سورة الأعراف
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الأعراف
قوله تعالى: {فلنسألنّ الّذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين} الآية [الأعراف: 6].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ الله يسأل جميع النّاس يوم القيامة. ونظيرها قوله تعالى: {فوربّك لنسألنّهم أجمعين عمّا كانوا يعملون} [الحجر: 92 - 93]، وقوله: {وقفوهم إنّهم مسئولون} [الصافات: 24]، وقوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65].
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على خلاف ذلك، كقوله: {فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌّ} [الرحمن: 39]، وكقوله: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} [القصص: 78].
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجهٍ:
الأوّل -وهو أوجهها؛ لدلالة القرآن عليه-: هو أنّ السّؤال قسمان: سؤال توبيخٍ وتقريعٍ، وأداته غالبًا «لم». وسؤال استخبارٍ واستعلامٍ، وأداته غالبًا «هل». فالمثبت هو سؤال التّوبيخ والتّقريع، والمنفيّ هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
وجه دلالة القرآن على هذا: أنّ سؤاله لهم المنصوص في كلّه توبيخٌ وتقريعٌ، كقوله: {وقفوهم إنّهم مسئولون ما لكم لا تناصرون} [الصافات: 24 - 25]، وقوله: {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون} [الطور: 15]، وكقوله: {ألم يأتكم رسلٌ منكم} [الأنعام: 130]، وكقوله: {ألم يأتكم نذيرٌ} [الملك: 8]، إلى غير ذلك من الآيات.
وسؤال الله للرّسل: {ماذا أجبتم} [المائدة: 109] لتوبيخ الّذين كذّبوهم، كسؤال الموءودة: {بأيّ ذنبٍ قتلت} [التكوير: 9] لتوبيخ قاتلها.
الوجه الثّاني: أنّ في القيامة مواقف متعدّدةً، ففي بعضها يسألون، وفي بعضها لا يسألون.
الوجه الثّالث: هو ما ذكره الحليميّ من أنّ إثبات السّؤال محمولٌ على السّؤال عن التّوحيد وتصديق الرّسل، وعدم السّؤال محمولٌ على ما يستلزمه الإقرار بالنّبوّات من شرائع الدّين وفروعه. ويدلّ لهذا قوله تعالى: {فيقول ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65]. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {قال ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتك} الآية [ الأعراف: 12].
في هذه الآية إشكالٌ بين قوله: {منعك} مع «لا» النّافية؛ لأنّ المناسب في الظّاهر لقوله: {منعك} -بحسب ما يسبق إلى ذهن السّامع لا ما في نفس الأمر- هو حذف «لا» فيقول: (ما منعك أنّ تسجد) دون (ألّا تسجد).
وأجيب عن هذا بأجوبةٍ، من أقربها: هو ما اختاره ابن جريرٍ في تفسيره، وهو أنّ في الكلام حذفًا دلّ المقام عليه.
وعليه، فالمعنى: ما منعك من السّجود، فأحوجك ألّا تسجد إذ أمرتك؟
وهذا الّذي اختاره ابن جريرٍ، قال ابن كثيرٍ: إنّه حسنٌ قويٌّ.
ومن أجوبتهم: أنّ «لا» صلةٌ. ويدلّ قوله تعالى في سورة «ص»: {ما منعك أن تسجد لما خلقت} الآية [ص: 75]، وقد وعدنا فيما مضى أنّا إن شاء الله نبيّن القول بزيادة «لا» مع شواهده العربيّة في الجمع بين قوله: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1]، وبين قوله: {وهذا البلد الأمين} [التين: 3].
قوله تعالى: {قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28].
هذه الآية الكريمة يتوهّم خلاف ما دلّت عليه من ظاهر آيةٍ أخرى، وهي قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} الآية [الإسراء: 16].
والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجهٍ:
الأوّل -وهو أظهرها-: أنّ معنى قوله: {أمرنا مترفيها} أي بطاعة الله وتصديق الرّسل {ففسقوا}، أي: بتكذيب الرّسل ومعصية الله تعالى. فلا إشكال في الآية أصلًا.
الثّاني: أنّ الأمر في قوله: {أمرنا مترفيها} أمرٌ كونيٌّ قدريٌّ، لا أمرٌ شرعيٌّ. أي: قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا.
والأمر الكونيّ القدريّ كقوله تعالى: {كونوا قردةً خاسئين} [الأعراف: 166]، {إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]. والأمر في قوله: {قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28] أمرٌ شرعيٌّ دينيٌّ.
فظهر أنّ الأمر المنفيّ غير الأمر المثبت.
الوجه الثّالث: أنّ معنى: {أمرنا مترفيها} أي: كثّرناهم حتّى بطروا النّعمة ففسقوا.
ويدلّ لهذا المعنى الحديث الّذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعًا من حديث سويد بن هبيرة رضي الله عنه: ((خير مال امرئٍ: مهرةٌ مأمورةٌ أو سكّةٌ مأبورةٌ)). فقوله: «مأمورةٌ» أي: كثيرة النّسل. وهي محلّ الشّاهد.
قوله تعالى: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم} الآية [الأعراف: 51]، وأمثالها من الآيات كقوله: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67]، وقوله: {وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126]، وقوله: {وقيل اليوم ننساكم} الآية [الجاثية: 34].
لا يعارض قوله تعالى: {لا يضلّ ربّي ولا ينسى} [طه: 52]، وقوله: {وما كان ربّك نسيًّا} [مريم: 64]؛ لأنّ معنى: {فاليوم ننساهم} ونحوه: أي: نتركهم في العذاب محرومين من كلّ خيرٍ. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى. {فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبينٌ} الآية [الأعراف: 107].
هذه الآية تدلّ على شبه العصا بالثّعبان، وهو لا يطلق إلّا على الكبير من الحيّات.
وقد جاءت آيةٌ أخرى تدلّ على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: {فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانٌّ} الآية [القصص: 31]؛ لأنّ الجانّ هو الحيّة الصّغيرة.
والجواب عن هذا: أنّه شبّهها بالثّعبان في عظم خلقتها، وبالجانّ في اهتزازها وخفّتها وسرعة حركتها، فهي جامعةٌ بين العظم وخفّة الحركة على خلاف العادة). [دفع إيهام الاضطراب: 143-147]