أمثلة من أقوال العلماء
المثال الأول: معنى الحذف في قول الله تعالى: {ولذكر الله أكبر}
- قال ابن القيّم رحمه الله: (وقال سبحانه وتعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} فقيل: المعنى أنكم في الصلاة تذكرون الله وهو من ذكره، ولذكره الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه، وهذا يروى عن ابن عباس وسلمان وأبي الدرداء وابن مسعود رضي الله عنهم، وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل ابن مرزوق عن عطية {ولذكر الله أكبر} قال: (وهو قوله تعالى: {فاذكروني أذكركم} فذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم إياه).
وقال ابن زيد وقتادة: (معناه: ولذكر الله أكبر من كل شيء).
وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟
قال: أما تقرأ القرآن {ولذكر الله أكبر}.
ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدم «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق» الحديث.
وكان شيخ الإسلام أبو العباس قدس الله روحه يقول: (الصحيح أن معنى الآية أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر: فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى، ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر).
وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر.
وفي السنن عن عائشة عن النبي صلى اله عليه وسلم قال: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
المثال الثاني: الحذف في قول الله تعالى: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل}
- قال عبد القاهر الجرجاني: (وإن أردت أن تزداد تبيينا لهذا الأصل، أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها شوب، فانظر إلى قوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل}
فيها حذف مفعول في أربعة مواضع، إذ المعنى: "وجد عليه أمة من الناس يسقون" أغنامهم أو مواشيهم و "امرأتين تذودان" غنمهما و "قالتا لا نسقي" غنمنا "فسقى لهما" غنمهما.
ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقا، وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سَقْي، فأما ما كان المسقي؟ أغنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض، وموهم خلافه.
وذاك أنه لو قيل: "وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما"، جاز أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود كما أنك إذا قلت:"ما لك تمنع أخاك؟ "، كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت، إلا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصح إلا على تركه).
المثال الثالث: حذف جواب القسم في قول الله تعالى: {ص . والقرآن ذي الذكر}
- قال ابن القيم رحمه الله: (وتارة يحذف الجواب وهو مراد إما لكونه قد ظهر وعرف؛ إما بدلاله الحال كمن قيل له: كُلْ؛ فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو، أو بدلالة السياق، وأكثر ما يكون هذا إذا كان في نفس المقسم به ما يدل على المقسم عليه، وهي طريقة القرآن؛ فإن المقصود يحصل بذكر المقسم به؛ فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز كمن أراد أن يقسم على أن الرسول حق؛ فقال: والذي أرسل محمداً بالهدى ودين الحق، وأيده بالآيات البينات، وأظهر دعوته، وأعلى كلمته، ونحو ذلك؛ فلا يحتاج إلى ذكر الجواب استغناء عنه بما في القسم من الدلالة عليه.
وكمن أراد أن يقسم على التوحيد وصفات الرب ونعوت جلاله؛ فقال: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الأول الآخر، الظاهر الباطن.
وكمن أراد أن يقسم على علوه فوق عرشه فقال: والذي استوى على عرشه، فوق سمواته، يصعد إليه الكلم الطيب، وترفع إليه الأيدي، وتعرج الملائكة والروح إليه، ونحو ذلك.
وكذلك من حلف لشخص أنه يحبه ويعظمه فقال: والذي ملأ قلبي من محبتك وإجلالك ومهابتك، ونظائر ذلك، لم يحتج إلى جواب القسم، وكان في المقسم به ما يدل على المقسم عليه.
فمن هذا قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فإن في المقسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذي الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه، وللشرف والقدر، ما يدل على المقسم عليه، وكونه حقاً من عند الله غير مفترى كما يقوله الكافرون.
وهذا معنى قول كثير من المفسرين متقدميهم ومتأخريهم: إن الجواب محذوف تقديره إن القرآن لحق.
وهذا مطرد في كل ما شأنه ذلك.
وأما قول بعضهم: إن الجواب قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} فاعترض بين القسم وجوابه بقوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} فبعيد؛ لأن كم لا يُتلقى بها القسم فلا تقول: والله كم أنفقت مالاً، وبالله كم أعتقت عبداً.
وهؤلاء لمَّا لم يخفَ عليهم ذلك احتاجوا أن يقدروا ما يُتلقى بها الجواب: أي لكم أهلكنا.
وأبعد من هذا قول من قال: الجواب في قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُل}.
وأبعد منه قول من قال: الجواب {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}.
وأبعد منه قول من قال: الجواب قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}.
وأقرب ما قيل في الجواب لفظاً وإن كان بعيداً معنى، عن قتاده وغيره إنه في قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} كما قال: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}
وشرح صاحب النظم هذا القول؛ فقال: معنى "بل" توكيد الخبر الذي بعده؛ فصار كإن الشديدة في تثبيت ما بعدها، و"بل" ههنا بمنزلة إن لأنه يؤكد ما بعده من الخبر، وإن كان له معنى سواه في نفي خبر متقدم؛ فكأنه عزَّ وجل قال: {ص والقرآن ذي الذكر} [إن الذين كفروا في عزة وشقاق] كما تقول: والله إن زيداً لقائم.
قال: واحتج صاحب هذا القول بأن هذا النظم وإن لم يكن للعربية فيه أصل ولا لها رسم؛ فيُحتمل أن يكون نظماً أحدثه الله عز وجل لما بينا من احتمال أن تكون "بل" بمعنى "إن"ا.هـ
وقال أبو القاسم الزجاج قال النحويون إن بل تقع في جواب القسم كما تقع إن لأن المراد بها توكيد الخبر وهذا القول اختيار أبي حاتم وحكاه الأخفش عن الكوفيين وقرره بعضهم بأن قال أصل الكلام {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فلما قدم القسم ترك على حاله قال الأخفش وهذا يقوله الكوفيون وليس يجيد في العربية لو قلت والله قام وأنت تريد قام والله لم يحسن وقال النحاس هذا خطأ على مذهب النحويين لأنه إذا ابتدأ بالقسم وكان الكلام معتمداً عليه لم يكن بد من الجواب وأجمعوا أنه لا يجوز والله قام عمرو بمعنى قام عمرو والله لأن الكلام يعتمد على القسم وذكر الأخفش وجهاً آخر في جواب القسم فقال يجوز ن يكون لصاد معنى يقع عليه القسم لا ندري نحن ما هو كأنه يقول الحق والله قال أبو الحسن الواحدي وهذا الذي قاله الأخفش صحيح المعنى على قول من يقول ص الصادق الله أو صدق محمد وذكر الفراء هذا الوجه أيضاً فقال ص جواب القسم وقال هو كقولك وجب والله وترك والله فهي جواب لقوله والقرآن وذكر النحاس وغيره وجهاً آخر في الجواب وهو أنه محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر فالأمر كما يقوله هؤلاء الكفار ودل على المحذوف قوله تعالى {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهذا اختيار ابن جرير وهو مخرج من قول قتادة وشرحه الجرجاني فقال بل رافع لخبر قبله ومثبت لخبر بعده فقد ظهر ما قبله وما بعده دليل على ما قبله فالظاهر يدل على الباطن فإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} مخالفاً لهذا المضمر فكأنه قيل والقرآن ذي الذكر إن الذين كفروا يزعمون أنهم على الحق أو كل ما في هذا المعنى فهذه ستة أوجه سوى ما بدأنا به في جواب القسم والله أعلم
ونظير هذا قوله تعالى {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا} قيل جواب القسم قد علمنا وقال الفراء محذوف دل عليه قوله أإذا متنا أي لتبعثن وقيل قوله بل عجبوا كما تقدم بيانه).
المثال الرابع: الذكر في قول الله تعالى: {قل هو الله أحد . الله الصمد}
- قال عبد القاهر الجرجاني:(ولهذا الذي ذكرنا من أنَّ للتصريح عملاً لا يكون مثل ذلك العمل للكناية كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} وقوله تعالى: {قل هو الله أحد، الله الصمد} من الحسن والبهجة، ومن الفخامة والنبل، ما لا يخفى موضعه على بصير، وكان لو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار فقيل: "وبالحق أنزلناه وبه نزل": و "قل هو الله أحد هو الصمد" لعدمت الذي أنت واجده الآن).