سورة براءةٌ
قال محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت: 1393هـ): (سورة براءةٌ
قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية [التوبة: 5].
اعلم أوّلًا: أنّ المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ} [التوبة: 2]، لا الأشهر الحرم الّتي هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجبٌ، على الصّحيح، وهو قول ابن عبّاسٍ في رواية العوفيّ عنه، وبه قال مجاهدٌ وعمرو بن شعيبٍ ومحمّد بن إسحاق وقتادة والسّدّيّ وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، واستظهر هذا القول ابن كثيرٍ؛ لدلالة سياق القرآن عليه، ولأقوال هؤلاء العلماء، خلافًا لابن جريرٍ.
وعليه فالآية تدلّ بعمومها على قتال الكفّار في الأشهر الحرم المعروفة، بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة.
وقد جاءت آيةٌ أخرى تدلّ على عدم القتال فيها، وهي قوله تعالى: {إنّ عدّة الشّهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السّماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم} الآية [التوبة: 36].
والجواب: أنّ تحريم الأشهر الحرم منسوخٌ بعموم آيات السّيف، ومن يقول بعدم النّسخ يقول: هو مخصّصٌ لها. والظّاهر أنّ الصّحيح كونها منسوخةً، كما يدلّ عليه فعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حصار ثقيفٍ في الشّهر الحرام الّذي هو ذو القعدة، كما ثبت في الصّحيحين أنّه خرج إلى هوازن في شوّالٍ، فلمّا كسرهم واستفاء أموالهم ورجع لهم لجأوا إلى الطّائف، فعمد إلى الطّائف فحاصرهم أربعين يومًا وانصرف ولم يفتحها. فثبت أنّه حاصر في الشّهر الحرام.
وهذا القول هو المشهور عند العلماء.
وعليه فقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ناسخٌ لقوله: {منها أربعةٌ حرمٌ}، وقوله: {لا تحلّوا شعائر الله ولا الشّهر الحرام} [المائدة: 2]، وقوله: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام} الآية [البقرة: 194].
والمنسوخ من هذه ومن قوله: {أربعةٌ حرمٌ}، هو تحريم الشّهر في الأولى، والأشهر في الثّانية فقط، دون ما تضمّنتاه من الخبر؛ لأنّ الخبر لا يجوز نسخه شرعًا.
قوله تعالى: {وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النّصارى المسيح ابن الله} إلى قوله: {عمّا يشركون} [التوبة: 30-31].
هذه الآية فيها التّنصيص الصّريح على أنّ كفّار أهل الكتاب مشركون؛ بدليل قوله فيهم: {سبحانه عمّا يشركون} بعد أن بيّن وجوه شركهم، بجعلهم الأولاد للّه واتّخاذهم الأحبار والرّهبان أربابًا من دون الله.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48]؛ لإجماع العلماء أنّ كفّار أهل الكتاب داخلون فيها.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ بظاهرها على أنّ أهل الكتاب ليسوا من المشركين، كقوله تعالى: {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين} الآية [البينة: 1]، وقوله: {إنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم} الآية [البينة: 6] وقوله: {ما يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم} الآية [البقرة: 105]، والعطف يقتضي المغايرة.
والّذي يظهر لمقيّده -عفا الله عنه-: أنّ وجه الجمع: أنّ الشّرك الأكبر المقتضي للخروج من الملّة أنواعٌ، وأهل الكتاب متّصفون ببعضها وغير متّصفين ببعضٍ آخر منها.
أمّا البعض الّذي هم غير متّصفين به فهو ما اتّصف به كفّار مكّة من عبادة الأوثان صريحًا. ولذا عطفهم عليهم؛ لاتّصاف كفّار مكّة بما لم يتصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان، وهذه المغايرة هي الّتي سوّغت العطف، فلا ينافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوعٍ آخر من أنواع الشّرك الأكبر، وهو طاعة الشّيطان والأحبار والرّهبان.
فإنّ مطيع الشّيطان إذا كان يعتقد أنّ ذلك صوابٌ فهو عابد الشّيطان مشركٌ -بعبادة الشّيطان- الشّرك الأكبر المخلّد في النّار، كما بيّنته النّصوص القرآنيّة، كقوله: {إن يدعون من دونه إلّا إناثًا وإن يدعون إلّا شيطانًا مريدًا} [النساء: 117]، فقوله: {وإن يدعون إلّا شيطانًا} معناه: وما يعبدون إلّا شيطانًا؛ لأنّ عبادتهم للشّيطان طاعتهم له فيما حرّمه الله عليهم، وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشّيطان} الآية [يس: 10]، وقوله تعالى عن خليله إبراهيم: {يا أبت لا تعبد الشّيطان إنّ الشّيطان كان للرّحمن عصيًّا}
[مريم: 44]، وقوله تعالى: {بل كانوا يعبدون الجنّ} الآية [سبأ: 41]، وقوله تعالى: {وكذلك زيّن لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} الآية [الأنعام: 137].
فكلّ هذا الكفر بشرك الطّاعة في معصية الله تعالى.
ولمّا أوحى الشّيطان إلى كفّار مكّة أن يسألوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الشّاة تصبح ميّتةً من قتلها؟ وأنّه إذا قال صلّى الله عليه وسلّم: الله قتلها أن يقولوا: ما قتلتموه بأيديكم حلالٌ، وما قتله الله حرامٌ، فأنتم إذًا أحسن من الله! أنزل الله في ذلك قوله تعالى: {وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون} [الأنعام: 121]، فأقسم تعالى في هذه الآية على أنّ من أطاع الشّيطان في معصية الله أنّه مشركٌ بالله.
ولمّا سأل عديّ بن حاتمٍ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن قوله: {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا} [التوبة: 31]، كيف اتّخذوهم أربابًا؟ قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((ألم يحلّوا لهم ما حرّم الله ويحرّموا عليهم ما أحلّ الله فاتّبعوهم؟))، قال: بلى، قال: ((بذلك اتّخذوهم أربابًا)).
فبان أنّ أهل الكتاب مشركون من هذا الوجه الشّرك الأكبر، وإن كانوا كفّار مكّة في صريح عبادة الأوثان. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالًا} الآية [التوبة: 41].
هذه الآية الكريمة تدلّ على لزوم الخروج للجهاد في سبيل الله على كلّ حالٍ.
وقد جاءت آياتٌ أخر تدلّ على خلاف ذلك، كقوله: {ليس على الضّعفاء ولا على المرضى ولا على الّذين لا يجدون ما ينفقون حرجٌ} الآية [التوبة: 91]، وقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} [التوبة: 122].
والجواب: أنّ آية: {انفروا خفافًا وثقالًا} منسوخةٌ بآياتٍ العذر المذكورة.
وهذا الموضع من أمثلة ما نسخ فيه النّاسخ؛ لأنّ قوله: {انفروا خفافًا وثقالًا} ناسخٌ لآيات الإعراض عن المشركين، وهو منسوخٌ بآيات العذر، كما ذكرنا آنفًا. والعلم عند الله تعالى). [دفع إيهام الاضطراب: 157-161]