قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( ( العَلِيمُ ):
( (( العليمُ )) الذي لهُ العلمُ)([1])، (العالِمُ بِكُلِّ شيءٍ، الذي لِكَمَالِ عِلْمِهِ يَعْلَمُ ما بينَ أَيْدِي الخلائقِ وما خَلْفَهُم؛ فلا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إلاَّ بِعِلْمِهِ، ولا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إلاَّ بإذنِهِ، يَعْلَمُ دَبِيبَ الخواطرِ في القلوبِ حيثُ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا المَلَكُ، وَيَعْلَمُ ما سَيَكُونُ منها حيثُ لا يَطَّلِعُ عليهِ القَلْبُ)([2]).
([فَـ]يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (([أيْ]: مَا تُسِرُّهُ القلوبُ وَأَخْفَى منهُ، وهوَ ما لمْ يَخْطُرْ لها أنَّهُ سَيَخْطُرُ لَهَا))([3]).
وَيَعْلَمُ ما كانَ وما يكونُ [وما لمْ يَكُنْ] لوْ كانَ كَيْفَ كانَ يكونُ، وما تَسْقُطُ منْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأرضِ ولا رطبٍ ولا يابسٍ، ولا سَاكِنٍ ولا مُتَحَرِّكٍ إلاَّ وهوَ يَعْلَمُهُ على حَقِيقَتِهِ)([4]).
([فـ]لا تَخْفَى عليهِ خَافِيَةٌ، ولا يَعْزُبُ عنهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاواتِ والأرضِ، بلْ قدْ أَحَاطَ بكلِّ شيءٍ عِلْماً، وَأَحْصَى كلَّ شيءٍ عَدَداً...
و... عِلْمُهُ... لا يُشَارِكُهُ فيهِ خَلْقُهُ، ولا يُحِيطُونَ بشيءٍ منهُ إلاَّ بما شاءَ أنْ يُطْلِعَهُم عليهِ وَيُعْلِمَهُم بهِ.
وما أَخْفَاهُ عنهم ولمْ يُطْلِعْهُم عليهِ... لا نِسْبَةَ لِمَا عَرَفُوهُ إليهِ إلاَّ دونَ نسبةِ قَطْرَةٍ واحدةٍ إلى البِحَارِ كُلِّهَا كما قالَ الخَضِرُ لِمُوسَى، وَهُمَا أَعْلَمُ أهلِ الأرضِ حينئذٍ: ((ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلاَّ كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ)) ([5]).
وَيَكْفِي أنَّ ما يَتَكَلَّمُ بهِ مِنْ عِلْمِهِ لوْ قُدِّرَ أنَّ البحرَ -يَمُدُّهُ منْ بعدِهِ سبعةُ أبحُرٍ- مِدَادٌ، وأشجارَ الأرضِ كُلَّهَا منْ أوَّلِ الدهرِ إلى آخرِهِ أَقْلامٌ، يُكْتَبُ بهِ ما يَتَكَلَّمُ بهِ مِمَّا يَعْلَمُهُ لَنَفِدَت البحارُ، وَفَنِيَت الأقلامُ، ولمْ تَنْفَدْ كَلِمَاتُهُ.
فَنِسْبَةُ علومِ الخلائقِ إلى عِلْمِهِ سبحانَهُ كَنِسْبَةِ قُدْرَتِهِم إلى قدرتِهِ، وَغِنَاهُم إلى غِنَاهُ، وَحِكْمَتِهِم إلى حِكْمَتِهِ.
وإذا كانَ أَعْلَمُ الخلقِ على الإطلاقِ يَقُولُ: ((لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)) ([6])، ويقولُ في دعاءِ الاستخارةِ: ((فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)) ([7])، ويقولُ سُبْحَانَهُ للملائكةِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]، ويقولُ سبحانَهُ لأَعْلَمِ الأُمَمِ وهمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]، ويقولُ لأهلِ الكتابِ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، وتقولُ رُسُلُهُ يَوْمَ القيامةِ حينَ يَسْأَلُهُم ماذا أُجِبْتُمْ: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} [المائدة: 109].
وهذا هوَ الأدبُ المُطَابِقُ للحَقِّ في نفسِ الأمرِ، فإنَّ عُلُومَهُم وعلومَ الخلائقِ تَضْمَحِلُّ وَتَتَلاشَى في عِلْمِهِ سُبحانَهُ كما يَضْمَحِلُّ ضَوْءُ السِّرَاجِ الضعيفِ في عَيْنِ الشمسِ)([8]).
([فـ]مَنْ شَهِدَ مَشْهَدَ العلمِ المحيطِ الذي لا يَعْزُبُ عنهُ مثقالُ ذرَّةٍ في الأرضِ ولا في السَّمَاواتِ، ولا في قرارِ البحارِ، ولا تحتَ أطباقِ الجبالِ، بلْ أَحَاطَ بذلكَ كُلِّهِ عِلْماً تَفْصِيلِيًّا، ثُمَّ تُعُبِّدَ بِمُقْتَضَى هذا الشهودِ منْ حِرَاسَةِ خواطرِهِ وإراداتِهِ وعَزَمَاتِهِ وجوارحِهِ عَلِمَ بأنَّ حَرَكَاتِهِ الظاهرةَ والباطنةَ وخواطرَهُ وإراداتِهِ وجميعَ أحوالِهِ ظاهرةٌ مَكْشُوفةٌ لَدَيْهِ، عَلانِيَةٌ لهُ بَادِيَةٌ، لا يَخْفَى عليهِ منها شَيْءٌ)([9]).
(وَهُوَ العليمُ أَحَاطَ عِلْماً بِالَّذِي = في الكونِ مِنْ سِرٍّ ومنْ إِعْلانِ
وبكلِّ شَيْءٍ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ = فهوَ المحيطُ وليسَ ذا نِسْيَانِ)([10])
(وهوَ العليمُ بما يُوَسْوِسُ عَبْدُهُ = في نفسِهِ منْ غيرِ نُطْقِ لِسَانِ
بلْ يَسْتَوِي في عِلْمِهِ الدانِي معَ الْـ = قَاصِي وذُو الإسرارِ والإعلانِ)([11])
(وكذاكَ يَعْلَمُ ما يَكُونُ غَداً وما = قدْ كانَ والموجودَ في ذا الآنِ
وكذاكَ أَمْرٌ لمْ يَكُنْ لوْ كانَ كيـ = ـفَ يكونُ ذاكَ الأمرُ ذا إِمْكَانِ)([12]) ).[المرتبع الأسنى: ؟؟]
([1]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/128) .
([2]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (131) .
([3]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (3/1083) .
([4]) هدايةُ الحَيارَى (523) .
([5]) رواهُ البُخَارِيُّ في كتابِ العلمِ / بابُ ما يُسْتَحَبُّ إذا سُئِلَ: أيُّ الناسِ أَعْلَمُ (74) ومسلمٌ في كتابِ الفضائلِ / بابٌ مِن فضائلِ الخَضِرِ عليه السلامُ (6113) وغيرُهُما.
([6]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 117.
([7]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 76 .
([8]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/79 - 82) .
([9]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (43) .
([10]) القصيدةُ النُّونيَّةُ (241) .
([11]) القصيدةُ النُّونيَّةُ (64) .
([12]) القصيدةُ النُّونيَّةُ (241) .
وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في القصيدةِ النونيةِ (210):
قَالُوا عَلِيمٌ وَهْوَ ذُو عِلْمٍ وَيَعْـ = ـلَمُ غَايَةَ الإسرارِ وَالإِعْلانِ
وقالَ أَيضًا: (64):
وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَا يَكُونُ غَدًا وَمَا = قَدْ كَانَ وَالْمَعْلُومُ فِي ذَا الآنِ
وَبِكُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْـ = ـفَ يَكُونُ مَوْجُودًا لِذِي الأَعْيَانِ