دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > بلوغ المرام > كتاب الطلاق

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22 محرم 1430هـ/18-01-2009م, 11:12 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي باب اللعان


بابُ اللِّعانِ
عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: سَأَلَ فُلانٌ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنا امْرَأَتَهُ على فَاحِشَةٍ، كيفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بأمْرٍ عظيمٍ، وإنْ سَكَتَ سَكَتَ على مِثلِ ذلكَ. فَلَمْ يُجِبْهُ. فلَمَّا كانَ بعدَ ذلكَ أَتَاهُ فقالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عنهُ قد ابْتُلِيتُ بهِ، فأَنْزَلَ اللَّهُ الآياتِ في سُورَةِ النُّورِ، فتَلَاهُنَّ عليهِ ووَعَظَهُ وذَكَّرَهُ، وأَخْبَرَهُ أنَّ عذابَ الدُّنْيَا أَهونُ مِنْ عذابِ الآخِرَةِ، قالَ: لا، والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ ما كَذَبْتُ علَيْهَا. ثمَّ دَعَاهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوَعَظَها كذلكَ، قالَتْ: لا، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إنَّهُ لَكَاذِبٌ. فَبَدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ، ثمَّ ثَنَّى بالمرأةِ، ثمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. رواهُ مسلمٌ.
وعن ابنِ عُمرَ أيضًا، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: ((حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا))، قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، مَالِي؟ قالَ: ((إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
وعنْ أنسٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا فَهُوَ الَّذِي رَمَاهَا بِهِ)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يدَهُ عندَ الخامسةِ على فِيهِ، وقالَ: ((إِنَّهَا مُوجِبَةٌ)). رواهُ أبو داودَ والنَّسائيُّ، ورجالُهُ ثِقَاتٌ.
وعنْ سَهْلِ بنِ سعدٍ –في قِصَّةِ المُتَلَاعِنَيْنِ– قالَ: فلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهما قالَ: كَذَبْتُ علَيْهَا يا رسولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا. فطَلَّقَهَا ثَلاثًا قبلَ أنْ يَأْمُرَهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عليهِ.
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما،أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يدَ لَامِسٍ، قالَ: ((غَرِّبْهَا))، قالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي، قالَ: ((فَاسْتَمْتِعْ بِهَا)). رواهُ أبو داودَ والْبَزَّارُ، ورجالُهُ ثِقَاتٌ.
وأَخْرَجَهُ النَّسائيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عن ابنِ عَبَّاسٍ، بلفظِ: قالَ: ((طَلِّقْهَا))، قالَ: لا أَصْبِرُ عنها، قالَ: ((فَأَمْسِكْهَا)).
وعنْ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،أنَّهُ سَمِعَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ حينَ نَزَلَتْ آيَةُ المُتَلاعِنَيْنِ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ. وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ؛ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ)). أَخْرَجَهُ أبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ مَاجَهْ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ.
وعنْ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ لهُ أنْ يَنْفِيَهُ. أَخْرَجَهُ البيهقيُّ، وهوَ حسَنٌ مَوقوفٌ.
وعنْ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ،إنَّ امرأتِي وَلَدَتْ غُلامًا أسودَ؟ قالَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)) قالَ: نَعَمْ، قالَ: ((فَمَا أَلْوَانُهَا؟)) قالَ: حُمْرٌ، قالَ: ((هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟)) قالَ: نَعَمْ،قالَ: ((فَأَنَّى ذَلِكَ؟)) قالَ: لعَلَّهَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قالَ: ((فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
وفي روايَةٍ لمُسْلِمٍ: وهوَ يُعَرِّضُ بأنْ يَنْفِيَهُ، وقالَ في آخِرِهِ: ولَمْ يُرَخِّصْ لهُ في الانتفاءِ منهُ.

  #2  
قديم 22 محرم 1430هـ/18-01-2009م, 03:00 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سبل السلام للشيخ: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني


بَابُ اللِّعَانِ
هُوَ مَأْخُوذٌ مِن اللَّعْنِ؛ لأَنَّهُ يَقُولُ الزَّوْجُ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِن الْكَاذِبِينَ، وَيُقَالُ فِيهِ: اللِّعَانُ، وَالالْتِعَانُ، وَالْمُلاعَنَةُ. وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجِ.
فَقَالَ فِي الشِّفَاءِ لِلأَمِيرِ الْحُسَيْنِ: يَجِبُ إذَا كَانَ ثَمَّةَ وَلَدٌ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَبْهَا. وَفِي الْمُهَذَّبِ وَالانْتِصَارِ أَنَّهُ مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِالزِّنَا مِن الْمَرْأَةِ أَو الْعِلْمِ يَجُوزُ وَلا يَجِبُ، وَمَعَ عَدَمِ الظَّنِّ يَحْرُمُ.
1/1030 - عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلَ فُلانٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. فَلَمْ يُجِبْهُ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَد ابْتُلِيتُ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ، فَتَلاهُنَّ عَلَيْهِ، وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. قَالَ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا.
ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا كَذَلِكَ، قَالَتْ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إنَّهُ لَكَاذِبٌ. فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلَ فُلانٌ): هُوَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلانِيُّ كَمَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ)؛ أيْ: عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، (فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَد ابْتُلِيتُ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ).
وَالأَكْثَرُ فِي الرِّوَايَاتِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيَاتِ قِصَّةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ، وَكَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ، وَإِنَّمَا تَلاهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَنَّ حُكْمَهَا عَامٌّ لِلأُمَّةِ.
(فَتَلاهُنَّ عليهِ، وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ): عَطْفُ تَفْسِيرٍ؛ إذ الْوَعْظُ هُوَ التَّذْكِيرُ.
(وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ) الْمَوْعُودِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
(قَالَ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا كَذَلِكَ، قَالَتْ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إنَّهُ لَكَاذِبٌ. فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: قَوْلُهُ: فَلَمْ يُجِبْهُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَكَرِهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ الْمَسْأَلَةَ عَمَّا لا حَاجَةَ بِالسَّائِلِ إلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَت الْمَسَائِلُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ حُكْمٌ زَمَنَ نُزُولِ الْوَحْيِ مَمْنُوعَةً؛ لِئَلاَّ يَنْزِلَ فِي ذَلِكَ مَا يُوقِعُهُمْ فِي مَشَقَّةٍ وعَنَتٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْماً مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ)).
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ وَجَدْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ التَّبْيِينِ وَالتَّعْلِيمِ فِيمَا يَلْزَمُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ.
وَالآخَرُ: مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّعَنُّتِ وَالتَّكَلُّفِ.
فَأَبَاحَ الأمرَ الأَوَّلَ، وَأَمَرَ بِهِ وَأَجَابَ عَنْهُ، فَقَالَ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، وَقَالَ: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}، وَأَجَابَ تَعَالَى فِي الآيَاتِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ فِي النَّوْعِ الآخَرِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، وَقَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا}.
فَكُلُّ مَا كَانَ مِن السُّؤَالِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ، فَإِذَا وَقَعَ السُّكُوتُ عَنْ جَوَابِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ زَجْرٌ لِلسَّائِلِ، فَإِذَا وَقَعَ الْجَوَابُ فَهُوَ عُقُوبَةٌ وَتَغْلِيظٌ.
الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ لأَنَّهُ الْمُدَّعِي، فَيُقَدَّمُ. وَبِهِ وَقَعَت الْبَدَاءَةُ فِي الآيَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ سُنَّةٌ.
وَاخْتُلِفَ: هَلْ تَجِبُ الْبَدَاءَةُ بِهِ أَمْ لا؟ فَذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ إلَى وُجُوبِهَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلالٍ: ((الْبَيِّنَةُ، وَإِلاَّ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ))، فَكَانَت الْبَدَاءَةُ بِهِ؛ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَن الرَّجُلِ، فَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْأَةِ كَانَ دَافِعاً لأَمْرٍ لَمْ يَثْبُتْ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا تَصِحُّ الْبَدَاءَةُ بِالْمَرْأَةِ؛ لأَنَّ الآيَةَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى لُزُومِ الْبَدَاءَةِ بِالرَّجُلِ؛ لأَنَّ الْعَطْفَ فِيهَا بِالْوَاوِ، وَهِيَ لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهَا، وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِ التَّرْتِيبَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لا يَبْدَأُ إلاَّ بِمَا هُوَ الأَحَقُّ فِي الْبَدَاءَةِ، وَالأَقْدَمُ فِي الْعِنَايَةِ، وَبَيَّنَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ((نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ)) فِي وُجُوبِ الْبَدَاءَةِ بِالصَّفَا.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا لا تَقَعُ إلاَّ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، لا بِنَفْسِ اللِّعَانِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ؛ مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّ الرَّجُلَ طَلَّقَهَا ثَلاثاً بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَانِ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَت الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ طَلاقَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَل الْفُرْقَةُ تَقَعُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِتَمَامِ لِعَانِهِ وَإِنْ لَمْ تَلْتَعِنْ هِيَ؟.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْصُلُ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: لا تَحْصُلُ إلاَّ بِتَمَامِ لِعَانِهِمَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ قَالَت الظَّاهِرِيَّةُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ذَلِكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ)).
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((ذَلِكُمْ)) عَنْ قَوْلِهِ: ((لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا))، قَالَ: وَكَذَا حُكْمُ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْفِرَاقُ لا يَكُونُ إلاَّ بمُحَكِّمٍ، فَقَدْ نَفَذَ الْحُكْمُ فِيهِ مِن الْحَاكِمِ الأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((ذَلِكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ)).
قَالُوا: وَقَوْلُهُ: فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، مَعْنَاهُ إظْهَارُ ذَلِكَ، وَبَيَانُ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ، لا أَنَّهُ أَنْشَأَ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا، قَالُوا: وأَمَّا طَلاقُهُ إيَّاهَا فَلَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يَزِد التَّحْرِيمَ الْوَاقِعَ بِاللِّعَانِ إلاَّ تَأْكِيداً، فَلا يَحْتَاجُ إلَى إنْكَارِهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لا فُرْقَةَ إلاَّ بِالطَّلاقِ لَجَازَ لَهُ الزَّوَاجُ بِهَا بَعْدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ وَلا قُوتَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلاقٍ، وَلا مُتَوَفًّى عَنْهَا.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي حَدِيثِ الْمُتَلاعِنَيْنِ قَالَ: مَضَت السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً.
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: ((لا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً)).
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالا: مَضَت السُّنَّةُ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ أَنْ لا يَجْتَمِعَا أَبَداً. وَعَنْ عُمَرَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً.
الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ، هَلْ هِيَ فَسْخٌ، أَوْ طَلاقٌ بَائِنٌ؟ فَذَهَبَت الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهَا فَسْخٌ؛ مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّهَا تُوجِبُ تَحْرِيماً مُؤَبَّداً، فَكَانَتْ فَسْخاً كَفُرْقَةِ الرَّضَاعِ؛ إذْ لا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً، وَلأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ صَرِيحاً فِي الطَّلاقِ، وَلا كِنَايَةً فِيهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا طَلاقٌ بَائِنٌ؛ مُسْتَدِلاًّ بِأَنَّهَا لا تَكُونُ إلاَّ مِنْ زَوْجَةٍ، فَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الْمُخْتَصَّةِ، فَهِيَ طَلاقٌ؛ إذْ هُوَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الْمُخْتَصَّةِ، بِخِلافِ الْفَسْخِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحْكَامِ غَيْرِ النِّكَاحِ؛ كَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن اخْتِصَاصِهِ بِالنِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ طَلاقاً، كَمَا أَنَّهُ لا يَلْزَمُ فِيهِ نَفَقَةٌ وَلا غَيْرُهَا.
الْخَامِسَةُ: وهيَ فَرْعٌ للرَّابِعَةِ، اخْتَلَفُوا لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ، هَلْ تَحِلُّ لهُ الزَّوْجَةُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَحِلُّ لَهُ؛ لِزَوَالِ الْمَانِعِ المُحَرِّمِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ خَاطِبٌ مِن الْخُطَّابِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: تُرَدُّ إلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لا تَحِلُّ لَهُ أَبَداً؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)).
قُلْتُ: قَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ لِمَن الْتَعَنَ وَلَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ.
السادسةُ: فِي حَدِيثِ لِعَانِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، الْحَدِيثُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ مِن الْفِقْهِ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ تَلاعَنَا، فَإِنَّ اللِّعَانَ يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ، فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ ذِكْرُهُ الْمَقْذُوفَ بِهِ تَبَعاً، وَلا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ: ((الْبَيِّنَةُ، أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ))، فَلَمَّا تَلاعَنَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهِلالٍ بِالْحَدِّ.
وَلا يُرْوَى فِي شَيْءٍ مِن الأَخْبَارِ أَنَّ شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ عَفَا عَنْهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَّ الَّذِي كَانَ يَلْزَمُهُ بِالْقَذْفِ سَقَطَ عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَذَلِكَ لأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى ذِكْرِ مَنْ يَقْذِفُهَا بِهِ؛ لإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ عَلَى الْقَصْدِ لَهُ بِالْقَذْفِ، وَإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَلا يَخْفَى أَنَّهُ لا ضَرُورَةَ فِي تَعْيِينِ مَنْ قَذَفَهَا بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ إذَا ذَكَرَ الرَّجُلَ وَسَمَّاهُ فِي اللِّعَانِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حُدَّ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْحَدُّ لازِمٌ لَهُ، وَلِلرَّجُلِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَدُّ لِلرَّجُلِ، وَيُلاعَنُ لِلزَّوْجَةِ، انْتَهَى.
قُلْتُ: وَلا دَلِيلَ فِي حَدِيثِ هِلالٍ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ بِالْقَذْفِ؛ لأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَقْذُوفِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ طَالَبَهُ بِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ سَقَطَ بِاللِّعَانِ، أَوْ بحَدِّهِ لِلْقَاذِفِ، فَيَتَبَيَّنُ الْحُكْمُ. وَالأَصْلُ ثُبُوتُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَاللِّعَانُ إنَّمَا شُرِعَ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَن الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ.
2/1031 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُتَلاعِنَيْنِ: ((حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي؟ فَقَالَ: ((إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَعَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُتَلاعِنَيْنِ: حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ)، بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ)، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِباً فَاللَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِجَزَائِهِ.
(لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا): هُوَ إبَانَةٌ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا سَلَفَ، (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي؟) يُرِيدُ بِهِ الصَّدَاقَ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهَا، (قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِباً عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
الْحَدِيثُ أَفَادَ مَا سَلَفَ مِن الْفِرَاقِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ فِي نَفْسِ الأَمْرِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ لا يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِمَّا سَلَّمَهُ مِن الصَّدَاقِ؛ لأَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقاً فِي الْقَذْفِ فَقَد اسْتَحَقَّت الْمَالَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَد اسْتَحَقَّتْهُ أَيْضاً بِذَلِكَ، وَرُجُوعُهُ إلَيْهِ أَبْعَدُ؛ لأَنَّهُ هَضَمَهَا بِالْكَذِبِ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ يَرْتَجِعُ مَا أَعْطَاهَا؟!

3/1032 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطاً فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْداً فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطاً): بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ: الْكَامِلُ الْخَلْقُ مِن الرِّجَالِ.
(فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ): بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ، وَهُوَ: الَّذِي مَنَابِتُ أَجْفَانِهِ سُودٌ، كَأَنَّ فِيهَا كُحْلاً، وَهِيَ خِلْقَةٌ.
(جَعْداً): بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ: مِن الرِّجَالِ الْقَصِيرُ، (فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَلَهُمَا فِي أُخْرَى: فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ.
وَفِي الأَحَادِيثِ ثَبَتَ لَهُ عِدَّةُ صِفَاتٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا وَلِلنَّسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ سَرْدِ صِفَاتِ مَا فِي بَطْنِهَا: ((اللَّهُمَّ بَيِّنْ))، فَوَضَعَتْ شَبِيهاً بِالَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اللِّعَانُ لِلْمَرْأَةِ الْحَامِلِ، وَلا يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ تَضَعَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ؛ لِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَت الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، إِنَّهُ لا لِعَانَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رِيحاً، فَلا يَكُونُ لِلِّعَانِ حِينَئِذٍ مَعْنًى.
قُلْتُ: وَهَذَا رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ لا لِعَانَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّ الْحَمْلِ مِن الأَجْنَبِيِّ، لا لِوِجْدَانِهِ مَعَهَا، الَّذِي هُوَ صُورَةُ النَّصِّ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَفِي الْوَلَدُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَر النَّفْيُ فِي الْيَمِينِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ اللِّعَانُ عَلَى الْحَمْلِ بِشَرْطِ ذِكْرِ الزَّوْجِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وبهِ يَصِحُّ نَفْيُ الْوَلَدِ وَهُوَ حَمْلٌ، وَيُؤَخَّرُ اللِّعَانُ إلَى مَا بَعْدَ الْوَضْعِ. وَلا دَلِيلَ عَلَيْهِمَا، بَل الْحَقُّ قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي اللِّعَانِ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ الْوَلَدِ، وَلَمْ نَرَهُ فِي حَدِيثِ هِلالٍ وَلا عُوَيْمِرٍ، وَلَمْ يَكُن اللِّعَانُ إلاَّ مِنْهُمَا فِي عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا لِعَانُ الْحَامِلِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَن ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْمَرْأَةِ.
وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ: وَكَانَتْ حَامِلاً، فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا، وَذَكَر أَنَّهُ انْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ، وَلَكِنَّهُ لا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَلَدِ؛ لأَنَّهُ فَعَلَهُ الرَّجُلُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يَصِحُّ نَفْيُ الْحَمْلِ وَاللِّعَانُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لاعَنَهَا حَامِلاً ثُمَّ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لَزِمَهُ، وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ نَفْيِهِ أَصْلاً؛ لأَنَّ اللِّعَانَ لا يَكُونُ إلاَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذِهِ قَدْ بَانَتْ بِلِعَانِهِمَا فِي حَالِ حَمْلِهَا. وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الثَّابِتِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيُّ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ: وَكَانَتْ حَامِلاً، مِنْ كَلامِ الزُّهْرِيِّ، لَكِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ صَحِيحٌ صَرِيحٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَافَةِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهَا إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَتِهِ؛ لأَنَّهُ لِلْفِرَاشِ، لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْمَانِعَ عَن الْحُكْمِ بِالْقِيَافَةِ نَفْياً وَإِثْبَاتاً بِقَوْلِهِ: ((لَوْلا الأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ)).
4/1033 - وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، وَقَالَ: ((إِنَّهَا مُوجِبَةٌ)).
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
(وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا مُوجِبَةُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ).
فِيهِ دَلالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ مِن الْحَاكِمِ الْمُبَالَغَةُ فِي مَنْعِ الْحَلِفِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ كَاذِباً؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ بِالْقَوْلِ بِالتَّذْكِيرِ وَالْوَعْظِ كَمَا سَلَفَ، ثُمَّ مَنَعَ هَاهُنَا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْعِ يَدِ أَحَدٍ عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ أَوْهَمَهُ كَلامُ الرَّافِعِيِّ.
وَقَوْلُهُ: ((إنَّهَا الْمُوجِبَةُ))؛ أيْ: لِلْفُرْقَةِ وَلِعَذَابِ الْكَاذِبِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّعْنَةَ الْخَامِسَةَ وَاجِبَةٌ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّحْلِيفِ، فَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَحْلِيفِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ: إِنِّي لَصَادِقٌ))، يَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

5/1034 - وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ الْمُتَلاعِنَيْنِ - قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا، قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلاثاً قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -فِي قِصَّةِ الْمُتَلاعِنَيْنِ- قَالَ)؛ أَي: الرَّجُلُ، (لَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلاثاً قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، تَقَدَّمَ الْكَلامُ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَقَامِ.
6/1035 - وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، قَالَ: ((غَرِّبْهَا))، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي، قَالَ: ((فَاسْتَمْتِعْ بِهَا)).
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ: قَالَ: ((طَلِّقْهَا))، قَالَ: لا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ: ((فَأَمْسِكْهَا)).
(وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، قَالَ: غَرِّبْهَا): بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أيْ أَبْعِدْهَا، يُرِيدُ الطَّلاقَ.
(قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي، قَالَ: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ). وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ الصِّحَّةَ، لَكِنَّهُ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لا يَثْبُتُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، فَتَمَسَّكَ بِهَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَعَدَّهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، مَعَ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. (وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: قالَ: طَلِّقْهَا، قَالَ: لا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ: فَأَمْسِكْهَا).
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ الْفُجُورُ، وَأَنَّهَا لا تَمْنَعُ مَنْ يُرِيدُ مِنْهَا الْفَاحِشَةَ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْخَلاَّلِ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ الأَعْرَابِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الرَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ تَطْلِيقُ مَنْ فَسَقَتْ بِالزِّنَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ لا يَقْدِرُ عَلَى مُفَارَقَتِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُبَذِّرُ بِمَالِ زَوْجِهَا، وَلا تَمْنَعُ أَحَداً طَلَبَ مِنْهَا شَيْئاً. وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ وَالأَصْمَعِيِّ، وَنَقَلَهُ عَنْ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى الأَوَّلِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ أَشْبَهَ بِالْحَدِيثِ؛ لأَنَّ الْمَعْنَى الأَوَّلَ يُشْكِلُ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الآيَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ.
قُلْتُ: الْوَجْهُ الأَوَّلُ فِي غَايَةٍ مِن الْبُعْدِ، بَلْ لا يَصِحُّ؛ لِلآيَةِ، وَلأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَأْمُرُ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ دَيُّوثاً، فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا لا يَصِحُّ.
وَالثَّانِي بَعِيدٌ؛ لأَنَّ التَّبْذِيرَ إنْ كَانَ بِمَالِهَا فَمَنْعُهَا مُمْكِنٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ، وَلا يُوجِبُ أَمْرَهُ بِطَلاقِهَا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: فُلانٌ لا يَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، كِنَايَةً عَن الْجُودِ، فَالأَقْرَبُ الْمُرَادُ أَنَّهَا سَهْلَةُ الأَخْلاقِ، لَيْسَ فِيهَا نُفُورٌ وَحِشْمَةٌ عَن الأَجَانِبِ، لا أَنَّهَا تَأْتِي الْفَاحِشَةَ، وَكَثِيرٌ مِن النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مَعَ الْبُعْدِ عن الْفَاحِشَةِ، كما قالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
بَيْضَاءُ يُطْمَعُ فيما تَحْتَ حُلَّتِهَا = وَعِزُّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ إِذَا طُلِبَ
وَلَوْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا لا تَمْنَعُ نَفْسَهَا عَن الْوِقَاعِ مِن الأَجَانِبِ لَكَانَ قَاذِفاً لَهَا.
7/1036 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلاعِنَيْنِ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ يُدْخِلْهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ. وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ)).
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلاعِنَيْنِ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ. وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ)؛ أيْ: يَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدُهُ، (احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).
وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلا يُعْرَفُ عَبْدُ اللَّهِ إلاَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَفِي تَصْحِيحِهِ نَظَرٌ. وَصَحَّحَهُ أَيْضاً الدَّارَقُطْنِيُّ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِتَفَرُّدِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِي الْبَابِ عَن ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَفِيهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْجَوْزِيُّ، ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَن ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ عَن وَكِيعٍ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ وَكِيعٌ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَاضِحٌ.
8/1037 - وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ.
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ.
(وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ).
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ النَّفْيُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ الإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا سَكَتَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ وَلَمْ يَنْفِهِ، قَالَ الْمُؤَيَّدُ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهُ النَّفْيَ؛ لأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ، وَذَلِكَ كَالشَّفِيعِ إذَا أَبْطَلَ شُفْعَتَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِاسْتِحْقَاقِهَا.
وَذَهَبَ أَبُو طَالِبٍ إلَى أَنَّ لَهُ النَّفْيَ مَتَى عَلِمَ؛ إذْ لا يَثْبُتُ التَّخْيِيرُ مِنْ دُونِ عِلْمٍ، فَإِنْ سَكَتَ عِنْدَ الْعِلْمِ لَزِمَ وَلَمْ يُمَكَّنْ مِن النَّفْيِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلا يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ فَوْرٌ وَلا تَرَاخٍ، بَل السُّكُوتُ كَالإِقْرَارِ.
وَقَالَ الإِمَامُ يَحْيَى وَالشَّافِعِيُّ: بَلْ يَكُونُ نَفْيُهُ عَلَى الْفَوْرِ، قَالَ: وَحَدُّ الْفَوْرِ مَا لَمْ يُعَدَّ تَرَاخِياً عُرْفاً، كَمَا لَو اشْتَغَلَ بِإِسْرَاجِ دَابَّتِهِ، أَوْ لُبْسِ ثِيَابِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يُعَدَّ تَرَاخِياً. وَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ تَقَادِيرُ لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ إلاَّ الرَّأْيُ، وَفُرُوعٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ أَصِيلٍ.

9/1038 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاماً أَسْوَدَ، قَالَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَمَا أَلْوَانُهَا؟)) قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: ((هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَأَنَّى ذَلِكَ؟)) قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: ((فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَهُوَ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الانْتِفَاءِ مِنْهُ.
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً). قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ: إنَّ اسْمَهُ ضَمْضَمُ بْنُ قَتَادَةَ، (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاماً أَسْوَدَ، قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟) بِالرَّاءِ وَالْقَافِ بِزِنَةِ أَحْمَرَ، وَهُوَ: الَّذِي فِي لَوْنِهِ سَوَادٌ لَيْسَ بِحَالِكٍ.
(قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ): بِالنُّونِ فَزَايٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ؛ أيْ: جَذَبَهُ إلَيْهِ، (عِرْقٌ. قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ)؛ أيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، (وهُوَ)؛ أَي: الرَّجُلُ، (يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الانْتِفَاءِ مِنْهُ).
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ مِن الرَّجُلِ تَعْرِيضٌ بِالرِّيبَةِ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ نَفْيَ الْوَلَدِ، فَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَلَمْ يُجْعَلْ خِلافُ الشَّبَهِ وَاللَّوْنِ دَلالَةً يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِمَا يُوجَدُ مِن اخْتِلافِ الأَلْوَانِ فِي الإِبِلِ، وَلِقَاحُهَا وَاحِدٌ.
وَفِي هَذَا إثْبَاتُ الْقِيَاسِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَيْنِ حُكْمُهُمَا مِنْ حَيْثُ الشَّبَهُ وَاحِدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لا يَجِبُ فِي الْمَكَانِيِّ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْقَذْفِ الصَّرِيحِ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: التَّعْرِيضُ إذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ السُّؤَالِ لا حَدَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي التَّعْرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ.
وَقَالَ ابْنُ المُنَيِّرِ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالأَجْنَبِيِّ فِي التَّعْرِيضِ، بأَنَّ الأَجْنَبِيَّ يَقْصِدُ الأَذِيَّةَ الْمَحْضَةَ، وَالزَّوْجَ قَدْ يُعْذَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صِيَانَةِ النَّسَبِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لا خِلافَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ نَفْيُ الْوَلَدِ بِاخْتِلافِ الأَلْوَانِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالسُّمْرَةِ وَالأُدْمَةِ، وَلا فِي الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الاسْتِبْرَاءِ.
قَالَ فِي الشَّرْحِ: كَأَنَّهُ أَرَادَ فِي مَذْهَبِهِ، وَإِلاَّ فَالْخِلافُ ثَابِتٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَفْصِيلٍ، وَهُوَ إنْ لَمْ تَنْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةُ زِناً لَمْ يَجُز النَّفْيُ، وَإِن اتَّهَمَهَا فأَتَتْ بِوَلَدٍ عَلَى لَوْنِ الرَّجُلِ الَّذِي اتَّهَمَهَا بِهِ جَازَ النَّفْيُ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ النَّفْيُ مَعَ الْقَرِينَةِ مُطْلَقاً، وَالْخِلافُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِهَا. وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُهُ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مَعَهُ قَرِينَةَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مُخَالَفَةِ اللَّوْنِ.

  #3  
قديم 22 محرم 1430هـ/18-01-2009م, 03:01 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام


بَابُ اللِّعَانِ
مُقَدِّمَةٌ
اللِّعانُ: مُشْتَقٌّ مِن اللَّعْنِ، وهو الطَّرْدُ والإِبْعادُ.
فسُمِّيَ اللِّعَانُ بهذا الاسْمِ؛ إِمَّا مُراعاةً للألفاظِ؛ لأنَّ الرجُلَ يَلْعَنُ نَفْسَه في الخامسةِ من الشهاداتِ على صِدْقِ دَعْوَاهُ، واشْتُقَّ من دُعاءِ الرجُلِ باللَّعْنِ، لا مِن دُعاءِ المرأةِ بالغَضَبِ؛ لتَقَدُّمِ اللَّعْنِ على الغَضَبِ في الآياتِ؛ وإِمَّا مُراعاةً للمعْنَى، وهو الطَّرْدُ والإبعادُ؛ لأنَّ الزوجَيْنِ يَفْتَرِقَانِ بعدَ تَمامِه فُرْقَةً مُؤَبَّدَةً لا اجْتماعَ بعدَها.
تَعْرِيفُه شَرْعاً: أنَّه شَهاداتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بأَيْمَانٍ مِن الزَّوْجَيْنِ، مَقْرُونَةٌ بلَعْنٍ، أو غَضَبٍ.
والأَصْلُ فيهِ الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ؛ فأمَّا الكتابُ فقَوْلُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ} الآيات: [النور: 6].
وأمَّا السُّنَّةُ: فمِثْلُ حديثِ البابِ.
وقَدْ أَجْمَعَ عليهِ العُلماءُ في الجُمْلَةِ.
حِكْمَتُه التَّشْريعيَّةُ:
الأصْلُ أنَّه مَن قَذَفَ مُحْصَناً بالزِّنَى قَذْفاً صَرِيحاً، فعليهِ إِقَامَةُ البَيِّنَةِ، وهي أَرْبَعَةُ شُهودٍ، فإنْ لَمْ يَأْتِ بهؤلاء الشُّهودِ، فعليهِ حَدُّ القَذْفِ ثمانونَ جَلْدَةً، كما قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
واسْتُثْنِيَ من هذا العمومِ إذا قَذَفَ الرجُلُ زَوْجَتَه بالزِّنَى، فعليهِ إقامةُ البَيِّنَةِ "أربعةِ شُهودٍ" على دَعْوَاهُ.
فإنْ لَمْ يَكُنْ لدَيْهِ أربعةُ شُهودٍ، فيَدْرَأُ عنه حَدَّ القَذْفِ: أَنْ يَحْلِفَ أربعَ مَرَّاتٍ: إنَّه لمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بهِ مِن الزِّنَى، وفي الخَامِسَةِ: يَلْعَنُ نَفْسَه إنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ، وذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا رَأَى الفَاحِشَةَ في زَوْجِه، فلا يَتَمَكَّنُ مِن السُّكُوتِ كَمَا لَوْ رَآهُ مِن الأَجْنَبِيَّةِ؛ لأنَّ هذا عارٌ عليهِ، وفَضِيحَةٌ له، وانتهاكٌ لحُرْمَتِه.
ولا يُقْدِمُ على قَذْفِ زَوْجَتِه إلاَّ مَن تَحَقَّقَ، لأنَّه لَنْ يُقْدِمَ على هذا إلا بِدَافِعٍ مِن الغَيْرَةِ الشديدةِ؛ إذْ إنَّ العارَ وَاقِعٌ عليهما، فيكونُ هذا مُقَوِّياً لصِحَّةِ دَعْواهُ.‌‌
950- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَ: سَأَلَ فُلانٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ، تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ، سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ! فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ الآياتِ فِي سُورَةِ النُّورِ.
فَتَلاهُنَّ عَلَيْهِ، وَوَعَظَهُ، وذَكَّرَهُ، وأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، قَالَ: لاَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا كَذَلِكَ، قَالَتْ: لاَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ. فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، ثًُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. رَواهُ مُسْلِمٌ
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- أَرَأَيْتَ: الهَمْزَةُ في أَوَّلِهِ للاستفهامِ الإنكاريِّ، والتاءُ مَفْتوحةً للمُخاطَبِ، وهي كَلِمةٌ تَقُولُها العَرَبُ بمعنى: أَخْبِرْنِي.
- فَاحِشَةٍ: مُؤَنَّثُ الفَاحِشِ، كلُّ قَبِيحٍ وشَنِيعٍ مِن قَوْلٍ وفِعْلٍ، والمرادُ به هنا فَاحِشَةُ الزِّنَى، سُمِّيَتْ فَاحِشَةً؛ لبُلُوغِها الغَايَةَ فِي القُبْحِ والشناعةِ.
- ابْتُلِيتُ: البَلاءُ المِحْنَةُ تَنْزِلُ بالمَرْءِ، فمعناهُ: امْتُحِنْتُ بهذا الأمْرِ.
- عَذَابَ الدُّنْيَا: حَدُّ القَذْفِ للرجُلِ، والحَبْسُ للمَرْأَةِ، حَيْثُ لا تُحَدُّ بمُجَرَّدِ النُّكولِ.
- عَذَابِ الآخِرَةِ: عَذَابُ النَّارِ جَزَاءَ فِعْلِ الفَاحِشَةِ.
- ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ: جَعَلَها الثانيةَ فِي تَرْتِيبِ اللِّعانِ، حَيْثُ الأولُ هو الزوجُ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- بَيانُ حُكْمِ اللِّعانِ وصِفَتِه، وهو أنْ يَقْذِفَ الرجُلُ زَوْجَتَه بالزِّنَى ولا يُقِيمَ البَيِّنَةَ، فعَلَيْهِ الحَدُّ، إلاَّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِي دَعْوَاهُ، وفِي الخَامِسَةِ: أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عليهِ إِنْ كَانَ مِن الكَاذِبِينَ، فإنْ نَكَلَتِ الزَّوْجةُ، أُقِيمَ عليها عَذَابُ الدنيا، وإنْ شَهِدَتْ باللهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ في رَمْيِها بهذهِ الفاحشةِ، وفي الخامسةِ: أَنَّ غَضَبَ اللهِ عليها إنْ كَانَ مِن الصادِقِينَ ـ دَرَأَتْ عَنْها عَذابَ الدنيا.
وقَدِ اخْتَلَفَ العلماءُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ على نُكولِها؛ فمَذْهَبُ الإمامَيْنِ مَالِكٍ والشَّافِعِيِّ أَنَّها تُحَدُّ، واخْتارَهُ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ، وابنُ القَيِّمِ.
قالَ الشيخُ مُحمدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ: وهو ظَاهِرُ الآيةِ.
أمَّا المَشْهورُ مِن مَذْهَبِ الإمامِ أَحْمَدَ: أنَّها لا تُحَدُّ بمُجَرَّدِ النُّكُولِ، وإِنَّمَا تُحْبَسُ حتى تُقِرَّ بالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، أو تُلاعِنَ.
2- إِذَا تَمَّ اللِّعانُ بَيْنَهما بشُروطِه، فُرِّقَ بينَهما فِراقاً مُؤَبَّداً، لا تَحِلُّ له، ولو بَعْدَ أزواجٍ.
3- على الحاكِمِ أَنْ يَعِظَ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الزَّوْجَيْنِ عندَ إِرَادَةِ اليَمِينِ، لعَلَّه يَرْجِعُ إِنْ كَانَ كَاذِباً، وكذلك بعدَ تَمامِ اللِّعانِ تُعْرَضُ عليهما التوبةُ؛ ليَتُوبَ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى.
4- خَالَفَ هذا البابُ غَيْرَه من أبوابِ الفِقْهِ بمسائِلَ:
منها: أنَّه لا بُدَّ أنْ يُقْرَنَ معَ اليَمِينِ لَفْظُ الشَّهادَةِ، وفي الخَامِسَةِ الدُّعاءُ على نَفْسِه باللَّعْنَةِ من الزوجِ، ومن الزوجةِ الدُّعاءُ على نَفْسِها في الخامسةِ بالغَضَبِ.
ومنها: تَكْرِيرُ الأَيْمانِ.
ومنها: أَنَّ الأصْلَ أنَّ البَيِّنَةَ علَى المُدَّعِي، واليَمِينَ علَى مَنْ أنْكَرَ، وهنا طُلِبَتِ الأَيْمَانُ مِن المُدَّعِي والمُنْكِرِ.
5- البَدَاءَةُ بالرجُلِ في التحليفِ، كما هو تَرْتِيبُ الآياتِ.
6- الزوجُ لا يَرْجِعُ بشيءٍ مِن صَدَاقِه بعدَ الدُّخولِ، ولو كَانَتِ الفُرْقَةُ مِن لِعَانٍ.
7- اللِّعَانُ خَاصٌّ بَيْنَ الزوجَيْنِ، أمَّا غَيْرُهما فيَجْرِي فيه حُكْمُ القَذْفِ المَعْرُوفُ.
8- كَرَاهَةُ المَسائِلِ التي لَمْ تَقَعْ، والبَحْثِ عنها، لا سِيَّمَا ما فيهِ أمَارَةُ الفَاحِشَةِ.
9- قالَ العلماءُ: اخْتُصَّتِ المرأةُ بلَفْظِ الغَضَبِ؛ لعِظَمِ الذَّنْبِ بالنسبةِ إليها على تَقْديرِ وُقوعِه، لِمَا فيهِ مِن تَلْويثِ الفِرَاشِ، والتَّعَرُّضِ لإلحاقِ مَن لَيْسَ مِن الزوجِ به، وذلكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، يَتَرَتَّبُ عليهِ مَفاسِدُ كَثِيرَةٌ؛ كانْتِشَارِ المَحْرَمِيَّةِ، وثُبوتِ الولايَةِ على الإِناثِ، واستحقاقِ الأموالِ بالتوارُثِ، فلا جَرَمَ أَنْ خُصَّتْ بلَفْظِ الغَضبِ، الذي هو أَشَدُّ من اللَّعْنَةِ.
10- وفي الحديثِ استحبابُ الإعراضِ عن الأسئلةِ التي لَمْ تَقَعْ، وإنَّما يُتَصَوَّرُ وُقوعُها تَصَوُّراً، لا سِيَّما إذا كَانَتْ في أُمورٍ مُسْتَكْرَهَةٍ.
11- وفيهِ جوازُ الحَلِفِ عَلَى المَسائِلِ التي يُرادُ تَأْكِيدُها، ولو لَمْ يُسْتَحْلَفِ المُخْبِرُ.
12- وفيهِ أَنَّ الإنسانَ لا يَقْذِفُ مُتَّهماً بمُجَرَّدِ الأمَارَةِ والعلامَةِ، حتى يَتَحَقَّقَ من وُقوعِ الأَمْرِ.
13- وفيهِ أَنَّ التَّعْرِيضَ بالمُتَّهَمِ بالفاحشةِ لَيْسَ قَذْفاً حَتَّى يُصَرَّحَ بالقَذْفِ.
14- وفيهِ بَيانُ صِفَةِ نُزولِ القُرْآنِ الكَرِيمِ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأنَّه يَنْزِلُ عندَ المُناسباتِ، والوَقَائِعِ، والأسئلةِ؛ ليَكُونَ ذلك أبْلَغَ في وَعْيِها وفَهْمِها، وأَثْبَتَ لها في القُلُوبِ.
15- وفيهِ بَيَانُ أَنَّ عَذَابَ اللهِ تَعَالَى بالحُدودِ أَوْ بالفَقْرِ، أو المرضِ، أو المَصائبِ مَهْمَا بَلَغَتْ -أَهْوَنُ مِن عَذَابِ الآخرةِ، فَلْيَتَسَلَّ بهذا المُبْتَلُونَ، وَلْيَحْتَسِبُوا أَجْرَهم عندَ اللهِ.
16- أنَّ البَيِّنَاتِ عَلَى ثُبوتِ الدَّعاوَى تَكُونُ عَلَى حَسَبِ القَضيةِ، وأنَّ القَرائِنَ القَوِيَّةَ لها أَثَرٌ كَبِيرٌ في إِثْباتِها أو نَفْيِها فهناكَ القَذْفُ لا بُدَّ له مِن شَهَادَةِ رِجَالٍ، ولكنْ لَمَّا كَانَ مِن المُسْتَبْعَدِ أنَّ الزوجَ يَقْذِفُ زوجتَه، ويُلَوِّثُ فِرَاشَهُ وأَنَّه إِنْ فَعَلَ ذلك، فهو قَرِينَةٌ على صِدْقِهِ بإثباتِ ما ادَّعاهُ بهذهِ الشهاداتِ المُكَرَّرَةِ المُؤَكَّدَةِ، وهي لا تُقْبَلُ في مثلِ هذهِ القَضِيَّةِ على غَيْرِ زَوْجَتِه.
17- وفيهِ أَنَّ الأحكامَ الشَّرْعِيَّةَ تَجْرِي على ظَاهِرِها، وإلاَّ فإِنَّه مِن اليَقِينِ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ كاذِبٌ، ولكنَّه يُدْرَأُ عنهما الحَدُّ باللِّعانِ إِذَا تَمَّ؛ أَخْذاً بظَاهِرِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.
951- وعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ للمُتلاعِنَيْنِ: ((حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)). قالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, مَالِي؟! فقَالَ: ((إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِباً عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- حِسَابُكُمَا: يُقالُ: حَاسَبَهُ مُحاسَبَةً وحِساباً: نَاقَشَهُ الحِسَابَ وجَازَاهُ، فالحِسابُ: الجَزَاءُ.
- لا سَبِيلَ لَكَ: السبيلُ: الطريقُ، والمُرادُ هنا لَيْسَ لك عليها حُجَّةٌ ولا سُلْطانٌ.
- أَبْعَدُ لَكَ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً، ضِدُّ قَرُبَ، فالأبعدُ ضِدُّ الأقْرَبِ، جَمْعُه أبَاعِدُ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- أنَّ أَحَدَ الزوجَيْنِ المُتلاعِنَيْنِ صَادِقٌ، والثَّانِيَ كَاذِبٌ؛ إذْ لا يُمْكِنُ الجَمْعُ بينَ صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ، وصِدْقِها فِي نَفْيِها دَعواهُ.
2- أنَّ الأحكامَ الشَّرْعِيَّةَ تُبْنَى على ظَاهِرِ الأَمْرِ، وهي البَيَانَاتُ الشَّرْعِيَّةُ، ولا يُكَلِّفُ الحاكِمُ الشَّرْعِيُّ أَكْثَرَ من هذا.
فقَدْ جَاءَ في الصحيحَيْنِ، مِن حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ!)).
3- قولُه للمُتلاعِنَيْنِ: ((حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ)) معناهُ: أَنَّ الحُكْمَ بالظاهِرِ، لا يُعْفِي الكَاذِبَ مِنْكُما من العِتابِ والعِقابِ يَوْمَ القيامةِ، كما في الحديثِ: ((فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ!)).
4- قَوْلُه: ((لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)) معناهُ: أَنَّ اللِّعانَ إِذَا تَمَّ بشُروطِه، حَصَلَتْ بَيْنَ الزوجَيْنِ الفُرْقَةُ المُؤَبَّدَةُ، التي لا يُحِلُّها ولَوْ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجاً بعدَه، وأنَّه بعدَ تَمامِ اللِّعانِ، لا تَسَلُّطَ للزوجِ على زَوْجَتِه المُلاعَنَةِ، فلا يَمْلِكُ مِنها شَيْئاً.
5- أنَّ الزوجَ لا يَرْجِعُ بشَيْءٍ مِن صَدَاقِه، فإنْ كَانَ صَادِقاً، فالصَّدَاقُ اسْتَقَرَّ بدُخولِه بها، وبما اسْتَحَلَّ مِن فَرْجِها، وإنْ كانَ كَاذِباً عليها، فذلك أبعدُ له منها؛ لافترائِهِ عليها، وبُهتانِهِ إيَّاها.
6- أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا يَعْلَمُ الغَيْبَ، وإنَّما يَحْكُمُ على نَحْوِ ما يَسْمَعُ مِن الخُصومِ، ففيهِ دَلِيلٌ علَى أَنَّ الغَيْبَ للهِ وَحْدَهُ، وفيهِ سَعَةٌ للقُضَاةِ من أُمَّتِه، مِن أنَّ وَظِيفَتَهم الاجتهادُ في الدَّعْوَى وطَلَبِ الحَقِّ، فإنْ أَصَابُوا فلهم أجرانِ، وإنْ أخْطَؤُوا فلهم أَجْرٌ وَاحِدٌ، والخَطَأُ مَعْفُوٌّ عنه.
952- وعن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطاً، فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْداً، فَهُوَ للَّذِي رَمَاهَا بِهِ)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرَدَاتُ الحديثِ:
- أَبْصِرُوهَا: بفَتْحِ هَمْزَةِ القَطْعِ، تَأَمَّلُوها، وتَعَرَّفُوا على وَلَدِها، وتَبَيَّنُوا خِلْقَتَهُ.
- جَاءَتْ بِهِ: الضَّمِيرُ المَجرورُ يَرْجِعُ إلى الوَلَدِ، الذي كَانَ حَمْلاً عندَ اللِّعانِ.
- سَبْطاً بفتحِ السينِ، وسكونِ الباءِ المُوحَّدَةِ، مَن شَعَرُه مُسْتَرْسِلٌ ـ وهو غَيْرُ الجَعْدِ ـ وخِلْقَتُه تَامَّةٌ، كما قَالَ الشاعِرُ:
فَجَاءَتْ بِهِ سَبْطَ العِظَامِ كَأَنَّمَا = عِمَامَتُهُ فَوْقَ الرِّجَالِ لِوَاءُ
- أكْحَلَ: بفتحِ الهَمْزَةِ، وسُكونِ الكافِ، وهو الذي كُلُّ مَنابِتِ أجْفَانِه سُودٌ، كأنَّ في عَيْنَيْهِ كُحْلاً.
- جَعْداً: بفتحِ الجيمِ، وسكونِ العينِ المُهمَلَةِ، في شَعَرِه التواءٌ وتَقَبُّضٌ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- هِلالُ بنُ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بشَرِيكِ ابنِ سَحْمَاءَ، فأنْكَرَتْهُ، فتَلاعَنَا وهي حَامِلٌ، فلمَّا تَمَّ اللِّعانُ قالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَبْصِرُوا الْمَرْأَةَ الْمُلاعَنَةَ، وَمَا تَضَعُ، فَإِنْ جَاءَتْ بِالْمَوْلُودِ أَبْيَضَ، سَبْطَ الشَّعَرِ، فهَذِهِ صِفَةُ زَوْجِهَا، وَأَمَّا إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، جَعْدَ الشَّعَرِ، فَشَبَهُهُ للَّذِي رَمَاهَا بِهِ شَرِيكِ ابنِ سَحْمَاءَ)). فجاءَتْ بهِ كَذَلِكَ، فقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ)).
2- الحديثُ يَدُلُّ على حَقِيقَةِ انْتِقَالِ الصِّفاتِ الخِلْقِيَّةِ المُنْتَقِلَةِ بالعوامِلِ الوِرَاثِيَّةِ، التي تَكُونُ سَبَباً في تَشابُهِ الذُّرِّيَّةِ بأبَوَيْهَا، بوَاسِطَةِ عَمَلِيَّةِ التَّناسُلِ في النباتِ والحيوانِ، ومنه الإنسانُ.
3- ويَدُلُّ الحَديثُ على تَقْدِيمِ ظاهِرِ الأحكامِ الشرعيةِ على القرائِنِ، التي لَمْ يُعَوَّلْ عليها، إلاَّ إذا فُقِدَتْ أُصولُ الأحكامِ، التي تُبْنَى عليها القَضَايَا.
4- قولُه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ)). دَلِيلٌ على أنَّ الأحكامَ المَاضِيَةَ لا تُنْقَضُ، ما لَمْ تَكُنْ مُخالِفَةً لنَصٍّ من الكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأُمَّةِ.
5- الأَفْضَلُ الوَرَعُ إذا وَجَدَ شُبْهَةً تُخَالِفُ الأصْلَ في الحُكْمِ الشرعيِّ، ومِن هذا: أنَّه اخْتَصَمَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وعبدُ بنُ زَمْعَةَ في وَلَدٍ وُلِدَ على فِراشِ أَبيهِ، فادَّعَاهُ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ وَلَدٌ لأخيهِ عُتْبَةَ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فقَضَى به النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لصَاحِبِ الفِراشِ عَبْدِ بنِ زَمْعَةَ؛ لأنَّه وُلِدَ على فِراشِ أبيهِ زَمْعَةَ.
وقَدْ جَاءَ في الصَّحِيحَيْنِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((هُوَ أَخُوكَ، يَا عَبْدُ بنَ زَمْعَةَ)). مِن أَجْلِ أَنَّه وُلِدَ على فِراشِ أبيهِ، إلاَّ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رَأَى في الصبِيِّ شَبَهاً قَوِيًّا بعُتْبَةَ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فأَمَرَ زَوْجَتَهُ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ من هذا الصبِيِّ المُدَّعى بهِ. وقَدْ جَاءَ في الصحيحيْنِ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا قالَتْ: (فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى).
6- فيهِ اعتبارُ أَخْبارِ القَافَةِ، واعتبارُ إلحاقِهم، إلاَّ إذا عَارَضَها أَصْلٌ، فإنَّ القرائِنَ لا تُقَدَّمُ على الأُصولِ الثوابِتِ، ومن ذلك الفِرَاشُ، فإنَّ الشارِعَ الحَكِيمَ جَعَلَه أصلاً لصاحبِه ويَداً قَوِيَّةً يَثْبُتُ لَهُ كُلُّ مَا وُلِدَ عليهِ، فلا يُقَدَّمُ عليهِ شَبَهٌ، أو تَصَادُفُ فَصِيلَةِ دَمٍ، أو نحوُ ذلك مِن القَرَائِنِ التي لَهَا عِدَّةُ احتمالاتٍ.
953- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، وَقَالَ: ((إِنَّهَا مُوجِبَةٌ)). رَواهُ أبو دَاوُدَ والنَّسائِيُّ، ورجالُه ثِقَاتٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحديثُ سَنَدُه صَحِيحٌ.
أخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، والنَّسائِيُّ، والبَيْهَقِيُّ، والحُمَيْدِيُّ، عن سُفْيَانَ، عن عَاصِمِ بنِ كُلَيْبٍ، عن أبيهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، وهذا سَنَدٌ صحيحٌ، كما قالَ الألبانِيُّ.
وقالَ ابْنُ عبدِ الهادي في (المُحَرَّرِ): إسنادُه لا بَأْسَ به.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- فيه: أَصْلُه فوه: بدَلِيلِ جَمْعِه على أَفْوَاهٍ، وهو: الفَمُ من الإنسانِ والحيوانِ، قالَ في (المِصْباحِ): وهو مِن غريبِ الألفاظِ، التي لَمْ يُطَابِقْ مُفرَدُها جَمْعَها، وإذا أُضِيفَ إلى يَاءِ المُتَكَلِّمِ قيلَ: فِيَّ، وفَمِي، وإذا أُضِيفَ إلى غَيْرِها، أُعْرِبَ بالحُروفِ، فهو أَحَدُ الأسماءِ الخَمْسَةِ التي تُجَرُّ بالياءِ، وتُنْصَبُ بالألفِ، وتُرْفَعُ بالواوِ، وهذا بشَرْطِ خُلُوِّهِ من الميمِ، وأمَّا مَعَها، فيُعْرَبُ بالحركاتِ.
- مُوجِبَةٌ: أي: مُثْبِتَةٌ ومُلْزِمَةٌ للفِراقِ المُؤَبَّدِ في الدنيا، أو للعَذابِ الشديدِ في الآخِرَةِ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- أحَدُ المُتلاعِنَيْنِ كَاذِبٌ، ولَكِنْ لا يُعْلَمُ أَيُّهما هو؟
ولذا يُسْتَحَبُّ التعريضُ لهما، وتَلْقِينُهما عندَ الشهادةِ الخامسةِ النهائيةِ بأنْ يَرْجِعَ الكاذِبُ منهما عن كَذِبِه؛ لئلا يَجْمَعَ المَعْصِيَةَ التي ارْتَكَبَها، والكَذِبَ فيها، الكَذِبَ المُغَلَّظَ بالأيْمانِ، وأمامَ شَرْعِ اللهِ تعالى.
2- لِذَا حَسُنَ للحَكَمِ أَنْ يَأْمُرَ مَن يَضَعُ يَدَهُ على فَمِ الزوجِ عندَ اللَّعْنِ، وعلى فَمِ الزوجةِ عِنْدَ الغَضَبِ؛ ليَنْجُوَ من عذابِ اللهِ تعالى وأليمِ عِقَابِه.
فيقولُ وَاضِعُ اليَدِ: اتَّقِ اللهَ، فإنَّ كَلِمَتَكَ هذه هي المُوجِبَةُ للفُرْقةِ في الدنيا، والعذابِ في الآخرةِ إنْ كُنْتَ كَاذِباً.
3- وفيهِ دَلِيلٌ على أنَّ أحكامَ اللِّعانِ بالفُرْقَةِ المُؤَبَّدَةِ، وسُقوطِ الحدِّ، وانتفاءِ الوَلَدِ المذكورِ في اللِّعانِ؛ لا يَكُونُ إلاَّ بَعْدَ تَمامِ اللِّعانِ بينَهما.
4- وفي الحديثِ أَنَّ الشَّهادَةَ الخامسةَ لكُلٍّ مِن المُتلاعِنَيْنِ هي التي بها يَتِمُّ لِعانُه، وأنَّه قبلَها له الرجوعُ، وتكذيبُ نَفْسِه.
5- وفيهِ أنَّ مَجْلِسَ الحُكْمِ حتى في هذهِ القضايا السريعةِ يَحْضُرُها الناسُ، لا سِيَّما مَن يَحْتاجُهم الحاكِمُ للكتابةِ، وحِفْظِ الأمْنِ، وغيرِ ذلك.
954- وعَن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قِصَّةِ المُتلاعِنَيْنِ، قالَ: فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا قالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فطَلَّقَهَا ثلاثاً قبلَ أنْ يَأْمُرَه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. مُتَّفَقٌ عليهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- تَمَامُ التَّلاعُنِ سَبَبٌ للفُرْقَةِ المُؤَبَّدَةِ بينَ الزوجَيْنِ المُتلاعِنيْنِ، ولا يُحتاجُ بعدَها إلى طَلاقٍ، ولا إلى فَسْخٍ، فهذا مُقْتَضَى حُكْمِ اللِّعانِ.
2- في هذا الحديثِ أَنَّ الرجُلَ الذي لاعَنَ بينَ يَدَيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، قالَ مُصَدِّقاً نَفْسَه ومُؤَكِّداً قَذْفَه: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رسولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. ثُمَّ طَلَّقَ ثلاثاً، قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بذلك.
3- قالَ فُقهاؤُنا: وتَثْبُتُ الفُرْقةُ بينَ الزوجيْنِ بتمامِ اللِّعانِ بتحريمٍ مُؤَبَّدٍ، ولو لَمْ يُفَرِّقِ الحاكِمُ بينَهما.
وهو مَذْهَبُ الجمهورِ؛ لأنَّ الفُرْقَةَ تَقَعُ بنفسِ اللِّعانِ؛ لِمَا في (صحيحِ مُسْلِمٍ): ((ذَلِكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ)). وقولِه: ((لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)).
4- الطلاقُ الذي يُوقِعُهُ الزوجُ المُلاعِنُ مُلْغًى لا أَثَرَ له في ذَلِكَ، والرجُلُ إِنَّما أَتَى بهِ مِن شِدَّةِ الغَضَبِ، وتَأْكِيداً لصِدْقِ دَعْواهُ عليها، وقَذْفِه إِيَّاها.
955- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ؟ قالَ: ((غَرِّبْهَا))، قالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي. قالَ: ((فَاسْتَمْتِعْ بِهَا)). رواهُ أبو دَاوُدَ، والبَزَّارُ، ورجالُه ثِقَاتٌ، وأخْرَجَهُ النَّسائِيُّ مِن وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ بلفظِ: قالَ: ((طَلِّقْهَا)). قالَ: لا أَصْبِرُ عَنْهَا. قالَ: ((فَأَمْسِكْهَا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحَدِيثُ صَحِيحٌ.
قالَ في (التلخيصِ): اخْتُلِفَ في وصلِه وإرسالِه، قالَ النَّسائِيُّ: المُرْسَلُ أَوْلَى بالصوابِ. وقالَ في (المَوْصولِ): لَمْ يَثْبُتْ.
لَكِنْ رَواهُ هو وأبو دَاوُدَ من رِوايةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ نحوَه، وإسنادُه أصَحُّ، وأطْلَقَ عليهِ النَّووِيُّ الصِّحَّةَ، ونَقَلَ ابنُ الجَوْزِيِّ عن الإمامِ أحمدَ أنه قالَ: لا يَثْبُتُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في هذا البابِ شَيْءٌ، وليسَ له أصْلٌ.
أمَّا المُصَنِّفُ فقالَ: رَواهُ أبو دَاوُدَ، والبَزَّارُ، ورِجالُه ثِقَاتٌ.
وصَحَّحَهُ ابنُ حَزْمٍ في المُحَلَّى، وقالَ المُنْذِرِيُّ: رجالُ إسنادِه مُحْتَجٌّ بهم في الصحيحَيْنِ.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ: المَعْنَى: أنَّها لَيْسَتْ مِن اللاتي يَنْفِرْنَ، ويَسْتَوْحِشْنَ مِن الرِّجالِ الأجانبِ، لا أنَّها تَأْتِي الفَاحِشَةَ، فهذا بَعِيدٌ.
- غَرِّبْهَا: بالغينِ المُعْجَمةِ، والراءِ، وباءٍ مُوحَّدَةٍ، قالَ في (النهايةِ): أي: أَبْعِدْها بالطلاقِ.
- تَتْبَعَهَا نَفْسِي: تَتُوقُ إليها نَفْسِي، فلا أَصْبِرُ عنها.

- مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- شَكَا رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حالَ زَوْجَتِه بأنها سَهْلَةُ الأخلاقِ، لا تَنْفِرُ من الأجانبِ، ولا تَحْتَشِمُ أمامَهم، إلاَّ أنَّها لا تَأْتِي فَاحِشَةً، فأَمَرَه النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بطَلاقِها وإبعادِها؛ عَمَلاً بالحِكْمَةِ النبويَّةِ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ)).
2- فكانَ الرجُلُ يُحِبُّ زَوْجتَه وراضياً عنها، فخَافَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بها نَفْسُه، ولا يَصْبِرَ عنها بعدَ أَنْ يُفارِقَها، وتَفوتَ الفُرْصَةُ من بقائِها، فأمَرَه النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بإِمْساكِها، وإبقائِها عندَه.
3- فدَلَّ هذا على أنَّ الواجِبَ على المرأةِ هو التَّصَوُّنُ، والتَّحَفُّظُ، والبعدُ عن الرجالِ الأجانبِ، وعَدَمُ الاختلاطِ بِهِم والانبساطِ معَهم، قالَ تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32].
4- كما دَلَّ الحديثُ على أنَّ الواجبَ على الرجُلِ المُحافظةُ على أَهْلِه من زَوْجَةٍ، وبِنْتٍ، وأُخْتٍ، وقَرِيبَةٍ، وأنْ يُبْعِدَهُنَّ عن الرجالِ، وعن مَواطِنِ الشُّبْهَةِ.
5- كما يَدُلُّ الحَديثُ على أنه لا يَجوزُ للرجُلِ أَنْ يُعَاشِرَ امرأةً سَهْلَةً بَرْزَةً، تُخالِطُ الرجالَ، وتَتَحَبَّبُ إليهم، وتَرْغَبُ الجُلوسَ مَعَهم، والحديثَ إليهم، وإنَّما عليهِ نُصْحُها ووَعْظُها، فإنْ لَمْ تَسْتَقِمْ، فالأفضلُ فِراقُها.
6- أمَّا إذا تَحَقَّقَ من وُقوعِ الفاحشةِ، أو التقصيرِ بالواجباتِ من الطاعاتِ؛ كالصلواتِ الخَمْسِ، وصَوْمِ رَمَضانَ، فيَجِبُ عليهِ فِراقُها، ولا يَحِلُّ له إمساكُها.
956- وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ المُتَلاعِنَيْنِ: ((أَيُّ امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ يُدْخِلْهَا اللهُ جَنَّتَهُ، وأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ، وفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ)). أخْرَجَه أبو دَاوُدَ، والنَّسائِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحديثُ حَسَنٌ.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ: أخْرَجَهُ الشافعِيُّ، وأبو دَاوُدَ: والنَّسائِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، وابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ، وصَحَّحَاهُ، وصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ في (العِلَلِ)، معَ اعْتِرَافِه بتَفَرُّدِ عبدِ اللهِ بنِ يُونُسَ به، عن سَعيدٍ المَقْبُرِيِّ. اهـ، وابنُ يُونُسَ وَثَّقَهُ ابنُ حِبَّانَ، ومنهم مَن جَعَلَه مَجْهولَ الحالِ؛ ولذا قالَ ابْنُ حَجَرٍ في (التقريبِ): مَجْهولُ الحالِ مَقْبُولٌ.
957- وعن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: مَنْ أَقَرَّ بوَلَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ. أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وهو حَسَنٌ موقوفٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
إسنادُه حَسَنٌ إلى عُمَرَ، وضَعَّفَه الألبانِيُّ.
قالَ في (التلخيصِ): الحديثُ مَوْقوفٌ، رواهُ البَيْهَقِيُّ مِن روايةِ مُجالِدٍ عن الشَّعْبِيِّ، عن شُرَيْحٍ، عن عُمَرَ.
ومن طَريقِ وَبِيصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ أنَّه كانَ يُحَدِّثُ عن عُمَرَ: أنَّه قَضَى في رَجُلٍ أنْكَرَ وَلَداً من المرأةِ وهو في بَطْنِها، ثُمَّ اعْتَرَفَ بهِ وَهُوَ في بَطْنِها، حتى إذا وَلَدَتْ أَنْكَرَهُ، فأَمَرَ بِهِ عُمَرُ، فجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لفِرْيَتِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ ألْحَقَ به الوَلَدَ. وإسنادُه حَسَنٌ.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- طَرْفَةَ عَيْنٍ: بفتحِ الطاءِ، وسكونِ الراءِ، المرادُ: تَحْرِيكُ الجَفْنِ؛ مُبالغَةً في تقليلِ المُدَّةِ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثَيْنِ:
1- الشارِعُ الحكيمُ لَهُ تَشَوُّفٌ إلى حِفْظِ الأنسابِ، وإلحاقِ الفروعِ بالأصولِ, قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]؛ ولذا جَاءَ في الحديثِ: ((لَعَنَ اللهُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ)).
2- فالويلُ العَظِيمُ، والعِقابُ الأليمُ لامرأةٍ خَانَتْ، ومَكَّنَتْ رَجُلاً أَجْنَبِيًّا مِن نَفْسِها، فحَمَلَتْ منه، فنَسَبَتْ هذا الولَدَ إلى زوجِها وإلى أُسرتِه، وأصْبَحَ كأنَّه منهم، وهو لَيْسَ منهم.
3- هذه المرأةُ يَلْحَقُها من وَعيدِ اللهِ تعالى أنَّ اللهَ بَرِيءٌ منها، فلَيْسَتْ منه في شَيْءٍ، وأنَّ اللهَ يَحْرِمُها جَنَّتَهُ.
4- هذا الوَلَدُ الدَّعِيُّ ليسَ مِن الأُسْرَةِ، ولا مِن أهْلِ البَيْتِ، ومعَ هذا سَيَكُونُ لَهُ مِن الحُقوقِ، وعليهِ مِن الواجباتِ ما لأهْلِ هذا البيتِ زُوراً وبُهْتاناً؛ سَيُنْفَقُ عليهِ، وسَيَرِثُ، وسَيُورَثُ، وسَيَنْظُرُ إلى عَوْراتِ هذا البيتِ، وسَيُدْخِلُ ذُرِّيَّةً منه عليهم، وسَيَكُونُ هو وذُرِّيَّتُه لَعْنَةً دَائِمَةً في البيتِ وأهلِه، كلُّ هذا بسببِ هذه المرأةِ الفَاجِرَةِ البَاهِتَةِ.
5- كما يَلْحَقُ الغَضَبُ والعذابُ مَن عَلِمَ أنَّ الولدَ وَلَدُه، ولكنَّه نَفَاهُ وتَبَرَّأَ منه، فقَطَعَ نَسَبَ هذا الوَلَدِ، فأصْبَحَ مُشَرَّداً، بلا نَسَبٍ ولا أَهْلٍ، وأصْبَحَ مَكْروهاً مُشَوَّهاً، وأصْبَحَ مُفْتَضِحاً خَجِلاً أمامَ النَّاسِ؛ لذا كَانَ الجزاءُ مِن جِنسِ العَمَلِ، فإنَّ اللهَ تعالى يَفْضَحُهُ يومَ القيامةِ على رُؤوسِ الخلائقِ من الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ، فيُنادِي عليهِ بجَريمتِه، ويَفْضَحُه بسببِ كَذِبِه وبُهتانِه، وتَخَلِّيهِ عن الواجباتِ التي عليهِ نحوَ هذا الوَلَدِ المُشَرَّدِ.
6- إذا أقَرَّ الإنسانُ بالوَلَدِ ولو لحْظَةً واحدةً، ثَبَتَ نَسَبُه إليه، ولا يُمْكِنُه نَفْيُه أَبَداً، قالَ في (الإقناعِ): ومِن شَرْطِ نَفْيِ الولدِ أنْ يَنْفِيَهُ حالَ عِلْمِه بوِلادَتِه من غيرِ تَأْخِيرٍ، فإنْ أَخَّرَه بعدَ هذا، لَمْ يَكُنْ له نَفْيُه بعدَ سُكوتِه عليه؛ لأنَّه رُجوعٌ عن إقرارِه في حَقِّ آدَمِيٍّ، والرجوعُ في مِثْلِ هذا لا يُقْبَلُ، وهذا مُطابِقٌ لمعنَى الحديثِ رَقْمِ (957)، واللهُ أعْلَمُ.
958- وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أنَّ رَجُلاً قالَ: يَا رَسولَ اللهِ, إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاماً أَسْوَدَ؟! قَالَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)). قالَ: نَعَمْ. قالَ: ((فَمَا أَلْوَانُهَا؟)). قالَ: حُمْرٌ. قالَ: ((هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟)). قالَ: نَعَمْ. قالَ: ((فَأَنَّى ذَلِكَ؟)). قالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: ((فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: وهو يُعَرِّضُ بأنْ يَنْفِيَهُ. وقالَ في آخِرِه: ولَمْ يُرَخِّصْ له في الانتفاءِ منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- حُمْرٌ: بضمٍّ، فسكونٍ، جَمْعُ أَحْمَرَ.
- أَوْرَقَ: بفتحِ الهمزةِ، وسكونِ الواوِ، هو الذي فيه سَوادٌ، وليسَ بخَالِصٍ، ومنه قيلَ للحَمامَةِ: وَرْقَاءُ.
- نَزَعَهُ عِرْقٌ: نَزَعَهُ: جَذَبَهُ إليهِ، فأصْلُ النَّزْعِ: الجَذْبُ.
- عِرْقٌ: بكسرِ العينِ، وسكونِ الراءِ، آخِرَه قَافٌ، هو الأَصْلُ مِن النَّسَبِ، شَبَّهَهُ بعِرْقِ الشَّجَرَةِ.
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- وُلِدَ لرجُلٍ مِن قَبِيلَةِ فَزَارَةَ غُلامٌ، خَالَفَ لَوْنُه لَوْنَ أَبِيهِ وأُمِّه، صَارَ في نَفْسِ أبيهِ شَكٌّ منه، فذَهَبَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُعَرِّضاً بقَذْفِ زَوْجَتِه، وأخْبَرَهُ بأنَّه وُلِدَ له غلامٌ أَسْوَدُ، ففَهِمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُرادَه من تَعْرِيضِه، فأرادَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يُقْنِعَه، ويُزِيلَ وَساوِسَه، فضَرَبَ له مَثَلاً مِمَّا يَعْرِفُ ويَأْلَفُ، فقالَ: ((هَلْ لَكَ إِبِلٌ؟)) قالَ: نَعَمْ. قالَ: ((فَمَا أَلْوَانُهَا؟)) قالَ: حُمْرٌ. قالَ: ((فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ، مُخَالِفٍ لأَلْوَانِهَا؟)) قالَ: إِنَّ فِيهَا لوُرْقاً. فقالَ: ((فَمِنْ أَيْنَ أَتَاهَا ذَلِكَ اللَّوْنُ المُخَالِفُ لأَلْوَانِهَا؟)) قالَ الرجُلُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ جَذَبَهُ عِرْقٌ، وأصْلٌ من آبائِه وأجدادِه أسودُ. فقالَ: ((فَابْنُكَ كَذَلِكَ، عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ مَنْ هُوَ أَسْوَدُ، فجَذَبَهُ فِي لَوْنِهِ)). فقَنِعَ الرجُلُ بهذا القياسِ المستقيمِ، وزالَ ما في نَفْسِه من خَواطِرَ.
2- أنَّ التعريضَ بالقَذْفِ ليسَ قَذْفاً، فلا يُوجِبُ الحَدَّ، وبهِ قالَ الجمهورُ، كما أنَّه لا يُعَدُّ غِيبَةً إذا جاءَ مُسْتَفْتِياً، ولَمْ يَقْصِدْ مُجَرَّدَ العَيْبِ والقَدْحِ.
3- أنَّ الوَلَدَ يُلْحَقُ بأبويهِ، ولو خَالَفَ لونُه لونَهما.
قالَ ابْنُ دَقيقِ العِيدِ: فيهِ دَلِيلٌ على أنَّ المُخالَفَةَ في اللونِ بَيْنَ الأبِ والابنِ بالبياضِ والسوادِ لا تُبِيحُ الانتفاءَ.
4- الاحتياطُ للأنسابِ، وأنَّ مُجَرَّدَ الاحتمالِ والظَّنِّ لا يَنْفِي الولَدَ من أبيهِ، فإنَّ الوَلَدَ للفراشِ، والشارِعُ حَرِيصٌ على إلحاقِ الأنسابِ، ووَصْلِها.
5- فيه ضَرْبُ الأمثالِ، وتَشْبيهُ المَجهولِ بالمعلومِ؛ ليَكُونَ أَقْرَبَ إلى الفَهْمِ، وهذا الحديثُ مِن أَدِلَّةِ القِياسِ في الشَّرْعِ.
قالَ الخَطَّابِيُّ: هو أَصْلٌ فِي قِياسِ الشَّبَهِ، وقالَ ابْنُ العربيِّ: فيه دَليلٌ على صِحَّةِ الاعتبارِ بالنَّظيرِ.
6- فيهِ حُسْنُ تَعْلِيمِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكيفَ يُخاطِبُ الناسَ بما يَعْرِفونَ ويَفْهمونَ، فهذا أعْرَابِيٌّ يَعْرِفُ الإبِلَ وضِرابَها وأَنْسابَها، أزَالَ عنه هذه الخَواطِرَ بهذا المَثَلِ، الذي يُدْرِكُه فَهْمُه وعَقْلُه، فراحَ قَانِعاً مُطمَئِنًّا.
فهذا مِن الحِكْمةِ التي قالَ اللهُ تعالى عنها: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125] فكلٌّ يُخاطَبُ على قَدْرِ فَهْمِه وعلمِه.
7- وفيهِ أنَّ القرائنَ مُعْتبرةٌ إذا كانَ لا يُقاوِمُها ما هو أَقْوَى منها، فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ اعْتَبَرَ تُهَمَتَه لزوجتِه بهذه القرينةِ أنَّ لها مَحْمَلاً قائماً.
ولكنْ لَمَّا كَانَتْ مُعارِضَةً لأصْلٍ، وهو الفِراشُ، رَدَّها بقرينةٍ مِثْلِها، وحَافَظَ على أصْلِ النَّسَبِ.
8- وفيهِ إعجازٌ عِلْمِيٌّ في السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، فعِلْمُ الوِراثَاتِ، وانتقالُ الصِّفاتِ الخَلْقيَّةِ والخُلُقِيَّةِ من الأُصولِ إلى الفُروعِ، أصْبَحَ حَقِيقةً من حَقائِقِ عِلْمِ الوِراثَةِ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
اللعان, باب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:28 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir