(14) كتاب نظم القرآن وتأسيس الجاحظ علم إعجاز القرآن
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (14)
كان فزع أبي عثمان الجاحظ من هذه الأقوال الخبيثة التي أفضت إليها (الصرفة) حافزًا له على إعادة النظر في الأمر كله. ولما قال صاحبه النظام مقالته التي تسلب القرآن كله فضيلة، وأن العرب لو خلى بينهم وبينه لقدروا على الإتيان بمثله = لم يصبر المعتزلي البليغ المتذوق على ضلالة صاحبه المعتزلي وخليله، وأبى أن يقر بأن (العجز) كان مرده إلى الصرفة وحدها، لأن تذوقه وتذوق الأمة من قبله قاض قاطع بأن بديع نظم القرآن وتأليفه (مما لا يقدر على مثله العباد).
ومضى على هذا الفزع زمان، حتى جاءته رسالة من صديق يسأله أن يكتب له شيئًا عن القرآن وكانت عبارته مبهمة، أو هكذا زعم أبو عثمان، فأسرع يكتب ما كان يشغله من أمر نظم القرآن وتأليفه، مع أن صديقه كان كتب إليه يسأله أن يكتب له عن (الاحتجاج لخلق القرآن)، كما ذكر أبو عثمان، وقال لصديقه فيما بعد: (فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما وأغمضهما، وأطولهما طولاً) فكان هذا لكتاب هو (الاحتجاج لنظم القرآن، وسلامته من الزيادة والنقصان) وقد ذكر أبو عثمان ما لقي في
[مداخل إعجاز القرآن: 69]
تأليف هذا الكتاب فقال: (كتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي، وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلي)، وقد سماه هو في كتاب الحيوان (1: 9) (الاحتجاج لنظم القرآن، وغريب تأليفه، وبديع تركيبه).
وهذا الكتاب اليوم مفقود، مع شهرته المستفيضة، كانت، عند أهل القرنين الرابع والخامس من الهجرة، وليس في أيدينا منه نصوص تذكر، فحكمنا عليه غير ممكن، وإنما نقتصر في ذلك على قول أبي عثمان نفسه، وعلى بعض أقوال من رأى الكتاب، وكان أقربهم إلى أبي عثمان زمنا هو ابن الخياط المعتزلي (أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان)، المتوفى أوائل القرن الرابع، فهو يقول في كتابه (الانتصار في الرد على ابن الراوندي الملحد) (توفى سنة 298هـ): (لا يعرف المتكلمون أحدًا منهم نصر الرسالة واحتج للنبوة، بلغ في ذلك ما بلغه الجاحظ، ولا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه، وأنه حجة لمحمد صلى الله عليه وسلم على نبوته = غير كتاب الجاحظ).
وهذه شهادة مهمة جدًا من رجل، لعله رأى الجاحظ المتوفى سنة 255هـ أو كان قريبًا أن يراه، وهي تقطع بأن أول قائل في القرآن، من جهة النظم والتأليف، هو أبو عثمان. وقد ذكره ابن
[مداخل إعجاز القرآن: 70]
الخياط أيضًا في أول كتاب الانتصار (ص: 25) فقال: (فمن قرأ كتاب عمرو بن بحر الجاحظ في الرد على الشيعة، وكتابه في الأخبار وإثبات النبوة، وكتابه في نظم القرآن = علم أن له في الإسلام غناء عظيمًا لم يكن الله عز وجل ليضيعه له.
ثم يمضي بعد ذلك أكثر من ثلاثة أرباع قرن، فنجد القاضي الباقلاني (المتوفى سنة 403هـ) يصف هذا الكتاب في كتابه (إعجاز القرآن) (ص: 7) فيقول: (وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابًا، لم يرد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى) وهذه كلمةٌ فيها بعض الغَبْنِ لما كان في كتاب أبي عثمان. أما الغَبْنُ الأعظم فهو إيهام الباقلاني أن المتكلمين قد سبقوا إلى مثل ما سبق إليه الجاحظ في هذا الكتاب. وقد رأيت سياق ما كتبت أنا عن نشأه فكرة هذا الكتاب، ومن أين جاءت ولم؟ ورأيت أيضًا مقالة ابن الخياط: (لا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن ... غير كتاب الجاحظ)، فهذا هو الحق الذي أنكره القاضي الباقلاني، غضًا من أبي عثمان بغير حق، وتحاملاً عليه.
ونحن لا ندري على وجه التحقيق ماذا يتضمن كتاب (نظم القرآن) ولكن سلف ما ذكره الجاحظ نفسه عن (نظم القرآن
[مداخل إعجاز القرآن: 71]
وبديع تأليفه)، وبقى ما قاله في كتاب الحيوان (3: 86)، وأنا أقطع بأنه يعني هذا الكتاب: (ولي كتابٌ جمعت فيه آيات من القرآن، لتعرف بها فصل ما بين الايجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز، والجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، على الذي كتبته لك في باب الإيجاز وترك الفضول ... وهذا كثير قد دللتك عليه، فإن أردته فموضعه مشهور) وإذن، فغير منكر أن يكون الجاحظ قد سلك في أبواب من هذا الكتاب مسلك المتكلمين، كما قال القاضي الباقلاني، فإن الجاحظ نفسه قد دلنا على ذلك فيما نقلته آنفًا من كلامه [ص: 67]، ولكنه أيضًا قد سلك غير مسلك المتكلمين في أبواب أخرى منه، كالتي أشار إليها في هذا النص القريب السالف، وتكلم في وجوه ليس للمتكلمين فيها منفذ، لأنها من عمل الكتاب والبلغاء والذين يتذوقون البيان تذوقًا أرهفته الخبرة والإلف والشغف المهوف بالبيان.
وقد يكون الباقلاني معذورًا فيما قاله مما يغض من شأن أبي عثمان، وذلك أن الجاحظ، بلا ريب، دخل إلى (نظم القرآن وبديع تأليفه) من باب (الكلام) كما رأيت آنفًا، وقد أعد عدته لإثبات أن (نظم القرآن وتأليفه) آية كسائر آيات الأنبياء، وأن هذه
[مداخل إعجاز القرآن: 72]
الآية حجة لنبينا صلى الله عليه وسلم على الناس، وأن مثل هذا النظم والتأليف لا يدخل في قدرة أحد من العباد. فلعل أبا عثمان كان قد خلط في كتابه هذا بين المسلكين: مسلك المتكلمين، ومسلك المتذوقين من أهل البيان. فلما جاء الباقلاني بعد أكثر من مائة سنة، وبلغ من العلم ما بلغ، وقرأ كتبًا في (نظم القرآن وتأليفه) كتبت بعد كتاب الجاحظ، ولعلها خلصت الخلط بين المسلكين = ثم قرأ كتاب أبي عثمان، لم ير فيه إلا عمل المتكلمين من المعتزلة، ولم يخطر له ببال أن أبا عثمان هو أول من كتب في هذا الباب كتابًا، كما يشهد بذلك ابن الخياط آنفًا، وهو ما يدل عليه أيضًا تاريخ القول في (إعجاز القرآن). كما أسلفت بيانه). [مداخل إعجاز القرآن: 69-73]