فريقًا للجنّة وفريقًا للسّعير، كما نصّ عليه بقوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس} الآية [الأعراف: 179].
وأخرج الشّيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه: ((ثمّ يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلماتٍ: فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أم سعيدٌ)).
وروى مسلمٌ من حديث عائشة رضي الله عنها: ((يا عائشة، إنّ الله خلق الجنّة وخلق لها أهلًا، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النّار وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم)).
وفي صحيح مسلمٍ من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إنّ الله قدّر مقادير الخلق قبل أن يخلق السّماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ، وكان عرشه على الماء)).
وفي الصّحيحين من حديث عمران بن حصينٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((كلٌّ ميسّرٌ لما خلق له)).
وإذا تقرّر أنّ قوله تعالى: {ولذلك خلقهم} معناه: أنّه خلقهم لسعادة بعضٍ وشقاوة بعضٍ، كما قال: {ولقد ذرأنا لجهنّم} الآية، وقال: {هو الّذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ} [التغابن: 2]، فلا يخفى ظهور التّعارض بين هذه الآيات مع قوله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون} [الذاريات: 56].
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجهٍ:
الأوّل -ونقله ابن جريرٍ عن زيد بن أسلم وسفيان-: أنّ معنى الآية: {إلّا ليعبدون} أي: يعبدني السّعداء منهم ويعصيني الأشقياء. فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق -الّتي هي عبادة الله- حاصلةٌ بفعل السّعداء منهم، كما أشار له قوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين} [الأنعام: 89].
وغاية ما يلزم على هذا القول أنّه أطلق المجموع وأراد بعضهم، وقد بيّنّا أمثال ذلك من الآيات الّتي أطلق فيها المجموع مرادًا بعضه في سورة " الأنفال ".
الوجه الثّاني هو ما رواه ابن جريرٍ عن ابن عبّاسٍ، واختاره ابن جريرٍ: أنّ معنى قوله: {إلّا ليعبدون} أي: إلّا ليقرّوا ليّ بالعبوديّة طوعًا أو كرهًا؛ لأنّ المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعنٌ منقادٌ لقضاء ربّه جبرًا عليه.
الوجه الثّالث: ويظهر لي أنّه هو الحقّ؛ لدلالة القرآن عليه، أنّ الإرادة في قوله: {ولذلك خلقهم} إرادةٌ كونيّةٌ قدريّةٌ، والإرادة في قوله: {وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون} إرادةٌ شرعيّةٌ دينيّةٌ.
فبيّن في قوله: {ولذلك خلقهم} وقوله: {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس} أنّه أراد بإرادته الكونيّة القدريّة صيرورة قومٍ إلى السّعادة، وآخرين إلى الشّقاوة.
وبيّن بقوله: {إلّا ليعبدون} أنّه يريد العبادة بإرادته الشّرعيّة الدّينيّة من الجنّ والإنس، فيوفّق من شاء بإرادته الكونيّة فيعبده، ويخذل من شاء فيمتنع من العبادة.
ووجه دلالة القرآن على هذا: أنّه تعالى بيّنه بقوله: {وما أرسلنا من رسولٍ إلّا ليطاع بإذن الله} [النساء: 64]، فعمّم الإرادة الشّرعيّة بقوله: {إلّا ليطاع}، وبيّن التّخصيص في الطّاعة بالإرادة الكونيّة، بقوله: {بإذن الله}، فالدّعوة عامّةٌ والتّوفيق خاصٌّ.
وتحقيق النّسبة بين الإرادة الكونيّة القدريّة والإرادة الشّرعيّة الدّينيّة أنّه بالنّسبة إلى وجود المراد وعدم وجوده فالإرادة الكونيّة أعمّ مطلقًا؛ لأنّ كلّ مرادٍ شرعًا يتحقّق وجوده في الخارج إذا أريد كونًا وقدرًا، كإيمان أبي بكرٍ. وليس يوجد ما لم يرد كونًا وقدرًا ولو أريد شرعًا، كإيمان أبي لهبٍ. فكلّ مرادٍ شرعيٍّ حصل فبالإرادة الكونيّة، وليس كلّ مرادٍ كونيٍّ حصل مرادًا في الشّرع.
وأمّا بالنّسبة إلى تعلّق الإرادتين بعبادة الإنس والجنّ للّه تعالى، فالإرادة الشّرعيّة أعمّ مطلقًا والإرادة الكونيّة أخصّ مطلقًا؛ لأنّ كلّ فردٍ من أفراد الجنّ والإنس أراد الله منه العبادة شرعًا ولم يردها من كلّهم كونًا وقدرًا، فتعمّ الإرادة الشّرعيّة عبادة جميع الثّقلين، وتختصّ الإرادة الكونيّة بعبادة السّعداء منهم، كما قدّمنا من أنّ الدّعوة عامّةٌ والتّوفيق خاصٌّ، كما بيّنه تعالى بقوله: {والله يدعو إلى دار السّلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ} [يونس: 25]، فصرّح بأنّه يدعو الكلّ ويهدي من شاء منهم.
وليست النّسبة بين الإرادة الشّرعيّة والقدريّة العموم والخصوص من وجهٍ، بل هي العموم والخصوص المطلق، كما بيّنّا، إلّا أنّ إحداهما أعمّ مطلقًا من الأخرى باعتبارٍ، والثّانية أعمّ مطلقًا باعتبارٍ آخر، كما بيّنّا.
والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 164-174]