المثال الثالث: معنى "من" في قول الله تعالى: {لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً}
أصل السلوك هو الدخول في الشيء والمضيُّ فيه، كما تقول: سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها وأنفذته، ولذلك سمي الخيط سِلْكاً لأنه يسلك في الإبر.
قال الله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض}
أي أدخله في مسالك الماء في الأرض حتى ينبع منها.
وقال رجل من تميم فيما أورده المبرد وغيره:
ألبان إبل تَعِلَّةَ بنِ مسافرٍ ... ما دام يملكها عَليَّ حرام
وطعام عمران بن أوفى مثلها ... ما دام يَسْلُكُ في البطون طعام
إنَّ الذين يسوغ في أعناقهم ... زادٌ يمنُّ عليهمُ لَلِئامُ
ولما كان السائر في الطريق داخلاً فيه سُمّي سالكاً، وسمي الطريق مَسْلَكاً لأنه يُسلك فيه.
والمشهور في فعل (سَلَك) أنه يتعدَّى بنفسه، ويتعدى بحرف (في)
فمن الأول قول أعشى باهلة في رثائه المنتشرَ الباهلي:
إمَّا سلكتَ سبيلاً أنت سالكُه .. فاذهبْ فلا يبعدنْك اللهُ منتشر
وقول لبيد بن أبي ربيعة العامري :
والشاعرون الناطقون أراهم .. سلكوا سبيل مرقِّش ومهلهل
ومن الثاني قول عمر بن أبي ربيعة:
ولو سلك الناس في جانب .. من الأرض واعتزَلَت جانبا
لأتبعتُ طِيَّتها إنني .. أرى دونها العَجَب العاجبا
وقول جرير بن عطية الخطفي:
إنَّ الطريقَ إذا تبيَّن رشده .. سَلَكَتْ طُهَيّةُ في الطريقِ الأخيبِ
وهذه الآية عُدّي الفعل فيها، بـ"من" {لتسلكوا منها}، ولذلك اختلف العلماء فيها على قولين مبنيين على مذهبيهما في التعاقب والتضمين:
فقالت طائفة: "من" بمعنى "في" والمعنى: لتسلكوا فيها سبلاً فجاجاً.
وعلى هذا تفسير ابن كثير لهذه الآية.
وقالت طائفة أخرى: الفعل متضمن لمعنى فعل آخر يناسب الحرف الذي عُدِّي به كما قال البيضاوي: ({لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} واسعة جمع فج، و(مِن) لتضمن الفعل معنى الاتخاذ).
أي: أن تعدية الفعل (تسلكوا) بحرف (مِن) لتضمنه معنى الاتخاذ، فكأن المعنى: لتتخذوا منها سبلاً فجاجاً.
وقد تبعه على ذلك أبو السعود والألوسي.
والقول بالتضمين وتعيين الفعل المضمَّن مرجِعُه إلى موافقة المعنى المراد، وهذه مسألة قد تكون ظاهرة في بعض الأمثلة، وقد يدقُّ مأخذها في أمثلة أخرى.
فمن الظاهر فيها قول عمر بن أبي ربيعة:
خطَرَتْ لذاتِ الخالِ ذِكْرَى بعدَما ... سلكَ المطيُّ بنا عَلَى الأنصاب
فعدى الفعل بحرف (على) لتضمنه معنى (مَـرَّ)
وأما في هذه الآية فالأظهر أن (مِن) بيانية، وأنّ الفعل عُدّي بنفسه؛ أي: لتسلكوا سبلاً فجاجاً من الأرض، فلا حاجة إلى القول بالتضمين ولا التعاقب، والله تعالى أعلم.