سورة الكهف
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الكهف
قوله تعالى: {إنّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملّتهم ولن تفلحوا إذًا أبدًا} [الكهف: 20].
هذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ المكره على الكفر لا يفلح أبدًا.
وقد جاءت آيةٌ أخرى تدلّ على أنّ المكره على الكفر معذورٌ إذا كان قلبه مطمئنًّا بالإيمان، وهي قوله تعالى: {إلّا من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا} الآية [النحل: 106].
والجواب عن هذا من وجهين:
الأوّل: أنّ رفع المؤاخذة مع الإكراه من خصائص هذه الأمّة، فهو داخلٌ في قوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم} [الأعراف: 157].
ويدلّ لهذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي الخطأ والنّسيان، وما استكرهوا عليه))، فهو يدلّ بمفهومه على خصوصه بأمّته صلّى الله عليه وسلّم، وليس مفهوم لقبٍ؛ لأنّ مناط التّخصيص هو اتّصافه صلى الله عليه وسلم بالأفضليّة على من قبله من الرّسل، واتّصاف أمّته بها على من قبلها من الأمم. والحديث وإن أعلّه أحمد وابن أبي حاتمٍ فقد تلقّاه العلماء قديمًا وحديثًا بالقبول.
ومن أصرح الأدلّة أنّ من قبلنا ليس لهم عذرٌ بالإكراه: حديث طارق بن شهابٍ، في الّذي دخل النّار في ذبابٍ قرّبه لصنمٍ، مع أنّه قرّبه ليتخلّص من شرّ عبدة الصّنم، وصاحبه الّذي امتنع من ذلك قتلوه. فعلم أنّه لو لم يفعل لقتلوه كما قتلوا صاحبه، ولا إكراه أكبر من خوف القتل، ومع هذا دخل النّار ولم ينفعه الإكراه.
وظواهر الآيات تدلّ على ذلك.
فقوله: {ولن تفلحوا إذًا أبدًا} [الكهف: 20] ظاهرٌ في عدم فلاحهم مع الإكراه؛ لأنّ قوله: {يرجموكم أو يعيدوكم في ملّتهم} صريحٌ في الإكراه.
وقوله: {ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:: 286] مع أنّه تعالى قال: «قد فعلت» -كما ثبت في صحيح مسلمٍ- يدلّ بظاهره على أنّ التّكليف بذلك كان معهودًا قبل.
وقوله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي} [طه: 115]، مع قوله: {وعصى آدم ربّه} [طه: 121]، فأسند إليه النّسيان والعصيان معًا، يدلّ على ذلك أيضًا. وعلى القول بأنّ المراد بالنّسيان التّرك، فلا دليل في الآية.
وقوله: {ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} مع قوله: {كما حملته على الّذين من قبلنا}.
ويستأنس لهذا بما ذكره البغويّ في تفسيره عن الكلبيّ من أنّ المؤاخذة بالنّسيان كانت من الإصر على من قبلنا، وكان عقابها يعجّل لهم في الدّنيا، فيحرّم عليهم بعض الطّيّبات.
وقال بعض العلماء: إنّ الإكراه عذرٌ لمن قبلنا. وعليه فالجواب هو:
الوجه الثّاني: أنّ الإكراه على الكفر قد يكون سببًا لاستدراج الشّيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه، كما يفهم من مفهوم قوله تعالى: {وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان}.
وإلى هذا الوجه جنح صاحب روح المعاني، والأوّل أظهر عندي وأوضح. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {فأردت أن أعيبها} [الكهف: 79].
هذه الآية تدلّ على أنّ عيبها يكون سببًا لترك الملك الغاصب لها، ولذلك خرقها الخضر.
وعموم قوله: {وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينةٍ غصبًا} [الكهف: 79] يقتضي أخذ الملك للمعيبة والصّحيحة معًا.
والجواب: أنّ في الكلام حذف الصّفة. وتقديره: كلّ سفينةٍ صالحةٍ صحيحةٍ. وحذف النّعت إذا دلّ المقام عليه جائزٌ، كما أشار له ابن مالكٍ في الخلاصة بقوله:
وما من المنعوت والنّعت عقل ... يجوز حذفه وفي النّعت يقل
ومن شواهد حذف الصّفة قول الشّاعر:
وربّ أسيلة الخدّين بكرٍ ... مهفهفةٍ لها فرعٌ وجيدٌ
أي: لها فرعٌ فاحمٌ وجيدٌ طويلٌ.
وقول عبيد بن الأبرص الأسيّديّ:
من قوله قولٌ ومن فعله ... فعلٌ ومن نائله نائلٌ
يعني: من قوله قولٌ فصلٌ، وفعله فعلٌ جميلٌ، ونائله نائلٌ جزلٌ). [دفع إيهام الاضطراب: 203-206]