دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 05:57 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة براءةٌ

سورة براءةٌ
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة براءةٌ
قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية [التوبة: 5].
اعلم أوّلًا: أنّ المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ} [التوبة: 2]، لا الأشهر الحرم الّتي هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجبٌ، على الصّحيح، وهو قول ابن عبّاسٍ في رواية العوفيّ عنه، وبه قال مجاهدٌ وعمرو بن شعيبٍ ومحمّد بن إسحاق وقتادة والسّدّيّ وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، واستظهر هذا القول ابن كثيرٍ؛ لدلالة سياق القرآن عليه، ولأقوال هؤلاء العلماء، خلافًا لابن جريرٍ.
وعليه فالآية تدلّ بعمومها على قتال الكفّار في الأشهر الحرم المعروفة، بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة.

وقد جاءت آيةٌ أخرى تدلّ على عدم القتال فيها، وهي قوله تعالى: {إنّ عدّة الشّهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} الآية [التوبة: 36].
والجواب: أنّ تحريم الأشهر الحرم منسوخٌ بعموم آيات السّيف، ومن يقول بعدم النّسخ يقول: هو مخصّصٌ لها. والظّاهر أنّ الصّحيح كونها منسوخةً، كما يدلّ عليه فعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حصار ثقيفٍ في الشّهر الحرام الّذي هو ذو القعدة، كما ثبت في الصّحيحين أنّه خرج إلى هوازن في شوّالٍ، فلمّا كسرهم واستفاء أموالهم ورجع لهم لجأوا إلى الطّائف، فعمد إلى الطّائف فحاصرهم أربعين يومًا وانصرف ولم يفتحها. فثبت أنّه حاصر في الشّهر الحرام.

وهذا القول هو المشهور عند العلماء.

وعليه فقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ناسخٌ لقوله: {منها أربعةٌ حرمٌ}، وقوله: {لا تحلّوا شعائر الله ولا الشّهر الحرام} [المائدة: 2]، وقوله: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام} الآية [البقرة: 194].
والمنسوخ من هذه ومن قوله: {أربعةٌ حرمٌ}، هو تحريم الشّهر في الأولى، والأشهر في الثّانية فقط، دون ما تضمّنتاه من الخبر؛ لأنّ الخبر لا يجوز نسخه شرعًا.


قوله تعالى: {وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النّصارى المسيح ابن الله} إلى قوله: {عمّا يشركون} [التوبة: 30-31].
هذه الآية فيها التّنصيص الصّريح على أنّ كفّار أهل الكتاب مشركون؛ بدليل قوله فيهم: {سبحانه عمّا يشركون} بعد أن بيّن وجوه شركهم، بجعلهم الأولاد للّه واتّخاذهم الأحبار والرّهبان أربابًا من دون الله.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48]؛ لإجماع العلماء أنّ كفّار أهل الكتاب داخلون فيها.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ بظاهرها على أنّ أهل الكتاب ليسوا من المشركين، كقوله تعالى: {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين} الآية [البينة: 1]، وقوله: {إنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم} الآية [البينة: 6] وقوله: {ما يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم} الآية [البقرة: 105]، والعطف يقتضي المغايرة.
والّذي يظهر لمقيّده -عفا الله عنه-: أنّ وجه الجمع: أنّ الشّرك الأكبر المقتضي للخروج من الملّة أنواعٌ، وأهل الكتاب متّصفون ببعضها وغير متّصفين ببعضٍ آخر منها.

أمّا البعض الّذي هم غير متّصفين به فهو ما اتّصف به كفّار مكّة من عبادة الأوثان صريحًا. ولذا عطفهم عليهم؛ لاتّصاف كفّار مكّة بما لم يتصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان، وهذه المغايرة هي الّتي سوّغت العطف، فلا ينافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوعٍ آخر من أنواع الشّرك الأكبر، وهو طاعة الشّيطان والأحبار والرّهبان.

فإنّ مطيع الشّيطان إذا كان يعتقد أنّ ذلك صوابٌ فهو عابد الشّيطان مشركٌ -بعبادة الشّيطان- الشّرك الأكبر المخلّد في النّار، كما بيّنته النّصوص القرآنيّة، كقوله: {إن يدعون من دونه إلّا إناثًا وإن يدعون إلّا شيطانًا مريدًا} [النساء: 117]، فقوله: {وإن يدعون إلّا شيطانًا} معناه: وما يعبدون إلّا شيطانًا؛ لأنّ عبادتهم للشّيطان طاعتهم له فيما حرّمه الله عليهم، وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشّيطان} الآية [يس: 10]، وقوله تعالى عن خليله إبراهيم: {يا أبت لا تعبد الشّيطان إنّ الشّيطان كان للرّحمن عصيًّا}

[مريم: 44]، وقوله تعالى: {بل كانوا يعبدون الجنّ} الآية [سبأ: 41]، وقوله تعالى: {وكذلك زيّن لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} الآية [الأنعام: 137].

فكلّ هذا الكفر بشرك الطّاعة في معصية الله تعالى.

ولمّا أوحى الشّيطان إلى كفّار مكّة أن يسألوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الشّاة تصبح ميّتةً من قتلها؟ وأنّه إذا قال صلّى الله عليه وسلّم: الله قتلها أن يقولوا: ما قتلتموه بأيديكم حلالٌ، وما قتله الله حرامٌ، فأنتم إذًا أحسن من الله! أنزل الله في ذلك قوله تعالى: {وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون} [الأنعام: 121]، فأقسم تعالى في هذه الآية على أنّ من أطاع الشّيطان في معصية الله أنّه مشركٌ بالله.

ولمّا سأل عديّ بن حاتمٍ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن قوله: {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا} [التوبة: 31]، كيف اتّخذوهم أربابًا؟ قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((ألم يحلّوا لهم ما حرّم الله ويحرّموا عليهم ما أحلّ الله فاتّبعوهم؟))، قال: بلى، قال: ((بذلك اتّخذوهم أربابًا)).

فبان أنّ أهل الكتاب مشركون من هذا الوجه الشّرك الأكبر، وإن كانوا كفّار مكّة في صريح عبادة الأوثان. والعلم عند الله تعالى.


قوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالًا} الآية [التوبة: 41].
هذه الآية الكريمة تدلّ على لزوم الخروج للجهاد في سبيل الله على كلّ حالٍ.

وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على خلاف ذلك، كقوله: {ليس على الضّعفاء ولا على المرضى ولا على الّذين لا يجدون ما ينفقون حرجٌ} الآية [التوبة: 91]، وقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} [التوبة: 122].
والجواب: أنّ آية: {انفروا خفافًا وثقالًا} منسوخةٌ بآياتٍ العذر المذكورة.

وهذا الموضع من أمثلة ما نسخ فيه النّاسخ؛ لأنّ قوله: {انفروا خفافًا وثقالًا} ناسخٌ لآيات الإعراض عن المشركين، وهو منسوخٌ بآيات العذر، كما ذكرنا آنفًا. والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 157-161]


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 05:58 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة يونس

سورة يونس
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة يونس
قوله تعالى: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} الآية [يونس: 18].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّهم يرجون شفاعة أصنامهم يوم القيامة.

وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على إنكارهم لأصل يوم القيامة، كقوله تعالى: {وما نحن بمبعوثين} [الأنعام: 29]، وقوله: {وما نحن بمنشرين} [الدخان: 35]، وقوله: {من يحيي العظام وهي رميمٌ} [يس: 78]، إلى غير ذلك من الآيات.
والجواب: أنّهم يرجون شفاعتها في الدّنيا لإصلاح معاشهم، وفي الآخرة -على تقدير وجودها- لأنّهم شاكّون فيها. نصّ على هذا ابن كثيرٍ في سورة «الأنعام» في تفسير قوله: {وما نرى معكم شفعاءكم} الآية [الأنعام: 94]، ويدلّ له قوله تعالى عن الكافر: {ولئن رجعت إلى ربّي إنّ لي عنده للحسنى} [فصلت: 50]، وقوله: {ولئن رددت إلى ربّي لأجدنّ خيرًا منها منقلبًا} [الكهف: 36]؛ لأنّ «إنّ» الشّرطيّة تدلّ على الشّكّ في حصول الشّرط، ويدلّ له قوله: {وما أظنّ السّاعة قائمةً}في الآيتين المذكورتين.


قوله تعالى: {ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالًا في الحياة الدّنيا ربّنا ليضلّوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88].
نصّ الله تعالى في هذه الآية، على أنّ هذا دعاء موسى، ولم يذكر معه أحدًا، ثمّ قال: {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما} [يونس: 89].
والجواب: أنّ موسى لمّا دعا أمّن هارون على دعائه، والمؤمّن أحد الدّاعيين.

وهذا الجمع مرويٌّ عن أبي العالية وأبي صالحٍ وعكرمة ومحمّد بن كعبٍ القرظيّ والرّبيع بن أنسٍ. قاله ابن كثيرٍ.

وبهذه الآية استدلّ بعض العلماء على أنّ قراءة الإمام تكفي المأموم إذا أمّن له على قراءته؛ لأنّ تأمينه بمنزلة قراءته). [دفع إيهام الاضطراب: 162-163]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 05:58 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة هودٍ

سورة هودٍ
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة هودٍ
قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} [هود: 15].
هذه الآية الكريمة فيها التّصريح بأنّ الكافر يجازى بحسناته، كالصّدقة وصلة الرّحم وقرى الضّيف والتّنفيس عن المكروب، في الدّنيا دون الآخرة؛ لأنّه تعالى قال: {نوفّ إليهم أعمالهم فيها} يعني الحياة الدّنيا، ثمّ نصّ على بطلانها في الآخرة بقوله: {أولئك الّذين ليس لهم في الآخرة إلّا النّار وحبط ما صنعوا فيها} الآية [هود: 16].
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدّنيا نؤته منها} الآية [الشورى: 20]، وقوله تعالى: {ويوم يعرض الّذين كفروا على النّار أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا} الآية [الأحقاف: 20] وعلى ما قاله ابن زيدٍ، وقوله: {ووجد الله عنده فوفّاه حسابه} [النور: 39]، على أحد القولين، وقوله: {وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33]، على أحد الأقوال الماضية في سورة "الأنفال".

وقد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّ الكافر يجازى بحسناته في الدّنيا، مع أنّه جاءت آياتٌ أخر تدلّ على بطلان عمل الكافر واضمحلاله من أصله، وفي بعضها التّصريح ببطلانه في الدّنيا مع الآخرة في كفر الرّدّة وفي غيره.
أمّا الآيات الدّالّة على بطلانه من أصله، فكقوله: {أعمالهم كرمادٍ اشتدّت به الرّيح في يومٍ عاصفٍ} [هود: 18]، وكقوله: {أعمالهم كسرابٍ} الآية [النور: 39]، وقوله: {وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورًا} [الفرقان: 23].
وأمّا الآيات الدّالّة على بطلانه في الدّنيا مع الآخرة، فكقوله في كفر المرتدّ: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة} [البقرة: 217]، وكقوله في كفر غير المرتدّ: {إنّ الّذين يكفرون بآيات الله} إلى قوله: {أولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وما لهم من ناصرين} [آل عمران: 21-22].

وبيّن الله تعالى في آياتٍ أخر أنّ الإنعام عليهم في الدّنيا ليس للإكرام بل للاستدراج والإهلاك، كقوله تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إنّ كيدي متينٌ} [الأعراف: 182 - 183]، وكقوله تعالى: {ولا يحسبنّ الّذين كفروا أنّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذابٌ مهينٌ} [آل عمران: 178]، وكقوله: {فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيءٍ حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44]، وقوله: {أيحسبون أنّما نمدّهم به من مالٍ وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون: 55-56]، وقوله: {قل من كان في الضّلالة فليمدد له الرّحمن مدًّا} [مريم: 75]، وقوله: {ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً} إلى قوله: {والآخرة عند ربّك للمتّقين} [الزخرف: 33 - 35]، إلى غير ذلك من الآيات.

والجواب من أربعة أوجهٍ:
الأوّل -ويظهر لي صوابه؛ لدلالة ظاهر القرآن عليه-: أنّ من الكفّار من يثيبه الله بعمله في الدّنيا كما دلّت عليه آياتٌ وصحّ به الحديث، ومنهم من لا يثيبه في الدّنيا كما دلّت عليه آياتٌ أخر.

وهذا مشاهدٌ فيهم في الدّنيا، فمنهم من هو في عيشٍ رغدٍ، ومنهم من هو في بؤسٍ وضيقٍ.

ووجه دلالة القرآن على هذا: أنّه تعالى أشار إليه بالتّخصيص بالمشيئة في قوله: {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} [الإسراء: 18]، فهي مخصّصةٌ لعموم قوله تعالى: {نوفّ إليهم أعمالهم فيها}، وعموم قوله تعالى: {ومن كان يريد حرث الدّنيا نؤته منها}.
وممّن صرّح بأنّها مخصّصةٌ لهما: الحافظ ابن حجرٍ في فتح الباري في كتاب الرّقاق في الكلام على قول البخاريّ: «باب: المكثرون هم المقلّون، وقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها} الآيتين».
ويدلّ لهذا التّخصيص قوله في بعض الكفّار: {خسر الدّنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11].
وجمهور العلماء على حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد، كما تقرّر في الأصول.
الثّاني -وهو وجيهٌ أيضًا-: أنّ الكافر يثاب عن عمله بالصّحّة وسعة الرّزق والأولاد ونحو ذلك، كما صرّح به تعالى في قوله: {نوفّ إليهم أعمالهم فيها} يعني: الدّنيا، وأكّد ذلك بقوله: {وهم فيها لا يبخسون}، وبظاهرها المتبادر منها -كما ذكرنا- فسّرها ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ ومجاهدٌ وقتادة والضّحّاك، كما نقله عنهم ابن جريرٍ.

وعلى هذا فبطلان أعمالهم في الدّنيا بمعنى أنّها لم يعتدّ بها شرعًا في عصمة دمٍ ولا ميراثٍ ولا نكاحٍ ولا غير ذلك، ولا تفتح لها أبواب السّماء، ولا تصعد إلى الله تعالى، بدليل قوله: {إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه} [فاطر: 10]، ولا تدّخر لهم في الأعمال النّافعة، ولا تكون في كتاب الأبرار في علّيّين، وكفى بهذا بطلانًا.
أمّا مطلق النّفع الدّنيويّ بها فهو عند الله كلا شيءٍ، فلا ينافي بطلانها، بدليل قوله: {وما الحياة الدّنيا إلّا متاع} [آل عمران: 185]، وقوله: {وما هذه الحياة الدّنيا إلّا لهوٌ ولعبٌ وإنّ الدّار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]، وقوله: {ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً} إلى قوله: {للمتّقين} [الزخرف: 33 - 35]، والآيات في مثل هذا كثيرةٌ.
وممّا يوضّح هذا المعنى حديث: ((لو كانت الدّنيا تزن عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى منها كافرًا شربة ماءٍ)).
ذكر ابن كثيرٍ هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: {ولولا أن يكون النّاس أمّةً} الآيات، ثمّ قال: أسنده البغويّ من رواية زكريّاء بن منظورٍ عن أبي حازمٍ عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكره.
ورواه الطّبرانيّ من طريق زمعة بن صالحٍ عن أبي حازمٍ عن سهل بن سعدٍ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((لو عدلت الدّنيا عند الله جناح بعوضةٍ ما أعطى كافرًا منها شيئًا)).
قال مقيّده -عفا الله عنه-: لا يخفى أنّ مراد الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله بما ذكرناه عنه: أنّ كلتا الطّريقين ضعيفةٌ، إلّا أنّ كلّ واحدةٍ منهما تعتضد بالأخرى، فيصلح المجموع للاحتجاج، كما تقرّر في علم الحديث من أنّ الطّرق الضّعيفة المعتبر بها يشدّ بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج.
لا تخاصم بواحدٍ أهل بيتٍ ... فضعيفان يغلبان قويًّا
لأنّ زكريّا بن منظور بن ثعلبة القرظيّ وزمعة بن صالحٍ الجنديّ كلاهما ضعيفٌ، وإنّما روى مسلمٌ عن زمعة مقرونًا بغيره لا مستقلًّا بالرّواية، كما بيّنه الحافظ ابن حجرٍ في التّقريب.
الثّالث: أنّ معنى {نوفّ إليهم أعمالهم} أي: نعطيهم الغرض الّذي عملوا من أجله في الدّنيا، كالّذي قاتل ليقال: جريءٌ، والّذي قرأ ليقال: قارئٌ، والّذي تصدّق ليقال: جوّادٌ، فقد قيل لهم ذلك. وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه.
ويدلّ له الحديث الّذي رواه أبو هريرة مرفوعًا في المجاهد، والقارئ، والمتصدّق، أنّه يقال لكلّ واحدٍ منهم: إنّما عملت ليقال، فقد قيل. أخرجه التّرمذيّ مطوّلًا، وأصله عند مسلمٍ كما قاله ابن حجرٍ. ورواه أيضًا ابن جريرٍ، وقد استشهد معاوية رضي الله عنه لصحّة حديث أبي هريرة هذا بقوله تعالى: {نوفّ إليهم أعمالهم فيها}، وهو تفسيرٌ منه رضي الله عنه لهذه الآية بما يدلّ لهذا الوجه الثّالث.
الرّابع: أنّ المراد بالآية المنافقون الّذين يخرجون للجهاد، لا يريدون وجه الله، وإنّما يريدون الغنائم، فإنّهم يقسم لهم فيها في الدّنيا ولا حظّ لهم من جهادهم في الآخرة، والقسم لهم منها هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول. والعلم عند الله تعالى.


قوله تعالى: {فقال ربّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ} [هود: 45] الآية.
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ هذا الابن من أهل نوحٍ عليه السّلام، وقد ذكر تعالى ما يدلّ على خلاف ذلك حيث قال: {يا نوح إنّه ليس من أهلك} [هود: 46].
والجواب: أنّ معنى قوله: {ليس من أهلك} أي: الموعود بنجاتهم في قوله: {إنّا منجّوك وأهلك}، لأنّه كافرٌ لا مؤمنٌ.
وقول نوحٍ: {إنّ ابني من أهلي} يظنّه مسلمًا من جملة المسلمين النّاجين، كما يشير إليه قوله تعالى: {فلا تسألني ما ليس لك به علمٌ} [هود: 46]، وقد شهد الله أنّه ابنه حيث قال: {ونادى نوحٌ ابنه} [هود: 42]، إلّا أنّه أخبره بأنّ هذا الابن عملٌ غير صالحٍ؛ لكفره، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم، وإن كان من جملة الأهل نسبًا.


قوله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلامًا قال سلامٌ} [هود: 46].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ إبراهيم ردّ السّلام على الملائكة.

وقد جاء في سورة " الحجر " ما يوهم أنّهم لمّا سلّموا عليه أجابهم بأنّه وجلٌ منهم من غير ردّ السّلام، وذلك قوله تعالى: {فقالوا سلامًا قال إنّا منكم وجلون} [الحجر: 52].
والجواب ظاهرٌ، وهو: أنّ إبراهيم أجابهم بكلا الأمرين، ردّ السّلام والإخبار بوجله منهم، فذكر أحدهما في " هودٍ " والآخر في " الحجر ".

ويدلّ لذلك ذكره تعالى ما يدلّ عليهما معًا في سورة " الذّاريات " في قوله: {فقالوا سلامًا قال سلامٌ قومٌ منكرون} [الذاريات: 25]؛ لأنّ قوله: {منكرون} يدلّ على وجله منهم.

ويوضّح ذلك قوله تعالى: {فأوجس منهم خيفةً} في " هودٍ " و " الذّاريات "، مع أنّ في كلٍّ منهما {قال سلامٌ}.


قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض} الآية [هود: 107].
تقدّم وجه الجمع بينه وبين الآيات الّتي يظنّ تعارضها معه -كقوله تعالى: {خالدين فيها أبدًا}- في سورة " الأنعام "، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاحٍ في سورة " النّبأ ".


قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربّك ولذلك خلقهم} [هود: 118-119].
اختلف العلماء في المشار إليه بقوله: "ذلك" فقيل: {إلّا من رحم ربّك}، وللرّحمة "خلقهم".

والتّحقيق أنّ المشار إليه هو اختلافهم إلى شقيٌّ وسعيدٍ، المذكور في قوله: {ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربّك}، ولذلك الاختلاف خلقهم، فخلق فريقًا للجنّة وفريقًا للسّعير، كما نصّ عليه بقوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس} الآية [الأعراف: 179].

وأخرج الشّيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه: ((ثمّ يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلماتٍ: فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أم سعيدٌ)).

وروى مسلمٌ من حديث عائشة رضي الله عنها: ((يا عائشة، إنّ الله خلق الجنّة وخلق لها أهلًا، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النّار وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم)).
وفي صحيح مسلمٍ من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إنّ الله قدّر مقادير الخلق قبل أن يخلق السّماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ، وكان عرشه على الماء)).
وفي الصّحيحين من حديث عمران بن حصينٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((كلٌّ ميسّرٌ لما خلق له)).
وإذا تقرّر أنّ قوله تعالى: {ولذلك خلقهم} معناه: أنّه خلقهم لسعادة بعضٍ وشقاوة بعضٍ، كما قال: {ولقد ذرأنا لجهنّم} الآية، وقال: {هو الّذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ} [التغابن: 2]، فلا يخفى ظهور التّعارض بين هذه الآيات مع قوله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون} [الذاريات: 56].
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجهٍ:
الأوّل -ونقله ابن جريرٍ عن زيد بن أسلم وسفيان-: أنّ معنى الآية: {إلّا ليعبدون} أي: يعبدني السّعداء منهم ويعصيني الأشقياء. فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق -الّتي هي عبادة الله- حاصلةٌ بفعل السّعداء منهم، كما أشار له قوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين} [الأنعام: 89].
وغاية ما يلزم على هذا القول أنّه أطلق المجموع وأراد بعضهم، وقد بيّنّا أمثال ذلك من الآيات الّتي أطلق فيها المجموع مرادًا بعضه في سورة " الأنفال ".
الوجه الثّاني هو ما رواه ابن جريرٍ عن ابن عبّاسٍ، واختاره ابن جريرٍ: أنّ معنى قوله: {إلّا ليعبدون} أي: إلّا ليقرّوا ليّ بالعبوديّة طوعًا أو كرهًا؛ لأنّ المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعنٌ منقادٌ لقضاء ربّه جبرًا عليه.
الوجه الثّالث: ويظهر لي أنّه هو الحقّ؛ لدلالة القرآن عليه، أنّ الإرادة في قوله: {ولذلك خلقهم} إرادةٌ كونيّةٌ قدريّةٌ، والإرادة في قوله: {وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون} إرادةٌ شرعيّةٌ دينيّةٌ.

فبيّن في قوله: {ولذلك خلقهم} وقوله: {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس} أنّه أراد بإرادته الكونيّة القدريّة صيرورة قومٍ إلى السّعادة، وآخرين إلى الشّقاوة.
وبيّن بقوله: {إلّا ليعبدون} أنّه يريد العبادة بإرادته الشّرعيّة الدّينيّة من الجنّ والإنس، فيوفّق من شاء بإرادته الكونيّة فيعبده، ويخذل من شاء فيمتنع من العبادة.
ووجه دلالة القرآن على هذا: أنّه تعالى بيّنه بقوله: {وما أرسلنا من رسولٍ إلّا ليطاع بإذن الله} [النساء: 64]، فعمّم الإرادة الشّرعيّة بقوله: {إلّا ليطاع}، وبيّن التّخصيص في الطّاعة بالإرادة الكونيّة، بقوله: {بإذن الله}، فالدّعوة عامّةٌ والتّوفيق خاصٌّ.
وتحقيق النّسبة بين الإرادة الكونيّة القدريّة والإرادة الشّرعيّة الدّينيّة أنّه بالنّسبة إلى وجود المراد وعدم وجوده فالإرادة الكونيّة أعمّ مطلقًا؛ لأنّ كلّ مرادٍ شرعًا يتحقّق وجوده في الخارج إذا أريد كونًا وقدرًا، كإيمان أبي بكرٍ. وليس يوجد ما لم يرد كونًا وقدرًا ولو أريد شرعًا، كإيمان أبي لهبٍ. فكلّ مرادٍ شرعيٍّ حصل فبالإرادة الكونيّة، وليس كلّ مرادٍ كونيٍّ حصل مرادًا في الشّرع.
وأمّا بالنّسبة إلى تعلّق الإرادتين بعبادة الإنس والجنّ للّه تعالى، فالإرادة الشّرعيّة أعمّ مطلقًا والإرادة الكونيّة أخصّ مطلقًا؛ لأنّ كلّ فردٍ من أفراد الجنّ والإنس أراد الله منه العبادة شرعًا ولم يردها من كلّهم كونًا وقدرًا، فتعمّ الإرادة الشّرعيّة عبادة جميع الثّقلين، وتختصّ الإرادة الكونيّة بعبادة السّعداء منهم، كما قدّمنا من أنّ الدّعوة عامّةٌ والتّوفيق خاصٌّ، كما بيّنه تعالى بقوله: {والله يدعو إلى دار السّلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ} [يونس: 25]، فصرّح بأنّه يدعو الكلّ ويهدي من شاء منهم.
وليست النّسبة بين الإرادة الشّرعيّة والقدريّة العموم والخصوص من وجهٍ، بل هي العموم والخصوص المطلق، كما بيّنّا، إلّا أنّ إحداهما أعمّ مطلقًا من الأخرى باعتبارٍ، والثّانية أعمّ مطلقًا باعتبارٍ آخر، كما بيّنّا.

والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 164-174]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 05:59 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة يوسف

سورة يوسف
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة يوسف
قوله تعالى: {وجاء بكم من البدو} الآية [يوسف: 100].
هذه الآية يدلّ ظاهرها على أنّ بعض الأنبياء ربّما بعث من البادية.

وقد جاء في موضعٍ آخر ما يدلّ على خلاف ذلك، وهو قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلّا رجالًا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109].
وأجيب عن هذا بأجوبةٍ:

منها: أنّ يعقوب نبّئ من الحضر، ثمّ انتقل بعد ذلك إلى البادية.
ومنها: أنّ المراد بالبدو نزول موضعٍ اسمه «بدا»، هو المذكور في قول جميلٍ أو كثيّرٍ:
وأنت الّذي حبّبت شغبًا إلى بدا ... إليّ وأوطاني بلادٌ سواهما
حللت بهذا مرّةً ثمّ مرّةً ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
وهذا القول مرويٌّ عن ابن عبّاسٍ.

ولا يخفى بعد هذا القول كما نبّه عليه الألوسيّ في تفسيره.
ومنها: أنّ البدو الّذي جاءوا منه مستندٌ للحضر، فهو في حكمه.

والله تعالى أعلم). [دفع إيهام الاضطراب: 175]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 05:59 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة الرّعد

سورة الرّعد
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الرّعد
قوله تعالى: {إنّما أنت منذرٌ ولكلّ قومٍ هادٍ} [الرعد: 7].
هذه الآية الكريمة فيها التّصريح بأنّ لكلّ قومٍ هاديًا.

وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على أنّ بعض الأقوام لم يكن لهم هادٍ، سواءٌ فسّرنا الهدى بمعناه الخاصّ أو بمعناه العامّ.

فمن الآيات الدّالّة على أنّ بعض النّاس لم يكن لهم هادٍ بالمعنى الخاصّ: قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك} [الأنعام: 116]، فهؤلاء المضلّون لم يهدهم هادٍ الهدى الخاصّ، الّذي هو التّوفيق لما يرضي الله. ونظيرها قوله: {ولكنّ أكثر النّاس لا يؤمنون} [هود: 17]، وقوله: {وما أكثر النّاس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103]، وقوله: {إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين} [الشعراء: 8]، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدّالّة على أنّ بعض الأقوام لم يكن لهم هادٍ بالمعنى العامّ، الّذي هو إبانة الطّريق: قوله تعالى: {لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم} [يس: 6]، بناءً على التّحقيق من أنّ «ما» نافيةٌ لا موصولةٌ، وقوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترةٍ من الرّسل} الآية [المائدة: 19]، فالّذين ماتوا في هذا الفترة، لم يكن لهم هادٍ بالمعنى الأعمّ أيضًا.
والجواب عن هذا من أربعة أوجهٍ:
الأوّل: أنّ معنى قوله: {ولكلّ قومٍ هادٍ} أي: داعٍ يدعوهم ويرشدهم، إمّا إلى خيرٍ كالأنبياء، وإمّا إلى شرٍّ كالشّياطين. أي: وأنت يا رسول الله منذرٌ هادٍ إلى كلّ خيرٍ.

وهذا القول مرويٌّ عن ابن عبّاسٍ، من طريق عليّ بن أبي طلحة.

وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشّرّ أيضًا، كقوله تعالى: {كتب عليه أنّه من تولّاه فأنّه يضلّه ويهديه إلى عذاب السّعير}[الحج: 4]، وقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23]، وقوله تعالى: {ولا ليهديهم طريقًا إلّا طريق جهنّم} [النساء: 169]. كما جاء في القرآن أيضًا إطلاق الإمام على الدّاعي إلى الشّرّ، في قوله: {وجعلناهم أئمّةً يدعون إلى النّار} [القصص: 41] الآية.

الثّاني: أنّ معنى الآية: أنت يا محمّد صلّى الله عليه وسلّم منذرٌ، وأنا هادي كلّ قومٍ.

ويروى هذا عن ابن عبّاسٍ من طريق العوفيّ، وعن محمّدٍ وسعيد بن جبيرٍ والضّحّاك وغير واحدٍ. قاله ابن كثيرٍ.
وعلى هذا القول، فقوله: {ولكلّ قومٍ هادٍ} يعني به نفسه جلّ وعلا. ونظيره في القرآن قوله تعالى: {ولا ينبّئك مثل خبيرٍ} [فاطر: 14] يعني نفسه، كما قاله قتادة. ونظيره من كلام العرب قول قتادة بن سلمة الحنفيّ:
ولئن بقيت لأرحلنّ بغزوةٍ ... تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني نفسه.
وسيأتي تحرير هذا المبحث إن شاء الله في سورة «القارعة».

وتحرير المعنى على هذا القول: أنت يا محمّد منذرٌ، وأنا هادي كلّ قومٍ سبقت لهم السّعادة والهدى في علمي؛ لدلالة آياتٍ كثيرةٍ على أنّه تعالى هدى قومًا وأضلّ آخرين، على وفق ما سبق به العلم الأزليّ، كقوله تعالى: {إن تحرص على هداهم فإنّ الله لا يهدي من يضلّ} [النحل: 37].
الثّالث: أنّ معنى {ولكلّ قومٍ هادٍ} أي: قائدٌ، والقائد: الإمام، والإمام: العمل. قاله أبو العالية، كما نقله عنه ابن كثيرٍ.
وعلى هذا القول، فالمعنى: ولكلّ قومٍ عملٌ يهديهم إلى ما هم صائرون إليه من خيرٍ وشرٍّ.

ويدلّ لمعنى هذا الوجه قوله تعالى: (هنالك تتلو كلّ نفسٍ ما أسلفت) [يونس: 30]، على قراءة من قرأها بتائين مثناتين، بمعنى: تتبع كلّ نفسٍ ما أسلفت من خيرٍ وشرٍّ.
وأمّا على القول بأنّ معنى: «تتلو»: تقرأ في كتاب عملها ما قدّمت من خيرٍ وشرٍّ، فلا دليل في الآية.

ويدلّ له أيضًا حديث: ((لتتّبع كلّ أمّةٍ ما كانت تعبد؛ فيتبع من كان يعبد الشّمس: الشّمس، ويتبع من كان يعبد القمر: القمر، ويتبع من كان يعبد الطّواغيت: الطّواغيت ...)) الحديث.
الرّابع -وبه قال مجاهدٌ وقتادة وعبد الرّحمن بن زيدٍ-: أنّ المراد بالقوم الأمّة، والمراد بالهادي النّبيّ. فيكون معنى قوله: {ولكلّ قومٍ هادٍ} أي: ولكلّ أمّةٍ نبيٌّ، كقوله تعالى: {وإن من أمّةٍ إلّا خلا فيها نذيرٌ} [فاطر: 24]، وقوله: {ولكلّ أمّةٍ رسولٌ} [يونس: 47].
وكثيرًا ما يطلق في القرآن اسم القوم على الأمّة، كقوله: {لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه} [الأعراف: 59]، وقوله: {وإلى عادٍ أخاهم هودًا قال يا قوم} [الأعراف: 65]، وقوله: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم} [الأعراف: 73]، ونحو ذلك.
وعلى هذا القول، فالمراد بالقوم في قوله: {ولكلّ قومٍ هادٍ} أعمّ من مطلق ما يصدق عليه اسم القوم لغةً.

وممّا يوضّح ذلك: حديث معاوية بن حيدة القشيريّ رضي الله عنه في السّنن والمسانيد: ((أنتم توفّون سبعين أمّةً ...)) الحديث.
ومعلومٌ أنّ ما يطلق عليه اسم القوم لغةً، أكثر من سبعين بأضعافٍ.

وحاصل هذا الوجه الرّابع: أنّ الآية كقوله: {وإن من أمّةٍ إلّا خلا فيها نذيرٌ} [فاطر: 24]، وقوله: {ولكلّ أمّةٍ رسولٌ} [يونس: 47]. وهذا لا إشكال فيه؛ لحصر الأمم في سبعين، كما بيّن في الحديث. فآباء القوم الّذين لم ينذروا مثلًا، المذكورون في قوله: {لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم} [يس: 6]، ليسوا أمّةً مستقلّةً، حتّى يرد الإشكال في عدم إنذارهم، مع قوله: {وإن من أمّةٍ إلّا خلا فيها نذيرٌ}، بل هم بعض أمّةٍ.

وقوله تعالى: {وإن من أمّةٍ إلّا خلا فيها نذيرٌ}، لا يشكل عليه قوله تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كلّ قريةٍ نذيرًا} [الفرقان: 51]؛ لأنّ المعنى: أرسلنا إلى جميع القرى، بل إلى الأسود والأحمر، رسولًا واحدًا هو محمّدٌ صلّى الله عليه وسلّم، مع أنّا لو شئنا أرسلنا إلى كلّ قريةٍ بانفرادها رسولًا، ولكن لم نفعل ذلك؛ ليكون الإرسال إلى النّاس كلّهم فيه الإظهار لفضله صلّى الله عليه وسلّم على غيره من الرّسل، بإعطائه ما لم يعطه أحدٌ قبله من الرّسل عليه وعليهم الصّلاة والسّلام.
كما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم في الصّحيح من أنّ عموم رسالته إلى الأسود والأحمر، ممّا خصّه الله به دون غيره من الرّسل.
وأقرب الأوجه المذكورة عندنا، هو ما يدلّ عليه القرآن العظيم، وهو الوجه الرّابع، وهو أنّ معنى الآية: {ولكلّ قومٍ هادٍ} أي: لكلّ أمّة نبيٌّ، فلست يا نبيّ الله بدعًا من الرّسل.
ووجه دلالة القرآن على هذا: كثرة إتيان مثله في الآيات، كقوله: {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطّاغوت} [النحل: 36]، وقوله: {ولكلّ أمّةٍ رسولٌ}، وقوله: {وإن من أمّةٍ إلّا خلا فيها نذيرٌ}.

وعليه، فالحكمة في الإخبار بأنّ لكلّ أمّةٍ نبيًّا أنّ المشركين عجبوا من إرساله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، كما بيّنه تعالى بقوله: {أكان للنّاس عجبًا أن أوحينا إلى رجلٍ منهم أن أنذر النّاس} [يونس: 2]، وقوله:{وما منع النّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلّا أن قالوا أبعث الله بشرًا رسولًا} [الإسراء: 94]، فأخبرهم أنّ إنذاره لهم ليس بعجبٍ ولا غريبٍ؛ لأنّ لكلّ أمّةٍ منذرًا.

فالآية كقوله: {قل ما كنت بدعًا من الرّسل} [الأحقاف: 9]، وقوله: {إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنّبيّين من بعده} [النساء: 163].

والعلم عند الله تعالى.


قوله تعالى: {والّذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ...} الآية [الرعد: 36].
هذه الآية الكريمة تدلّ بظاهرها على إيمان أهل الكتاب؛ لأنّ الفرح بما أنزل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم دليل الإيمان.
ونظيرها قوله تعالى: {الّذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته} [البقرة: 121]، وقوله: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إنّ الّذين أوتوا العلم من قبله} الآية [الإسراء: 107].
وقد جاءت آياتٌ تدلّ على خلاف ذلك، كقوله: {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين} إلى أن قال: {إنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم} [البينة: 1 - 6].

وبيّن في موضعٍ آخر أنّ الكافرين من أهل الكتاب أكثر، وهو قوله: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110].
والجواب: أنّ الآية من العامّ المخصوص، فهي في خصوص المؤمنين من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلامٍ ومن أسلم من اليهود، وكالثّمانين الّذين أسلموا من النّصارى المشهورين، كما قاله الماورديّ وغيره، وهو ظاهرٌ.

ويدلّ عليه التّبعيض في قوله تعالى: {وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} الآية [آل عمران: 199] ). [دفع إيهام الاضطراب: 176-182]


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:00 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة إبراهيم

سورة إبراهيم
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة إبراهيم
قوله تعالى: {ويأتيه الموت من كلّ مكانٍ} [إبراهيم: 17].
يفهم من ظاهره موت الكافر في النّار. وقوله: {وما هو بميّتٍ}، يصرّح بنفي ذلك.
والجواب: أنّ معنى: {ويأتيه الموت} أي: أسبابه المقتضية له عادةً، إلّا أنّ الله يمسك روحه في بدنه مع وجود ما يقتضي موته عادةً.

وأوضح هذا المعنى بعض المتأخّرين ممّن لا حجّة في قوله بقوله:

ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت ... إنّ الكلاب طويلة الأعمار


قوله تعالى: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض} الآية [إبراهيم: 48].
هذه الآية الكريمة فيها التّصريح بتبديل الأرض يوم القيامة.

وقد جاء في آيةٍ أخرى ما يتوهّم منه أنّها تبقى ولا تتغيّر، وهي قوله تعالى: {إنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملًا وإنّا لجاعلون ما عليها صعيدًا جرزًا} [الكهف: 7 - 8]، فإنّه تعالى في هذه الآية صرّح بأنّه جعل ما على الأرض زينةً لها؛ لابتلاء الخلق، ثمّ بيّن أنّه يجعل ما على الأرض صعيدًا جرزًا، ولم يذكر أنّه يغيّر نفس الأرض، فيتوهّم منه أنّ التّغيير حاصلٌ في ما عليها دون نفسها.
والجواب: هو أنّ حكمة ذكر ما عليها دونها؛ لأنّ ما على الأرض من الزّينة والزّخارف ومتاع الدّنيا، هو سبب الفتنة والطّغيان، ومعصية الله تعالى.
فالإخبار عنه بأنّه فانٍ زائلٌ فيه أكبر واعظٍ وأعظم زاجرٍ عن الافتتان به، ولهذه الحكمة خصّ بالذّكر. فلا ينافي تبديل الأرض المصرّح به في الآية الأخرى، كما هو ظاهرٌ.

مع أنّ مفهوم قوله: {ما عليها} مفهوم لقبٍ؛ لأنّ الموصول الّذي هو «ما» واقعٌ على جميع الأجناس الكائنة على الأرض زينةً لها. ومفهوم اللّقب لا يعتبر عند الجمهور، وإذا كان لا اعتبار به لم تظهر منافاةٌ أصلًا. والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 183-184]


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:00 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة الحجر

سورة الحجر
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة الحجر
قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصالٍ من حمإٍ مسنونٍ} الآية [الحجر: 26].
ظاهر هذه الآية أنّ آدم خلق من صلصالٍ، أي طينٍ يابسٍ.
وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {من طينٍ لازبٍ} [الصافات: 11] وكقوله: {كمثل آدم خلقه من ترابٍ} [آل عمران: 59].
والجواب: أنّه ذكر أطوار ذلك التّراب، فذكر طوره الأوّل بقوله: {من ترابٍ}، ثمّ بلّ فصار طينًا لازبًا، ثمّ خمّر فصار حمأً مسنونًا، ثمّ يبس فصار صلصالًا كالفخّار.
وهذا واضحٌ. والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 185]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:01 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة النّحل

سورة النّحل
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة النّحل
قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم} الآية [النحل: 25].
هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ هؤلاء الضّالّين يحملون أوزارهم كاملةً، ويحملون -أيضًا- من أوزار الأتباع الّذين أضلّوهم.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على أنّه لا يحمل أحدٌ وزر غيره، كقوله تعالى: {وإن تدع مثقلةٌ إلى حملها لا يحمل منه شيءٌ ولو كان ذا قربى} [فاطر: 18]، وقوله تعالى: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} [فاطر: 18].
والجواب: أنّ هؤلاء الضّالّين ما حملوا إلّا أوزار أنفسهم؛ لأنّهم تحمّلوا وزر الضّلال ووزر الإضلال.
فمنّ سنّ سنّةً سيّئةً فعليه وزرها، ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا؛ لأنّ تشريعه لها لغيره ذنبٌ من ذنوبه فأخذ به.
وبهذا يزول الإشكال أيضًا في قوله تعالى: {وليحملنّ أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم} الآية [العنكبوت: 13].


قوله تعالى: {ومن ثمرات النّخيل والأعناب تتّخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا} الآية [النحل: 67].
هذه الآية الكريمة يفهم منها أنّ السّكر المتّخذ من ثمرات النّخيل والأعناب لا بأس به؛ لأنّ الله امتنّ به على عباده في سورة الامتنان الّتي هي سورة «النّحل».
وقد حرّم الله تعالى الخمر بقوله: {رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} الآية [المائدة: 90]؛ لأنّه وصّفها بأنّها رجسٌ، وأنّها من عمل الشّيطان، وأمر باجتنابها، ورتّب عليه رجاء الفلاح. ويفهم منه أنّ من لم يجتنبها لم يفلح، وهو كذلك. وقد بيّن صلّى الله عليه وسلّم أنّ كلّ ما خامر العقل فهو خمرٌ، وأنّ كلّ مسكرٍ حرامٌ، وأنّ ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ.
والجواب ظاهرٌ، وهو: أنّ آية تحريم الخمر ناسخةٌ لقوله: {تتّخذون منه سكرًا} الآية. ونسخها له هو التّحقيق، خلافًا لما يزعمه كثيرٌ من الأصوليّين أنّ تحريم الخمر ليس نسخًا لإباحتها الأولى، لأنّ إباحتها الأولى إباحةٌ عقليّةٌ، وهي المعروفة عند الأصوليّين بالبراءة الأصليّة، وتسمّى استصحاب العدم الأصليّ، والإباحة العقليّة ليست من الأحكام الشّرعيّة حتّى يكون رفعها نسخًا، ولو كان رفعها نسخًا لكان كلّ تكليفٍ في الشّرع ناسخًا للبراءة الأصليّة من التّكليف به.

وإلى كون الإباحة العقليّة ليست من الأحكام الشّرعيّة، أشار في مراقي السّعود بقوله:

وما من الإباحة العقليّة ... قد أخذت فليست الشّرعيّة
كما أشار إلى أنّ تحريم الخمر ليس نسخًا لإباحتها؛ لأنّها إباحةٌ عقليّةٌ، وليست من الأحكام الشّرعيّة حتّى يكون رفعها نسخًا، بقوله:
أباحها في أوّل الإسلام ... براءةً ليست من الأحكام
وإنّما قلنا: إنّ التّحقيق هو كون تحريم الخمر ناسخًا لإباحتها؛ لأنّ قوله: {تتّخذون منه سكرًا} يدلّ على إباحة الخمر شرعًا، فرفع هذه الإباحة المدلول عليها بالقرآن رفع حكمٍ شرعيٍّ؛ فهو نسخٌ بلا شكٍّ، ولا يمكن أن تكون إباحتها عقليّةً إلّا قبل نزول هذه الآية كما هو ظاهرٌ.
ومعلومٌ عند العلماء أنّ الخمر نزلت في شأنها أربع آياتٍ من كتاب الله:
الأولى: هذه الآية الدّالّة على إباحتها.
الثّانية: الآية الّتي ذكر فيها بعض معائبها، وأنّ فيها منافع، وصرّحت بأنّ إثمها أكبر من نفعها، وهي قوله تعالى: {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، فشربها بعد نزولها قومٌ للمنافع المذكورة، وتركها آخرون للإثم الّذي هو أكبر من المنافع.
الثّالثة: الآية الّتي دلّت على تحريمها في أوقات الصّلاة دون غيرها، وهي قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون} الآية [النساء: 43].
الرّابعة: الآية الّتي حرّمتها تحريمًا باتًّا مطلقًا، وهي قوله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90 - 91].

والعلم عند الله تعالى.
وأمّا على قول من زعم أنّ السّكر الطّعم -كما اختاره ابن جريرٍ وأبو عبيدة- أو أنّه الخلّ، فلا إشكال في الآية.


قوله تعالى: {إنّما سلطانه على الّذين يتولّونه} الآية [النحل: 100].
هذه الآية الكريمة فيها التّصريح بأنّ الشّيطان له سلطانٌ على أوليائه، ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلّا من اتّبعك من الغاوين} [الحجر: 42].
وقد جاء في بعض الآيات ما يدلّ على نفي سلطانه عليهم، كقوله تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلّا فريقًا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطانٍ} الآية [سبا: 20 - 21]، وقوله تعالى حاكيًا عنه مقرّرًا له: {وقال الشّيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطانٍ} الآية [إبراهي: 22].
والجواب: هو أنّ السّلطان الّذي أثبته له عليهم غير السّلطان الّذي نفاه؛ وذلك من وجهين:
الأوّل: أنّ السّلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه، والسّلطان المنفيّ هو سلطان الحجّة، فلم يكن لإبليس عليهم من حجّةٍ يتسلّط بها غير أنّه دعاهم فأجابوه بلا حجّةٍ ولا برهانٍ. وإطلاق السّلطان على البرهان كثيرٌ في القرآن.
الثّاني: أنّ الله لم يجعل له عليهم سلطانًا ابتداءً البتّة، ولكنّهم هم الّذين سلّطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه، فلم يتسلّط عليهم بقوّةٍ؛ لأنّ الله يقول: {إنّ كيد الشّيطان كان ضعيفًا} [النساء: 76]، وإنّما تسلّط عليهم بإرادتهم واختيارهم.

ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيّم رحمه الله.


قوله تعالى: {إنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون} [النحل: 128].
هذه الآية الكريمة تدلّ بظاهرها على أنّ معيّة الله خاصّةٌ بالمتّقين المحسنين.
وقد جاء في آياتٍ أخر ما يدلّ على عمومها، وهي قوله: {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلّا هو رابعهم ولا خمسةٍ إلّا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّا هو معهم} [المجادلة: 7]، وقوله: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4]، وقوله: {فلنقصّنّ عليهم بعلمٍ وما كنّا غائبين} [الأعراف: 7]، وقوله: {وما تكون في شأنٍ} الآية [يونس: 61].
والجواب: أنّ للّه معيّةً خاصّةً ومعيّةً عامّةً، فالمعيّة الخاصّة: بالنّصر والتّوفيق والإعانة، وهذه لخصوص المتّقين المحسنين، كقوله تعالى: {إنّ الله مع الّذين اتّقوا} الآية [النحل: 128]، وقوله: {إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم} [الأنفال: 12]
الآية، وقوله: {إنّني معكما أسمع وأرى} [طه: 46]، وقوله: {لا تحزن إنّ الله معنا} [التوبة: 40].
ومعيّةٌ عامّةٌ: بالإحاطة والعلم؛ لأنّه تعالى أعظم وأكبر من كلّ شيءٍ، محيطٌ بكلّ شيءٍ، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبّة خردلٍ في يد أحدنا، وله المثل الأعلى. وسيأتي له زيادة إيضاحٍ في سورة «الحديد» إن شاء الله. وهي عامّةٌ لكلّ الخلائق، كما دلّت عليه الآيات المتقدّمة). [دفع إيهام الاضطراب: 186-191]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 19 شوال 1442هـ/30-05-2021م, 06:01 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سورة بني إسرائيل

سورة بني إسرائيل
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة بني إسرائيل
قوله تعالى: {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15].
هذه الآية الكريمة فيها التّصريح بأنّ الله تعالى لا يعذّب أحدًا حتّى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصّلاة والسّلام.
ونظيرها قوله تعالى: {رسلًا مبشّرين ومنذرين لئلّا يكون للنّاس على الله حجّةٌ بعد الرّسل} [النساء: 165]، وقوله تعالى: {ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتّبع آياتك} الآية [طه: 134]، وقوله: {ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون} [الأنعام: 131]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويؤيّده تصريحه تعالى بأنّ كلّ أفواج أهل النّار جاءتهم الرّسل في دار الدّنيا، في قوله تعالى: {كلّما ألقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذيرٌ قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذّبنا} الآية [الملك: 8 - 9]، ومعلومٌ أن «كلّما» صيغة عمومٍ.

ونظيرها قوله تعالى: {وسيق الّذين كفروا إلى جهنّم زمرًا} إلى قوله: {قالوا بلى ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين} [الزمر: 71]،فقوله: {وسيق الّذين كفروا} يعمّ كلّ كافرٍ؛ لما تقرّر في الأصول من أنّ الموصولات من صيغ العموم؛ لعمومها كلّ ما تشمله صلاتها، كما أشار له في مراقي السّعود بقوله:

صيغه كلٍّ أو الجميع ... وقد تلا الّذي الّتي الفروع
ومعنى قوله: «وقد تلا الّذي ...» إلخ: أنّ «الّذي» و«الّتي» وفروعها صيغ عمومٍ، ككلٍّ وجميعٍ.
ونظيره أيضًا قوله تعالى: {وهم يصطرخون فيها} إلى قوله: {وجاءكم النّذير}[فاطر: 37]، فإنّه عامٌّ أيضًا؛ لأنّ أوّل الكلام: {والّذين كفروا لهم نار جهنّم} [فاطر: 36].
وأمثال هذا كثيرةٌ في القرآن.

مع إنّه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أنّ أهل الفترة في النّار، كقوله تعالى: {ما كان للنّبيّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113]، فإنّ عمومها يدلّ على دخول من لم يدرك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك عموم قوله تعالى: {ولا الّذين يموتون وهم كفّارٌ أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليمًا} [النساء: 18]،وقوله تعالى: {إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين} [البقرة: 161]،وقوله: {إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا} الآية [آل عمران: 91]، إلى غير ذلك من الآيات.

اعلم -أوّلًا- أنّ من لم يأته نذيرٌ في دار الدّنيا وكان كافرًا حتّى مات، اختلف العلماء فيه: هل هو من أهل النّار لكفره، أو هو معذورٌ لأنّه لم يأته نذيرٌ؟ كما أشار له في مراقي السّعود بقوله:
ذو فترةٍ بالفرع لا يراع ... وفي الأصول بينهم نزاع
وسنذكر إن شاء الله جواب أهل كلّ واحدٍ من القولين، ونذكر ما يقتضي الدّليل رجحانه. فنقول وبالله نستعين:
قد قال قومٌ: إنّ الكافر في النّار، ولو مات في زمن الفترة. وممّن جزم بهذا القول: النّوويّ في شرح مسلمٍ؛ لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة.
وحكى القرافيّ في شرح التنقيح الإجماع على أنّ موتى أهل الجاهليّة في النّار؛ لكفرهم، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود.
وأجاب أهل هذا القول عن آية: {وما كنّا معذّبين} وأمثالها من ثلاثة أوجهٍ:
الأوّل: أنّ التّعذيب المنفيّ في قوله: {وما كنّا معذّبين} وأمثالها هو التّعذيب الدّنيويّ، فلا ينافي ثبوت التّعذيب في الآخرة.
وذكر الشّوكانيّ في تفسيره: أنّ اختصاص هذا التّعذيب المنفيّ بالدّنيا دون الآخرة ذهب إليه الجمهور. واستظهر هو خلافه، وردّ التّخصيص بعذاب الدّنيا بأنّه خلاف الظّاهر من الآيات، وبأنّ الآيات المتقدّمة -الدّالّة على اعتراف أهل النّار جميعًا، بأنّ الرّسل أنذروهم في دار الدّنيا- صريحٌ في نفيه.
الثّاني: أنّ محلّ العذر بالفترة المنصوص في قوله: {وما كنّا معذّبين} الآية وأمثالها في غير الواضح الّذي لا يلتبس على عاقلٍ.
أمّا الواضح الّذي لا يخفى على من عنده عقلٌ، كعبادة الأوثان، فلا يعذر فيه أحدٌ؛ لأنّ جميع الكفّار يقرّون بأنّ الله هو ربّهم وهو خالقهم ورازقهم، ويتحقّقون أنّ الأوثان لا تقدر على جلب نفعٍ ولا على دفع ضرٍّ، لكنّهم غالطوا أنفسهم، فزعموا أنّها تقرّبهم إلى الله زلفى، وأنّها شفعاؤهم عند الله، مع أنّ العقل يقطع بنفي ذلك.
الثّالث: أنّ عندهم بقيّة إنذارٍ ممّا جاءت به الرّسل الّذين أرسلوا قبله صلّى الله عليه وسلّم تقوم عليهم بها الحجّة. ومال إليه بعض الميل ابن قاسمٍ في الآيات البيّنات.
وقد قدّمنا في سورة «آل عمران» أنّ هذا القول يردّه القرءان في آياتٍ كثيرةٍ مصرّحةٍ بنفي أصل النّذير عنهم، كقوله: {لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم} [يس: 6]، وقوله: {أم يقولون افتراه بل هو الحقّ من ربّك لتنذر قومًا ما أتاهم من نذيرٍ من قبلك} [السجدة: 3]، وقوله: {وما كنت بجانب الطّور إذ نادينا ولكن رحمةً من ربّك لتنذر قومًا ما أتاهم من نذيرٍ من قبلك} [القصص: 46]، وقوله: {وما آتيناهم من كتبٍ يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذيرٍ} [سبأ: 44]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأجاب القائلون: بأنّ أهل الفترة معذورون عن مثل قوله: {ما كان للنّبيّ} إلى قوله: {من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم} من الآيات المتقدّمة بأنّهم لا يتبيّن لهم أنّهم من أصحاب الجحيم ولا يحكم لهم بالنّار ولو ماتوا كفّارًا إلّا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان، كأبي طالبٍ. وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى.
واعترض هذا الجواب بما ثبت في الصّحيح من دخول بعض أهل الفترة النّار، كحديث: ((إنّ أبي وأباك في النّار)) الثّابت في صحيح مسلمٍ وأمثاله من الأحاديث.

واعترض هذا الاعتراض بأنّ الأحاديث وإن صحّت فهي أخبار آحادٍ، يقدّم عليها القاطع كقوله: {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولًا}.
واعترض هذا الاعتراض أيضًا بأنّه لا يتعارض عامٌّ وخاصٌّ، فما أخرجه حديثٌ صحيحٌ خرج من العموم، وما لم يخرجه نصٌّ صحيحٌ بقي داخلًا في العموم.
واعترض هذا الاعتراض أيضًا بأنّ هذا التّخصيص يبطل علّة العامّ؛ لأنّ الله تعالى تمدّح بكمال الإنصاف، وصرّح بأنّه لا يعذّب حتّى يقطع حجّة المعذّب بإنذار الرّسل في دار الدّنيا، وبيّن أنّ ذلك الإنصاف التّامّ علّةٌ لعدم التّعذيب، فلو عذّب إنسانًا واحدًا من غير إنذارٍ لاختلّت تلك الحكمة، ولثبتت لذلك المعذّب الحجّة الّتي بعث الله الرّسل لقطعها، كما صرّح به في قوله: {رسلًا مبشّرين ومنذرين لئلّا يكون للنّاس على الله حجّةٌ بعد الرّسل} [النساء: 165].
وهذه الحجّة بينها في سورة «طه» بقوله: {ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبله} الآية [طه: 134]، وأشار لها في سورة «القصص» بقوله: {ولولا أن تصيبهم مصيبةٌ} إلى قوله: {ونكون من المؤمنين} [القصص: 47].
وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النّقض: هل هو قادحٌ في العلّة أو تخصيصٌ لها؟ وهو اختلافٌ كثيرٌ معروفٌ في الأصول، عقده في مراقي السّعود بقوله -في تعداد القوادح في الدّليل-:
منها وجود الوصف دون الحكم ... سمّاه بالنّقض رعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح ... بل هو تخصيصٌ وذا مصحّح
وقد روي عن مالكٍ تخصيصٌ ... إن يك الاستنباط لا التّنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض ... ومنتقى ذي الاختصار النّقض
إن لم يكن منصوصة بظاهرٍ ... وليس فيما استنبطت بضائرٍ
إن جا لفقد الشّرط أو لما منع ... والوفق في مثل العرايا قد وقع
والمحقّقون من أهل الأصول على أنّ عدم تأثير العلّة إن كان لوجود مانعٍ من التّأثير أو انتفاء شرط التّأثير فوجودها من تخلّف الحكم لا ينقضها ولا يقدح فيها، وخروج بعض أفراد الحكم حينئذٍ تخصيصٌ للعلّة لا نقضٌ لها، كالقتل عمدًا عدوانًا، فإنّه علّة القصاص إجماعًا، ولا يقدح في هذه العلّة تخلّف الحكم عنها في قتل الوالد لولده؛ لأنّ تأثيرها منع منه مانعٌ هو الأبوّة.

وأمّا إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانعٍ أو انتفاء شرطٍ، فإنّه يكون نقضًا لها وقدحًا فيها.

ولكن يردّ على هذا التّحقيق ما ذكره بعض العلماء من أنّ قوله تعالى: {ذلك بأنّهم شاقّوا الله} [الحشر: 4]، علّةٌ منصوصةٌ لقوله: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذّبهم} الآية [الحشر: 3]،مع أنّ هذه العلّة قد توجد ولا يوجد ما عذّب به بنو النّضير من جلاءٍ أو تعذيبٍ دنيويٍّ، وهو يؤيّد كون النّقض تخصيصًا مطلقًا لا قدحًا.

ويجاب عن هذا بأنّ بعض المحقّقين من الأصوليّين قال: إنّ التّحقيق المذكور محلّه في العلّة المستنبطة دون المنصوصة، وهذه منصوصةٌ، كما قدّمنا ذلك في أبيات مراقي السّعود في قوله:
.... .... .... ... ... وليس فيما استنبطت بضائرٍ
إن جاء لفقد الشّرط أو لما منع ................
هذا ملخّص كلام العلماء وحججهم في المسألة.

والّذي يظهر رجحانه بالدّليل هو الجمع بين الأدلّة؛ لأنّ الجمع واجبٌ إذا أمكن بلا خلافٍ، كما أشار له في المراقي بقوله:
والجمع واجبٌ متى ما أمكنا ..............................
ووجه الجمع بين هذه الأدلّة هو عذرهم بالفترة، وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نارٍ؛ فمن اقتحمها دخل الجنّة، وهو الّذي كان يصدّق الرّسل لو جاءته في الدّنيا، ومن امتنع عذّب بالنّار، وهو الّذي كان يكذّب الرّسل لو جاءته في الدّنيا؛ لأنّ الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرّسل.
وبهذا الجمع تتّفق الأدلّة، فيكون أهل الفترة معذورين، وقومٌ منهم من أهل النّار بعد الامتحان، وقومٌ منهم من أهل الجنّة بعده أيضًا، ويحمل كلّ واحدٍ من القولين على بعضٍ منهم علم الله مصيرهم، وأعلم به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فيزول التّعارض.
والدّليل على هذا الجمع: ورود الأخبار به عنه صلّى الله عليه وسلّم.

قال ابن كثيرٍ في تفسير قوله تعالى: {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولًا} -بعد أن ساق الأحاديث الدّالّة على عذرهم وامتحانهم يوم القيامة، رادًّا على ابن عبد البرّ تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم- ما نصّه: والجواب عمّا قال: إنّ أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيحٌ، كما نصّ على ذلك كثيرٌ من أئمّة العلماء، ومنها ما هو حسنٌ، ومنها ما هو ضعيفٌ يتقوّى بالصّحيح والحسن، وإذا كان أحاديث الباب الواحد متّصلةً متعاضدةً على هذا النّمط أفادت الحجّة عند النّاظر فيها. انتهى محلّ الغرض بلفظه.

ثمّ قال: إنّ هذا قال به جماعةٌ من محقّقي العلماء والحفّاظ والنّقّاد.

وما احتجّ به البعض لردّ هذه الأحاديث من أنّ الآخرة دار جزاءٍ لا دار عملٍ وابتلاءٍ، فهو مردودٌ من وجهين:
الأوّل: أنّ ذلك لا ترد به النّصوص الصّحيحة عنه صلّى الله عليه وسلّم، ولو سلّمنا عموم ما قال: من أنّ الآخرة ليست دار عملٍ، لكانت الأحاديث المذكورة مخصّصةً لذلك العموم.
الثّاني: أنّا لا نسلّم انتفاء الامتحان في عرصات المحشر، بل نقول: دلّ القاطع عليه؛ لأنّ الله تعالى صرّح في سورة «القلم» بأنّهم يدعون إلى السّجود في قوله جلّ وعلا: {يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السّجود} الآية [القلم: 42]، ومعلومٌ أنّ أمرهم بالسّجود تكليفٌ في عرصات المحشر.

وثبت في الصّحيح أنّ المؤمنين يسجدون يوم القيامة، وأنّ المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصّفيحة الواحدة، طبقًا واحدًا كلّما أراد السّجود خرّ لقفاه.
وفي الصّحيحين في الرّجل الّذي يكون آخر أهل النّار خروجًا منها، أنّ الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرّر ذلك مرارًا، ويقول الله تعالى: ((يا ابن آدم ما أغدرك!))، ثمّ يأذن له في دخول الجنّة. ومعلومٌ أنّ تلك العهود والمواثيق تكليفٌ في عرصات المحشر.

والعلم عند الله تعالى.


قوله تعالى: {وما منع النّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلّا أن قالوا أبعث الله بشرًا رسولًا} [الإسراء: 94].
هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {وما منع النّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربّهم إلّا أن تأتيهم سنّة الأوّلين أو يأتيهم العذاب قبلا} [الكهف: 55].

ووجه الجمع أنّ الحصر في آية «الإسراء» حصرٌ في المانع العاديّ. والحصر في آية «الكهف» في المانع الحقيقيّ.

وإيضاحه: هو ما ذكره ابن عبد السّلام من أنّ معنى آية «الكهف»: وما منع النّاس أن يؤمنوا إلّا أنّ الله أراد أن يأتيهم سنّة الأوّلين من أنواع الهلاك في الدّنيا، أو يأتيهم العذاب قبلًا في الآخرة، فأخبر أنّه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين، ولا شكّ أنّ إرادة الله مانعةٌ من وقوع ما ينافي مراده. فهذا حصرٌ في المانع الحقيقيّ؛ لأنّ الله هو المانع في الحقيقة.

ومعنى آية: {سبحان الّذي أسرى} أنّه ما منع النّاس من الإيمان إلّا استغرابهم أنّ الله يبعث رسولًا من البشر، واستغرابهم لذلك ليس مانعًا حقيقيًّا بل عاديًّا يجوز تخلّفه فيوجد الإيمان معه، بخلاف الأوّل فهو حقيقيٌّ لا يمكن تخلّفه، ولا وجود الإيمان معه.

ذكر هذا الجمع صاحب الإتقان. والعلم عند الله تعالى.


قوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًّا} الآية [الإسراء: 97].
هذه الآية الكريمة يدلّ ظاهرها على أنّ الكفّار يبعثون يوم القيامة عميًا وبكمًا وصمًّا.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} [مريم: 38]، وكقوله: {ورأى المجرمون النّار فظنّوا أنّهم مواقعوها} [الكهف: 53]، وكقوله: {ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحًا} الآية [السجدة: 12].

والجواب عن هذا من أوجهٍ:
الوجه الأوّل: هو ما استظهره أبو حيّان، من كون المراد ممّا ذكر حقيقته، ويكون ذلك في مبدأ الأمر، ثمّ يردّ الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم، فيرون النّار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضعٍ.
الوجه الثّاني: أنّهم لا يرون شيئًا يسرّهم، ولا يسمعون كذلك، ولا ينطقون بحجّةٍ، كما أنّهم كانوا في الدّنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحقّ ولا يسمعونه.

وأخرج ذلك ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ عن ابن عبّاسٍ، وروي أيضًا عن الحسن، كما ذكره الألوسيّ في تفسيره.

فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم؛ لعدمٍ الانتفاع به، كما تقدّم نظيره.
الوجه الثّالث: أنّ الله إذا قال لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلّمون} [المؤمنون: 108] وقع بهم ذاك العمى والصّمّ والبكم، من شدّة الكرب واليأس من الفرج. قال تعالى: {ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون} [النمل: 85].

وعلى هذا القول تكون الأحوال الثّلاثة مقدّرةً). [دفع إيهام الاضطراب: 192-202]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
دفع, كتاب


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:52 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir