مَعْرِفَةُ أحوالِ الرُّواةِ مِنْ حيثُ العَدالةُ والْجَرْحُ والْجَهالَةُ:
مِن الْمُهِمِّ أيضاً مَعرِفَةُ أحوالِ الرُّواةِ مِنْ حيثُ:
- العَدالةُ.
- أو الْجَرْحُ.
- أو الْمَرْتَبَةُ الوَسَطُ وهيَ (الْجَهَالَةُ).
فَبِلا شَكٍّ أنَّنا حينَما نَعْرِفُ أنَّ هذا الراوِيَ عدْلٌ حافِظٌ، أوْ أنَّهُ مَجْرُوحٌ، سَوَاءٌ في عدالتِهِ أوْ في حِفْظِهِ، فهذا يَنْبَنِي عليهِ مَعْرِفَةُ هذا السَّنَدِ هلْ هوَ صحيحٌ أوْ غيرُ صَحيحٍ؟
وإذا لم نَعْرِفْ ولم يَتَحَدَّدْ هلْ هذا الرجُلُ عَدْلٌ، أمْ مَطْعُونٌ فيهِ؟
فحينَ ذاكَ هذا الراوي يُقَالُ لهُ: (مجهولٌ)، أوْ (مجهولُ الحالِ) على ما سَبَقَ تَفصيلُهُ.
مَعْرِفَةُ مَراتِبِ الْجَرْحِ والتعديلِ:
كذلكَ:
أيضاً مِن الأُمُورِ الْمُهِمَّةِ لطالِبِ العلْمِ مَعرِفَةُ مَراتِبِ الْجَرْحِ والتعديلِ، ومَعرِفَةُ مَراتِبِ الْجَرْحِ والتَّعْدِيلِ هذهِ مِن الأَهَمِّيَّةِ بمكانٍ؛ لأنَّ بها يُمْكِنُ أنْ يَتَحَدَّدَ عندَ طالِبِ العلْمِ هلْ هذا الحديثُ مِنْ أَعْلَى دَرجاتِ الصحيحِ، أوْ مِنْ أَوْسَطِ دَرجاتِ الصحيحِ؟
كما سَبَقَ أنْ مَثَّلْنَا لذلكَ بأَمْثِلَةٍ.
فمَثَلاً:
شُعبةُ، عنْ أبي إسحاقَ، عنْ عَلقمةَ، عن ابنِ مَسعودٍ،هذا مِنْ أَعْلَى دَرجاتِ الصحيحِ.
- حَمَّادُ بنُ سَلمةَ، عنْ ثابتٍ، عنْ أنَسٍ، هذا مِنْ أوْسَطِ دَرجاتِ الصحيحِ.
- العَلاءُ بنُ عبدِ الرحمنِ، عنْ أبيهِ عنْ أبي هُريرةَ،هذا مِنْ أَنْزَلِ دَرجاتِ الصحيحِ.
- كذلكَ:
سُهَيْلُ بنُ أبي صالحٍ، عنْ أبيهِ، عنْ أبي هُريرةَ، هذا مِنْ أَنْزَلِ درجاتِ الصحيحِ.
كذلكَ:
بها نَستطيعُ أنْ نَعْرِفَ هلْ هذا الحديثُ صحيحٌ أوْ حَسَنٌ؟
ولذلكَ نَجِدُ في تحديدِ مَراتِبِ الْجَرْحِ والتعديلِ أنَّ مَراتِبَ الحديثِ الصحيحِ ثلاثةٌ، والحديثَ الحسَنَ يَقَعُ في (الْمَرْتَبَةِ الرابعةِ).
فهنا ثلاثُ مَراتِبَ كُلُّها أصحابُها حديثُهم حَدِيثٌ صحيحٌ، لكنَّ بعضَهم أعْلَى مِنْ بَعْضٍ، والتي تَلِيهَا هيَ مَرْتَبَةُ الحديثِ الحَسَنِ، وهيَ مَرتبةٌ دُونَ ذلكَ.
ثمَّ إذا نَزَلْنَا نَجِدُ مَرتبتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وهما اللَّتَانِ حديثُهما يُعْتَبَرُ مِن الحديثِ الضعيفِ، لكنَّ ضَعْفَهُ ضَعْفٌ يَسيرٌ بحيثُ إذا جاءَ لهُ طريقٌ آخَرُ يَنْجَبِرُ بهِ الضعْفُ، ويُصْبِحُ الحديثُ حَسَناً لغيرِهِ.
كذلكَ:
أيضاً إذا أَتَيْنَا لِمَرَاتِبِ الْجَرْحِ:
- فنَجِدُ أنَّ أَسْوَأَها مَا لا يُؤْبَهُ بحديثِ أصحابِها إطلاقاً، وهم أصحابُ الحديثِ(الْمَوضوعِ).
- وكذلكَ:
التي تَلِيهَا وصَاحِبُها هوَ (الْمَتْرُوكُ).
- وكذلكَ:
التي تَلِيهَا وأصحابُها هم الذينَ أيضاً حديثُهم يَقْرُبُ مِنْ أصحابِ الْمَرتبةِ السابقةِ، وهوَ (الضعيفُ جِدًّا)، ويُقَالُ لهُ: (المتروكُ) أيضاً.
- وهناكَ مَراتِبُ تَلِيهَا.
وقدْ يكونُ هناكَ اختلافٌ بينَ الْمُجْتَهِدِينَ مِن العُلماءِ في تحديدِ أصحابِ كلِّ مَرْتَبَةٍ، فهنا مَراتِبُ ثلاثٌ تَلِيهَا مَرْتَبَتَانِ يُمْكِنُ أنْ يَنْجَبِرَ حديثُهما بِناءً على هذا التقسيمِ.
أمَّا الرابعةُ:
فقدْ يَقْبَلُها قَوْمٌ في الشواهِدِ والْمُتَابَعَاتِ، وقدْ يَرْفُضُها قَومٌ آخَرُونَ.
ومَنْ أَرادَ الاستزادةَ فعليهِ بِمُراجَعَةِ الْمَراتِبِ التي ذَكَرَها الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في مُقَدِّمَةِ كتابِهِ (تَقْرِيبُ التَّهْذِيبِ).
(2) مَراتِبُ الْجَرْحِ:
قولُهُ: (وأَسْوَأُهَا) أيْ: أسوأُ مَراتِبِ الْجَرْحِ:
- الوصْفُ بأَفْعَلَ كَـ(أَكْذَبِ الناسِ).
- أوْ مِثْلُ قولِهم: رُكْنُ الكَذِبِ، أوْ نحوُ ذلكَ، ممَّا يَدُلُّ على الْمُبَالَغَةِ في الوَصْفِ.
- ثمَّ التي تَلِيهَا: دَجَّالٌ أوْ وَضَّاعٌ أوْ كَذَّابٌ، وحُكْمُها حُكْمُ سابِقَتِها.
- ثمَّ التي تَلِيهَا هيَ التي يُقالُ لحديثِهِ: مَتروكٌ، وهوَ الْمُتَّهَمُ بالوَضْعِ، ومَنْ كانَ قريباً منهُ.
وأسهَلُ هذهِ الْمَرَاتِبِ التي هيَ مَراتِبُ الْجَرْحِ كما قالَ الحافظُ:
- لَيِّنٌ.
- أوْ سَيِّئُ الحفْظِ.
- أوْ فيهِ مَقالٌ، فَبِلا شَكٍّ أنَّ هذهِ العباراتِ تُشيرُ إلى أنَّ الراوِيَ عَدْلٌ في نفْسِهِ، لكنَّ الطعْنَ جَاءَ في ضَبْطِهِ وفي حِفْظِهِ، وهذا أَمْرُهُ أَسْهَلُ.
يقولُ: بينَ هذهِ الْمَرَاتِبِ مَراتِبُ بينَ التي هيَ الأَسْهَلُ والتي هيَ الأَعْلَى، فمِنْ جُمْلَةِ هذهِ الْمَرَاتِبِ قَوْلُهم:
- مَتروكٌ.
- أوْ ساقِطٌ.
- أوْ فاحِشُ الغَلَطِ، إلى غيرِ ذلكَ.
(3) مَرَاتِبُ التَّعْدِيلِ:
كذلكَ:
أيضاً مَرَاتِبُ التعديلِ، وأَرْفَعُها الوصْفُ بأفْعَلَ، مِثلُ قَوْلِهم:
- أَوْثَقُ الناسِ.
- أوْ فُلانٌ كأنَّهُ مُصْحَفٌ.
- أوْ فلانٌ لا يُسْأَلُ عنهُ.
- أوْ هوَ يُسْأَلُ عن الناسِ.
أوْ نَحْوُ هذهِ العِباراتِ التي تَدُلُّ على الْمُبَالَغَةِ في التوثيقِ.
وتَلِيهَا دَرَجَةٌ،وهيَ: ما تَأَكَّدَ بصِفةٍ أوْ صِفتَيْنِ.
- فما تَأَكَّدَ بصِفةٍ، كقولِهم: ثِقَةٌ ثِقَةٌ.
- وما تَأَكَّدَ بصِفتَيْنِ، كقولِهم: ثِقَةٌ حافظٌ، فوَصَفَهُ بالحِفْظِ تأكيداً لمسألةِ الثِّقَةِ.
تَلِيهَا ما وُصِفَ دُونَ تأكيدٍ،مِثلُ: فُلانٌ ثِقَةٌ، أوْ فُلانٌ حافِظٌ، ونَحْوُها.
وقولُهُ: (وأَدْنَاهَا) أيْ: أَدْنَى مَراتِبِ التعديلِ: ما أَشْعَرَ بالقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التجريحِ، وأَسْهَلُ التجريحِ مِثْلُ:
- لَيِّنٌ.
- أوْ سَيِّئُ الحفْظِ.
- أوْ فيهِ مَقالٌ.
والمرَاتِبُ التي تُقَارِبُ هذهِ الْمَرْتَبَةَ هيَ التي يُقالُ لهم:
- شَيْخٌ.
- أوْ صالحُ الحديثِ أوْ نحوُها مِن العِباراتِ.
مَسألةٌ:
مَنْ يُعْتَدُّ بقولِهِ في الْجَرْحِ والتعديلِ؟
وما الحُكْمُ إذا تَعَارَضَ الجَرْحُ والتعديلُ في رَاوٍ مِن الرُّواةِ؟
قالَ الحافظُ: (وتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عارِفٍ بأسبابِها، ولوْ مِنْ واحدٍ على الأَصَحِّ). هناكَ مِن الناسِ مَنْ يكونُ سَطْحِيًّا في أحكامِهِ.
مَثَلاً:
بعضُهم سُئِلَ عنْ راوٍ، فَقَالَ: ثِقَةٌ، ألا تَرَى إلَى طُولِ لِحْيَتِهِ وحُمْرَتِها؟!
فحَكَمَ على الرَّجُلِ مِنْ جَرَّاءِ أمْرٍ ظاهرٍ؛ فهذا غيرُ عارِفٍ بأسبابِ التَّزْكِيَةِ، وهيَ عدالةُ الراوي وضَبْطُهُ.
قولُهُ: (ولوْ مِنْ واحدٍ على الأَصَحِّ) المُحَدِّثونَ يَرْبِطُونَ أَحياناً بينَ الشَّهَادةِ والروايَةِ، فيقولونَ: الشهادةُ كالروايَةِ، لكنَّها تَختلِفُ عنها في بعضِ الوُجُوهِ، مِنْ جُمْلَتِها مَسألةُ التَّزكيَةِ؛ فالتزكيَةُ هنا كالحُكْمِ، ولا يُشْتَرَطُ في الحُكْمِ أنْ يكونَ صادراً مِن اثنَيْنِ، القاضي الذي يَحْكُمُ على أمْرٍ ما، هلْ يُشتَرَطُ أنْ يُضافَ إليهِ قاضٍ آخَرُ؟
الجوابُ:
لا؛ فالتزكيَةُ كالحُكْمِ، التزكيَةُ تُقْبَلُ ولوْ مِنْ عبدٍ ولوْ مِن امرأةٍ، معَ أنَّ شَهادةَ المَمْلُوكِ غيرُ مَقبولةٍ، والمرأةَ بنِصْفِ الرَّجُلِ.
العلماءُ الذينَ يُعْتَدُّ بقولِهم في الْجَرْحِ والتعديلِ:
في مُقَدِّمَةِ (الكَامِلُ)لابنِ عَدِيٍّ نَجِدُهُ ذَكَرَهم، وكذا: الذهبِيُّ في (تَذْكِرَةُ الْحُفَّاظِ) ذَكَرَ في مُقَدِّمَتِهِ أنَّ المَذْكُورِينَ في كتابِهِ هم مَنْ: يُعْتَدُّ بهم في الْجَرْحِ والتعديلِ، ولهُ رسالةٌ مُخْتَصَرَةٌ مَطبوعةٌ اسْمُها: (ذِكْرُ مَنْ يُعْتَدُّ بقولِهِ في الْجَرْحِ والتعديلِ)، فمَثلاً: لوْ رَأَيْنَا ابنَ حَجَرٍ يقولُ عنْ راوٍ: وقالَ: ابنُ الْبَرْقِيِّ: ضعيفٌ.
فأنتَ لا تَعْرِفُ ابنَ الْبَرْقِيِّ؛ فتَرْجِعُ إلى (رسالةِ الذَّهَبِيِّ)؛ فتَجِدُهُ قدْ ذَكَرَهُ في رسالتِهِ، فتَطْمَئِنُّ إلى هذا الحُكْمِ.
مَسألةٌ عَوِيصَةٌ:
قالَ الحافِظُ: (والْجَرْحُ مُقَدَّمٌ على التعديلِ إنْ صَدَرَ مُبَيَّناً مِنْ عَارِفٍ بأَسْبَابِهِ). فنَجِدُ في التهذيبِ عنْ رجُلٍ مَثَلاً بعضَ العلماءِ يَقولونَ: (ثِقَةٌ)، وبعضَهم يَقولونَ: (ضَعيفٌ)، فما العَمَلُ؟
وقدْ يَصْدُرُ الحُكْمُ المُتناقِضُ مِنْ إمامٍ واحدٍ مِثلِ:
ابنِ مَعِينٍ؛ مرَّةً يقولُ: (ثِقَةٌ)، ومَرَّةً يقولُ: (ضَعيفٌ)، فما الْحُكْمُ؟
أمامَكَ أمرَانِ:
1- تَنْظُرُ إلى هذا الذي جُرِّحَ وعُدِّلَ، هلْ هوَ مِن الذينَ يَعْرِفونَ أسبابَ التَّزْكِيَةِ؟
فإنْ صَدَرَ هذا الحُكْمُ مِنْ إمامٍ عارفٍ فتَطْمَئِنُّ إلى حُكْمِهِ، فإذا نَظَرْتَ إلى مَنْ عارَضَهُ ووَجَدْتَ أنَّهُ إِمامٌ آخَرُ عارِفٌ مثْلُهُ، فهنا تَنْظُرُ في النُّقطَةِ الثانيَةِ.
2- تَعْتَبِرُ هذا الراوِيَ ثِقَةً حتَّى يَتَبَيَّنَ ضَعْفُهُ، فتَنْظُرُ في قَوْلِ مَنْ جَرَّحَ، هلْ جاءَ بجَرْحٍ مُفَسَّرٍ أوْ لا؟
فإنْ جاءَ بجَرْحٍ مُفَسَّرٍ، فالجَرْحُ المُفَسَّرُ مقَدَّمٌ على التعديلِ في هذهِ الحالةِ، فلوْ قالَ أحَدُ الأَئِمَّةِ العارفينَ: فُلانٌ (ثِقَةٌ).
وقالَ الآخَرُ: (لا بلْ هوَ غيرُ ثِقَةٍ)؛ لأنَّني رَأَيْتُهُ يَشْرَبُ الخمْرَ؛ أوْ لأنَّ فلاناً حَدَّثَنِي أنَّهُ رآهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، فنَحْمِلُ قولَ مَنْ وَثَّقَهُ بحَسَبِ ما ظَهَرَ لهُ.
أمَّا الجَارِحُ: فجَاءَ بِمَزِيدِ عِلْمٍ، فنَعْذِرُ الأوَّلَ ونَأْخُذُ بقولِ الْمُجَرِّحِ.
تنبيهٌ هامٌّ:
لوْ قالَ الْمُجَرِّحُ: إنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ فإنَّنا نَلْتَفِتُ إلى أُمُورٍ أُخْرَى؛ وهيَ:
ما هيَ هذهِ الخمْرُ التي شَرِبَها؟
فأهْلُ الكُوفةِ: يَشْرَبُونَ النَّبيذَ وإنْ كانَ مُسْكِراً؛ لأنَّهُم يَرَوْنَ أنَّهُ غيرُ حَرامٍ، ويَرَوْنَ أنَّ الْمُحَرَّمَ ما كانَ فيهِ التمْرُ والعِنَبُ.
وتَجِدُهم أحياناً يَشْرَبُونَ النَّبيذَ تَدَيُّناً، كأنَّهُ يقولُ: أنا أَرَى هذا الرَّأْيَ، وزيادةً على ذلكَ أُؤَكِّدُهُ بأنَّنِي أَشْرَبُهُ.
قالَ العُلماءُ:
فإذا رَأَيْتَ الكوفيَّ يَشْرَبُ النبيذَ فلا تَجْرَحْهُ بهذا، وإنْ رَأَيْتَ البَصْرِيَّ يَشْرَبُهُ فيُمْكِنُ جَرْحُهُ بذلكَ.
وعلى الجارِحِ أنْ يَعرِفَ ماذا يُجْرَحُ بهِ؟
وبعضُهم قدْ يكونُ جَرْحُهُ يُبْنَى على أمْرٍ ليسَ بجَارِحٍ.
مِثالٌ:
جَرِيرُ بنُ عبدِ الرحمنِ، جَرَّحَ سِماكَ بنَ حَرْبٍ، فقيلَ: لِمَاذَا جَرَّحْتَهُ؟
قالَ: لأَنَّنِي رَأَيْتُهُ يَبُولُ قائماً؛ لأنَّ جريراً أخَذَ بحديثٍ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ وما عَرَفَ أسبابَ الْخِلافِ، فهنا حَدِيثٌ آخَرُ يُعارِضُ ظاهِرَ هذا الحديثِ، وهوَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ:((أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِماً)).
مِثالٌ آخَرُ:
شُعبَةُ،جَرَّحَ الْمِنْهَالَ بنَ عمرٍو، فسُئِلَ: لماذا جَرَّحْتَهُ؟
قالَ: لأنِّي مَرَرْتُ أمامَ بابِهِ فسَمِعْتُ في بَيْتِهِ صوتَ طُنْبُورٍ - وهوَ آلةٌ مُوسيقيَّةٌ- فقيلَ لهُ: أَسَأَلْتَهُ عنْ ذلكَ؟
فَقَالَ: لا، لمْ أَسْأَلْهُ.
عَقَّبَ الْمِزِّيُّ بعدَ ذلكَ فَقَالَ: هلاَّ سَأَلْتَهُ لعلَّهُ كانَ لا يَعْلَمُ؟!
وإذا وَجَدْنَا عِبارةً عنْ أبي حاتمٍ الرازيِّ في تَضعيفِ راوٍ وهيَ مُشْعِرَةٌ بأنَّهُ مِنْ قِبَلِ سُوءِ حِفْظِهِ كأنْ يقولَ: (يُكْتَبُ حَدِيثُهُ ولا يُحْتَجُّ بِهِ)، فمعنى ذلكَ أنَّهُ يَرَى أنَّ الراوِيَ عَدْلٌ ولكنْ في حِفْظِهِ شيءٌ، ثمَّ نَجِدُ أنَّ هذا الراوِيَ وَثَّقَهُ الحاكِمُ وابنُ حِبَّانَ، ثمَّ نَجِدُ الإمامَ أحمدَ قالَ: لا بَأْسَ بهِ؛ (ثلاثُ مَرَاتِبَ) فماذا نَفْعَلُ؟
نَجِدُ أنَّ الإمامَ أبا حاتمٍ الرازيَّ مِن الْمُتَشَدِّدِينَ في الْجَرْحِ، وابنَ حِبَّانَ والحاكِمَ مِن المُتَسَاهِلِينَ في التَّوْثِيقِ، والإمامَ أحمدَ مِن المُعْتَدِلِينَ؛ لذا نَأخُذُ الوَسَطَ؛ ولأنَّ أبا حاتمٍ نَظَرَ إلى جوانِبِ الضعْفِ في الراوي، وابنَ حِبَّانَ، والحاكمَ نَظَرَا إلى جوانِبِ الإصابةِ في الراوي، فكلٌّ أخَذَ بطَرَفٍ وحَكَمَ عليهِ ولم يَحْكُمْ بالعمومِ.
وجاءَ حُكْمُ الإمامِ أحمدَ وَسَطاً، وهوَ قولُهُ: لا بَأْسَ بهِ، فلم يَنْزِلْ إلى دَرجةِ الضعيفِ، كما قالَ: أبو حاتمٍ الرازيُّ، ولم يَرْتَقِ الحَدِيثُ إلى الحديثِ الصحيحِ كما قالَ: ابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ، بلْ حديثُهُ حَسَنٌ.
وإذا جاءنا تَعديلٌ لا يُعارِضُهُ جَرْحٌ نَقْبَلُهُ،وإذا جاءنا جَرْحٌ لا يُعَارِضُهُ تعديلٌ ففيهِ خِلافٌ؛ قالَ بعضُهم: الْجَرْحُ غيرُ المُفَسَّرِ فالأصْلُ فيهِ العدالةُ، وكيفَ نَقبلُ جَرْحاً غيرَ مُفَسَّرٍ؟
والأصوبُ أنَّ الْجَرْحَ الْمُجْمَلَ يُقْبَلُ؛
لأنَّ الراوِيَ لا يَخْلُو مِنْ أمرَيْنِ:
1- أنْ نَقْبَلَ هذا الْجَرْحَ فيهِ.
2- أوْ يكونَ مَجهولاً وحديثُهُ ضَعيفٌ، فالضعْفُ مَوجودٌ مَهْمَا كانَ.
فائـدةٌ:
هلْ هناكَ قَوَاعِدُ تُقَنَّنُ في مَسألةِ اختلافِ علماءِ الْجَرْحِ والتعديلِ في تَعْديلِ راوٍ أوْ جَرْحِهِ؟
- والجوابُ:
الذي ذَكَرْتُهُ يُعْتَبَرُ كالقواعدِ، لكنْ لا شَكَّ أنْ سَيكونَ هناكَ بَعْضُ الإشكالِ في بعضِ الرُّواةِ؛ لذلكَ نَجِدُ العُلماءَ يَخْتَلِفُونَ في بعضِ الرُّواةِ.
وهذا الاختلافُ يَنعكِسُ على الأحاديثِ؛ فبعضُهم يُصَحِّحُ بعضَ الأحاديثِ، وبعضُهم يُضَعِّفُها بِناءً على اختلافِهم في أحكامِهم على الرُّواةِ.
فليسَ هناكَ قَواعِدُ مُحَدَّدَةٌ مِائةً في المائةِ، ولكنْ ذلكَ يَخْضَعُ لاجتهادِ الْمُحَدِّثِ نفْسِهِ.