التضمين والتعاقب
من المسائل المتعلقة بمعاني الحروف مسألة التضمين والتعاقب وذلك فيما إذا عُدّي اللفظ بحرف على خلاف المعتاد في استعماله، وللعلماء مذهبان مشهوران في ذلك:
المذهب الأول: القول بالتعاقب، وهو أن تفسّر بعض الحروف ببعض.
والتعاقب مأخوذ من اعتقاب الراكبين على الدابة؛ فإذا سار رجلان على دابة لا تحتمل إلا راكباً واحداً؛ ركبها أحدهما عقبة؛ ثم عقبه الآخر عليها عقبة مثلها، يتداورون الركوب بينهما كذلك، وفي الحديث الصحيح : ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ))
فاستعير اللفظ لتعاقب الحروف؛ كأنّ الحرف يعقب نظيره على اللفظ فيُفسَّر به، كما قالوا في قول الله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} "من" بمعنى "على".
- وقالوا في قوله تعالى: {عينا يشرب بها عباد الله} يشرب منها.
- وقالوا في قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} أي: مع أموالكم.
- وقالوا في قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} أي: الرفث بنسائكم.
- وقالوا في قوله تعالى: {للذين يولون من نسائهم} يولون على نسائهم؛ لأن الإيلاء يعدَّى بعلى كما تقول: آليت على فلان؛ أي حلفت عليه.
- وقالوا في قول الله تعالى: {ينظرون من طرف خفي} ينظرون بطرف خفي.
- وقالوا في قول الله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي: على جذوع النخل.
وهذا مذهب سار عليه جماعة من المفسرين، وهو المشهور عن الكوفيين.
والمذهب الثاني: القول بالتضمين، وهو أن يُشرب اللفظ معنى لفظ آخر فيعدّى بحرفه ليفيد المعنيين.
- فقالوا في قول الله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} : النصر هنا عُدّي بـ"من" لتضمينه معنى المنع منهم والإنجاء والحفظ.
- وقالوا في قوله تعالى: {عينا يشرب بها} ضمّن الفعل معنى "يروى" فعُدّي بحرفه.
- وقالوا في قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} أي لا تأكلوها بضمها أو جمعها إلى أموالكم.
وهذا المعنى هو الصواب؛ لأنه لو قيل: المعنى لا تأكلوها مع أموالكم لكان النهي شاملاً لأكل أموال اليتامى وأموالهم جميعا أو مخصوصاً بحال اجتماع المالين.
- وقالوا في قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} ضمّن الرفث معنى الإفضاء إليهنّ فأفاد المعنيين.
- وقالوا في قوله تعالى: {للذين يولون من نسائهم} ضمّن الإيلاء معنى الامتناع.
- وقالوا في قول الله تعالى: {ينظرون من طرف خفي} ضمّن النظر معنى الابتداء كما يقال: نظرت إليهم من الثقب، ونظرت إليهم من طَرَف عيني، وقال جماعة من المفسرين: المعنى أنهم يسارقون النظر إلى النار من طرف خفيّ ذليل.
- وقالوا في قول الله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} ضمّن الفعل معنى التثبيت، ولجذوع النخل زوائد كما هو معلوم وتثبيت المصلوب عليها فيه تعذيب شديد.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (جذع النخلة هو أخشن جذع من جذوع الشجر، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره).
والقول بالتضمين أصوب وأحسن، وهو المشهور عن البصريين.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض كما يقولون في قوله: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} أي مع نعاجه و {من أنصاري إلى الله} أي مع الله ونحو ذلك.
والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه وكذلك قوله: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك} ضمن معنى يزيغونك ويصدونك، وكذلك قوله: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} ضمن معنى نجيناه وخلصناه، وكذلك قوله: {يشرب بها عباد الله} ضمن يروى بها، ونظائره كثيرة).
- وقال ابن القيم رحمه الله: (والقاعدة أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض خوفا من اللبس وذهاب المعنى الذي قصد بالحرف، وإنما يضمَّن ويُشرَب معنى فعل آخر يقتضي ذلك الحرف فيكون ذكر الفعل مع الحرف الذي يقتضيه غيره قائما مقام الذكر الفعلين، وهذا من بديع اللغة وكمالها.
ولو قدر تعاقب الحروف ونيابة بعضها عن بعض؛ فإنما يكون ذلك إذا كان المعنى مكشوفا واللبس مأموناً؛ فيكون من باب التفنّن في الخطاب والتوسع فيه؛ فأمّا أن يُدَّعَى ذلك من غير قرينة في اللفظ فلا يصحّ).
تنبيه:
وقد يتعدّى اللفظ بحرف هو المشهور في استعماله لكن يقع في تركيب الكلام ما يؤدّي غرضاً بلاغياً؛ فيتوهّم بعض الناظرين أنّ الحرف عُدّي بغير المشهور في استعماله فيتطلّب له معنى بالتعاقب أو التضمين، ولا يكون لذلك حاجة؛ كما قال بعضهم في قول الله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} قال: المعنى: وإن أسأتم فعليها، ولا حاجة إلى هذا التقدير؛ لأن المعنى: فلها تسيئون.