القارئ:بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: ما جاء في اللعان من الأحكام:
باب اللعان
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن فلان ابن فلان قال: يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع ؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم , وإن سكت سكت على مثل ذلك . قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجب , فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به . فأنزل الله تعالى هؤلاء الآيات في سورة النور: {والذين يرمون أزواجهم} فتلاهن عليه ووعظه وذكره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة , فقال: لا, والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها ووعظها وذكرها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة , فقالت: لا , والذي بعثك بالحق إنه لكاذب . فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين , والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فرق بينهما , ثم قال:((الله يعلم أن أحدَكما كاذب , فهل منكما تائب ثلاثا)). وفي لفظ:((لا سبيل لك عليها .. لا سبيل لك عليهما)) . قال: يارسول الله , مالي. قال:((لا مال لك , إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها , وإن كنت كذبت فهو أبعد لك منها)) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا كما قال الله تعالى ، ثم قضىبالولد للمرأة ، وفرق بين المتلاعنين .
الشيخ: هذه الأحاديث من الأحاديث التي تشرح وتبين ما ورد في كتاب الله تعالى ، ذكر العلماء أنه لما نزلت آيات القذف وحد القاذف ,وهو قول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} استثقلها بعض الصحابة ، وقالوا: إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا يفجر بها كيف يذهب ويأتي بأربعة شهداء , لا يأتي بأربعة شهداء حتى يقضي الفاجر حاجته ويذهب , فعند ذلك تحرجوا ووقعوا في مشكلة , فبين الله تعالى حكم ما إذا قذف الرجل امرأته في هذه الآيات .
وبقية الآيات التي فيها حد القذف خاصة بمن قذف أجنبيا أو أجنبية , خاصة بمن قذف رجلا بفعل فاحشة فلا يقبل منه إلا بأربعة شهداء , أوقذف امرأة محصنة فلا يقبل منه إلا بأربعة شهداء , قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} , وقال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} , وقال تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} .
أما إذا قذف الرجل امرأته فإنه قد لا يستطيع أن يحضر أربعة شهداء ، ففي هذه الحال ماذا يفعل ؟ يقول هذا السائل عبر عنه بقوله: فلان , وقد سمي في بعض الروايات بأنه عويمر العجلاني, من بني عجلان من الأنصار ، ووقعت مثل هذه القصة لرجل آخر وهو هلال بن الربيع ، أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في قوله: {وعلىالثلاثة الذين خلفوا} .
هذان الاثنان وقع أن كلا منهما قذف امرأته وتلاعن معها عندالنبيصلى الله عليه وسلم بعدما نزلت هذه الآيات , ويمكن أن القصتين وقعتا في زمن متقارب , أن قصة هلال وقصة عويمر وقعتا في وقت قريب: في شهر أو في شهرين , فأنزل الله هذه الآيات في بيان الحكم في مثل هذه القصة .
دعا النبي صلى الله عليه وسلم عويمرا فقرأ عليه هذه الآيات ، وذكره ووعظهإذا كان كاذبا أن يخافَ؛ وذلك لأنه إذا اعترف فحده ثمانون جلدة , اعترف بأنه كاذب , حده ثمانون جلدة ، وإذا أنكر وهو كاذب عليها فعقوبته في الآخرة أشد ، ولأجل ذلك قال له:((إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا)) ، فعذاب الدنيا منقطع ، وعذاب الآخرة أشد وأبقى، ذكره ووعظه وخوفه , ولكنه أصر على أن يستمر على قذفه لها ، وأنه رآها زانية أو تزني , فعند ذلك أمره بأن يلتعن ويقول:أشهد بالله على امرأتي هذه أنها زنت ...
الوجـه الثانـي
... أشهد بالله على هذه المرأة زوجتي أنها زنت ، أشهد بالله على هذه المرأة فلانة امراتي أنها زنت أربع مرات ، ثم يقول بعد ذلك في المرة الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين , شهد أربع شهادات أنه صادق , فقال: لقد صدقت عليها فيما قلت ، ولعن نفسه في المرة الخامسة إن كان قد كذب عليها، ولما تم لعانه دعا المرأة واستثبتها ، ووعظها وذكرها، وأخبرها بأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الأولى ؛ رجاء أن تعترف إن كانت قد فجرت ، ولكنها أصرت على الإنكار وتشددت وقالت: قد كذب علي, فعند ذلك استحلفها ، فشهدت أربع مرات وقالت: أشهد بالله على زوجي هذا أنه من الكاذبين فيما قذفني به , أربع مرات ، ثم قالت في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين .
فلما شهدت على نفسها أربع مرات والخامسة دعت على نفسها بالغضب , عند ذلك ذكرهما بالتوبة , فقال:((الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب)). النبي صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم الغيب ولم يعين , لو كان يعلم الغيب لقال: أنت كاذبة وأنت صادق ، أو أنت صادقة وأنت كاذب , ولكن الله الذي يعلم , فلذلك قال: ((الله يعلم أن أحدكما كاذب , فهل منكما تائب)) فلما استمر كل منهما على ما يبرر موقفه ، وأنكر ما يقوله الثاني , عند ذلك فرق بينهما ، أوقع الفرقة بينهما فرقة مؤبدة .
فأخذ العلماء من ذلك أن الملاعِنة تحرم على الملاعِن ؛ عقوبة لهما , حرمة مؤبدة , حتى لو كذب نفسه بعد ذلك لم يرجع إليها ، وكذلك لو كذبت نفسها وسقط عنها الحد ، أو كانت غير محصنة وجلدت وأقيم عليها الحد , لم يتمكن من مراجعتها , لا بعقد ولا بمراجعة ولا بغير ذلك ، بل الفرقة بينهما فرقة دائمة لا رجوع إليه بعدها ، ولأجل ذلك قال:((لا سبيل لك عليها)) ، أي ليس لك سلطان ولا قدرة أن تستعيدها .
في بعض الروايات أنه طلقها وقال: كذبت عليها يا رسول اللهإن أمسكتها , أي إن كنت رضيتهافأنا كاذب عليها, فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم ,ولكن هذا الطلاق لا يحتاج إليه ؛ لأن الفرقة حصلت قبله , بمجرد تمام التلاعن حصلت الفرقة . ولما طلب ماله الذي دفعه كمهر قطع رجاءه من هذا المال وقال: ((إن كنت كاذبا عليها فهو أبعد منك , وإن كنت صادقا فهو بما استحللت من فرجها)) أي أنك قد نكحتها مدة ، فهذا المال الذي قد دفعته إليها مقابل استمتاعك بها هذه المدة .
أخذ العلماء من هذه الواقعة ومن هذه الآيات أحكاما , منها أن هذه الفاحشة لا يصبر عليها ولا يقرها في أهله إلا الديوث الذي يقر الخنافي أهله ، فهذان من الصحابة اثنان هلال وعويمر , كل منهما صبر على فراق زوجته وادعى أنها زانية، ولاعنها ، ولم يقرها أن تبقى معه وهو يعلم أنها قد فجرت ولو مرة واحدة ، وذلك دليل على حماستهم وغيرتهم على نسائهم , لا يرضى أحدهم أن يشاركه في امرأته شخص أجنبي يفسد عليه فراشه ، ويدخل عليه من الأولاد ما ليس له ، وأن امرأته تخونه فتدخل في بيته من ليس يرضاه ، وتجلس على فراشه من ليس بأهل ، وتمكن من نفسها غير زوجها ، فإن ذلك حرام , وفعله منها يعتبر خيانة لزوجها ، وإقرار الزوج على ذلك يعتبر دياثة وإقرارا للإثم والحرام ,ولم يكن الصحابة يقرون على شيء من ذلك , وهكذا أيضا كل غيور , كل من عنده حماسة وغيرة على محارمه لا يقر الخنا في أهله ، بل متى رأى من امرأته شيئا من الخيانة أدبها ولو شيئا من الإشارة أو نحوذلك , وإذا لم يستطع أن يقيمها لم يستطع إمساكها ، بل صبر على فراقها ولو كان معها أولاده , صبر على فراقها ، ولو كان قد خسر عليها خسرانا أو مالا كبيرا .
وكذلك أيضا حرص على أن يبرئ ساحته ؛ حتى لا يقال: إنه ظلمها وإنه كذب عليها , فلأجل ذلك يحضر عند القاضي , الغيور الذي يغار على محارمه, يحضر عند القاضي ، ويحضر امرأته , ويحضر معه من يشهد عليها ويعرف أنها فلانةامرأة هذا الرجل ، فعند ذلك يأمره القاضي بهذا الأمر الذي هو التلاعن .
القرائن غالبا تكون في جانب الرجل أنه أولى بأن يكون صادقا ؛ وذلك لأنه في الغالب لا يصبر على فراق امرأته ، ولا على فراق أولاده ، ولا على ذهاب ماله الذي دفعه إلا وقد رأى شيئا يسوؤه ، ورأى مالا صبر له عليه من هذه الخيانة الشنيعة البشعة ، فلا يستطيع أن يصبر , فعند ذلك يُقدم على قذفها ورميها , هذا يراه بعضهم حتى يبرأ ساحته ، وحتى يظهر عيبها وشناعتها، ويظهر خيانتها ، ويعرف الناس أنها متهمة , فلا يقبلها من هو ذو غيرة ولا ذو أنفة على نفسه , إذا افتضحت هذه المرأة بأنها قد لعنت وطلقت , وأن زوجها ليس بمتهم ، وأن التهمة أقرب إليها , كان ذلك أقرب إلى ألا تفعل شيئا يسوؤها ولا يسوء زوجها .
نقول: إذا وقع في هذه الأزمنة , كثير من الرجال يأتون إلينا ، ويشتكون ما يرونه من نسائهم ، أو ما يسمعون ، أو ما يطلعون على أسرار أو على خفايا ، أو على قرائن أو نحو ذلك ، ولعلكم قد سمعتم أكثر مما سمعنا , نشير عليه بأن يفارقها سرا , إذا تحقق أنها قد اتخذت أخدانا وأنها قد خانته في نفسها وفي فراشه , نشير عليه بأن يفارقها ، وألا يكشف سترها وسرها , ولكن يخبرها فيما بينه وبينها ؛ حتى يكون ذلك عُذرا له عندها ، فيخبرها بأنه قد اطلع على كذا وكذا .
كيف يطلع ؟ كثير من الرجال يطلعون على سماع , كثير منهم وبالأخص في الزمن الأخير بعد وجود المكالمات الهاتفية يسجل عليها مكالمات بينها وبين بعض أخدانها , ويجد أنها قد خرجت معهم أو أنها قد أدخلتهم في غيبته ، وأن هذه الأشرطة تشهد بكلامها معهم ، وبما قد يحصل من ترقيق الكلام وما أشبه ذلك , مما يدل على بشاعة ما حصل منها أو تهمتها بذلك . أو قد يجد أنها أدخلت في اليوم الفلاني شخص فيعثر عليه ، أو خرج منها من هو متهم أو نحو ذلك ، ولكن ليس عنده يقين , ما رأى بعيني رأسه فعلها للفاحشة ، ولكن رأى هذه المقدمات ولا يستطيع أن يقذفها بمجرد هذه المقدمات.
ففي هذه الحال يخبرها سرا ويفارقها ، ولا يمسكها وهي على هذه الحالة ؛ حتى يسلم على عرضه ، وحتى يسلم على شرفه وعلى نسبه , ولا يدخل في نسبه ولا في أولاده من هو ليس من أهله ، وبذلك يستر نفسه ويستر امرأته , ولا يعرض نفسه للحلف أو للعن أو للشهادات ، أو ما أشبه ذلك .
أما إذا رأى بعينه وسمع بأذنه , رأى الفاحشة التي ليس بعدها بأن وجد عليها رجلا أجنبيا , فنقول له في هذه الحال: يحقق هذا الباب الذي هو اللعان فيرميها ، ويحضر معها عند الحاكم كما فعل هذان الصحابيان هلال وعويمر , ويأمره القاضي بأن يشهد هذه الشهادات , ثم بعد ذلك يكون ذلك فضيحة لها وتشهيرا لها حتى يتوب أمثالها من النساء اللاتي فيهن ميل إلى المخادنة وخيانة لأزواجهن , ويعرفن أن هذه الفضيحة كما أتت عليها قد تأتي على إحداهن أو على جميعهن , فيقل بذلك الشر وينتشر الخير .