للاستثناءِ([1]) أدواتٌ ثمانٌ:
حرفانِ وهما: "إِلاَّ" عندَ الجميعِ, و"حَاشَا"([2]) عندَ سيبويهِ, ويُقالُ فيها: حَاشَ, وحَشَا.
وفعلانِ وهما: "ليسَ"([3]) و"لا يَكُونُ".
ومُترَدِّدانِ بينَ الفعليَّةِ والحرفيَّةِ؛ وهما "خَلاَ" عندَ الجميعِ, و"عَدَا" عندَ غيرِ سِيبَوَيْهِ.
واسمانِ وهما: "غَيْرُ" و"سِوَى" بلُغاتِها؛ فإنَّه يُقالُ: سِوًى كرِضًى, وسُوًى كهُدًى وسَواءٌ كسَمَاءٍ, وسِواءٌ كبِناءٍ, وهي أغْرَبُها.
فإذا استُثْنِيَ بـ "إِلاَّ" وكانَ الكلامُ غيرَ تامٍّ, وهو الذي لم يُذْكَرْ فيه المُستثنَى منه, فلا عَمَلَ لـ"إلاَّ", بل يكونُ الحكمُ عندَ وُجودِها مثلَه عندَ فَقْدِها, ويُسَمَّى استثناءً مُفرَّغاً, وشرطُه كونُ الكلامِ غيرَ إيجابٍ([4])،وهو النفْيُ نحوُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ}([5]) والنهِيُ نحوُ: {وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ}([6])،{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ}([7])،والاستفهامُ الإنكاريُّ نحوُ: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}([8])،فأمَّا قولُه تعالى: {ويَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}([9]) فحُمِلَ "يَأْبَى" على "لا يُرِيدُ"؛ لأنَّهما بمعنًى.
وإنْ كانَ الكلامُ تَامًّا: فإنْ كانَ مُوجَباً وجَبَ نَصْبُ المُستثنَى([10]) نحوُ:
{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ}([11])،وأمَّا قولُه:
260- عَافٍ تَغَيَّرَ إِلاَّ النُّؤْْيُ وَالوَتِدُ([12])
فحُمِلَ "تَغَيَّرَ" على "لَمْ يَبْقَ علَى حَالِه"؛ لأنَّهما بمعنًى.
وإنْ كانَ الكلامُ غيرَ مُوجَبٍ: فإنْ كانَ الاستثناءُ مُتَّصِلاً, فالأرجحُ إتباعُ المُستثنَى للمُسْتثنَى منه: بَدَلَ بعضٍ عندَ البصْرِيِّينَ, وعطْفَ نَسَقٍ عندَ الكُوفِيِّينَ([13]) نحوُ: {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ}([14])،{وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتُكَ}([15])،{ومَنْ يَقْنُطْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}([16])،والنصْبُ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ, وقد قُرِئَ به في السبْعِ في: {قَلِيلٌ} و{امْرَأَتُكَ}.
وإذا تعَذَّرَ البدلُ على اللفظِ أُبْدِلَ على الموضِعِ([17]) نحوُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ", ونحوُ: "مَا فِيهَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ زيدٌ" برفِعِهما, و"ليسَ زيدٌ بشيءٍ إِلاَّ شَيْئاً لا يُعْبَأُ بهِ" بالنصْبِ؛ لأنَّ "لا" الجنسيَّةَ لا تعمَلُ في معرفةٍ, ولا في مُوجَبٍ, ومِن والباءَ الزائدتيْنِ كذلكَ, فإنْ قلتَ: "لا إلهَ إلاَّ اللهُ واحدٌ". فالرفْعِ أيضاً؛ لأنَّها لا تعمَلُ في مُوجَبٍ.
ولا يَترجَّحُ النصبُ على الإتباعِ؛ لتأخُّرِ صِفةِ المُسْتثنَى منه على المستثنَى نحوُ: "ما فِيهَا رجُلٌ إِلاَّ أَخُوكَ صَالِحٌ"؛ خلافاً للمازنِيِّ([18]).
وإن كانَ الاستثناءُ مُنقطِعاً فإنْ لم يكُنْ تسليطُ العاملِ على المستثنَى وَجَبَ النصْبُ اتِّفاقاً نحوُ: "ما زَادَ هذا المالُ إِلاَّ ما نَقَصَ"؛ إذ لا يقالُ: زادَ النقصُ. ومثلُه: "ما نفَعَ زيدٌ إلاَّ ما ضَرَّ"؛ إذ لا يُقالُ: نَفَعَ الضرُّ.
وإنْأمْكَنَ تسليطُه فالحِجازيُّونَ يُوجِبونَ النصْبَ, وعليه قراءَةُ السبْعةِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ}([19])،وتميمٌ تُرجِّحُه وتُجِيزُ الإتباعَ؛ كقولِه:
261- وبَلْدَةٍ ليسَ بها أنِيسُ = إِلاَّ اليعافيرُ وإِلاَّ العِيسُ([20])
وحمَلَ عليه الزمخشريُّ: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ}([21]).
فصلٌ: وإذا تَقدَّمَ المُسْتثنَى على المُستثنَى منه وجَبَ نصبُه مُطلقاً([22])؛كقولِه:
262- وَمَالِي إِلاَّ آلَ أحْمَدَ شِيعَةٌ = ومَالِي إِلاَّ مَذْهَبَ الحَقِّ مَذْهَبُ([23])
وبعضُهم يُجِيزُ غيرَ النصْبِ في المسبوقِ بالنفْيِ فيَقولُ: "ما قَامَ إِلاَّ زيدٌ أحَدٌ". سَمِعَ يُونُسُ: "مَالِي إِلاَّ أبُوكَ نَاصِرٌ" وقالَ:
263- إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ النَّبِيُّونَ شَافِعُ(24)
ووَجْهُهُ أنَّ العاملَ فُرِّغَ لِمَا بعدَ "إِلاَّ", وأنَّ المُؤخَّرَ عامٌّ أُرِيدَ به خَاصٌّ, فصَحَّ إبدالُه من المُسْتثنَى لكنَّه بَدَلُ كُلٍّ, ونظيرُه في أنَّ المَتْبوعَ أُخِّرَ وصارَ تَابِعاً "مَا مَرَرْتُ بمِثْلِكَ أحَدٍ"(25).
فصلٌ: وإذا تَكَرَّرَتْ "إِلاَّ" فإنْ كانَ التَّكْرارُ للتوكيدِ, وذلك إذا تَلَتْ عَاطِفاً أو تَلاهَا اسمٌ مُماثِلٌ لِمَا قبلَها(26) أُلْغِيَتْ, فالأولُ نحوُ: "ما جاءَ إلاَّ زيدٌ وإِلاَّ عَمرٌو", فما بعدَ "إِلاَّ" الثانيةِ معطوفٌ بالواوِ على ما قبلَها, و"إِلاَّ" زَائِدَةٌ للتوكيدِ, والثاني كقولِه:
لا تَمْرُرْ بِهِمْ إِلاَّ الفَتَى إِلاَّ العَلاَ(27)
فـ (الفَتَى) مُسْتثنًى من الضميرِ المجرورِ بالباءِ, والأرجَحُ كونُه تَابِعاً له في جَرِّه(28)، ويجوزُ كونُه مَنْصوباً على الاستثناءِ, و(العَلاَ) بَدَلٌ من الفَتَى, بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ؛ لأنَّهما لمُسَمًّى واحدٍ, و(إِلاَّ) الثانيةُ مُؤكِّدَةٌ.
وقد اجتمَعَ العطْفُ والبدَلُ في قولِه:
264- مَا لَكَ مِن شَيْخِكَ إِلاَّ عَمَلُهْ = إِلاَّ رَسِيمُهُ وإِلاَّ رَمَلُهْ(29)
فـ (رَسِيمُهُ) بَدَلٌ, و(رَمَلُهْ) معطوفٌ, و(إِلاَّ) المقترنةُ بكلٍّ منهما مُؤكِّدَةٌ.
وإنْ كانَ التكرارُ لغيرِ توكيدٍ, وذلك في غيرِ بابيِ العطفِ والبَدَلِ, فإنْ كانَ العاملُ الذي قبلَ "إلاَّ" مُفرَّغاً تَركْتَه يُؤَثِّرُ في واحدٍ من المستثنياتِ, ونَصَبْتَ ما عَدَا ذلك الواحدَ نحوَ: "ما قامَ إِلاَّ زَيْدٌ إِلاَّ عَمْراً إِلاَّ بَكْراً" رَفْعَتَ الأولَ بالفعلِ على أنَّه فاعلٌ, ونصَبْتَ الباقِيَ, ولا يَتعَيَّنُ الأولُ لتأثيرِ العاملِ, بل يَترجَّحُ وتقولُ: "ما رَأَيْتُ إِلاَّ زَيْداً إلاَّ عَمْراً إِلاَّ بَكْراً". فتَنْصِبُ واحداً منها بالفعلِ على أنَّه مفعولٌ بهِ, وتنصِبُ البواقِيَ بإِلاَّ على الاستثناءِ.
وإن كانَ العاملُ غيرَ مُفرَّغٍ فإنْ تَقدَّمتِ المستثنياتُ على المستثنَى منه نصَبْتَ كلَّها نحوَ: "مَا قامَ إِلاَّ زَيْداً إلاَّ عَمْراً إِلاَّ بَكْراً أحدٌ", وإنْ تأخَّرَتْ فإنْ كانَ الكلامُ إيجاباً نصَبْتَ أيضاً كلَّها نحوَ: "قاموا إِلاَّ زيداً إلاَّ عَمْراً إلا بَكْراً".
وإن كانَ غيرَ إيجابٍ أُعْطِيَ واحدٌ منها ما يُعْطاهُ لو انفَرَدَ ونُصِبَ ما عداه نحوَ: "ما قاموا إلاَّ زيدٌ إلاَّ عَمْراً إِلاَّ بَكْراً", لك في واحدٍ منها الرفْعُ راجحاً, والنصْبُ مرجوحاً, ويَتعيَّنُ في الباقي النصْبُ(30)، ولا يَتعَيَّنُ الأولَ؛ لجوازِ الوجهيْنِ, بل يترجَّحُ.
هذا حُكْمُ المستثنياتِ المُكرَّرةِ بالنظرِ إلى اللفظِ(31).
وأمَّا بالنظرِ إلى المعنَى فهو نوعانِ: ما لا يُمكِنُ استثناءُ بعضِه من بعضٍ كـ: "زيدٌ وعَمْرٌو وبَكْرٌ", وما يُمكِنُ نحوُ: "له عندي عَشَرَةٌ إلاَّ أربعةٌ إِلاَّ اثنيْنِ إلا واحداً".
ففي النوعِ الأولِ: إنْ كانَ المستثنَى الأولُ دَاخلاً- وذلك إذا كانَ مُستثنًى من غيرِ مُوجَبٍ- فما بعدَه داخلٌ, وإنْ كانَ خَارِجاً- وذلك إنْ كانَ مُستثنًى من مُوجَبٍ- فما بعدَه خارجٌ.
وفي النوعِ الثاني اخْتَلَفوا فقيلَ: الحكمُ كذلك, وإنَّ الجميعَ مُسْتثنًى من أصلِ العددِ. وقالَ البصْريُّونَ والكِسائِيُّ: كلٌّ من الأعدادِ مُستثنًى مِمَّا يليهِ. وهو الصحيحُ؛ لأنَّ الحمْلَ على الأقربِ مُتعَيِّنٌ عندَ الترَدُّدِ, وقيلَ: المذهبانِ مُحْتمَلانِ.
وعلى هذا فالمُقَرُّ به في المثالِ ثلاثةٌ على القولِ الأولِ, وسبْعَةٌ على القولِ الثاني, ومُحتَمِلٌ لهما على الثالثِ, ولك في معرفةِ المُتحصِّلِ على القولِ الثاني طريقتانِ: إحداهما: أنْ تُسْقِطَ الأولَ وتَجْبُرَ الباقِيَ بالثاني, وتُسْقِطَ الثالثَ, وإنْ كانَ معَكَ رابِعٌ فإنَّكَ تَجْبُرُ به, وهكذا إلى الأخيرِ.
والثانيةُ: أنْ تَحُطَّ الآخرَ مِمَّا يليهِ, ثم بَاقِيهِ مِمَّا يليهِ, وهكذا إلى الأولِ.
([1]) لم يذْكُرِ المُؤلِّفُ تعريفُ المُسْتَثْنَى، وقدْ عَرَّفَه الناظمُ في كتابِه التسهيلِ بقولِه: (هو المُخَرَجُ تَحْقيقاً أو تَقْديراً، من مذكورٍ أو متروكٍ، بإِلاَّ أو ما في معناها بشَرْطِ حُصولِ الفائدةِ).
أمَّا قولُه: (المُخَرَجُ). فإنَّه جِنْسٌ، وهو يَشْمَلُ المُخَرَّجُ بالبدلِ وبالصِّفةِ وبالشرطِ وبالغايةِ وبالاستثناءِ، فالمُخَرَّجِ بالبدلِ نحوُ قولِكَ: أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ. فإنَّكَ أخرَجْتَ من الرَّغيفِ ثُلُثَيْهِ بقولِكَ: ثُلُثَهُ. الذي هو بَدَلٌ، وأمَّا المُخَرَّجِ بالصفةِ فنحوُ قَوْلِكَ: (أعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً). فإنَّكَ أخْرَجْتَ من الرقبَةِ الكافرةَ بقولِكَ: (مُؤْمِنَةً). الواقعُ نعتاً لرقَبَةٍ، وأمَّا المُخْرَجُ بالشرطِ فنحوُ قولِكَ: (اقْتُلِ الذِّمِّيَّ إنْ حَارَبَ). فإنَّكَ أخرجَتْ من الذمِّيِّ الذي يُباحُ قَتلُه الذي بَقِيَ على عَهْدِه بقولِكَ: (إِنْ حَارَبَ). الواقعُ شَرْطاً للأمرِ بالقتلِ، وأمَّا المُخْرَجُ بالغايةِ فنحوُ قولِه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}. فقد خَرَجَ من وجوبِ الإمساكِ عن المُفْطراتِ أولُ جُزْءٍ من أجزاءِ الليلِ بجَعْلِ الليلِ غايةً لإتمامِ الصيامِ، وأمَّا الإخراجُ بالاستثناءِ فنحوُ قولِه تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ}.
وقولُه: (تَحْقِيقاً أو تَقْدِيراً). أشارَ به إلى أنَّ الاستثناءَ يَنقسِمُ إلى متَّصِلٍ ومُنفصِلٍ وأنَّ المتصلَ يكونُ الإخراجُ فيهِ تحقيقاً؛ لأنَّ المُستثنَى من جِنْسِ المُستثنَى منه, والمنفصلَ يَكُونُ الإخراجُ فيهِ تَقْدِيراً؛ لأنَّ المُستثنَى فيهِ ليسَ مِن جنسِ المُستثنَى منه، ولكنَّه مُقدَّرُ الدخولِ فيه.
وقولُه: (مِن مذكورٍ أو متروكٍ). أشارَ به إلى انقسامِ الاستثناءِ إلى تامٍّ ومُفرَّغٍ, فالتامُّ هو الذي ذُكِرَ فيه المُسْتثنَى منه, فيكونُ المُستثنَى خارجاً مِمَّا ذُكِرَ في الكلامِ، والمُفَرَّغُ لم يُذْكَرْ فيه المُستثنَى منه, فيكونُ المُستثنَى خَارِجاً مِمَّا طُوِيَ ذِكْرُه في الكلامِ, وهو مُقدَّرٌ.
وقولُه: (بشَرْطِ الفائدةِ). يخرُجُ بهِ نحوُ قولِكَ: (جَاءَنِي نَاسٌ إِلاَّ زَيْداً). ونحوُ قولِكَ: (جَاءَنِي قَوْمٌ إِلاَّ رَجُلاٌ).
وقولُه: (بَإِلاَّ أو مَا في معناها). يخرُجُ به كلُّ أنواعِ الإخراجِ إلاَّ المُعرَّفَ، وهو الاستثناءُ.
([2]) اختلَفَ النحاةُ في حَاشَا الاستثنائيَّةِ، أفعلٌ هي أم حرفٌ؟ ولهم فيها ثلاثةُ مذاهِبَ:
المذهبُ الأوَّلِ – وهو مذهَبُ سِيبَوَيْهِ ومذهَبُ جماعةٍ من البَصْرِيِّينَ– وحاصلُه أنَّها حرفُ جَرٍّ دَائِماً، ولا تَكونُ فِعلاً؛ لأنَّهم لم يَحْفَظوا إلاَّ الجَرَّ بها، والجرُّ لا يكونُ إِلاَّ بالحرفِ، وأصحابُ هذا القولِ يَخْتَلِفونَ: ألَهَا مُتعَلِّقٌ تتعلَّقُ به كسائرِ حروفِ الجرِّ، أم لا مُتَعَلِّقَ لها كالحروفِ الزائدةِ؟ فذهَبَ قومٌ منهم إلى أنَّ لها مُتعَلِّقاً تَتعلَّقُ بهِ كسائرِ حروفِ الجَرِّ، ومُتعَلِّقُها ما يكونُ قبلَها من فعلٍ أو شِبْهِه، وعلى هذا يكونُ مَحَلُّها معَ المجرورِ نَصْباً، واختارَ قومٌ, منهم ابنُ هِشامٍ, أنَّها لا تَتعَلَّقُ بشيءٍ؛ كالحروفِ الزائدةِ، واستَدَلَّ هؤلاء القائلونَ بأنْ لا مُتعَلِّقَ لها, بأنَّها ليسَتْ على النمَطِ الذي عليهِ حُروفُ الجرِّ الأصليَّةِ، فإنَّ الحروفَ الأصليَّةَ تُوصِلُ مَعَانِيَ الأفعالِ التي قبلَها للاسمِ المجرورِ بها، فأنتَ حِينَ تقولُ: (مَرَرْتُ بزَيْدٍ). تُوصِلُ معنَى الفعلِ الذي هو المُرورُ إلى زَيْدٍ بواسطةِ الباءِ، ولكنَّكَ حِينَ تَقولُ: (رَأَيْتُ القَوْمَ حَاشَا زَيْدٍ). لا تُوصِلُ معنَى الفعلِ السابقِ إلى المجرورِ بحَاشَا، بل أنتَ تُزِيلُ معنَى الفعلِ, وهو الرؤيةِ, عن زيدٍ بوَاسَطِةِ حَاشَا، فلَمَّا اختَلَفَ حالُ هذا الحرفِ- الذي هو حَاشَا عن حالِ حُروفِ الجرِّ الأصليَّةِ- لم نَجْعَلْه منها، وليسَ هذا الدليلُ بمُستقيمٍ؛ لأنَّ الحرفَ الأصليَّ يُوصِلُ معنَى الفعلِ المُتقَدِّمِ عليه إلى مجرورِه, على ما يَقْتَضِيهِ المعنَى الذي وُضِعَ له الحرفُ، فالباءُ تُوصِلُ معنَى الفعلِ, الذي هو المرورُ, إلى الاسمِ المجرورِ بالباءِ على المعنَى الذي تَدُلُّ عليهِ الباءُ, وهو الإلصاقُ.
وكذلك حَاشَا في المثالِ الذي ذكَرُوه تُوصِلُ معنَى الفعلِ, وهو الرؤيةُ, على المعنَى الذي وُضِعَ له هذا الحرفُ, وهو انتفاءُ ما قبلَها عن المجرورِ به، أَلاَ تَرَى أنكَ لو قُلْتَ: "ما ضَرَبْتُ زَيْداً". لم يَمْنَعْكَ عَدَمُ وقوعِ الضربِ على زيدٍ في هذا المثالِ مِن أنْ تُسَمِّيَهُ مَفْعولاً به.
المذهَبُ الثاني – وهو مذهبُ الجَرْمِيِّ والمازنيِّ والزجَّاجِ والأخفشِ وأبي زيدٍ والفرَّاءِ وأبي عمرٍو الشَّيْبانيِّ، وهو أيضاً الذي اختارَه المُتأخِّرونَ من النُّحاةِ, ومنهم جميعُ شُرَّاحِ الألفيَّةِ, ومُلَخَّصُ هذا الرأْيِ: أنَّها تُسْتعمَلُ كثيراً حرفَ جَرٍّ فيَكونُ ما بعدَها مَجْروراً بها، وتُستعمَلُ قليلاً فِعْلاً مُتعدِّياً جامداً, فتنصِبُ ما بعدَها، فإذا استعمَلْتَها حرفاً قُلْتَ "حَاشَايَ". بدونِ نونِ الوقايةِ؛ كما في قولِ الشاعرِ:
في فِتْيَةٍ جَعَلُوا الصَّلِيبَ إِلَهَهُمْ = حَاشَايَ إِنِّي مُسْلِمٌ مَعْذُورُ
وإذا استعمَلْتَها فعلاً قلتَ: "حَاشَانِي". وإنَّما كانَ هذا الفعلُ جَامِداً؛ لتضَمُّنِه معنَى إِلاَّ، وقدْ روَى هؤلاءِ عن العربِ نَصْبَ ما بعدَها وجَرَّه، فقَضَوْا بأنَّها حينَ تَجُرُّ تكونُ حرفَ جَرٍّ، وحِينَ تَنْصِبُ تكونُ فعلاً.
المذهبُ الثالثُ– وهو مذهبُ جمهورُ الكُوفِيِّينَ – أنَّها فعلٌ دَائِماً تنصِبُ ما بعدَها، ولا تكونُ حَرْفاً يَجُرُّ ما بعدَه، قالوا: لأنَّا رأَيْنا العربَ تَتصَرَّفُ فيها فتقولُ أحياناً: حَشَا. وتقولُ أحياناً أخْرَى: حَاشَ. والحروفُ ليسَتْ مَحَلَّ تَصَرُّفٍ بإجماعٍ مِنَّا ومنكم، فلا تكونُ حَاشَا حَرْفاً، فإذا ورَدَ ما بعدَها مَجْروراً فهو مجرورٌ بحرفِ جرٍّ حُذِفَ وبَقِيَ عملُه.
والجوابُ على هذا: أنَّا نُسَلِّمُ أنَّها حينَ يُتَصَرَّفُ فيها لا تَكونُ حَرْفاً، لكنَّ هذا لا ينَفَعُ؛ لأنَّا نقولُ: إنَّها تَكُونُ حينَئذٍ فِعْلاً. وتكونُ حَرْفاً حِينَ يكونُ ما بعدَها مَجْروراً, ومتى كانَ السماعُ قد جاءَ بالحاليْنِ فنحنُ أحرياءُ بأنْ نَقولَ: إِنَّها تأتي على وجهيْنِ. ودليلُكم الذي ذَكَرْتُموه يَنْفِي الحَرْفيَّةَ، لكنَّه لا يُثْبِتُ الفعليَّةَ، فكم من الأفعالِ التي لم تَتصَرَّفْ، ولم يَكُنْ عَدَمُ تَصَرُّفِها كافياً في نفيِ فِعْلِيَّتِها! ونحنُ نَستدِلُّ على حَرْفِيَّتِها في بعضِ الأحيانِ بمجيءِ الاسمِ مجروراً بها، وباتِّصالِه بياءِ المُتكَلِّمِ من غيرِ نُونِ الوِقَايةِ، ولو كانَ فِعْلاً لاقترنَ بنونِ الوِقايةِ معَ ياءِ المُتكلِّمِ ألبَتَّةَ.
وحاصلُ هذا الكلامِ أنَّ سِيبَوَيْهِ لم يَرْوِ عن العربِ إلاَّ الجرَّ بحَاشَا, فجعَلَها حرفَ جَرٍّ، وأنَّ جُمهورَ الكُوفِيِّينَ وجمهورَ البَصْريِّينَ رَوَوُا الجرَّ بها، ورَوَوُا النصْبَ أيضاً، فجَعَلَها البَصْرِيُّونَ نوعيْنِ؛ تَكونُ فعلاً في أحدِهما, فيُنْصَبُ ما بعدَه على أنَّه مفعولٌ به، وفي الثاني حَرْفَ جَرٍّ، وجعَلَها الكُوفِيُّونَ نَوْعاً واحداً، وهو فعلٌ يَنْصِبُ ما بعدَه، فإنِ انجَرَّ ما بعدَه, فإنَّ انجِرارَه يكونُ على تقديرِ حرفِ جَرٍّ قد حُذِفَ وبَقِيَ عَمَلُه.
([3]) القولُ بأنَّ (ليسَ) فعلٌ, هو مذهَبُ الجمهورِ، وفيهِ مذهبانِ آخرانِ، أحَدُهما مذهَبُ أبي عليٍّ الفارسيِّ– وتَبِعَه عليهِ أبو بكرِ بنِ شقيرٍ– وحاصلُه أنَّ (ليسَ) حرفٌ دائماً، وقدْ سَبَقَ في أولِ هذا الكتابِ الاستدلالُ على بطلانِ هذا الرأْيِ بأنَّها تَقْترِنُ بها علاماتُ الأفعالِ؛ كتاءِ التأنيثِ الساكنَةِ في نحوِ: (لَيْسَتْ هَذِهِ بمُفْلحةٍ), وتاءِ الفاعلِ في نحوِ: (لسْتُ، ولَسْتُمَا، ولَسْتُمْ، ولَسْتُنَّ), وثاني المذهبيْنِ أنَّها في الاستثناءِ حرفٌ ناصبٌ للمستثنَى بمنزلةِ إلاَّ، وهي في غيرِ الاستثناءِ فعلٌ.
([4]) إنَّما شَرَطُوا في الاستثناءِ المُفرَّغِ أنْ يكُونَ مَسْبوقاً بنَفْيٍ أو بشِبْهِ نَفْيٍ, ومَنَعوا وُقوعَه معَ الكلامِ المُوجَبِ؛ لأنَّ الكلامَ السابقَ لو كانَ مُوجَباً لَكانَ المعنَى الذي يدُلُّ عليهِ مجموعُ الكلامِ مُحالاً في مَجْرَى العادةِ، ألا ترَى أنَّكَ لو قُلْتَ: (ضَرَبتُ إِلاَّ زَيْداً). لكانَ مُؤدَّى هذه العبارةِ أنَّكَ ضَرَبْتَ جَمِيعَ الناسِ إِلاَّ زَيْداً، وهذا معنًى غيرُ مستقيمٍ في مَجْرَى العادَةِ، أمَّا لو قُلْتَ: (مَا ضَرَبْتُ إِلاَّ زَيْداً). فإنَّ المعنى الذي تدُلُّ عليه هذه العبارةُ أنَّكَ لم تَضْرِبْ أحداً من الناسِ إلاَّ زيداً، فإنكَ ضربْتَه دونَ مَن عداه، وهذا معنًى مستقيمٌ.
واعلَمْ أنَّ القولَ بعدمِ صِحَّةِ الاستثناءِ المُفَرَّغِ مُطْلقاً هو رَأْيُ الجُمهورِ، وفيه مذهَبٌ ثَانٍ، واختارَه ابنُ الحاجِبِ، وحاصلُه أنَّه يَجوزُ وُقوعُ الاستثناءِ المُفرَّغِ بعدَ الإيجابِ بشرطَيْنِ:
أحَدُهما: أنْ يكُونَ ما بعدَ"إِلاَّ" فضْلَةً، والثاني: أنْ تَحْصُلَ فائدةٌ؛ كأنْ يكُونَ المُستثنَى منه المُقَدَّرُ محصوراً في نفسِه، ومن أمثلةِ ذلك: (ذَاكَرْتُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعةِ)؛ فإنْ كانَ ما بعدَ"إلاَّ" عُمْدَةً نحوَ: (حَضَرَ إِلاَّ زَيْدٌ), أو لم تحصُلْ فائدةٌ من الكلامِ نحوَ: (ضَرَبتُ إِلاَّ زَيْداً), لم يَجُزِ الاستثناءُ المُفَرَّغُ.
([5]) سورة آلِ عِمْرانَ، الآية:144.
([6]) سورة النساءِ، الآية:171.
([7]) سورة العَنْكبوتِ، الآية 46.
([8]) سورة الأحقافِ، الآية: 35.
([9]) سورة التوبةِ الآية: 32.
([10]) ههنا أمرانِ يَجِبُ أنْ تَعْرِفَ أقوالَ العلماءِ في كلِّ واحدٍ منهما؛ لتكونَ على بصيرةٍ:
فأمَّا أَوَّلُهما فقد اختلَفَ النحاةُ في العاملِ في الاسمِ المنصوبِ بعدَ إِلاَّ، ولهم في هذا الموضوعِ ثَمانيةُ أقوالٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الناصبَ لهذا الاسمِ هو (إِلاَّ) نَفْسُها، وحْدَها، وإلى هذا الرأْيِ ذهَبَ ابنُ مالكٍ صَاحِبُ الألفيَّةِ، وعبارتُه في النظمِ تدُلُّ على ذلك، حيثُ يَقُولُ في مَطلِعِ البابِ: (مَا اسْتَثْنَتْ إِلاَّ معْتَمامٍ يَنتصِبْ). ويقولُ بعدَ أبياتٍ: (وألْغِ إِلاَّ ذَاتَ تَوْكِيدٍ). وذكَرَ ابنُ مالكٍ أنَّ هذا رأيُ سِيبَوَيْهِ والمُبرِّدِ.
والقولُ الثاني: أنَّ الناصِبَ هو تمامُ الكلامِ، ومثلُ هذا انتصابُ التمييزِ كانتصابِ دِرْهَمٍ في قولِكَ: (أعْطَيْتُهُ عِشْرِينَ دِرْهماً). مَثَلاً.
والقولُ الثالثُ: أنَّ الناصبَ هو الفعلُ المُتقَدِّمُ على (إِلاَّ), لكنْ بوَاسِطَةِ إلاَّ، ويُنسَبُ هذا إلى السِّيرافيِّ والفارسيِّ وابنِ الباذشِ، وضعَّفَ العلماءُ هذا الرأْيَ بأنَّه قد لا يَكونُ في الكلامِ فِعْلٌ أصْلاً، كما تقولُ: (القَوْمُ إخْوَتُكَ إِلاَّ زَيْداً).
والقولُ الرابِعُ: أنَّ الناصِبَ هو الفعلُ السابقُ بغيرِ واسطةِ إِلاَّ، وإلى هذا ذهَبَ ابنُ خَروفٍ، وضَعَّفوه بمثلِ ما ضَعَّفوا به رأْيَ الفارسيِّ ومَن معَه.
والقولُ الخامسُ: أنَّ الناصِبَ فِعْلٌ محذوفٌ يُقدَّرُ من معنَى إِلاَّ، مثلُ: اسْتَثْنِي، وإلى هذا ذهَبَ الزجَّاجُ.
والقولُ السادسُ: أنَّ الناصبَ هو مُخالفةُ ما بعدَ إِلاَّ لِمَا قبلَها، ويُحْكَى هذا عن الكِسائيِّ.
والقولُ السابعُ: أنَّ الاسمَ المنصوبَ يقَعُ اسماً لـ "أنَّ"– بتشديدِ النونِ– مُؤكِّدَةٍ محذوفةٍ, وخَبَرُها محذوفٌ أيضاً، وتقديرُ (قَامَ القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً): قامَ القومُ إِلاَّ أنَّ زَيْداً لَمْ يَقُمْ، وقدْ حُكِيَ هذا القولُ عن الكِسائيِّ، وهو تَكَلُّفٌ لا مُقْتَضَى له.
والقولُ الثامنُ: أنَّ (إِلاَّ) مُركَّبَةٌ من (إِنَّ) المُؤكِّدَةِ, ولا العاطفةِ، ثم خُفِّفَتْ (إنْ) بحذفِ أحدِ نُونَيْها، ثم أُدْغِمَتْ في لا، فإذا انتصَبَ ما بعدَها؛ فذلك من أجلِ تغليبِ حُكْمِ "إنَّ"، وإذا لم يَنتصِبْ؛ فمن أجلِ تغليبِ حكمِ لا العاطفةِ، ونُسِبَ هذا القولُ إلى الفرَّاءِ، وهو أشدُّ تكلُّفاً من سابقِه.
وأمَّا الأمرُ الثاني: فإنَّ حاصلَه أنَّ القولَ بوجوبِ نصبِ المُستثنَى بإلاَّ بعدَ الكلامِ التامِّ المُوجَبِ هو رَأيُ جَمهرةِ النحاةِ، وحكَى ابنُ مالكٍ عن ابنِ عُصفورٍ– وتابعَه أبو حيَّانَ– أنَّ النصْبَ جائزٌ غالِبٌ, لا وَاجِبٌ، وأجازَ الرفْعَ، وخرَّجَ على هذا حديثاً رَواهُ الدَّارقُطْنِيُّ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِلاَّ امْرَأَةٌ أَوْ مُسَافِرٌ أو عَبْدٌ أو مَرِيضٌ)). برفعِ ما بعدَ إلاَّ وما عُطِفَ عليه، وعلى هذا تُحْمَلُ قراءةُ مَن قرَأَ: {فشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ}. ويُحْمَلُ عليه ما جاءَ في صحيحِ البخاريِّ: (فَلَمَّا تَفَرَّقُوا أحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ أبو قَتَادَةَ), ويُحْمَلُ حديثُ: ((كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ المُجَاهِرُونَ)). ويُحْمَلُ الشاهِدُ رَقْمُ 260, ويُحمَلُ قولُ أبي نُوَاسٍ في الأمِينِ:
يَا خَيْرَ مَنْ كَانَ ومَنْ يَكُونُ = إِلاَّ النَّبِيُّ الطَّاهِرُ المَيْمُونُ
وقدْ حمَلَ الجمهورُ ذلك على أنَّ إِلاَّ بمعنَى لَكِنْ، والمرفوعُ مُبْتَدَأٌ خبرُه محذوفٌ، وتقديرُ ذلك في بيتِ أَبِي نُوَاسٍ: لكنِ النَّبِيُّ الطاهِرُ المَيْمُونُ لَسْتَ خَيْراً منه.
([11]) سورة البقرةِ، الآية: 249.
([12]) 260-نسَبَوا هذا الشاهدَ للأخطَلِ النصرانيِّ التَّغْلِبِيِّ، واسمُه غِياثُ بنُ غَوْثٍ، والذي ذكَرَه المُؤلِّفُ عَجُزُ بيتٍ من البسيطِ، وصَدْرُه قولُه:
*وبالصَّرِيمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ*
اللغةُ: (الصَّرِيمَةُ) اسمُ مَكانٍ، وأصلُه المُنْقَطِعُ من الرَّمْلِ، و(خَلَقٌ) أي: بالٍ، و(عَافٍ) أي: دَارِسٌ مُنْدَثِرٌ، و(النُّؤْيُ) – بوزنِ قُفْلٍ وحِمْلٍ وفَلْسٍ وصَرْدٍ – نُهَيْرٌ صَغِيرٌ يَحْفِرُونَه حولَ الخيمةِ؛ ليَمْنَعَ السيلَ عن دخولِها.
الإعرابُ: (بالصَّرِيمَةِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خَبرٌ مُقدَّمٌ, (منهمْ) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ, حالٌ من "مَنْزِلٌ" الآتي الواقِعِ مبتدأً على ما هو مذهَبُ سِيبَوَيْهِ، وكانَ أصلُ الجارِّ والمجرورِ صفةً للمنزلِ, فلَمَّا تَقدَّمَ عليهِ جُعِلَ حَالاً؛ لأنَّ الصفةَ لا تَتقدَّمُ على الموصوفِ، ولا مانِعَ من تَقدُّمِ الحالِ على صاحبِه، أو الجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ, حالٌ من الضميرِ المُستتِرِ في الجارِّ والمجرورِ الواقعِ خَبَراً، وهذا الضميرُ عَائِدٌ على "مَنزِلٌ", وهذا مُتعَيِّنٌ على مذهَبِ الجمهورِ الذينَ لا يُجوِّزونَ مَجِيءَ الحالِ من المبتدأِ, (مَنْزِلٌ) مبتدأٌ مُؤخَّرٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (خَلَقٌ) نعتٌ لـ"مَنْزِلٌ" مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (عافٍ) صفةٌ ثانيةٌ لـ"مَنزِلٌ"، مرفوعةٌ بضمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على الياءِ المحذوفةِ؛ للتخَلُّصِ من التقاءِ الساكنيْنِ, (تَغَيَّرَ) فعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, وفاعلُه ضميرٌ مُستتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه: هو, يعودُ إلى المنزلِ، والجملةُ من الفعلِ الماضي وفاعلِه في مَحلِّ رفعٍ, صِفَةٌ ثالثةٌ لـ"مَنْزِلٌ", (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ حَرْفٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (النُّؤْيُ) بدَلٌ من الضميرِ المستترِ في "تَغَيَّرَ"، وبدَلُ المرفوعِ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ, (والوَتِدُ) الواوُ حرفُ عطفٍ، مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، الوَتِدُ: معطوفٌ على "النُّؤْيُ"، والمعطوفُ على المرفوعِ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (إِلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ). فإنَّ الظاهرَ أنَّ الاستثناءَ تَامٌّ مُوجَبٌ: أمَّا تَمامُه فلذِكْرِ المُستثنَى منه وهو المنزلُ، وأمَّا كونُه مُوجَباً؛ فلأنَّه لم يَتقَدَّمْهُ نَفْيٌ ولا شِبْهُه، فكانَ على مُقْتَضَى هذا الظاهرِ ـ وجَرْياً على مذهَبِ جمهورِ النحاةِ ـ ينبغي نصْبُ المُستثنَى، إلاَّ أنَّه ورَدَ مرفوعاً.
وقد خرَّجَه الجمهورُ على المعنَى، وحاصلُه أنَّهم يَمْنَعونَ كونَ الكلامِ مُوجَباً، ويَزْعُمونَ أنَّه مَنْفِيٌّ؛ لأنَّ المنفِيَّ ليسَ قاصراً على ما يكونُ قدْ سَبَقَتْهُ أداةُ نفيٍ، بل هو أعَمُّ من ذلك. ومنه أنْ يكُونَ العامِلُ في المُستثنَى منه في مَعْنَى عامِلٍ آخرَ مَنفيٍّ، والأمرُ هنا كذلك، فإنَّ (تَغَيَّرَ) – وهو العاملُ في ضميرِ المنزلِ, الذي هو المُستثنَى منه – في معنَى عاملٍ آخرَ مَنْفِيٍّ، وهو (لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالِهِ), وهذا العاملُ الآخَرُ لو كانَ هو المذكورَ في الكلامِ, لكانَ المختارُ ارتفاعَ المُستثنَى، فكانَ لِمَا هو بمعناه حُكْمُه.
ومِن العلماءِ مَن ذهَبَ إلى أنَّ (إِلاَّ) في هذا البيتِ ونحوِه حرفٌ بمعنَى لكنْ التي للاستدراكِ، وما بعدَها مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه، وكأنَّ الشاعرَ قدْ قالَ: لكنِ النُّؤْيُ والوَتِدُ لم يَتَغَيَّرَا، وقدْ تَحَدَّثْنا عن ذلك في الكلامِ على مذاهبِ النحاةِ في نصْبِ الاسمِ الذي يقَعُ بعدَ"إِلاَّ"، بعدَ كلامٍ تَامٍّ مُوجَبٍ، ورَوَيْنا لك عِدَّةَ شواهدَ ورَدَ فيها الاسمُ مَرْفوعاً، ونَزِيدُكَ هنا أنَّ ابنَ مالكٍ يَقولُ في ا(لتوضيحِ): (إِنَّ أكثرَ المُتأخِّرِينَ من البَصْرِيِّينَ لا يَعْرِفُ في هذا النوعِ إِلاَّ النصْبَ، وقد أغْفَلُوا ورُودَه مرفوعاً بالابتداءِ؛ ثابِتَ الخَبَرِ ومَحْذوفَه، فمِن الثابتِ الخَبَرِ قولُ ابنِ أبي قَتَادَةَ: (كُلُّهم أحْرَمُوا إلاَّ أبو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ). "إلا" بمعنَى "لَكِنْ", وأبو قتادَةَ مُبْتدأٌ، ولم يُحْرِمْ: خَبَرُه، ومن المحذوفِ الخبرِ قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ المُجَاهِرُونَ)) أي: لكنِ المُجاهِرونَ بالمعاصِي لا يُعافَوْنَ. اهـ. معَ إيضاحٍ يَسِيرٍ.
ومن هذا الوادي قولُ أبي نُوَاسٍ:
لِمَنْ طَلَلٌ عَافِي المَحَلِّ دَفِينُ = عَفَا آيُهُ إِلاَّ خَوَالِدُ جُونُ
وتقديرُه: لكنْ خَوَالِدُ جُونُ لم تَعْفُ.
وقدْ جعَلَ العلماءُ جملةَ هذا المبتدأِ وخبرِه في مَحلِّ نَصْبٍ على الاستثناءِ، وصرَّحَ ابنُ هشامٍ بأنَّه قدْ فاتَ العلماءَ عدُّ هذه الجملةِ في الجُملِ التي لها مَحلٌّ من الإعرابِ.
([13]) قد اختَلَفَ الكُوفِيُّونَ والبصْرِيُّونَ في هذه المسألةِ، فقالَ البصْرِيُّونَ: الاسمُ الواقِعُ بعدَ "إلاَّ" بعدَ كلامٍ تامٍّ منفيٍّ إذا أُتْبِعَ لِمَا قبلَه, فهو بدَلُ بعضٍ مِن كُلٍّ، وقالَ الكُوفِيُّونَ: إنَّ "إلاَّ" حرفُ عطفٍ بمنزلةِ"لا" العاطفةِ التي تُعْطِي لِمَا بعدَها ضِدَّ حُكْمِ ما قبلَها، والاسمُ الذي بعدَها معطوفٌ عطفَ النَّسَقِ بإِلاَّ على الاسمِ الذي قبلَها، وقدْ كانَ أبو العَبَّاسِ أحمدُ بنُ يَحيَى ثَعْلبٌ– وهو من شيوخِ نُحاةِ الكُوفةِ– يَعترِضُ على مذهبِ البصْرِيِّينَ في هذهِ المسألةِ ويقولُ: كيفَ يَكونُ بدَلاً وهو مُوجَبٌ ومَتْبوعُه منفِيٌّ؟! وكأنَّه يُنْكِرُ أنْ يُخالِفَ البدَلُ المُبْدَلَ منه في الإيجابِ والنفيِ، وقدْ أجابَ أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ على هذا الكلامِ بأنَّا إنَّما جَعَلْناه بدلاً مِمَّا قبلَه في عملِ العاملِ فيه، وتَخالُفُ البدَلِ معَ المُبْدَلِ منه في النفيِ والإيجابِ لا يَمنَعُ البدليَّةَ؛ لأنَّ سبيلَ البدَلِ أنْ يُجْعَلَ المُبدَلُ منه كأنَّه لم يُذْكَرْ, ويُجْعَلَ البَدَلُ في موضعِه؛ لأنَّه هو المقصودُ بالحُكْمِ، ثم إنَّا رَأَيْنا التوابِعَ تَختلِفُ معَ مَتْبوعِها في النفْيِ والإثباتِ، من ذلك النعْتُ في نحوِ قَوْلِنا: (مَرَرتُ برجُلٍ لا كريمٍ ولا لَبِيبٍ). ومن ذلكَ العطفُ بـ"بَلْ" و"لا" و"لكنْ"، نحوُ: (رأَيْتُ رَجُلاً كَرِيماً لا بَخِيلاً), فما يَمْنَعُ أنْ يكُونَ البَدَلُ مثلَ النعْتِ والعطفِ، على أنَّا رأَيْنا ذلكَ التخالُفَ واقعاً في البَدَلِ نفسِه، أفلَيْسَ بدَلُ البعضِ يُخالِفُ المُبدَلَ منه على وَجْهِ الإجمالِ؟ وقدْ قالوا: مَرَرْتُ برجُلٍ, لا زَيْدٍ ولا عَمْرٍو. وهذا يتعين أنْ يكُونَ بدلا، لأن لا العاطفة لا تتكرر، فلَمَّا امتنَعَ أنْ يكُونَ عَطْفاً تَعَيَّنَ أنْ يكُونَ بَدَلاً، وهذا واضِحٌ إنْ شَاءَ اللهِ.
([14]) سورة النساءِ، الآية: 66.
([15]) سورة هودٍ، الآية: 81.
([16]) سورة الحِجْرِ، الآية: 56.
([17]) ذكَرَ المُؤلِّفُ مِمَّا يَتعَذَّرُ إبدالُه على لفظِ المُبدَلِ منه لسَبَبٍ صِناعِيٍّ ثلاثةَ أمثلةٍ: الأوَّلُ كلمةُ التوحيدِ، وهي قَوْلُنا: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ). والثاني قولُكَ: (مَا فِيهَا أحَدٌ إِلاَّ زَيْدٌ). والثالثُ قولُنا: (ليسَ زَيْدٌ بشيءٍ إِلاَّ شَيْئاً لا يُعْبَأُ به).
الأولُ والثاني يَرفَعُ ما بعدَ إِلاَّ، والثالثُ يَنْصِبُ ما بعدَ إِلاَّ، ونحنُ نُبَيِّنُ لك كلَّ مثالٍ من هذهِ المثلِ على حِدَةٍ، ونُبيِّنُ لك السرَّ في وجوبِ الإتباعِ في كلٍّ منها على مَحلِّ المَتْبوعِ، وعَدَمِ جوازِ الإتباعِ على لفظِ المَتْبوعِ.
أمَّا المثالُ الأوَّلُ – وهو قولُنا: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) – فإنَّ"لا" في أوَّلِ هذه الجملةِ نافيةٌ للجنسِ، و"إِلَهَ" اسمُها، وخَبَرُ "لا" هذه محذوفٌ، والتقديرُ: لا إِلَهَ موجودٌ، أو لا إِلَهَ لَنَا، واسمُ "لا" وخَبَرُها المُقدَّرُ نَكِرتانِ على ما هو مُلْتزَمٌ في إعمالِ"لا" النافيةِ للجنسِ عَمَلَ إِنَّ، وأنتَ تعلَمُ أنَّ ما بعدَ إلاَّ الاستثنائيَّةِ يكونُ حُكْمُه من جِهَةِ النفيِ والإثباتِ ضِدَّ حكمِ ما قبلَها، فإذا كانَ ما قَبْلَها مَنْفِيًّا كانَ ما بعدَها مُثْبتاً, وإذا كانَ ما قبلَها مُثْبتاً كانَ ما بعدَها مَنْفِيًّا، فلو أنَّكَ أبْدَلْتَ كلمةَ الجلالةِ– وهي (اللهُ) – من اسمِ"لا" وهو (إِلَهَ) على اللفظِ– أي" نصَبْتَ اسمَ الجلالةِ– كنتَ قَدْ أعْمَلْتَ "لا" النافيةَ للجنسِ في معرفةٍ، بل في أعْرَفِ المعارفِ، فخالَفْتَ بهذا ما اشترَطَه النحاةُ كُلُّهم في عملِ "لا" عمَلَ إِنَّ, من وُجوبِ تنكيرِ معمولِها، وأيضاً فإنَّ ما بعدَ"إلاَّ" في هذهِ الجملةِ مُثْبَتٌ، وقد عَلِمْتُ أنَّ (لا) النافيةَ للجنسِ لا تَعمَلُ في مُثْبَتٍ، فإتْباعُكَ على لفظِ المَتْبوعِ الذي هو أثَرُ عملِ"لا" يَجُرُّكَ إلى مخالفةِ هذا الأصلِ زِيادةً على أنَّه جَرَّكَ إلى المخالفةِ الأولى، ومن أجْلِ هذا وذاكَ مَنَعْناكَ من أنْ تُبْدِلَ لفظَ الجلالةِ على لفظِ المُبْدَلِ منه, وهو اسم "لا"، وجَوَّزْنا لكَ أنْ تُبْدِلَ على الموضِعِ؛ لأنَّه ليسَ أثَراً من آثارِ"لا", فيَلْزَمُ فيه ما لَزِمَ في مَعْمولِ "لا"؛ وذلك أنَّ اسمَ "لا" أصلُه مبتدأٌ، والمبتدأُ مرفوعٌ بالابتداءِ، فلو أبْدَلْتَ لفظَ الجلالةِ بالرَّفعِ لم تَكُنْ جَعَلتَ لـ"لا" فيهِ عَمَلاًٍ، وعلى ما يَقولُ سِيبَوَيْهِ: إنَّ"لا" واسمَها جَمِيعاً في قوَّةِ المبتدأِ. فالموضِعُ ههنا رفعٌ بالابتداءِ على واحدٍ من الوجهيْنِ، وليسَ لـ"لا" أثرٌ فيه، فأُبْدِلَ بالرفْعِ على الموضِعِ، ومن العلماءِ مَن أنكَرَ الإبدالَ بالرفْعِ على اعتبارِ الابتداءِ، سواءٌ أنَظَرْنا إلى اسمِ "لا" وحْدَه,وأنَّ أصلَه مبتدأٌ، أو نظَرْنا إلى مجموعِ "لا" معَ اسمِها؛ كما هو رَأْيُ سِيبَوَيْهِ، وهؤلاءِ جَعَلُوا المُبْدَلَ منه هو الضميرَ المُستتِرَ في خَبَرِ "لا"، ومُؤَدَّى العبارةِ: لاَ إِلَهَ لنا إلاَّ اللهُ، أو: لاَ إِلَهَ مَوْجودٌ إِلاَّ اللهُ، أو لا مُسْتَحِقَّ للعبادةِ إلا اللهُ. فقَدْ نفَتْ جُملةُ"لا" واسمِها وخَبَرِها جنسَ الآلهةِ، وأُثْبِتَ البَدَلُ اللهِ وحْدَه، فبَقِيَ الكلامُ دَالاًّ على التوحيدِ.
وأمَّا المثالُ الثاني – وهو قولُنا: (مَا فِيهَا أحَدٌ إلاَّ زَيْدٌ) – فإنَّ المُستثنَى منه في هذا المثالِ– وهو "أحَدٌ"– نكرةٌ منفيَّةٌ مجرورةٌ بمِن الزائدةِ لفظاً، وهي مبتدأٌ, خبرُها الجارُّ والمجرورُ الواقعُ بعدَ حرفِ النفيِ, فلو أنَّكَ أبْدَلْتَ زيداً المعرفةَ بالعلميَّةِ مِن أحدٍ على لفظِه – وهو الجَرُّ بمِن – لكنْتَ قد جَعَلْتَ زَيْداً العلمَ مَعْمولاًلمِن الزائدةِ العاملةِ في "أحدٌ" المُبْدَلِ منه، ونحنُ نَعلَمُ أنَّ"مِن" الزائدةِ لا تدخُلُ إلاَّ على النكرةِ، ونَعلَمُ أيضاً أنَّ ما بعدَ إِلاَّ مُثبَتٌ؛ لأنَّ ما قبلَها مَنْفِيٌّ، ونعلَمُ أنَّ"مِن" الزائدةَ لا تدخُلُ إلاَّ على المنفيِّ، فمِن أجلِ هذا وذاك امتنَعَ الإتباعُ على لفظِ المُبْدَلِ منه, الذي هو أثَرٌ لـ"مِن" الزائدةِ، وجازَ الإتباعُ على الموضِعِ, وهو الرفعُ على الابتداءِ، فإِنَّ الابتداءَ ليسَ أثَراً لمِن الزائدةِ.
وأمَّا المثالُ الثالِثُ – وهو قَوْلُنا، (ليسَ زَيْدٌ بشيءٍ إِلاَّ شَيْئاً لا يُعْبَأُ به) – فإنَّ المُستثنَى منه في هذا المثالِ هو "شيءٍ" المجرورُ بالباءِ الزائدةِ والواقعُ خَبَراً لليسَ، و"شيءٍ" هذا نَكِرَةٌ مَنفيَّةٌ، و"شيئاً" الذي تُرِيدُ أنْ تُبْدِلَه نكرةٌ مُثْبتَةٌ؛ لوُقوعِه بعدَ إِلاَّ المَسْبوقةِ بالنفْيِ، فلو أنَّكَ أبْدَلْتَ "شيئاً" الواقعَ بعدَ إِلاَّ من "شيءٍ" المجرورِ بالباءِ على اللفظِ, وهو الجرُّ, كنتَ قدْ جعَلْتَ البَدَلَ معمولاً للباءِ الزائدةِ، وقدْ عَلِمْنا أنَّ الباءَ الزائدةَ لا تدخُلُ إلا على النكرةِ المنفيَّةِ، والبدَلُ هنا وإنْ كانَ نكرةً ليسَ مَنْفِيًّا، فوجَبَ ألاَّ تُبْدِلَ على اللفظِ الذي هو أثَرٌ للباءِ الزائدةِ، وأنْ تُبْدِلَ على الموضِعِ, وهو النصْبُ الذي هو أثَرُ ليسَ.
([18]) ضابطُ هذا المثالِ: أنْ يَتقَدَّمَ المُسْتثنَى منه، ويقَعَ المُسْتثنَى بعدَه، ثم يُؤْتَى بصِفَةٍ للمُسْتثنَى منه, ويكونَ الكلامُ غيرَمُوجَبٍ، فرجُلٌ هو المُستثنَى منه، و(إِلاَّ أخوكَ) هو المستثنَى، وصالِحٌ: صِفَةٌ لـ"رجُلٌ"، والكلامُ منفيٌّ كما ترَى، وأنت تعلَمُ أنه لو تَقدَّمَ المستثنَى منه على المستثنَى والكلامُ منفِيٌّ؛ فإنَّ إتباعَ المُسْتثنَى للمستثنَى منه يترجَّحُ على نصْبِ المُستثنَى في هذهِ الحالةِ، وإذا تَقدَّمَ المُستثنَى على المُستثنَى منه في مثلِ هذهِ الحالةِ نحوُ: (مَالِي إِلاَّ أخَاكَ صَدِيقٌ), وجَبَ نصْبُ المُستثنَى، فهل يُعْتَبَرُ تقديمُ المُستثنَى على وصْفِ المُسْتثنَى منه كتقديمِ المُستثنَى على المُستثنَى منه نفسِه؟ أم يُنْظَرُ إلى تقديمِ المُستثنَى منه, ولا يُلْتَفَتُ إلى الوصفِ المُتأخِّرِ؟ أم يَأْخُذُ حُكماً جديداً, لا هو حكمُ تَأَخُّرِ المُستثنَى منه, ولا هو حُكْمُ تَقَدُّمِه؟ وقد اختَلَفَ النحاةُ في ذلك، ولهم في هذا الموضوعِ ثلاثةُ آراءٍ:
الرأْيُ الأولُ: أنَّه يجِبُ في هذهِ الحالةِ نصْبُ المُستثنَى، وهذا المذهَبُ يَجْعَلُ حُكْمَ تقديمِ المُستثنَى على وصفِ المُستثنَى منه كتَقديمِ المُستثنَى على نفسِ المُستثنَى منه، وهذا الرأْيُ نسَبَه ابنُ الخَبَّازِ إلى المَازِنِيِّ، ولكنَّ المُحقِّقِينَ أنْكَرُوا على ابنِ الخَبَّازِ هذا النقْلَ.
والرأْيُ الثاني: أنَّه يَكونُ نصْبُ المُستثنَى في هذهِ الحالةِ رَاجِحاً على إتْباعِ المُسْتثنَى للمُسْتثنَى منه، فلم يُعْطَ المُسْتثنَى في هذهِ الحالةِ حُكْمَ المُستثنَى المُتقدِّمِ على المُستثنَى منه نَفْسِه، ولم يُعْطَ حُكْمَ المُستثنَى المُتأخِّرِ على المُسْتثنَى منه، وهذا الرأْيُ هو ما حَكاهُ الأثباتُ– ومنهم المُؤلِّفُ– عن المَازِنِيِّ، وهو ما اختارَه المُبرِّدُ أيضاً فيما ذكَرَه ابنُ مَالِكٍ في شرحِ كَافيتِه.
والرأْيُ الثالثُ: أنَّه لا يَترَجَّحُ المُسْتثنَى في هذهِ الحالةِ، ولا يَترَجَّحُ إتباعُه للمُسْتثنَى منه، بل يَسْتَوِي الأمرانِ، وأصحابُ هذا الرأْيِ نظَرُوا إلى الأمريْنِ جَمِيعاً: أنَّ المُسْتثنَى منه مُتقَدِّمٌ على المُستثنَى، وأنَّ صِفَةَ المُسْتثنَى منه مُتأخِّرَةٌ عن المُستثنَى، فأعْطَوْا كلَّ واحدٍ من الأمرينِ لَمْحَةً من النظرِ، فلَمَّا وَجَدوا كلَّ واحدٍ من هذيْنِ الأمريْنِ يَقْتَضِي حُكْماً يُخالِفُ الحُكْمَ الذي يَقْتَضِيهِ الآخَرُ، أعْطَوْا هذهِ الصورةَ حُكْماً مُتوَسِّطاً. قالَ ابنُ مالِكٍ: (وعندِي أنَّ النصْبَ والبدَلَ عندَ ذلكَ مستويانِ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ منهما مُرَجِّحاً، فتَكَافَآ) اهـ.
([19]) سورة النساءِ، الآية: 157.
([20]) 261-هذا البيتُ قِطْعَةٌ من الرَّجَزِ لعامرِ بنِ الحارثِ، المعروفِ بجِرانِ العَوْدِ، وهذه روايةُ النحاةِ، وهي غيرُ الواردِ في ديوانِه.
اللغةُ: (اليَعافِيرُ): جمعُ يَعْفورٍ، وهو وَلَدُ البقرةِ الوَحْشيَّةِ، والعِيسُ، جمعُ أَعْيَسَ أو عَيْسَاءَ، وهي الإبِلُ البيضُ, يُخالِطُ بَياضَها شيءٌ مِن الشُّقْرَةِ.
الإعرابُ: (وبَلْدَةٍ) الواوُ واوُ رُبَّ، بلدةٍ: مبتدأٌ مرفوعٌ بضمَّةٍ مُقدَّرَةٍ على آخرِه, منَعَ ظُهورَها اشتغالُ المَحلِّ بحركةِ حرفِ الجرِّ الزائدِ, (ليسَ) فعلٌ ماضٍ ناقصٌ, (بها) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ, خَبَرُ ليسَ تقدَّمَ على اسمِه, (أَنِيسُ) اسمُ ليسَ تأخَّرَ عن خَبَرِه مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ, (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ, حَرْفٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (اليَعافِيرُ) بدَلٌ من "أَنِيسُ"، وبدَلُ المرفوعِ مرفوعٌ, وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، وستعرِفُ وجْهَهُ في بيانِ الاستشهادِ بالبيتِ, (وإِلاَّ) الواوُ حرفُ عطفٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، إِلاَّ: حرفٌ زائدٌ للتأكيدِ, مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (العِيسُ) معطوفٌ بالواوِ على "اليَعافِيرُ"، والمعطوفُ على المرفوعِ مرفوعٌ, وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (إِلاَّ اليعافِيرُ). فإنَّ ظَاهِرَه أنَّه استثناءٌ مُنقطِعٌ تقدَّمَ فيه المُستثنَى منه، فكانَ يَنْبغِي انتصابُه على المشهورِ من لغاتِ العربِ, وهي لغةُ أهلِ الحجازِ، إلاَّ أنه ورَدَ مرفوعاً، وقدْ وَجَّهَه سِيبَوَيْهِ رَحِمَه اللهُ؛ ليُوافِقَ المشهورَ بوجهيْنِ:
الأولُ: أنه جعَلَه كالاستثناءِ المُفرَّغِ، وجعَلَ ذِكْرَ المُستثنَى منه مُساوِياً في هذه الحالِ لعَدَمِ ذكرِه، من جِهَةِ أنَّ المعنَى على ذلك، فكأنَّه قالَ: ليسَ بها إلاَّ اليَعافِيرُ.
والوجْهُ الثاني: أنَّه تَوسَّعَ في معنَى المُستثنَى حتى جعَلَه نوعاً من المُستثنَى منه، وكأنَّ مَن قالَ: ليسَ فيها أحَدٌ إلاَّ حِمَارٌ. قد جعَلَ الحمارَ إنسانُ هذه الدارِ، فحَمَلَه على المَحْمَلِ الذي يُحْمَلُ عليهِ الاستثناءُ المُتَّصِلُ؛ كما جعَلَ الشاعرُ الضَّرْبَ الوَجِيعَ نَوْعاً من التحيَّةِ في قولِه:
وخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بخَيْلٍ = تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
وكما جعَلُوا السيفَ ضَرْباً من العِتابِ في قولِهم: (عِتَابُهُ السَّيْفُ). وليسَ هذا الكلامُ على التشبيهِ، فإنَّ مَن قالَ: (تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ). لا يُرِيدُ أنْ يُشَبِّهَ التحيَّةَ بالضربِ، ومَن قالَ: (عِتَابُهُ السَّيْفُ). لا يُرِيدُ أنْ يُشَبِّهَ العتابَ بالسيفِ، وآيةُ ذلك أنَّكَ لو قُلْتَ: (تَحِيَّتُهُمْ كالضَّربِ), و: (عِتَابُه السَّيْفُ). كانَ كلاماً غَثًّا لا مُحَصِّلَ له، وإنَّما يُرِيدُ قائِلُ ذلك أنْ يجعَلَ التحيَّةَ أنواعاً، ويجعَلَ الضربَ الوَجِيعَ نَوْعاً منها، ويُرِيدُ الآخَرُ أنْ يجعَلَ العِتَابَ أنواعاً، ويجَعَلَ السَّيْفَ نَوْعاً منه، وهذا يُقَرِّبُ لك التوَسُّعَ الذي ذكَرَه سِيبَوَيْهِ حتى جعَلَ اليعافيرَ والعِيسَ نَوْعاً من الأنيسِ، والتوَسُّعَ الذي ذكَرَه المازنيُّ حتَّى جعَلَ الأنيسَ عَامًّا يشمَلُ الإنسانَ ويشمَلُ اليَعافيرَ والعِيسَ.
ونظيرُ بيتِ الشاهدِ قولُ النابغةِ الذُّبْيانيِّ في دالِيَّتِه الطويلةِ:
وَقَفْتُ فِيهَا أَصِيلاً كَيْ أُسائِلَها = عَيَّتْ جَوَاباً، ومَا بالرَّبْعِ مِن أحَدِ
إلاَّ أَوارِيَّ لأْياً مَا أُبَيِّنُها = والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
وقولُ ضِرارِ بنِ الأزْوَرِ الأسَدِيِّ الصحابِيِّ:
عَشِيَّةَ لا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَها = وَلاَ النَّبْلُ إِلاَّ المَشْرِفِيَّ المُصَمِّمُ
وقد ذكَرَ فيهِ أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ– نقْلاً عن المازنيِّ– تخريجاً ثالثاً، قالَ: (رفْعُ المُستثنَى عندَ بني تميمٍ في هذا على تأويليْنِ ذكَرَهما سِيبَوَيْهِ. وقالَ المازنِيُّ: إنَّ فيهِ وَجْهاً ثالثاً، وهو أنَّه خَلَطَ ما يَعْقِلُ بما لا يَعْقِلُ, فعَبَّرَ عن جَماعةِ ذلك بأحَدٍ، ثم أبْدَلَ حِماراً مِن لفظٍ مُشتمِلٍ عليه وعلى غيرِه). اهـ.
والفرقُ بينَ هذا الوجْهِ الذي نقَلَه أبو سعيدٍ عن المازنيِّ والوَجْهِ الثاني في كَلامِ سِيبَوَيْهِ: أنَّ التوَسُّعَ الذي عندَ سِيبَوَيْهِ واقِعٌ في البدلِ، فقد تَجَوَّزَ المُتكلِّمُ في المُستثنَى حتى جعَلَه من جنسِ المُستثنَى منه، لمعنًى فيه عندَه، والمُستثنَى منه باقٍ عندَه على معناه الأولِ، ففي بيتِ الشاهدِجعَلَ اليعافيرَ والعِيسَ من جنسِ الأنيسِ، وأمَّا التوَسُّعُ الذي في كلامِ المازنيِّ ففي المُسْتثنَى منه؛ فإنَّه جعَلَ الأنيسَ بمعنًى أعَمَّ من معناه الأولِ؛ حتى صارَ يَشْمَلُ المُستثنَى، فصارَ الكلامُ كأنَّه استثناءٌ مُتَّصِلٌ بعدَ كلامٍ منفِيٍّ.
والحاصلُأنَّ لإبدالِ المُستثنَى من المُستثنَى منه عندَ بني تميمٍ ثلاثةَ: تَخْريجاتٍ: اعتبارُ المُسْتثنَى منه كأنَّه غيرُ موجودٍ، وكأنَّ الاستثناءَ مُفَرَّغٌ، والتوَسُّعُ في المُستثنَى، والتوسُّعُ في المُسْتثنَى منه، وكأنَّ الاستثناءَ على هذيْنِ استثناءٌ مُتَّصِلٌ.
([21]) سورةُ النمْلِ، الآية: 65، وحاصِلُ إعرابِ الزَّمَخْشرِيِّ أنه يجعَلُ (مَن) اسماً موصولاً في مَحلِّ رفعٍ, فاعِلُ يعَلَمُ، والغيبَ: مفعولاً بهِ ليَعْلَمُ، ولفظُ الجلالةِ بَدَلاً من (مَن) الموصولةِ، وهو استثناءٌ مُنقطِعٌ؛ لأنَّ المُسْتثنَى – وهو لفظُ الجلالةِ– ليسَ من جنسِ المُستثنَى منه؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يَحْوِيهِ مَكانٌ، و{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} يدُلُّ على أنَّ المقصودِينَ مُستقِرُّونَ في السماواتِ والأرضِ.
وقد اعترَضَ العلماءُ على هذا التخريجِ بأنَّ القِراءةَ في هذهِ الآيةِ برَفْعِ لفظِ الجلالةِ قِراءَةُ القُرَّاءِ السبْعةِ، ورفْعُ المُستثنَى في مثلِ هذهِ الحالةِ؛ وهي الاستثناءُ المُنقطِعُ, وجهٌ ضَعِيفٌ في العربيَّةِ، ولا شَكَّ أنَّ مِمَّا لا ينبغي لفحولِ العلماءِ أنْ يُخَرِّجُوا قراءةَ القُرَّاءِ السبْعةِ على وَجْهٍ ضَعِيفٍ.
ومِن أجْلِ هذا تَلَمَّسَ العلماءُ وَجْهاً آخرَ غَيْرَ الوَجْهِ الذي ذكَرَه الزَّمَخْشَرِيُّ.
فذهَبَ العلامَّةُ الصَّفَاقسِيُّ إلى أنَّ الاستثناءَ مُتصِلٌ، والمُستثنَى في الآيةِ من جنسِ المُستثنَى منه، غيرَ أنَّ المَخلوقِينَ مُستقِرُّونَ في السماواتِ والأرضِ على وَجْهِ الحقيقةِ, فالظرفيَّةُ التي يدُلُّ عليها لفظُ (فِي) بالنسبةِ إليهم ظرفيَّةٌ حقيقيَّةٌ، وهي بالنسبةِ إلى اللهِ تعالى ظرفيَّةٌ مَجازِيَّةٌ، وإذا كانَ الأمرُ كذلك كانَ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ} شاملاً للمخلوقِينَ وللهِ تعالى، فيَكونُ إلاَّ للهِ بعضُ ما شَمِلَهم المُستثنَى منه، فيكونُ الاستثناءُ مُتَّصِلاً، ومتى كانَ الاستثناءُ مُتَّصِلاً، والكلامُ تَامٌّ مَنْفِيٌّ، كانَ الإتباعُ أرْجَحَ الوجهيْنِ، فالآيةُ الكريمةُ– على هذا التخريجِ– جاريةٌ على أرجْحِ الوجهيْنِ في العربيَّةِ.
واعتُرِضَ على هذا التوجيهِ بأنَّ فيهِ الجَمْعَ بينَ الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ، وهذا ظاهرٌ من تَقْرِيرِنا للكلامِ، وقد عَلِمْنا أنَّ الجمعَ في كلمةٍ وَاحِدَةٍ بينَ الحقيقةِ والمجازِ– بأنْ تُرِيدَ منها المعنَى الذي تَدُلُّ عليه بالوضْعِ وتُرِيدَ منها, معَ ذلك, مَعْنًى مَجازِياً– مِمَّا لا يُجِيزُه كثيرٌ من العلماءِ؛ لكونِهم يَشترِطونَ في المجازِ أنْ تكُونَ معَه قرينةٌ تَمنَعُ من إرادةِ المعنَى الحقيقيِّ. وكيفَ تُرادُ الحقيقةُ من اللفظِ في حينِ أنَّ المجازَ مُرادٌ معَ هذا الاشتراطِ!
وأجابَ قَوْمٌ بأنَّ هذا التخريجَ جَارٍ على مذهَبِ مَن يُجِيزُ الجمعَ في الكلمةِ الواحدةِ بينَ الحقيقةِ والمجازِ؛ لأنَّ هؤلاء لا يَشترِطونَ في المجازِ أنْ تكُونَ له قَرِينةٌ مَانعةٌ من إرادةِ المعنَى الحقيقيِّ، وهم الشافعيُّ وأتباعُه.
واختارَ ابنُ مالكٍ رَحِمَه اللهُ وَجْهاً آخرَ في الآيةِ، وحاصِلُه أنَّ صِلَةَ (مَن) الموصولةِ محذوفةٌ, وتقديرُها: (مَن يُذْكَرُ في السماواتِ والأرْضِ) وليسَتِ الصلةُ هي المُتعَلِّقَ العامَّ الذي يدُلُّ عليهِ الجارُّ والمجرورُ, وهو (فِي السَّمَاوَاتِ والأرضِ), والاستثناءُ على هذا الوجْهِ مُتَّصِلٌ، والمعنَى مُسْتقيِمٌ، ولكنْ أينَ الدليلُ على الصلةِ المحذوفةِ؟!
واختَارَ ابنُ هِشَامٍ فِي (مُغْنِي اللَّبِيبِ) وَجْهاً آخرَ غيرَ هذهِ الوجوهِ كُلِّها، وحاصلُه أنَّ (مَن) الموصولةَ مفعولٌ به ليَعْلَمُ، وليسَتْ فاعلاً, كما هي في جميعِ الوجوهِ السابقةِ، والغَيْبَ: بدَلُ اشتمالٍ مِن (مَن), ولفظُ الجلالةِ فَاعِلُ يعلَمُ، والاستثناءُ على هذا الوَجْهِ مُفَرَّغٌ، وكأنَّه قِيلَ: لا يعَلَمُ الغيبَ إلاَّ اللهُ، ولكنَّ بدَلَ الاشتمالِ خالٍ من ضميرٍ يَعودُ على المُبدَلِ منه، وقد عَلِمْنا أنه يَجِبُ في بَدَلِ الاشتمالِ أنْ يكُونَ مُضافاً إلى ضميرٍ يَعودُ على المُبْدَلِ منه.
([22]) أُبادِرُ هنا فأقولُ لكَ: إنَّ مرادَ المُصنِّفِ بقولِه: (مُطْلقاً). في هذا الموضعِ أنَّه يَسْتَوِي في هذا الموضعِ الاستثناءُ الُمَّتصِلُ نحوُ: (مَا قامَ إِلاَّ زَيْداً أحَدٌ), ومنه الشاهدُ (رَقْمُ 262), والاستثناءُ المُنقطِعُ نحوُ: (مَا فِي الدَّارِ إِلاَّ حِماراً أحَدٌ) بعدَ أنْ يكُونَ الكلامُ مَنْفيًّا، ومتى كانَ الأمرُ على هذا, فقولُ المُؤلِّفِ فيما بعدَ إنشادِ البيتِ: (وبعضُهم يُجِيزُ غيرَ النصْبِ فِي المَسْبُوقِ بالنَّفْيِ). لا معنًى له، نعني أنَّ قولَه: (فِي المَسْبُوقِ بالنفْيِ) لا مُحصِّلَ له, ولا حاجةَ إليه؛ لأنَّ فرْضَ الموضوعِ أنَّ الكلامَ غيرُ مُوجَبٍ، وعُذْرُه في ذِكْرِه أنَّه تبِعَ الناظِمَ في قولِه:
*وغَيْرُ نَصْبٍ سَابِقٍ فِي النفْيِ قَدْ يَأْتِي*
ثم أقولُ لك: إنَّ صُورَ تقديمِ المُستثنَى ثلاثُ صُورٍ:
الصورةُ الأولى: تَقْدِيمُ المُستثنَى على المُسْتثنَى منه وحْدَه، نعني أنَّ ذلك حاصِلٌ معَ تَقدُّمِ العاملِ في المُستثنَى منه، نحوُ: (مَا قَامَ إِلاَّ زَيْداً أحَدٌ، ومَا أكْرَمْتُ إلاَّ زَيْداً أحَدٌ، ومَا مَرَرْتُ إِلاَّ زيداً بأحدٍ), وهذه الصورةُ قد اتَّفَقَ البصْرِيُّونَ والكُوفِيُّونَ على جَوازِها، وهي مَحَلُّ الكلامِ الذي وضَعَ المُؤلِّفُ له هذا الفصْلَ.
الصورةُ الثانيةُ: أنْ يَتقَدَّمَ المُسْتثنَى على العاملِ في المُسْتثنَى منه وحْدَه، نعني أنَّ ذلك حاصِلٌ معَ تَقَدُّمِ المُسْتثنَى منه على المُسْتثنَى، نحوُ: (القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً أكْرَمْتُ), بنصْبِ القومِ على أنَّه مفعولٌ بهِ لأكْرَمْتُ المُتأخِّرِ، وفي هذه الصورةِ يَختلِفُ النحاةُ، ولهم في ذلك ثلاثةُ أقوالٍ:
الأولُ: أنَّه يجوزُ تقديمُ المُستثنَى على العاملِ في المُستثنَى به, بشرطِ تَقدُّمِ المُستثنَى منه مُطْلقاً، أي: سواءٌ كانَ العاملُ في المُستثنَى منه مُتصَرِّفاً؛ كقولِكَ: (إخوتُكَ إِلاَّ عَلِيًّا زَارُونِي أَمْسِ). أمْ كانَ العامِلُ في المُستثنَى منه جَامِداً نحوُ قولِكَ: (أصْدِقَاؤُكَ إِلاَّ خَالِداً عَسَى أَنْ يُفْلِحُوا).
والقولُ الثاني: لا يَجوزُ مُطْلقاً، والقولُ الثالِثُ: يَجوزُ إذا كانَ العامِلُ مُتصَرِّفاً كالمثالِ الأوَّلِ، ويَمْتَنِعُ إذا كانَ العامِلُ جامداً، وهذا التفصيلُ هو القولُ الصحيحُ الخليقُ بأنْ تَأْخُذَ به؛ لوجهَيْنِ:
أَوَّلُهما: أنَّ العاملَ الجامِدَ لا يَتصَرَّفُ في نفسِه، فلا يَصِحُّ التصَرُّفُ في معمولِه بتقديمِه عليه.
وثانيهما: أنَّ السَّماعَ إِنَّما وَرَدَ بتقديمِ المُستثنَى على العاملِ المُتصَرِّفِ, نحوُ قولِ لَبِيدِ بنِ رَبِيعةَ العَامِرِيِّ:
ألاَّ كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهُ بَاطِلُ = وكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ
الصورةُ الثالثةُ: أنْ يَتقدَّمَ المُستثنَى على المُستثنَى منه وعلى العاملِ جَمِيعاً، نحوُ قولِكَ: (إِلاَّ زَيْداً لَمْ يَحْضُرِ القَوْمُ). وقولِكَ: (إِلاَّ خَالِداً أكْرَمْتُ القَوْمُ). وقد اختَلَفَ في هذهِ الصورةِ الكُوفِيُّونَ والبصْرِيُّونَ، فقالَ البصْرِيُّونَ: لا يَجوزُ أنْ يَتقدَّمَ المُستثنَى على المُستثنَى منه وعلى العاملِ جَمِيعاً, بحيثُ يقَعُ المُستثنَى في أوَّلِ الكلامِ، قالوا: لأنَّ (إِلاَّ) تُشْبِهُ (لا) العاطفةَ، و"لا" العاطفةُ لا تقَعُ في أوَّلِ الكلامِ، وقالَ الكِسائيُّ والكُوفِيُّونَ: يَجوزُ تقديمُ المُستثنَى على المُستثنَى منه وعلى العاملِ؛ لأنَّ ذلك وَارِدٌ عن العربِ في مثلِ قَوْلِ الشاعرِ:
خَلاَ اللهِ لا أرْجُو سِوَاكَ، وإِنَّما = أعُدُّ عِيالِي شُعْبَةً مِن عِيَالِكَا
([23]) 262-هذا البيتُ للكُمَّيْتِ بنِ زيدٍ الأسديِّ، من قصيدةٍ له هاشميَّةٍ، يَمْدَحُ فيها آلَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ومَطْلِعُ القصيدةِ التي منها الشاهدُ قولُه:
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إِلَى البِيضِ أَطْرَبُ = وَلاَ لَعِباً مِنِّي، وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
ولَمْ يُلْهِنِي دَارٌ ولا رَسْمُ مَنْزِلٍ = ولَمْ يَتَطَرَّبْنِي بَنَانٌ مُخَضَّبُ
اللغةُ: (طَرِبْتُ) فعلٌ ماضٍ من الطَّرَبِ، وهو خِفَّةٌ تَعْتَرِي القلْبَ من حُزْنٍ أو لَهْوٍ أو نحوِهما, (البيضِ) جَمْعُ بَيْضاءَ، وهي المرأةُ النقِيَّةُ اللونِ، والنحاةُ يَستشهِدونَ بهذا البيتِ على جوازِ حَذْفِ همزةِ الاستفهامِ؛ فإنَّقولَه: (وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ) على معنَى: أو ذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ! بدَليلٍ ورَوَدَ روايةً أخْرَى (أَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ) ومِمَّن اسْتَشْهَدَ به على ذلك ابنُ هِشَامٍ في (مُغْنِي اللَّبِيبِ), (يُلْهِنِي) مُضارعٌ مَاضِيهِ ألْهَاهُ، واللَّهْوُ: أنْ تَدَعَ الشيءَ وتَرْفُضَه، تقولُ: لَهَيْتُ عن كَذَا ألْهَى – بوزنِ رَضِيتُ أَرْضَى – وتقولُ: لَهَيْتُ، ولَهَوْتُ – مثلُ– رَمَيْتُ وغَزَوْتُ– وقولُه في بيتِ الشاهدِ: (مَذْهَبَ الحقِّ) هو طريقُه الذي يَسْلُكُه الذاهِبِ إليه، ويُرْوَى في مكانِه: (مَشْعَبِ الحَقِّ) وهو بوَزْنِه ومعناه.
الإعرابُ: (ما) نافيةٌ, (لي) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خَبرٌ مُقدَّمٌ, (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ حَرْفٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له, (آلَ) مُسْتثنَى تَقَدَّمَ على المُستثنَى منه, منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، و"آلَ" مُضافٌ, و(أحمدَ) مضافٌ إليهِ مَجْرورٌ بالفتحةِ نيابةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه مَمْنوعٌ من الصرفِ للعَلَمِيَّةِ ووزنِ الفِعْلِ, (شِيعةٌ) مبتدأٌ مُؤخَّرٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وهو المُستثنَى منه المُتأخِّرُ, (وما) الواوُ حرفُ عطفٍ، ما: نافِيَةٌ, (لي) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خَبرٌ مُقدَّمٌ, (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ, (مَذْهَبَ) مُسْتثنَى تَقدَّمَ على المُستثنَى منه منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وهو مضافٌ و(الحَقِّ) مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ, (مذهَبُ) مبتدأٌ مُؤخَّرٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، وهو المُستثنَى منه المتأخِّرِ.
الشاهدُ فيه قولُه: (مَالِي إِلاَّ آلَ أحمدَ). و: (مَالِي إِلاَّ مذهَبَ الحقِّ) فإنَّ في كُلِّ واحدةٍ من هاتيْنِ العبارتيْنِ مُسْتثنًى تَقَدَّمَ على مُسْتثنًى منه, والمُستثنَى إذا تَقدَّمَ على المُستثنَى منه، لم يَكُنْ فيه إلاَّ وَجْهٌ واحدٌ، وهو نَصْبُ المُستثنَى، وهو في هذا الشاهدِ قَدْ جاءَ بالعبارتيْنِ على ما تَقْتضيهِ العربيَّةُ فنَصَبَ المُستثنَى في الموضعيْنِ.
وإنَّما لم يَكُنْ في المُستثنَى المُتقَدِّمِ على المُستثنَى منه إلاَّ النصْبُ – سواءٌ أكانَ الكلامُ مُوجَباً أم كانَ مَنْفِيًّا – لأنَّه لو لم يُنْصَبْ على الاستثناءِ لَكانَ بَدَلاً؛ إذْ لا ثالِثَ لهذيْنِ الوجهيْنِ، والبدَلُ تابِعٌ، والتابِعُ لا يَجوزُ أنْ يَتقَدَّمَ على المَتْبوعِ، فيَكونَ تقديمُ المُستثنَى مَانِعاً من إعرابِه بَدَلاً لهذهِ العِلَّةِ، فلم يَبْقَ إِلاَّ الوَجْهُ الآخَرُ، وهو نَصْبُه على الاستثناءِ، فافْهَمْ هذا وتَدَبَّرْ.
وأصْلُ نَظْمِ البيتِ: ومالي شِيعَةٌ إلاَّ آلَ أحْمَدَ، ومالي مَذْهَبٌ إِلاَّ مَذْهَبَ الحقِّ، فقَدَّمَ المُستثنَى في الموضعيْنِ على المُستثنَى منه، فوَجَبَ نَصْبُه على ما عَلِمْتَ.
ومثلُ بيتِ الشاهدِ قولُ ذِي الرُّمَّةِ (الديوان 24).
مُقَزَّعٌ أطْلَسُ الأطمارِ لَيْسَ لَهُ = إِلاَّ الضَّرَاءَ وإِلاَّ صَيْدَها نَشَبُ
ومثلُ قولِ الآخرِ:
الناسُ إلْبٌ علينا فيكَ ليسَ لَنَا = إِلاَّ السُّيوفَ وأطرافَ القَنَا وَزَرُ
ومثلُه قولُ هُذَيْلٍ الأشْجَعِيِّ ورَواهُ في (اللسانِ) (ب ي ض).
ولَكِنَّمَا يَمْضِي لِيَ الحَوْلُ كَامِلاً = ومَالِيَ إِلاَّ الأبيضيْنِ شَرَابُ
ورواهُ صَاحِبُ (التهذيبِ) (12/87) (ومَا لِي إِلاَّ الأبيضانِ شَرَابُ) على غرارِ ما جاءَ في (اللسانِ) والشاهِدُ رَقْمُ 263.
(24) 263-هذا الشاهدُ من كلامِ حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ شَاعِرِ النبيِّ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، وهذا الذي ذكَرَه المُؤلِّفُ عَجُزُ بيتٍ من الطويلِ، وصَدْرُه قولُه:
*لأنَّهُمُ يَرْجُونَ مِنْهُ شَفَاعَةً*
وأولُ هذهِ القصيدةِ قولُه:
أَلاَ يَا لقومِي هَلْ لَمَا حُمَّ دَافِعُ؟ = وهَلْ مَا مَضَى مِن صَالِحِ العَيْشِ رَاجِعُ؟
تَذَكَّرْتُ عَصْراً قَدْ مَضَى فتَهَافَتَتْ = بَنَاتُ الحَشَا وانْهَلَّ مِنِّي المَدَامِعُ
اللغةُ: (حم) قُدِّرَ، تقولُ: (حُمَّ الأمرُ) بالبناءِ للمجهولِ – تُرِيدُ أنَّه قُدِّرَ وهُيِّئَتْ أسبابُه، وتقولُ: (حَمَّهُ اللهُ تَعَالَى، وأحَمَّهُ). تُرِيدُ أنَّه سبحانَه قَدَّرَه وهُيَّأَ له أسبابَه, (تَهَافَتَتْ) تَتَابَعَتْ وتَوَالَتْ وجَرَى بعضُها في أثرِ بعضٍ (بَنَاتُ الحَشَا) أرادَ بها الهمومَ والآلامَ والأحزانَ, (انهَلَّ) انْصَبَّ وسالَ مُتتالِياً, (يَرْجُونَ) يَترَقَّبونَ ويَأْمُلُونَ، والمرادُ بالشفاعةِ شَفَاعتُه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه يومَ القيامةِ، وهي المقامُ المحمودِ الذي وعَدَ اللهُ تعالى به نَبِيَّه في قولِه سبحانَه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}.
الإعرابُ: (لأنَّهُمُ) اللامُ حَرْفُ جرٍّ دالٌّ على التعليلِ مَبنِيٌّ على الكسرِ, لا مَحلَّ له من الإعرابِ، أنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، وضميرُ الغَائِبِينَ اسْمُ "أنَّ" مَبنِيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ، والمِيمُ حَرْفُ عِمَادٍ, (يَرْجُونَ) فعلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ بثُبوتِ النونِ، وواوُ الجماعةِ فاعِلُه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ رفعٍ، والجملةُ من الفعلِ والفاعلِ في مَحلِّ رفعٍ خبرُ "أنَّ" المؤكِّدَةِ، وأنَّ معَ ما دخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مَصْدَرٍ مجرورٍ باللامِ، والجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بقولِه: (مَا بَدَّلُوا) في بيتٍ سابقٍ على بيتِ الشاهدِ, (منه) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بقولِه: يَرْجُونَ. (شَفاعةً) مفعولٌ بهِ لقولِه: يَرْجُونَ. مَنْصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ, (إذا) ظرفٌ لِمَا يُسْتقبَلُ من الزمانِ خَافِضٌ لشرطِه منصوبٌ بجوابِه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ نصبٍ, (لم) حرفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ, (يَكُنْ) فعلٌ مضارعٌ تَامٌّ مجزومٌ بلم, وعلامةُ جَزْمِه السكونُ, (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ حَرْفٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (النَّبِيُّونَ) فاعلُ "يَكُنْ" التامَّةِ مرفوعٌ بالواوِ نيابةً عن الضمَّةِ؛ لأنَّه جمعُ مُذَكَّرٌ سَالِمٌ, (شَافِعُ) بَدَلٌ من فاعلِ يَكُنْ، مرفوعٌ وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ.
الشاهدُ فيه قولُه: (إِلاَّ النَّبِيُّونَ شَافِعُ). فإنَّ ظَاهِرَه أنَّ قولَه: (شَافِعُ) هو المُستثنَى منه، وقولُه: (النَّبِيُّونَ). مُسْتثنًى، وعلى هذا يكونُ قد تَقدَّمَ المُستثنَى على المُستثنَى منه، فكانَ يَنْبَغِي أنْ يَنْتَصِبَ المُستثنَى، للعِلَّةِ التي ذَكَرْناها في شَرْحِ الشاهدِ السابقِ، إِلاَّ أنَّ الرِّوايةَ ورَدَتْ برفعِه، والعلماءُ يُخرِّجونَه على ما ذكَرَه المُؤلِّفُ من أنَّه استثناءٌ مُفرَّغٌ، واعْتَبروا المُستثنَى معمولاً لِمَا قبلَ (إِلاَّ), فهو فاعلٌ ليَكُنْ التامَّةِ، وما بعدَه بدلٌ منه, بدَلُ كُلٍّ من كُلٍّ، وقد أعْرَبْنا البيتَ على هذا الوَجْهِ، وقد ذكَرَ المُؤلِّفُ عِلَّتَه, كما ذكَرَ نَظِيرَه من كلامِ العربِ.
فإنْ قُلْتَ: فكيفَ يكونُ إبدالُ (شَافِعُ) من (النَّبِيُّونَ) من قَبِيلِ بدلِ الكلِّ من الكلِّ، و"شَافِعُ" أعمُّ من النبيِّينَ، ونحنُ لو أبْدَلْنا قولَه: (النَّبيُّونَ) من "شَافِعُ" – لو أنَّ الكلامَ جاءَ على ترتيبِه الطبيعيِّ فقِيلَ (إذا لم يكُنْ شافِعٌ إلاَّ النبيُّونَ) – كانَ مِن قبيلِ بدلِ البعضِ من الكلِّ؟
قُلْتُ: قد كانْ يَلْزَمُنا لو أبقَيْنَا اللفظيْنِ على معناهما الأصْلِيِّ أنْ يكُونَ البدلُ من قَبيلِ بَدَلِ الكلِّ من البعضِ؛ لأنَّ اللفظَ العامَّ قدْ صَارَ بَدَلاً, واللفظَ الخاصَّ قدْ صارَ مُبْدَلاً منه، واللفظَ العامَّ كُلٌّ, واللفظَ الخَاصَّ بعضٌ من هذا الكلِّ، ولكنَّ جَمْهرةَ النحاةِ يُنكِرونَ أنْ يكُونَ هناكَ بَدَلٌ يُعْتَبَرُ بَدَلَ كُلٍّ من بعضٍ، فأمَّا الذين لا يُنكِرونَ هذا النوعَ من البدلِ، ويَسْتدِلُّونَ على صِحَّتِه بأنَّه وَارِدٌ عن العربِ في نحوِ قَوْلِ الشاعرِ:
رَحِمَ اللهُ أعْظُماً دَفَنُوهَا = بسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلُحَاتِ
فإنَّهم يُبْقونَ العامَّ على عُمومِه, والخاصَّ على خصوصِه, ويَجْعَلونَ هذا البَدَلَ بَدَلَ كلٍّ من بعضٍ، وأمَّا الذينَ يُنكِرونَ هذا النوعَ مِن البدلِ؛ فإِنَّهم يَتَخَلَّصونَ من ذلكَ بأنَّ الاسمَ الذي كانَ مُبْدَلاً منه – وهو "شَافِعُ" – لم يَبْقَ على عُمومِه حينَ صارَ بَدَلاً، بل صَارَ خَاصًّا بحيثُ يُساوِي في مَدْلولِه اللفظَ الذي كانَ بَدَلاً فصَارَ مُبْدَلاً منه – وهو قولُه: النَّبِيُّونَ – وإذا تَساوَى البَدَلُ والمُبْدَلُ منه في المدلولِ يَكُونُ البَدَلُ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ، وهذا هو الذي أشارَ المُؤلِّفُ إليه بقولِه: (وأَنَّ المُؤَخَّرَ -يُرِيدُ قَوْلَه: (شَافِعُ)- أُرِيدَ به خاصٌّ، فصَحَّ إبدالُه من المُستثنَى، لكنَّه بَدَلُ كُلٍّ. اهـ.
(25) أصلُ هذهِ العبارةِ: (مَا مَرَرْتُ بأحَدٍ مِثْلِكَ), فقولُهم: (بأحَدٍ). جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمَرَرْتُ، و(مِثْلِكَ) – بالجَرِّ – نَعْتٌ لأحَدٍ، فقَدَّمَ فصارَ الكلامُ (مَا مَرَرْتُ بمِثْلِكَ أحَدٌ). فقولُهم: بمِثْلِكَ. جَارٌّ ومَجْرورٌ يَتعَلَّقُ بمَرَرْتُ، و"أَحَدٍ": بَدَلٌ مِن "مِثْلِكَ"، وقد صارَ في هذهِ العبارةِ الثانيةِ الاسمُ الذي كانَ مَتْبوعا تابِعاً، والاسمُ الذي كانَ تَابِعاً صارَ مَتْبوعاً، وإن اختلَفَ نوعُ تَبَعِيَّتِه، فبعدَ أنْ كانَ التابِعُ في الأصْلِ نَعْتاً صَارَ التابِعُ في العبارةِ الثانيةِ بَدَلاً، فلا عَجَبَ, إذن في أنْ يَتغَيَّرَ نوعُ البَدَلِ فيَصِيرَ بدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ بعدَ أنْ كانَ بَدَلَ بَعْضٍ من كُلٍّ.
(26) اعلَمْ أوَّلاً أنَّ هذه الأحكامَ لا تَخْتَصُّ بنوعٍ من أنواعِ الاستثناءِ، بل تقَعُ في الاستثناءِ المُتَّصِلِ وفي الاستثناءِ المُنقطِعِ وفي الاستثناءِ المُفرَّغِ، وأمثلةُ المُؤلِّفِ تُؤَيِّدُ ذلك، فتمثيلُه بـ: ما جاءَ إِلاَّ زَيْدٌ وإِلاَّ عَمْرٌو, من الاستثناءِ المُفَرَّغِ، والمثالُ الذي أخَذَه من كلامِ الناظمِ والشاهدِ رَقْمِ 264 من الاستثناءِ التامِّ من كلامٍ مَنْفِيٍّ.
ثم اعلَمْ أنَّ التَّكْرارَ للتوكيدِ يَتَأتَّى في العطفِ بالواوِ وفي البَدَلِ بأنواعِه الأربعةِ, التي هي بَدَلُ الكلِّ من الكلِّ وبَدَلِ البعضِ من الكلِّ وبَدَلِ الاشتمالِ وبَدَلِ الغَلَطِ، وعلى هذا الإيضاحِ يَكُونُ في كلامِ المُؤلِّفِ قُصورٌ في مَوضعَيْنِ: الأولُ في كونِه عَمَّمَ في العاطفِ فقَالَ: (وذَلِكَ إِذَا تَلَتْ عَاطِفاً). معَ أنَّ الحكمَ المَذْكورَ – كما نَصَّ عليه المُحقِّقونَ – قاصِرٌ على العَطْفِ بالواوِ.
والثاني كونُه خَصَّ البَدَلَ بما كانَ الثاني مُماثِلاً للأوَّلِ, وهو بَدَلُ الكلِّ من الكلِّ معَ أنَّ الحُكْمَ عامٌّ في جميعِ أنواعِ البَدَلِ كما قُلْنَا، فمثالُ بَدَلِ الكلِّ من الكلِّ: (لا تَمْرُرْ بِهِمْ إِلاَّ الفَتَى إِلاَّ العَلاَ), فالفَتَى مُسْتثنًى من الضميرِ المجرورِ بالباءِ في قولِه: (بِهِمْ). والعَلاَ: بَدَلٌ مِنَ الفَتَى، وهو بَدَلُ كلٍّ مِن كُلٍّ، ومثالُ بَدَلِ البعضِ من الكلِّ: "مَا أعْجَبَنِي أحَدٌ إِلاَّ زَيْدٌ إِلاَّ وَجْهُهُ" فزَيْدٌ: مُسْتثنًى من "أحَدٌ"، ووَجْهُهُ: بَدَلٌ من زَيْدٍ، وهو بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، ومثالُ بَدَلِ الاشتمالِ قَوْلُكَ: "ما سَرَّنِي أحَدٌ إِلاَّ زَيْدٌ إِلاَّ أدَبُه" فزَيْدٌ: مُسْتثنًى من "أحدٌ"، وأدَبُه: بَدَلٌ مِن زَيْدٍ، وهو بَدَلُ اشتمالٍ، ومثالُ بَدَلِ الغَلَطِ قَوْلُكَ: "مَا أعْجَبَنِي إِلاَّ زَيْدٌ إِلاَّ عَمْرٌو". فزَيْدٌ: مُسْتثنًى من "أحَدٌ"، وعمرٌو: بَدَلٌ من "زَيْدٌ"، وهو بَدَلُ غَلَطٍ.
ثم اعْلَمْ ثَالِثاً أنَّه لا فَرْقَ في العطفِ بالواوِ بينَ أنْ يكُونَ المعطوفُ عليه هو المُستثنَى كما في أوَّلِ أمثلةِ المُؤلِّفِ – وهو قولُه: (مَا جَاءَنِي إِلاَّ زَيْدٌ وإِلاَّ عَمْرٌو). وأنْ يكُونَ المعطوفُ عليهِ هو البَدَلَ من المُستثنَى كما في الشاهدِ رَقْمِ 264؛ فإنَّ قولَه: (إِلاَّ رَسِيمُهُ). بدلٌ من قولِه: (إِلاَّ عَمَلُهْ). وقولَه: (وإِلاَّ رَمَلُهْ) معطوفٌ على "رَسِيمُهُ"، والمُؤلِّفُ يقولُ قبلَ إنشادِ البيتِ: (وقَد اجْتَمَعَ العطفُ والبَدَلُ في قولِه).
(27) هذا من كلامِ ابنِ مَالِكٍ في الألفيَّةِ.
(28) يَترَتَّبُ على هذا الأرجحِ حَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ وبقاءُ الاسمِ الذي كانَ مَجْروراً به على جَرِّه في غَيْرِ الموضِعِ القِياسيِّ.
(29) 264-لم أقِفْ لهذا البيتِ على نسبةٍ إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ (1/374), واستشهَدَ به كثيرٌ من النحاةِ، ولم يَنْسُبْه واحدٌ منهم إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ.
اللغةُ: (شَيْخِكَ) المشهورُ الجاري على الألسنةِ في هذه الكلمةِ أنَّها بالياءِ المُثنَّاةِ من تَحْتُ, وبعدَها خاءٌ مُعْجَمَةٌ، وقدْ قِيلَ: لَعَلَّه "شَنْجِكَ". بشِينٍ فنُونٍ فجِيمٍ – والشَّنَجُ: أصلُه بفتحتيْنِ الجَمَلُ، وسُكِّنَ ثانِيهِ في البيتِ لضَرُورةِ إقامةِ الوزنِ، وهذا حَسَنٌ لو أنَّ الروايةَ وَرَدَتْ به، والرسيمُ والرَّمَلُ: ضربانِ من السَّيْرِ، ولَعَلَّ الذينَ زَعَموا أنَّ الروايةَ: "شَنْجِكَ" بالنونِ والجيمِ – قد غَرَّهم ذكرُ الرَّمَلِ والرسيمِ في البيتِ، ولكنَّ الخَطْبَ فيهما سَهْلٌ؛ فإنَّه يُرادُ بهما معنًى مَجازِيٌّ إنْ صَحَّتْ رِوايةُ الجماعةِ، وفَسَّرَ الأعلمَ الرَّسِيمَ بالسعْيِ بينَ الصَّفَا والمَرْوةِ، كما فَسَّرَ الرَّمَلَ بالطوافِ بالبيتِ، وكأنَّ الشاعرَ قَدْ قَالَ: ليسَ في شَيْخِكَ مُنْتَفَعٌ غيرَ هذيْنِ العَمَلَيْنِ.
الإعرابُ: (ما) حرفُ نَفْيٍ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (لَكَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ خَبرٌ مُقدَّمٌ, (من) حَرْفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، و"شَيْخِ" من (شَيْخِكَ) مَجْرورٌ بمِن وعلامةُ جرِّه الكسرةُ الظاهرةُ، والجارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بما تَعلَّقَ به الجارُّ والمجرورُ السابِقُ، و"شَيْخِ" مضافٌ, وضَمِيرُ المُخاطَبِ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ جَرٍّ, (إِلاَّ) أداةُ استثناءٍ مُلْغاةٌ حَرْفٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (عَمَلُهْ) عملُ: مبتدأٌ مُؤخَّرٌ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، و"عَمَلُ" مُضافٌ, وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى شَيْخِكَ مضافٌ إليه مَبنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ جَرٍّ, (إِلاَّ) حرفٌ زائِدٌ، مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ, (رَسِيمُهُ) رسيمُ: بَدَلٌ من "عملُ" الواقعِ مُبْتدأً، وبدَلُ المرفوعِ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، ورَسِيمُ مضافٌ, وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى "شَيْخِكَ" مضافٌ إليهِ, (وإِلاَّ) الواوُ حرفُ عطفٍ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحلَّ له من الإعرابِ، إِلاَّ: حَرْفٌ زَائِدٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له من الإعرابِ, (رَمَلُهْ) رَمَلُ: معطوفٌ على "رَسِيمُ"، والمعطوفُ على المرفوعِ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِه الضمَّةُ الظاهرةُ، ورَمَلُ مضافٌ, وضميرُ الغائبِ العائدُ إلى شَيْخِكَ مضافٌ إليهِ.
الشاهدُ فيه قولُه: (إِلاَّ عَمَلُه، إِلاَّ رَسِيمُهُ وإِلاَّ رَمَلُهْ) فقد كَرَّرَ (إِلاَّ) في هذا الكلامِ مَرَّتَيْنِ: المَرَّةُ الأولى في قولِه: (إِلاَّ رَسِيمُهُ) والرَّسِيمُ: بَدَلٌ من العملِ على مَا اتَّضَحَ لك في إعرابِ البيتِ، والمَرَّةُ الثانيةُ في قولِه: (وَإِلاَّ رَمَلُهْ) والواوُ المُتقَدِّمَةُ على "إلاَّ" عَاطِفَةٌ، والرمَلُ المُتأخِّرُ عن "إلاَّ" معطوفٌ على الاسمِ المرفوعِ قبلَها، وقدْ تَبَيَّنَ ذلك في الإعرابِ، و"إِلاَّ" في الموضعيْنِ زائدةٌ للتأكيدِ على ما قَلْنَا في الإعرابِ أيضاً، فقَدِ اجتمَعَ في هذا الكلامِ النوعانِ اللذانِ تُزَادُ فيهما "إِلاَّ"، وهما العَطْفُ والبَدَلُ.
(30) أجازَ الأبديُّ في هذه الصورةِ رَفْعَ الجميعِ على الإبدالِ.
(31) فَرَّقَ المُحَقِّقُ الرَّضِيُّ بينَ أنْ يكُونَ كلُّ مُستثنًى مِمَّا يُمْكِنُ استثناؤُه مِمَّا قَبلَه وأَلاَّ يَكُونَ بهذهِ المثابةِ، قالَ: وإنْ كَرَّرْتَها لغيرِ توكيدٍ فإِمَّا أنْ يُمْكِنَ استثناءُ كلِّ تالٍ مِن مَتْلُوِّه، أو لا؛ فإنْ أمْكَنَ فإِمَّا أنْ يكُونَ في العددِ أو في غَيْرِه، فالذي في غيرِ العَدَدِ نحوُ: "جَاءَ المَكِّيُّونَ إِلاَّ قُرَيْشاً إِلاَّ هَاشِمِيًّا إلاَّ عُقَيْلِيًّا" في المُوجَبِ، فلا يَجوزُ في كلِّ وَتْرٍ إلاَّ النصبُ على الاستثناءِ؛ لأنه عن مُوجَبٍ، والقياسُ في كلِّ شَفْعٍ جَوازُ الإبدالِ والنصبِ على الاستثناءِ؛ لأنه من غيرِ مُوجَبٍ، والمُستثنَى منه مَذْكورٌ في الحاليْنِ، ونَعْنِي بالوَتْرِ الأولَ من المستثنياتِ والثالِثَ والخامِسَ، وهكذا، ونعني بكلِّ شَفْعٍ الثانِيَ منها والرابعَ والسَّادِسَ، وهكذا، وكانَ كُلُّ وَتْرٍ مَنْفِيًّا؛ لأنَّ الكَلامَ في أَوَّلِه مُوجَبٌ, فأوَّلُ المُسْتثنياتِ مَنْفِيٌّ، فهو خَارِجٌ مِن حُكْمِ ما قبلَ "إِلاَّ"، وكلُّ شَفْعٍ مُوجَبٌ؛ لأنَّنَا حَكَمْنا بأنَّ المُستثنَى الذي قبلَه مَنْفِيٌّ خَارِجٌ، وهذا مُسْتثنًى من هذا المَنْفِيِّ الخارِجِ، فيَكونُ مُثْبتاً دَاخِلاً، فيكونُ في المثالِ الذي ذَكَرْناه قَدْ جَاءَ المَكِّيُّونَ ولم يَجِئِ القُرشِيُّونَ منهم، وجاءَ قومٌ مِن بني هاشمٍ، ولم يَجِئْ عُقَيْلِيٌّ، فالقِياسُ أنَّه يَجوزُ لك في كلِّ وَتْرٍ النصْبُ على الاستثناءِ والإبدالِ؛ لأنَّه مُسْتثنًى من مَنْفِيٍّ، ولا يَجوزُ في كلِّ شَفْعٍ إلا النَّصْبُ على الاستثناءِ؛ لأنَّه مُسْتَثْنًى من مُوجَبٍ، والذي في العَدَدِ المُوجَبِ نَحْوُ: "لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلاَّ سَبْعَةً إِلاَّ خَمْسَةً إِلاَّ ثَلاثَةً" فكلُّ وَتْرٍ مَنْفِيٍّ خَارِجٌ، وكلُّ شَفْعٍ موجَبٍ دَاخِلٌ، والإعرابُ في الشفعِ والوَتْرِ كما مَضَى في مُوجَبِ غيرِ العَدَدِ، وتقولُ في غيرِ المُوجَبِ من العددِ: "مَا لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً إِلاَّ ثَمَانِيَةً إلاَّ سَبْعَةً". فالقياسُ أنْ يكُونَ كلُّ وَتْرٍ دَاخِلاً وكلُّ شَفْعٍ خَارِجاً، والإعرابُ في الشفعِ والوَتْرِ كما في العددِ الذي هو غَيْرُ مُوجَبٍ، هذا هو القياسُ. اهـ بتَصَرُّفٍ للإيضاحِ.