س1: إقامة الدين لا تكون إلا بالعلم والإيمان. بيّن ذلك.
قد جعل الله تعالى رفعة هذه الأمة، وعزتها، ونجاتها لا تحقق إلا بالعلم والإيمان؛ كما قال الله تعالى: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَإِنكُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، والشرط الموجِبُ يتخلّف الحكم بتخلفه، وكلما ازداد العبد إيمانًا؛ زاد نصيبه من العلو والعزة، وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَآمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواالْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وهذا كما يتحقق في الفرد، فهو كذلك في الأمة بعمومها، فكلما كانت الأمة أكثر حظًا ونصيبًا من العلم والإيمان؛ كانت رفعتها وعزتها أظهر وأشهر، وكلما ضعف حظها منهما؛ كانت أكثر تخلفًا وانحطاطًا وذلًا، والتاريخ والواقع شاهدان على ذلك. فظهور الفرق الضالة، وظهور البدع والأهواء والخرافات التي ضل بسببها فئام من الناس، وقيام التيارات الفكرية المنحرفة التي رفعت راياتها، وتبوأت ما لم يكن لها أن تتبوأ، كل ذلك إنما سببه؛ ضعف العلم، وضعف القائمين به، وفشو الجهل؛ فحصل بقيام هذه الأمور ضلال كثير، وفساد كبير، وسبب ذلك؛ ضعف العلم، وضعف القائمين به، وفشو الجهل، وظهور المعاصي والمنكرات، واستحلال المحرمات، وخيانة الأمانات، والاستهانة بالفرائض والواجبات؛ كل ذلك سببه ضعف الإيمان، فبقدر ما يضعف العلم والإيمان؛ ينحط الفرد، وتنحط الأمة، وبقدر ما يزيد العلم والإيمان؛ يرتفع الفرد، وترتفع الأمة، فهذه المعادلة سنة كونية شرعية، دلائل إثباتها من الشريعة والتاريخ والواقع ظاهرة جليّة.
والدين لا يقوم إلا على أساس العلم والإيمان؛ فبالعلم يُعرف هدى الله جل جلاله، وبالإيمان يُتبع هذا الهدى؛ حتى تحصل العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، ومن قام بهذين الأمرين فقد أقام دينه، وكان له وعد من الله تعالى بالهداية والنصر، وإن خذله من خذله، وإن خالفه من خالفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَزَالُ مِنْ أمتي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ)) [رواه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وهذا لفظ البخاري]. فضَمِن الله تعالى لمن يقوم بأمره؛ أن لا يضره من يخذله ولا من يخالفه، مهما كانت درجة الخذلان، ومهما كانت درجة المخالفة. وفقه هذه المسألة يفيد كل مؤمن قائم بأمر الله جل وعلا، ويفيد كل جماعة قائمة بأمر الله أنهم قد يبتلون بالخذلان من الناس، وقد يبتلون بالمخالفة، فإذا قاموا بأمر الله كما يحب الله؛ لم يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ لأن الله تعالى ينصرهم ويهديهم، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّامِّنَالْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.
والمؤمنون هم أتباع الأنبياء، ينالهم من جنس ما ينال الأنبياء من الابتلاء، ويثابون بما وعدهم الله عز وجل على رسله إن اتبعوهم، وقد جعل الله الأنبياء أسوة لنا، وأمرنا أن نقتدي بهم. وقد تكفل الله لأوليائه بالهداية والنصر؛ فبالهداية يسيرون في الطريق الصحيح، وبالنصر يتغلبون على أعدائهم ممن خذلهم وخالفهم، والنصر على الأعداء يشمل جميع الأعداء ممن نبصرهم، ومن لا نبصرهم، كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِوَلِيًّاوَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}، وأعظم الانتصار؛ انتصار الإنسان على شيطانه الذي هو العدو المبين الذي يريد إضلاله. وتقديم الهداية على النصر في الآية من باب تقديم العلم على العمل، لأن الهداية من ثمرات العلم، والنصر من ثواب العمل، والنصر -كما سبقت الإشارة- له معالم وأسباب؛ ونصر الله تعالى لعباده المؤمنين حق قد وعد الله به كما قال الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، فهو وعد صادق لا يتخلف، لكن قد يعجّل الله به، وقد يؤخره لحكمه، وشرط ضمان الهداية والنصر؛ هو القيام بأمر الله، فإذا قام العبد بأمر الله على ما يستطيع -لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها-، فإن الله تعالى يضمن له الهداية ويضمن له النصر. ومن تأمل هذا المعنى حق التأمل؛ تبين له أن الإنسان إذا لم يقم بأمر الله فهو على خطر عظيم، ولذلك قال سفيان بن عيينة -رحمه الله- كما في صحيح البخاري: "ما في القرآن آية أشد عليّ من {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍحَتَّىتُقِيمُواالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَوَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْمِنْرَبِّكُمْ}"، لماذا كانت هذه الآية شديدة على سفيان بن عيينة؟ لأن العبد الذي لا يقيم ما أنزل الله عليه ليس على شئ، فلا ضمان له من الله، ولا عهد، ولا آمان له، ولا سبب له إلى النجاة؛ فهو هالك لا محالة إلا أن يتوب إلى الله، ويقوم بأمره، وإذا حصل له أصل القيام بأمر الله؛ حصل له أصل ضمان النجاة، لكنه قد يتخلف عنه النجاة التامة، فلا ينجو من العذاب نجاةتامة بالأمان الذي يجعله الله عز وجل للمؤمنين، بل قد يُعذب في الدنيا أو في الآخرة على بعض ما اقترفه من المعاصي، ومن إخلاله بالقيام بأمر الله عز وجل، وقد يعفوا الله عز وجل عنه، مادام أصل الدين قائمًا في نفسه. وعلى قدر ما يقوم به العبد من أمر دينه؛ يكون نصيبه من النصر ومن الهداية؛ فمن الناس من يكون محسنًا في القيام بأمر الله، فهذا نصيبه من الهداية والنصر أحسن النصيب كما قال الله تعالى: {هَلْجَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}،ومن كان في قيامه بأمر الله بعض الإساءة، والتردد، والضعف؛ فإنه يتخلف عنه من الهداية والنصر بقدر ما فرّط وضيّع وأساء؛ أما من ضيّع أمر الله جملة كالكفار والمنافقين فهولاء ليسوا على شئ، كما قال الله تعالى لكفرة أهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍحَتَّىتُقِيمُواالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَوَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْمِنْرَبِّكُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المشهور الصحيح: ((رَأْسُ الأَمْرِ:الْإِسْلَامُ،وَعَمُودُهُ: الصَّلَاةُ،وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ:الْجِهَادُفِيسَبِيلِ اللهِ)). [رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه].
والله تعالى قد أمرنا بإقامة الدين، فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}. والمقصود أن إقامة الدين لا تكون إلا بالعلم والإيمان، وأن أهل العلم والإيمان هم أئمة المسلمين في الدنيا، قد كتب الله لهم الرفعة والعزة وأكرمهم وشرّفهم.
س2: ما يعتري طالب العلم من الفتور على نوعين؛ بيّنهما.
· النوع الأول: فتور تقتضيه طبيعة جسد الإنسان، وما جُبل عليه من الضعف والنقص؛ وهذا من طبائع النفوس، ولا يُلام عليه عليه الإنسان، وقد روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح، عن عبد الله بن عمر بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ،وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ،فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَتِي فَقَدْ اهْتَدَى،وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ))[وأخرجه أيضًا الإمام أحمد، والطحاوي، وابن حبان]. ورُوي أيضًا من حديث أبا هريرة، وابن عباس، وأبي أمامة الباهلي، وجعد بن هبيرة بألفاظ متقاربة؛ فهذا الحديث يبيّن لنا أن كل عمل يعمله الإنسان فله فترة، فمن كانت كانت فترته إلى قصد واعتدال بما لا يخل بالفرائض؛ فهو هو غير ملوم، ومن كانت فترته إلى انقطاع، وإلى سلوك غير سبيل السنة؛ فهو مذموم، وهذا الفتور العارض هو بمثابة الاستراحة، وإجمام النفس، يعود العامل بعدها إلى ما كان يعمل بنشاط متجدد بإذن الله عز وجل.
· النوع الآخر من الفتور- وهوالفتور الذي يُلام عليه العبد-: هو الفتور الذي يكونسببه ضعف اليقين وضعف الصبر. وأسباب الفتور التييعددها كثير ممن يكتب في الفتور، وعلاجه وأسبابه، ومظاهرة؛ أسباب الفتور يمكن إرجاعها إلى هذين الأمرين؛ ضعف اليقين وضعف الصبر؛ لأنه ينتج عنهما آفات كثيرة، ضعف اليقين له آفات كثيرة، هذه الآفات لها أسباب عديدة جدًا تؤدي إلى الفتور، وكذلك ضعف الصبر، إذا ضعف صبر الإنسان، دخلت عليه آفات كثيرة، وأسباب عديدة تؤدي به إلى الفتور، وإذا ضعف اليقين والصبر؛ سلطت على الإنسان آفات من كيد الشيطان، وعلل النفس، وعواقب الذنوب، ولا سبيل لهم إلى الخلاص منها إلا بالاعتصام بالله تعالى، وبالإلحاح عليه في الدعاء أن يرزقه العلم والإيمان، وأن يصرف عنه كيد الشيطان، وأن يعيذه من شره نفسه، ومن سيئات أعماله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: ((وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْشُرُورِ أَنْفُسِنَاوَمِنْسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا)). فكيد الشيطان، وشر النفس، وعواقب الذنوب، من أعظم الصوارف عن ما ينفع الإنسان في دينه ودنياه. وإذا ضعف اليقين؛ ضعفت العزيمة، ودنت الهمة، وسهلت، واحتجب عن العبد هدى الله عز وجل، واتبع المرء هواه، فافتتن بالدنيا، وغرّه طول الأمل، وغفل وقسى قلبه، والتفت إلى وساوس الشياطين، ودبّت إلى النفس آفات خطيرة تصرفه إلى طلب الدنيا ومتاعها العاجل؛ لأنه قصر نظره عن ما يجب عليه أن يقصده، فبدل أن يقصد بعلمه، وطلبه للعلم ما عند الله عز وجل من الثواب العظيم؛ صار نظر قلبه إلى عاجل مُتع الدنيا، وطلب زينتها، فافتتن بها، وحمله ذلك على الرياء لطلب الثناء، ومتاع الدنيا، وحمله أيضًا على العجب بما عند.
س3: وجّه رسالة في سبعة أسطر لطالب علم افتتن بأمور تثبّطه عن طلب العلم وتصرفه إلى الدنيا وملذاتها.
السلام عليك أخي؛
لقد لاحظت أخي عدم وجودك بيننا في الفترة السابقة؛ وإن من واجب الأخوة بيننا أن أسأل عنك، واذكرك {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
}.
فأولًا: اذكرك أن سلعة الله غالية وسلعة الله الجنة؛ وأن النار قد حفت بالشهوات، وأن الجنة قد حفت بالمكاره، والصعاب، فعليك بالصبر على هذه المكاره والصعاب، لتصل بإذن الله إلى جنة الرحمن ((وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ))، وأيضًا مما يعينك على الصبر وجودك بيننا في حلق العلم، وقد قال الله عز وجل لنبيه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وهذا مما يعين على الصبر؛ وتيقن بأن الله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ولايضيع أجر كل حسنة، وإن كانت مثقال ذرة، قال الله عز وجل: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، وإن وجدت في نفسك ضعفًا فلتصبر، ولتكن على يقين أن الله عز وجل لا يضيع أجر مكثك في طلب العلم، ولا قراءتك، ولا كتابتك للعلم، ولا تفهمك له، ولو كانت كلمة واحدة.
واذكر نفسي وإياكبالزهد في الدنيا؛ لأن الافتتان بالدنيا إذا دخل في قلب العبد أفسده، ولتأخذ من الدنيا ما يجعله بلاغًا لك إلى طاعة الله عز وجل، والتقرب إليه، ولتعرف لهذه الدنيا قدرها؛ فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فينبغي لك أن تعرف حقيقة الدنيا؛ والزهد في الدنيا من أسباب محبة الله عز وجل للعبد، كما في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ))كلما كان الإنسان أزهد في الدنيا على استقامة وسداد؛ كان أقرب إلى نيل محبة الله عز وجل.
س4: اذكر سبعة أسباب للفتور مع التوضيح الموجز لكل سبب.
1- علل النفس الخفية؛ من العجب، والرياء، والحرص على المال، والشرف؛ هذا مما يورث الفتور في طلب العلم.
2- عواقب الذنوب؛ الإنسان قد يقترف بعض الذنوب الخطيرة، التي قد يعُاقب عليها؛ بالحرمان من فضل طلب العلم، والحرمان من بركة العلم.
3- تحميل النفس ما لا تطيق؛ فإن من حمّل نفسه على ما لا تطيق؛ قد عرّضها للانقطاع عن طلب العلم.
4- العوائد الخاطئة في طرق طلب العلم؛ فيؤثر طالب العلم على نفسه في طريقة طلبه للعلم، فينبغي لطالب العلم أن يسلك في طلبه للعلم طريقة ميسرة غير شاقة عليه، فإذا كان يرى من نفسه أن طريقته في طلب للعلم طريقة عَسِرة، ومشقتها غير محتملة؛ فليعد النظر في طريقته لطلب العلم، وليسأل عالمًا يتوصّل به إلى طريقةٍ، ميسرةٍ، نافعةٍ، وصحيحه في طلب العلم.
5-الموازنات الجائرة؛ يوازن نفسه بكبار العلماء، يوازن نفسه بكبار القرّاء، يوازن نفسه بكبار الحفّاظ؛ فإذا يرى أنه لم يطق ما أطاقوه، ولم يتمكن من محاكاتهم ومجارتهم؛ عاد على نفسه باللوم والتعنيف، وربما قاده ذلك إلى الفتور والانقطاع؛ لأنه يرى أن بينه وبينهم مسافات طويلة لا يمكن أن يبلغها، وهذه حيلة من حيل الشيطان، ولو أن طالب العلم صبر على ما كان متيسرًا له ولم ينقطع؛ فإنه يُرجى له بتقدمه في طلب العلم، وتنمية مهارته، أن يصل إلى ما وصل إليه كثير من العلماء.
6- الرفقة السيئة؛ وإذا كان الإنسان في مجتمعٍ، أو لديه رفقة سيئة؛ فليحرص على أن يتقي شرهم، وتأثيرهم عليه في الفتور؛ وخصوصًا إذا كان في قلب المرء نوازع إلى الاستمتاع ببعض شهوات الدنيا، فإن تسلط الرفقة السيئة عليه يكون أكثر؛ لأنهم يأتونه من المواضع التي يضعف فيها، فيرغبونه في فضول المباحات، ثم في بعض المكروهات، ثم ربما جرّوه إلى المحرمات، وأقل ما يصيبه منهم أنهم يلهونه عن طلب العلم، ويلهونه بأمورٍ لا تنفعه في دينه ودنياه، فإذا ابتلي بذلك فليحرص على تجنب ذلك ما استطاع، ما لم يكن فيه قطيعة من رحم، وإن كان لهم ما يوجب الحق من الرحم ونحوه، فليقتصر من خلطتهم على قدر ما يتأدى به الواجب، ويجتنب تأثيرهم عليه، كما سبق التنبيه عليه.
7- افتتان الإنسان بالدنيا وتطلعه إلى متاعها وزينتها؛ ينبغي لطالب العلم أن يزهد في الدنيا، هذا أمرٌ مهم؛ لأن الافتتان بالدنيا إذا دخل في قلب العبد أفسده، وليأخذ من الدنيا ما يجعله بلاغًا له إلى طاعة الله عز وجل، والتقرب إليه، وليعرف لهذه الدنيا قدرها؛ فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فينبغي أن يعرف حقيقة الدنيا.
س5: اذكر سبعة وصايا لعلاج الفتور ، مع التوضيح الموجز لكل وصية.
1- تحصيل اليقين وتحصيل الصبر؛ هذا أعظم ما يعالج به الفتور، وهو أصل العلاج، بقيّة العلاجات الأخرى تبعٌ لهذا العلاج، وهي مما يُستعان به على تحصيل الصبر، ومما يُستعان به على تحصيل اليقين، فيقصد طالب العلم إلى الأصل –أصل العلاج-؛ وهو تحصيل الصبر، وتحصيل اليقين. فاليقين هو أساس العلاج، يعني إذا قارنا بين الصبر واليقين، نجد أن اليقين هو الأصل؛ لأن صاحب اليقين يسهل له الصبر أكثر ممن ضعف يقينه. واليقين أمرٌ مهم جميعًا؛ بل هو أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده.
2- إقبال القلب على الله تعالى؛ وطلب الهدى منه جل وعلى، وكثرة الذكر والتذكر، ومعاودة التفكر والتدبر، حتى يكون العلم يقيني يقر في قلب صاحبه، فيحيى به، ويبصر به، ويمشي به، ويتكلم به، ويقوم به {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًاوَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَوَيَرْجُو رَحْمَةَرَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَوَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فالعلم المراد هنا هو علم اليقين؛ وهو مستمد من التصديق الذي هو حقيقة الإيمان.
3- أن يسلك طالب العلم في طلبه للعلم منهجًا صحيحًا موصلًا إلى غايته بإذن الله؛ وأن يحذر من التذبذب بين المناهج، والكتب، والشيوخ، وأن يسير على خطة منتظمة، فكلما وجد من نفسه جدًا، ونشاطًا؛ سار مرحلة فيها حتى يتمها، وإذا عرض له فتور، فإنه عرف الموضع الذي وصل إليه، فإذا عاوده النشاط، والجد؛ واصل طلبه من حيث انتهى حتى يصِل بإذن الله عز وجل.
4- تذكير النفس بفضل العلم وشرفه؛ هذا مما يزيده يقينًا، ويزيل عنه حجاب الغفلة، وطول الأمد، وما يحصل له من نسيان بعض فضائل طلب العلم، فإنه بالتذكر يعالج كثيرًا من الآفات بإذن الله عز وجل.
5- الإعراض عن اللغو؛ الإعراض عن اللغو مهم جدًا لعلاج الفتور، ولا يستقيم لطالب العلم حصول طلب العلم على الوجه الصحيح المرضي، وهو لا يعرض عن اللغو، والإعراض عن اللغو من أعظم أسباب الفلاح، جعله الله عز وجل بعد الصلاة مباشرة في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون} بعد الصلاة مباشرةً {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون} فمن أعظم أسباب الفلاح؛ الإعراض عن اللغو، والجمع بين الصلاة والإعراض عن اللغو؛ هذا فيه تنبيه على أن النفس كالنبات، تحتاج إلى غذاءٍ يقويها، وإلى وقاية تحميها؛ فالصلاة غذاءٌ للروح، والإعراض عن اللغو حماية؛ بل هو أصل الحمايات؛ الإعراض عن اللغو، وكثير من الآفات إنما تتسلط على الإنسان بسبب عدم اعراضه عن اللغو؛ اتباعه لفضول الكلام، لفضول المخالطة، لفضول كذا، لفضول كذا، كثيرٌ من اللغو يجر إلى معاطب، فاجتنابه، وإعراضه عن اللغو من أوله؛ يسهّل له النجاة والسلامة من آفات كثيرة.
6- معرفة قدر النفس، وعدم تحميلها ما لا تطيق؛ ينبغي لطالب العلم أن يعرف قدر نفسه، قدر ما تطيقه، فيأخذ من الأمور بما يطيق {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}، ويحرص على أن يجتهد فيما يطيق، وفيما ييسره الله عز وجل، فإنه بعد ذلك تنفتح له أبواب العلم بإذن الله عز وجل، ويحصل منها على ما ييسره الله عز وجل له، وإذا كان سائرًا في طريقه طلب العلم على شكر نعمة الله عز وجل؛ فإن الله تعالى يزيده، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِيلَشَدِيدٌ}.
7-الحذر من علل النفس الخفية؛ التي قد يحرم بسببها من بركة العلم، ومن مواصلة طلب العلم؛ كالعجب، والغرور، والمراءاة، والتسميع، وحب الرياسة، والعلو في الأرض، والمراء، والتعالي، واستكثار العلم، والتفاخر، ونحو ذلك.