مقدمة الأستاذ فهر بن محمود شاكر
قال فهر بن محمود محمد شاكر: (بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد عبده ورسوله، المبلغ عن رب العالمين رسالته بلسان عربي مبين. وعلى أبويه الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل الرسولين الكريمين أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وعلى صحابتهم المصطفين الأخيار مصابيح الهدى وقدوة الأمة إلى يوم الدين.
أما بعد ....
فإن الحديث عن إعجاز القرآن لهو من أكثر الموضوعات جدلاً وتشعبًا ولا يزال الحديث عنه دائرًا من كل وجه فهو تارة قمة البلاغة العربية والبيان الإنساني، وتارة أخرى هو للإعجاز العلمي مثل يحتذى وبيان شاف. والناس منقسمون بين هذا وذاك كل له حججه يعرضها وينافح عنها بكل ما أوتي من قوة. ولكن أي هذه الآراء صحيح وأيها أقرب إلى بيان ما فاق به القرآن الكريم جميع الكتب السماوية المنزلة قبله، فأعجز البشر قاطبة عن معارضته على الرغم من التحدي القائم للبشر منذ نزول الآيات تلو الأخرى تطالب البشر على اختلاف ألوانهم أن يأتوا بمثله فلا يقدرون على ذلك ويقفون معجَّزين أمام آياته وسوره لا يسعهم سوى البحث عن أوجه إعجازه علَّهم يصلوا إلى استنكاه من أي وجه جاء القرآن معجزًا للثقلين.
[مداخل إعجاز القرآن: 3]
ومن هنا جاء كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر، باحثا عن وجه إعجاز القرآن من وجه آخر مخالف لما سار عليه من سبقه ممن عرض للإعجاز. فالوجه الذي دلف منه الأستاذ شاكر إلى إعجاز القرآن لم يكن محاولة لبيان الإعجاز القرآني ذاته، بل هو محاولة لتأريخ البحث في علم إعجاز القرآن كيف جاء؟ ولم جاء؟ ثم هو فوق ذلك كما قال الأستاذ شاكر في مطلع المدخل الأول: (وهذه الفصولُ الثلاثة التي كتبتُها عن (إعجاز القرآن)، تقصُّ عليك هذه القصة الطويلة العريضة في صفحات قلائل، وبمنهجي في تحليل الكلام وتحليل التاريخ، لأنه المنهجُ الذي التزمته فنجوت من شر مُستطير، ومن بلاءٍ ماحقٍ. ولكني أكتب هذه القصة بعد أن انطمستْ مَعَالم كانت لائحة قديمًا ثم عَفَتْ. وبعد أن عزمتُ على أن أعْفِيَك من المسالك الوعرة، والأشواك المتشابكة، والظلمات المحيّرة، وحتى تألف طريقي وتعرفه معرفة تسهِّل علي وعليك اقتحام المسالك والأشواك والظلمات). فهذا الكتاب إذن ذو وجهين الأول تأريخٌ لعلم إعجاز القرآن كما وضعه علماؤنا قديمًا، والثاني بيان لمنهاج العلماء في النظر واستقراء لطرائق نظرهم ومداخلهم في البحث عن الإعجاز يعتمد على تحليل الكلام وتحليل التاريخ تحليلاً يهدف [لتأسيس
[مداخل إعجاز القرآن: 4]
علم خاص هو (علمُ إعجاز القرآن)، يُضارع (علمَ البلاغة)، الذي استدعى نشأتَه بحثُ أهلِ القرنين الثالث والرابع في (إعجاز القرآن). لذا كان البحث عن تاريخ نشأة كلمة (إعجاز القرآن) هو الأساس الأول الذي يصل بنا إلى تأسيس علم (إعجاز القرآن). وهكذا جاء هذا الكتاب نمطًا فريدًا بين كتب إعجاز القرآن، فهو لم يعن كسابقيه ببيان وجه الإعجاز، بل كانت جل عنايته منصرفة إلى تأسيس علم لإعجاز القرآن مستمدة أصوله من مباحث السلف.
هذا والكتاب مقسم إلى ثلاثة مداخل كل منها يقص تاريخ (إعجاز القرآن) كما نشأت صورته عند الأستاذ شاكر، كل مدخل منها ينظر إلى هذا تاريخ الإعجاز من وجه غير الأول، لكنها جميعًا تصب في آخر الأمر في معين واحد ألا وهو تأسيس علم (إعجاز القرآن).
وقد نشر المدخلان الثاني والثالث منفصلين عن الأول، أما الثالث فقد نشر في كتاب مستقل بعنوان (قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام)، وأما الثاني فقد كان مقدمة لكتاب (الظاهرة القرآنية) لمالك بن نبي. لذا فقد آثرت ضم المدخلين الأول والثاني في كتاب واحد لتكون الفائدة بهما أجدى.
[مداخل إعجاز القرآن: 5]
بيد أن هنا أمرًا لا بد من التوقف عنده لبيانه، وهو أن هذه المداخل تقص علينا أيضًا جزءًا من سيرة حياة الأستاذ شاكر مع العلم وسيرته مع الكلمات وتاريخها وقد قال في مبدأ المدخل الثاني: (وقد كان كتب الله عليَّ أن أقف مع هذا اللفظ زمانًا طويلاً، حائرًا مترددًا، وخائفًا متلددًا، وجازعًا متحفظًا، وكاتمًا حيرتي عن قلمي ولساني، حتى تصرَّمت سنوات، وأنا علي شَفَا حفرةٍ من النار. فأنقذني الله برحمته وفضله، وسلمتُ بحمده سبحانه بعد مخالطة العطب). وهذا الذي ذكره الأستاذ شاكر من أصعب الأمور وأشقها على النفس إذ تتركها في حيرة لا يخرج منها بريئًا إلا بعد طول مجاهدة ومعاناة تراهما ظاهرين ظهورًا بينا في ثنايا حديثه في المدخلين.
وهنا أمر أخير لا بد من الإشارة إليه وهو أن المدخلين الثاني والثالث قد جاءا تامين أما الأول وهو أحدثهن كتابة كما ذكر الأستاذ شاكر لم يتمه، إذ وقف عند الفصل العشرون بادئًا فيه ثم لم يكمله، ولو كان فعل لكان فتحا وخيرا كثيرا جاءنا، لكن قضاء الأجل كان قد وافاه قبل أن يكمل المدخل الأول.
رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم من علم للعربية والإسلام ودافع عنهما دفاعًا هان أمامه كل مرتخص وغال، ظل
[مداخل إعجاز القرآن: 6]
هكذا طيلة حياته سيفه قلمه لا يتركه ولا يحيد عن رأي صواب وحق بين حتى لو كان في هذا من المضرة والعطب ما فيهما. جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. ونسأل الله أني دخله فسيح جناته مع الأبرار والصديقين والشهداء.
اللهم اغفر لنا خطايانا، وذكرنا ما نسينا، وألهمنا الصواب لنكون خير خلف لخير سلف.
القاهرة في 2001 فهر محمود شاكر). [مداخل إعجاز القرآن: 3-7]