المثال الثالث: معنى "سُخريا" في قول الله تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّاوَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}
قال محمد الطاهر ابن عاشور(ت:1393هـ): (والسّخْري بضم السين وبكسرها، وهما لغتان، ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم السين، وقرأ ابن محيص في الشاذ بكسر السين: اسم للشيء المسخر، أي المجبور على عمل بدون اختياره، واسم لمن يُسخر به، أي يستهزأ به كما في «مفردات» الراغب و «الأساس» و «القاموس» .
وقد فسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي.
وقال ابن عطية: هما لغتان في معنى التسخير، ولا تدخّل لمعنى الهزء في هذه الآية.
ولم يقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل.
واقتصر الطبري على معنى التسخير.
فالوجه في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية، وإيثار لفظ سخريا في الآية دون غيره لتحمله للمعنيين، وهو اختيار من وجوه الإعجاز؛ فيجوز أن يكون المعنى ليتعمل بعضهم بعضاً في شؤون حياتهم فإن الإنسان مدني، أي محتاج إلى إعانة بعضه بعضا، وعليه فسر الزمخشري وابن عطية وقاله السدي وقتادة والضحاك وابن زيد، فلام {ليتخذ} لام التعليل تعليلا لفعل قسمنا، أي قسمنا بينهم معيشتهم، أي أسباب معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن.
وعلى هذا يكون قوله: {بعضهم بعضا} عاما في كلِّ بعضٍ من الناس؛ إذ ما من أحد إلا وهو مستعمل لغيره وهو مستعمل لغير آخر.
ويجوز أن تكون اسما من السخرية وهي الاستهزاء، وحكاه القرطبي ولم يعيّن قائله وبذلك تكون اللام للعاقبة مثل {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} ، وهو على هذا تعريض بالمشركين الذين استهزؤوا بالمؤمنين كقوله تعالى: {فاتخذتموهم سخريا} في سورة قد أفلح المؤمنون.
وقد جاء لفظ السخري بمعنى الاستهزاء في آيات أخرى كقوله تعالى: {فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون}، وقوله: {أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار}.
ولعل الذي عدل ببعض المفسرين عن تفسير آية سورة الزخرف بهذا المعنى استنكارهم أن يكون اتخاذ بعضهم لبعض مسخرة علة لفعل الله تعالى في رفعه بعضهم فوق بعض درجات، ولكن تأويل اللفظ واسع في نظائره وأشباهه. وتأويل معنى اللام ظاهر).