وَلاَ يَجُوزُ لِواهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ اللاَّزِمَةِ إِلاَّ الأَبِ ......
قوله: «ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة إلا الأب» ، «واهب» نكرة في سياق النفي، فتعم كل واهب، ويدل على إرادة العموم الاستثناء في قوله: «إلا الأب» ، وقد قال العلماء ـ رحمهم الله ـ: إن الاستثناء معيار العموم.
وقوله: «هبته اللازمة» احترازاً من الهبة غير اللازمة، والهبة اللازمة هي المقبوضة، وغير اللازمة هي التي لم تقبض، فلو قال لشخص: وهبتك سيارتي الفلانية، وقال: قبلت، وبعد أن وهبها رجع، فالرجوع جائز وصحيح؛ لأنه لم يقبضها، والهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا قبضها وأراد الرجوع، فإنه لا يحل له ولا يملك أيضاً، حتى في مجلس الهبة، فلو أنه وهبه قلمه وهما في المجلس، وقال: رجعت بعد أن قبضها الموهوب له فإنه لا يملك ذلك؛ لأنها ثبتت ولزمت فيحرم أن يرجع في هبته اللازمة؛ وذلك أن الهبة بعد القبض تصير ملكاً للموهوب له، فإذا رجع فيها فقد أخذ ملك غيره بغير حق فصار هذا حراماً، هذا تعليل المسألة من حيث النظر.
أما من حيث الأثر فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((ليس لنا مَثَلُ السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)) ، فقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((ليس لنا مثل السوء)) ، هذه الجملة مفيدة جداً في الذين يمثلون أصوات الحيوان مثلاً، فيقال: ليس لنا مثل السوء، هكذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يجوز التمثيل بالحيوانات.
وقوله: ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)) مثل يراد به التقبيح والتنفير، فالكلب خسيس، من أخس الحيوان وأقبحه، بل هو أنجس الحيوان فيما نعلم؛ لأنه هو الذي يجب أن تغسل نجاسته سبع مرات إحداها بالتراب، يقيء ثم يرجع ويأكل القيء!! فعل قبيح، هكذا الذي يهب ثم يرجع، مثله مثل الكلب الذي قاء ثم رجع في قيئه، حتى لو فرض أنه عندما رجع رضي الموهوب له ولم يبالِ، نقول: هذا حرام ولا يجوز، وإذا كان هذا حراماً فينبغي للإنسان إذا وهب شيئاً ألا تتعلق به نفسه؛ لأن بعض الناس يهب الشيء إما لطروء فرح بصاحبه، أو لعاطفة جياشة في تلك الساعة، ثم يندم ويقول: ليتني ما وهبت، فهذا لا ينبغي؛ لأن شيئاً وهبته اجعله عن طيب نفسك ولا تعلق نفسك به، فقد خرج عنك قدراً وشرعاً، فكيف تعلق نفسك به، مع أنه لا يمكن أن تعود؟! فلا يجوز له أن يعود في هبته.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن نقيسها على البيع، ونقول: ما داما في المجلس فللواهب الخيار؟
الجواب: لا؛ لأن البيع عقد معاوضة يحتاج إلى تروٍّ، والإنسان ربما يستعجل فيقدم على البيع دون تروٍّ، فجعل له الشارع مهلة ما دام في المجلس، أما هذا فهو عقد تبرع، فالواهب لا يريد عوضاً، والموهوب له لم يُؤخذ منه عوضٌ، فلا يصح قياس الهبة على البيع، إذاً تلزم بالقبض ولو في مجلس العقد، ولا يجوز أن يرجع في هبته اللازمة.
فإذا رجع في هبته غير اللازمة كأن يهب شخصاً كتاباً لكنه لم يسلمه له، فله أن يرجع ولكن هذا خلاف المروءة، ولأنه إخلاف للوعد، فنقول: ما دمتَ وهبتَه فقد وعدته، فينبغي إن طرأ عليه ما يقتضي أن يرجع في الهبة، أن يقول للموهوب له قولاً يقتنع به ونحوه حتى يطيب قلبه.
فإن قال قائل: هل يجوز له أن يشتري هبته من الموهوب له؟
فالجواب: لا يجوز؛ لأن الغالب أنك إذا اشتريت الهبة فسوف يخفض لك السعر ويستحي أن يماكسك، فلو وهبت له ما يساوي مائة ثم أردت أن تشتريه منه، فإنك لو قلت له: بثمانين، سوف يقول لك: خذها، ويخجل أن يقول: لا، إلا بمائة، وحينئذٍ تكون قد رجعت في بعض الهبة، لكن بطريق غير مباشر، ولهذا لما حمل أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ على فرس له في سبيل الله، فأضاعه الذي حمله عليه، وظن عمر أنه يبيعه برخص، استأذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشتريه فقال له: ((لا تشترِه ولو باعكه بدرهم، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)).أما إذا اشترى صدقته فإنه أشنع؛ لأنه يتضمن شيئين: الرجوع في الهبة، والرجوع فيما أخرجه لله، وما أخرجه لله لا يجوز فيه الرجوع، حتى البلد إذا هاجر الإنسان منها لله لا يجوز أن يرجع ويسكن فيها؛ لأنه تركها لله وما تُرك لله فإنه لا يرجع فيه.
وقوله: «إلا الأب» ، فله أن يرجع في هبته اللازمة، والدليل على ذلك حديث ورد في هذا: ((لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده))، فإنه يرجع فيما وهبه لابنه لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((أنت ومالك لأبيك)) ، لكن الحديث الأول أعله بعضهم وضعَّفه، وقال: إن عموم حديث: ((العائد في هبته كالكلب)) ، مقدم على هذا الحديث الضعيف، وأن الأب ليس له أن يرجع فيما وهبه لابنه.
لكننا نقول في الجواب عن هذا: إن الاستثناء وإن كان ضعيفاً فله ما يعضده، وهو أن للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، فإذا كان له أن يتملك ما شاء فرجوعه فيما وهبه لابنه من باب أولى، ولكن يستثنى من ذلك ما لم يكن حيلة على التفضيل فلا يجوز، كأن يعطي ولديه كل واحد سيارة، ثم عاد وأخذ من أحدهما سيارته، فهذا الرجوع لا يصح؛ لأنه يراد به تفضيل الولد الآخر.
وقوله: «في هبته اللازمة إلا الأب» يستفاد منه أنه لو أبرأ ابنه من دين فليس له الرجوع؛ لأن الإبراء ليس بهبة، بل هو إسقاط.
وقوله: «إلا الأب» يخرج به الجد، فليس له أن يرجع فيما وهب لابن ابنه، أو لابن بنته، ويخرج من ذلك الأم، فليس لها أن ترجع فيما وهبت لابنها.
فإذا قال قائل: ما الدليل؟
قلنا: عموم ((العائد في هبته كالكلب)) وصيغة العموم لا يخرج منها إلا ما دل عليه الشرع، وإلا فهي عامة لجميع الأفراد، وهنا لا يصح القياس؛ لأن القياس مخالف للعموم، فالأصل أن المرأة إذا وهبت أبناءها أو بناتها، لا يحل لها أن ترجع.
وقوله: «إلا الأب» هل يحتاج أن نقول: إلا الأب الحر، أو نقول: إنه لا يمكن أن يهب إلا إذا كان حراً؟ نقول: لا يحتاج أن نقيد الأب بالحر؛ لأنه لا يهب إلا وهو حر.
وظاهر كلام المؤلف: أن الأب يرجع ولو كان كافراً فيما وهبه لابنه المسلم للعموم، فلو أن رجلاً غنياً كافراً وهب لابنه المسلم شيئاً فله أن يرجع؛ لأن الحديث عام.
وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَلاَ يَحْتَاجُهُ، .....
قوله: «وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده» لكن لا بد من شرط وهو أن يكون الأب حراً، فنقول: «له» يعود على الأب لكن بقيد أن يكون حراً؛ لأن غير الحر لا يملك فكيف يتملك؟! ولأن غير الحر لو تملك من مال ابنه فإن ما تملكه يرجع إلى سيده.
وهل يشترط أن يكون موافقاً لابنه في الدِّين؟
إن نظرنا إلى إطلاق الحديث قلنا: لا يشترط، وعلى هذا فيجوز للأب الكافر أن يأخذ من مال ولده المسلم، وللأب المسلم أن يأخذ من مال ولده الكافر، هذا ظاهر الحديث.
وقيل: إنه لا يُمكَّن الأب الكافر من الأخذ من مال ولده المسلم؛ لأنه لا صلة بينهما، ولا توارث؛ ولأن الله تعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ؛ ولأننا لو مكنا الأب الكافر من الأخذ من مال ولده المسلم، لكان في ذلك إذلال للمسلم، وربما يقصد الأب الكافر أن يذل ابنه بالأخذ من ماله.
وعندي لا شك أنه ليس للأب الكافر أن يأخذ من مال ولده المسلم، أما أخذ الأب المسلم من مال ولده الكافر، فهنا قد نقول بعموم الحديث وأن له أن يأخذ؛ لأن أصل بقاء الكافر على الكفر ممنوع، فهو على دين غير مَرْضيٍّ عند الله، وتسليط المسلم على ماله له وجهة نظر، لا سيما إذا كان الابن من المحاربين، فإنه إذا كان من المحاربين فلا شك أن ماله حلال.
إذاً قوله: «له» أي: للأب، ونضيف وصفاً «الحر» ووصفاً آخر «الموافق في الدين» على رأي كثير من العلماء، أو على الأصح ألا يكون كافراً يأخذ من مال مسلم.
وقوله: «وله أن يأخذ ويتملك» الفرق بينهما: يأخذ على سبيل الاستعمال، ويتملك على سبيل الضم إلى ملكه، فله أن يأخذ سيارة الابن يسافر بها إلى مكة، إلى الرياض، إلى المدينة، إلى أي بلد وإن لم يتملكها، وله أن يتملك وإن لم يأخذ، فيأتي إلى كاتب العدل، مثلاً، ويقول: إني تملكت سيارة ابني فلان ويكتب كاتب العدل، لكن بشروط ستذكر.
وقوله: ((من مال ولده)) الذكور والإناث؛ لأن الولد إذا أطلق يشمل الذكور والإناث لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((أنت ومالك لأبيك)) لكن بشروط.
قوله: ((ما لا يضره)) فإن كان يضر الولد فإنه ليس له أن يأخذ، مثل أن يأخذ منه غداءه وهو مضطر إليه، فهنا ليس له ذلك، أو يأخذ منه لحافه وهو مضطر إليه لدفع البرد، فإنه لا يُمكَّن؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((ابدأ بنفسك)) ، ولا يمكن أن نسلط الأب على مال الولد مع أنه يضره.
قوله: ((ولا يحتاجه)) الحاجة أقل من الضرورة، فإنه ليس له أن يأخذ ما تتعلق به حاجة الابن، مثال ذلك: الابن عنده فرش في البيت ليست ضرورية، لكنه يحتاجها إذا جاءه ضيوف، أو عنده زيادة على قوت يومه وليلته لكنه يحتاجها، فليس للأب أن يتملك هذا؛ لأن هذا تتعلق به حاجة الابن، ومن ذلك سُرِّيَّة الابن إذا كان يحتاجها ولو كان عنده إماءٌ كثير؛ لأنها تتعلق بها نفسه.
إذاً يشترط:
أولاً: ألا يضر الابن.
ثانياً: ألا يحتاجه.
ثالثاً: أن يكون الأب حراً.
رابعاً: ألا يكون الولد أعلى منه في الدِّين.
خامساً: ألا يأخذ لولد آخر؛ لأنه إذا حرم التفضيل من مال الوالد الخاص، فتحريمه بأخذه من مال الولد الآخر من باب أولى.
مسألة: هل للأب أن يأخذ من أحد أولاده ويعطي الثاني؟
الجواب: نعم إذا كان الآخرون فقراء والأب لا يستطيع أن ينفق عليهم فله ذلك، أما إذا كانوا أغنياء، أو هو يقدر أن ينفق عليهم فلا يجوز؛ لأن هذا يحدث الضغائن بين الأولاد .
فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي مَالِهِ وَلَوْ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَوْ تَمَلُّكِهِ بِقَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ وَقَبْضٍ مُعْتَبَرٍ لَمْ يَصِحَّ بَلْ بَعْدَهُ،........
قوله: «فإن تصرف» أي: الأب.
قوله: «في ماله» أي: في مال ابنه، فالضمير في «تصرف» يعود إلى الأب، والضمير المجرور في قوله: «ماله» يعود إلى الابن.
قوله: «ولو فيما وهبه له» يعني تصرف الأب في مال ابنه ولو فيما وهبه له، فإنه لا يصح تصرفه، وإنما نص على ما وهبه له؛ لئلا يقول قائل: إن تصرف الأب فيما وهبه لابنه دليل على الرجوع، فيقال: لا، الرجوع لا بد فيه من قول، وهذا الرجل تصرف بلا قول.
مثاله: وهب ابنه سيارة، ثم إنه بعد أن وهبها لابنه وقبضها، باع الأب السيارة، فإنه لا يملك ذلك؛ لأن السيارة لم تزل على ملك الابن، والأب لم يتملكها، ولم يرجع في هبته، فإذا أجرها فلا يصح التأجير؛ لأنه لم يتملكها.
إذاً يستطيع أن يبيعها أو يؤجرها بأن يرجع في الهبة، يقول: إني رجعت فيما وهبته لابني، حينئذٍ ترجع إلى ملك الأب ويتصرف فيها.
وقوله: «ولو فيما وهبه له» هذه إشارة خلاف، وهو أن بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ يقول: إذا تصرف فيما وهبه لابنه، فإن تصرفه يدل على الرجوع، وقاسوا ذلك على رجل وكَّلك في بيع شيء، ثم باعه هو فإنه يصح ويكون بيعه له رجوعاً، فيقال: الفرق واضح؛ لأن الموكل إذا تصرف فيما وكَّلَ فيه فقد تصرف في ملكه، لكن الأب إذا تصرف فيما وهبه لابنه دون أن يرجع، فقد تصرف في ملك غيره، إلا إذا قصد أنه راجع في هبته؛ لأنه لما رجع في هبته دخلت في ملكه، فباعها بعد دخولها في ملكه.
قوله: «ببيع» البيع معروف، مثاله: لولده سيارة فباعها الأب بدون توكيل الابن له فالبيع باطل.
قوله: «أو عتق» الابن له عبد، فقال الأب للعبد: أنت عتيق لوجه الله، فلا يصح العتق؛ لأنه في ملك الابن ولم يتملكه.
قوله: «أو إبراء» يعني من الدَّين، فمثلاً لابنه دين على شخص، فقال الأب للمدين: إني أبرأتك من دين ابني عليك، فإنه لا يبرأ؛ لأن الدين لم يملكه الابن فضلاً عن الأب، فالدين في ذمة المدين، وهذا واضح، هذا أشد من العين التي باعها الأب أو أعتقها.
وقال بعض العلماء: إن تصرف الوالد في مال ولده ببيع أو عتق أو إبراء صحيح؛ لأنه إذا كان له أن يتملك هذه الأشياء فتصرفه فيها من باب أولى، ويكون الثمن في البيع للابن، أما العتق والإبراء فالأجر للابن؛ لأن هذا أقل مما لو تملكه أصلاً، والظاهر أن الحديث يدل على صحة تصرف الأب في مال ابنه إذا لم يضره أو يحتاجه، وأما الإبراء فليس له ذلك؛ لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((أنت ومالك لأبيك))، لا يدخل فيه الدَّين؛ لأن الدَّين لا يكون مالاً للابن حتى يقبضه.
قوله: «أو أراد أخذه قبل رجوعه» ، «أخذه» أي: أخذ ما وهبه، والضمير هنا فيه ركاكة؛ لأنك لو قرأت المتن: «أو أراد أخذه» أي أخذ ماله قبل رجوعه، ولكن المراد: «أخذه» أي أخذ ما وهبه قبل رجوعه، يعني وهب ابنه شيئاً ثم أراد أن يضمه إلى ملكه قبل أن يرجع، فإنه لا يصح؛ لأنه لم يصرح بالرجوع، فالرجوع لا بد فيه من اللفظ، بأن يقول: رجعت فيما وهبته لك يا بني، أما أن يأخذه دون أن يصرح بالرجوع فلا يصح.
قوله: «أو تملكه» ، يعني يأخذ ما وهبه بنية التملك لا بنية الرجوع، فله هذا، والتملك يقول المؤلف: له طريقان: القول، أو النية مع القبض.
قوله: «بقول» بأن يقول: إني قد تملكت مال ابني، سيارته أو بيته أو أشياء لا يحتاج إليها ولا تضره.
قوله: «أو نية وقبض معتبر لم يصح» ، يعني يقبض المال من ابنه بنية التملك، فله حينئذٍ أن يتصرف فيه؛ لأنه لما قبضه بنية التملك صار ملكاً له.
وقوله: «وقبض معتبر» بأن يكون بإذن الابن، وعلى الوصف السابق في كتاب البيع، فما ينقل يكون بنقله، وما يوزن بوزنه، وما يكال بكيله، وما يذرع بذرعه، وما يُعَدُّ بِعَدِّهِ، وما لا يتصور فيه ذلك يكون بتخليته، كالأراضي مثلاً، فالأراضي لا يمكن أن تقبض بما ذكر، فيكون بالتخلية بمعنى أن يرفع يده عنها.
قوله: «بل بعده» ، أي: بل يصح تصرفه بالبيع أو العتق أو الإبراء بعد الرجوع في الهبة، أو بعد التملك في غير الهبة.
وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ إِلاَّ بِنَفَقَتِهِ الوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لَهُ مُطَالبَتَهُ بِهَا وَحَبْسَهُ عَلَيْهَا.
قوله: «وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه» ، يعني لا يملك الولد أن يطالب والده بدين ونحوه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم))، ولأنه إذا جاز أن يتملك من ماله فإنه لا يجوز للولد أن يطالبه بدَينه.
مثال ذلك: استقرض الأب من ابنه عشرة آلاف ريال، فليس للولد أن يقول: يا أبتِ أعطني الدَّين، وليس له أن يطالبه، ولكن له أن يُعَرِّض ويقول: يا أبت أنا محتاج، وأنت قد أغناك الله وما أشبه ذلك، أما أن يطالبه ويرفعه إلى القاضي فلا، ولكن إذا مات الأب فله أن يطالب بدينه في تركته.
وقوله: «وليس للولد مطالبة أبيه» مفهوم كلام المؤلف يدل على أن له أن يطالب أمه بدينه، وكذا جده من قبل أبيه أو أمه؛ لأن هؤلاء ليس لهم أن يتملكوا من مال ولدهم، أو ولد ابنهم فله أن يطالبهم، هذا مفهوم كلامه، لأن العلماء ـ رحمهم الله ـ كلامهم له منطوق ومفهوم.
ولكن الصحيح أنه لا يملك أن يطالب أمه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك))، وهذا صريح في أنه إذا كان لا يملك مطالبة أبيه فعدم مطالبته أمه من باب أولى، وهل من البر أن يقود أمه عند رُكَبِ القضاة؟! أبداً ليس من البر، هذا مستهجن شرعاً وعادة.
فالصواب: أنه لا يملك مطالبة أمه، وليست المسألة مبنية على التملك، فالتملك شيء والمطالبة بالدين شيء آخر.
وأصل مسألة الأب خلافية، فبعض أهل العلم يقول: له أن يطالب أباه بالدين.
وقوله: «بدين ونحوه» كأرش الجناية مثلاً، فلو أن أباه جنى عليه جناية توجب المال ـ ولا نقول: توجب القود؛ لأنه على المذهب ليس بين الأب وابنه قود ـ مثل أن يشجه في رأسه حتى يظهر العظم، وهذه الشجة التي توضح العظم تسمى موضحة، فيها خمس من الإبل، فليس له أن يطالب أباه بهذه الدية لدخولها تحت قوله: «ونحوه» ، كذلك لو أن الأب صدم سيارة الابن فإنه يلزمه أرشها، ويكون ديناً عليه، فليس له أن يطالب أباه بهذا الدين.
وفهم من قوله: «بدين» أن له أن يطالبه بالعين، فلو استعار أبوه منه كتاباً: كفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال الابن: أعطني الكتاب، أنا محتاج إليه، فقال: لا، ولم ينوِ التملك، فله أن يطالبه؛ لأن هذا ليس بدين ولكنه عين، والمؤلف يقول: «بدين» فله أن يطالب أباه بتسليم العين التي أعارها إياه عند القاضي؛ لأن هذا عين ماله.
لكن للأب أن يقول: أنا الآن تملكته، فإذا قال هذا، نظرنا إلى الشروط، فإذا قال الابن: أنا أحتاجه للقراءة أو المطالعة، امتنع التملك؛ لأن من شرط تملك الأب لمال ابنه ألا تتعلق به حاجته أو ضرورته، فحينئذٍ يمتنع التملك فله المطالبة.
وهذه مسألة يجب أن ننتبه لها، أن الذي يقوله الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بقطع النظر عن مسألة المروءة أو التربية، أو حسن المعاملة، فهم يذكرون أحكاماً عامة، لكن هل من المروءة أن الإنسان يطالب أباه بعين ماله؟ في ظني لا، لكن قد يكون بين الأب والابن مشاحنات وعداوة وبغضاء، كما يوجد كثيراً ولا يهمه أن يطالب أباه، ولكن لا أعتقد أن المروءة تقضي بجواز ذلك، فأي إنسان يقال: إنه طالب أباه عند القاضي بقلم ـ مثلاً ـ بخمسين ريالاً فكل الناس سيعيبون هذا، وقد قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح».
قوله: «إلا بنفقته الواجبة عليه، فإن له مطالبته بها وحبسه عليها» ، أي إذا امتنع الأب من النفقة الواجبة عليه فللابن أن يطالبه بها؛ لأنها ضرورة لحفظ حياة الابن، ولأن سببها معلوم ظاهر بخلاف الدَّين، ولأن وجوب النفقة ثابت بأصل الشرع، فهو كالزكاة يجبر الإنسان على بذلها لمستحقها، فإذا جاء الابن الفقير وهو عاجز عن التكسب وليس عنده مال، وقال لأبيه: أنفق عليَّ، فقال: لا أنفق، فله أن يطالب أباه بالنفقة، وإذا امتنع فللحاكم أن يحكم بحبسه حتى يسلم النفقة.
وأعتقد أن هذا العمل من الابن ـ أعني مطالبة أبيه بالنفقة ـ لا يخالف المروءة؛ لأن الذي خرم المروءة هو الأب، لِمَ لم ينفق؟! فإذا طالب أباه بالنفقة فله ذلك وله حبسه عليها.
[1] أخرجه البخاري في الهبة/ باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2622)؛ ومسلم في الهبات/ باب تحريم الرجوع في الصدقة (1622) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة/ باب حكم ولوغ الكلب (279) (91) بلفظ: ((أولاهن بالتراب)) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
[3] أخرجه البخاري في الهبة/ باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2623)؛ ومسلم في الهبات/ باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض (1622) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ
[4] أخرجه أحمد (2/27)؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجوع في الهبة (3539)؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الرجوع في الهبة (1299)؛ والنسائي في الهبة/ باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده (3690)؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من أعطى ولده ثم رجع فيه (2377) عن ابن عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ، انظر: نصب الراية (4/124).
[5] أخرجه ابن ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ، وصححه البوصيري على شرط البخاري وصححه ابن حبان (410) إحسان عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وأخرجه الإمام أحمد (2/179، 204، 214)؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530)؛ وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسَّن إسناده في الإرواء (3/325).
[6] سبق تخريجه ص(90).
[7] أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الابتداء بالنفقة على النفس (997) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
[8] سبق تخريجه ص(90).
[9] أخرجه الإمام أحمد (6/41)؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده (1358)؛ والنسائي في البيوع/ باب الحث على الكسب (7/240) وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2290)؛ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (4261). وانظر: التلخيص (1665)؛ والإرواء (1626).
[10] أخرجه البخاري في الأدب/ باب من أحق الناس بحسن الصحبة (5971)؛ ومسلم في الأدب/ باب بر الوالدين وأيهما أحق به (2548) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
[11] أخرجه الإمام أحمد (1/379)، وقال الحافظ في الدراية (2/187): «إسناده حسن».