المعاني البيانية للالتفات
الالتفات يزيّن الكلام ويطرّيه، وينشّط السامع، ويسترعي انتباهه، فيكون الكلام أوقع في قلبه، وأطرى في سمعه، وأدعى لانتباهه.
وهذه فائدة عامّة في جميع الالتفاتات، ثم يختصّ كلّ موضع بفائدة بيانية زائدة على مجرّد التفنن في وجوه الكلام؛ لأنّ الخروج عن الأصل لا يكون إلا لفائدة راجحة.
- قال بدر الدين الزركشي: (اعلم أن للالتفات فوائد عامة وخاصة فمن العامة التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر، لما في ذلك من تنشيط السامع واستجلاب صفائه واتساع مجاري الكلام).
- ثم قال: (وأما الخاصة فتختلف باختلاف محالّه ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم).
- وقال ابن عاشور: (ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه.
قال السكاكي في «المفتاح» بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات: «أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب» .
فهذه فائدة مطردة في الالتفات، ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالبا بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات، ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصّه).
- وقال ابن عثيمين: (وللالتفات فوائد منها:
1- حمل المخاطب على الانتباه لتغير وجه الأسلوب عليه.
2- حمله على التفكير في المعنى، لأن تغيير وجه الأسلوب، يؤدي إلى التفكير في السبب.
3- دفع السآمة والملل عنه، لأن بقاء الأسلوب على وجه واحد، يؤدي إلى الملل غالباً.
وهذه الفوائد عامة للالتفات في جميع صوره، أما الفوائد الخاصة فتتعين في كل صورة، حسب ما يقتضيه المقام).
وتتبع أقوال العلماء في معاني الالتفات يعين في استخراج أصول مهمة تعين على ضبط البحث في المعاني البيانية للالتفات.
فمن الفوائد البيانية التي تتكرر في أنواع من الالتفات أن يشتمل الكلام على ما يراد به فئة دون فئة؛ فيستخدم الالتفات لتمييز الفئة المعنيّة عن غيرها، كما في قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
فالتفت في قوله: {وجرين بهم} ولم يقل بكم، لأن المنّة بتسخير الفلك عامة للمؤمنين والمشركين، والفعل المذموم في الآية من أعمال المشركين وليس من عمل المؤمنين؛ فالتفت من الخطاب إلى الغيبة لتمييز الفئة المعنية، وقد يقع هذا الغرض في أنواع أخرى من الالتفات.
ولكلّ نوع من أنواع الالتفات أغراض بيانية مشتهرة فيه؛ فمن ذلك أنّ الالتفات من الغيبة إلى الخطاب يكون لأغراض منها:
1: الترقي لاستحضار الخطاب؛ وذلك أوقع في النفس، وأقوى أثراً على القلب كما في قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . إياك نعبد وإياك نستعين}.
فإن العبد لما ذكر ربه فحمده ثم أثنى عليه ثمّ مجّده وفوّض الأمر إليه ؛ استحضر من معاني الإيمان ما يناسب الالتفات إلى الخطاب؛ فيسأل ربّه كأنه يراه.
2: التنبيه؛ فيتنبّه المخاطب بعد أن يشمله الحديث بصيغة الغائب؛ فيكون في الالتفات إلى الخطاب زيادة تنبيه كما في قول الله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} بعد أن مضى الحديث في الآيات التي قبله على استعمال الغَيبة.
3: تقريع المخاطب؛ كما في قول الله تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} فوقع الالتفات في الآية الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب، وفي ذلك تقريع ظاهر للكفار.
4: التلطّف بالمخاطب، كما في قوله تعالى: {عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعلّه يزكّى}.
- قال شيخنا ابن عثيمين: (وفيها أيضاً تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال في أولها: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى} ثلاث جمل لم يخاطب الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها عتاب فلو وجهت إلى الرسول بالخطاب لكان شديداً عليه، لكن جاءت بالغيبة {عبس} وإلا كان مقتضي الحال أن يقول (عبست وتوليت إن جاءك الأعمي) ولكنه قال: (عبس وتولى) فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الغليظة الشديدة).
والالتفات من الخطاب إلى الغيبة يقع لأغراض متعددة منها:
1: إظهار الانصراف عن المخاطب، وهذا الانصراف قد يقع إبعاداً له عن شرف الخطاب وتنزيلاً له منزلة الغائب الذي لا يستحق شرف الخطاب، كما في قول الله تعالى: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18) أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19)}.
- قال ابن عاشور: (والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لنكتة إبعادهم عن شرف الحضور بعد الإخبار عنهم بأنهم مكذبون).
ومثله قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)}.
فالتفت عنهم إبعاداً لهم، مع تحقق غرض التمييز المتقدّم ذكره.
2: التلطّف بالمخاطب لئلا يُجْبَهَ بما يكره، كما قيل في قول الله تعالى: {ما ودَّعك ربّك وما قلى} على أحد الأوجه في تفسير الآية.
3: تمييز طائفة مدحاً أو ذماً، وقد اجتمعا في قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}.
وتتبع الأغراض البيانية لكل نوع من أنواع الالتفات يطول، وحسبنا في هذا المقام فتح الباب وتوضيح الطريقة.