المتن: وعذاب القبر ونعيمه حق.
الشرح: وكذلك من الأمور التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: عذاب القبر ونعيمه. تواترت الأحاديث في ذلك, وأنكر المعتزلة عذاب القبر ونعيم القبر؛ بناء على عقولهم الفاسدة, ويقولون: إنا لا نشاهد في القبر شيئاً , فنقول لهم: هل الأمور مبنية على مشاهدتكم، وعلى ما تحسونه أنتم ؛ (أم)على قدرة الله جل وعلا؟!ما لعقولكم ولا لإحساسكم دخل في هذا. فأنكرت المعتزلة عذاب القبر ونعيمه؛ بناء على عقولهم الفاسدة.
وعذاب القبر ثابت بالكتاب، وبالسنة,وبإجماع أهل السنة والجماعة, قال الله جل وعلا: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قالوا: العذاب الأدنى: هو عذاب القبر, أو هو ما يصيبهم في الدنيا من المحن والمصائب, ففيه قولان: "العذاب الأدنى" قيل: هو عذاب القبر, وقيل: هو ما يصيبهم في الحياة من المصائب والنكبات, وتسلط المسلمين عليهم بالقتل والسبي وغير ذلك.
وكذلك قوله تعالى في آل فرعون _وهو أصرح _: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب},فقوله جل وعلا: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً} هذا في عذاب القبر,ثم قال: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون}.
فدل على أن عذاب الغدو والعشي يكون في الدنيا,وذلك في القبر, وإذا قامت الساعة فإنهم يصيرون إلى أشد العذاب؛ والعياذ بالله. فهذا في الآية, دليل على عذاب القبر, مع الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
المتن: وعذاب القبر ونعيمه حق؛فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة.
الشرح: استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر,فدل على أنه حق, وعلى أنه واقع وثابت, وإلا لم يستعذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم, وأمر بالاستعاذة منه في كل صلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: استعيذوا بالله من أربع: من عذاب القبر, ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب جهنم.
فالشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستعاذة من عذاب القبر, فدل على أنه عذاب واقع وحاصل, وأن المؤمن يستعيذ منه. وعذاب القبر له أسباب، ويصيب حتى المؤمنين، فإن بعض المؤمنين يعذب في قبره؛ لأسباب ارتكبها؛منها الغيبة والنميمة, ومنها عدم الاستنزاه من البول. فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير,أما إنه كبير؛أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله, أما الآخر فكان يمشي بالنميمة)).
فدل على أن عذاب القبر يحصل للمؤمن؛ بسبب ذنوب ارتكبها في الدنيا, وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((إن الميت ليعذب في قبره بما نيح عليه)) النياحة على الميت سبب من أسباب تعذيبه في قبره.
المتن: وفتنة القبر حق,وسؤال منكر ونكير حق.
الشرح: فتنة القبر، وسؤال منكر ونكير حق. مما يجري في القبر أيضاً: سؤال منكر ونكير من الملائكة, فإذا وضع الميت في قبره، وسوي عليه القبر,وتولى عنه المشيعون _وإنه ليسمع قرع نعالهم _يأتيه ملكان, فتعاد روحه في جسمه, وهذه حياة برزخية, ما هي بمثل إعادتك إلي الحياة على الأرض, هذه حياة برزخية, لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى, فتعاد روحه في جسمه, ويجلسانه, فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فالمؤمن يقول: ربي الله,والإسلام ديني, ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم.لا يتلعثم, ولا يتردد؛لأنه كان مؤمنا في هذه الدنيا, مؤمناً بالله، ومؤمناً بالرسول صلى الله عليه وسلم, ومتمسكاً بدين الإسلام, فلا يتلجلج في السؤال, ولا يتردد.
أما المنافق الذي كان يعيش في هذه الدنيا على الشك, يدعي الإسلام بلسانه, وهو منكر في قلبه؛ فإنه يعجز إذا سئل في القبر, ويتحير ويقول: ها، ها، لا أدري, سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
فالأول ينعم, ويفتح له باب إلى الجنة, وهذا يعذب، ويضيق عليه في قبره، حتى تختلف أضلاعه, ويفتح له باب إلى النار.
هذا سؤال منكر ونكير في القبر, نسأل الله الثبات. ولهذا يقول جلَّ وعلا: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.
فهذا فيه دليل على ثبوت عذاب القبر, وسؤال الملكين منكر ونكير, ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف على قبره هو وأصحابه, وقال: ((استغفروا لأخيكم,واسألوا له التثبيت؛فإنه الآن يسأل)).
فيستحب للمسلمين إذا فرغوا من دفن الميت؛ أن يقفوا على قبره، ولا يستعجلوا بالإنصراف, ويسألون له التثبيت, ويستغفرون له؛ فإن الله ينفعه بذلك؛ لأن دعوة المسلمين مستجابة.
ومما يؤمن به أهل السنة والجماعة ما يكون بعد الموت, والإنتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وذلك يحصل لكل إنسان, لكل بشر من الرسل والأنبياء والصالحين والعلماءوالمؤمنين والكفار والملاحدةوسائر البشر، كلهم يتوفاهم ملك الموت عند نهاية آجالهم, وينتقلون إلى الدار الآخرة، فيحلون في القبور.
والمراد بالقبور:البرزخ الذي يكون بين الدنيا وبين الآخرة، فالقبر يسمى بالبرزخ؛ لأنه فاصل بين الحياة الدنيا وبين الدار الآخرة والبعث،
{ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} سواء كانوا في القبور, أو في غير القبور,كل ما بين الموت والبعث يسمى بالبرزخ, سواءً دفن الميت أو لم يدفن، حتى لو كان ألقي في البحر أو أكلته السباع أو أكلته الطيور, أو تمزق جسمه وتلاشى فإنه لا بد أن يواجه حالة البرزخ.
ومما يكون في القبر أو في البرزخ بعد الموت سؤال منكر ونكير,ملكان يأتيان إلى الميت حين يوضع في قبره بعد الدفن مباشرة, ملكان يأتيانه فتعاد روحه في جسده إعادة برزخية, ليست كدخول روحه في الدنيا، بل هي إعادة الله أعلم بها, لكن ثبتت في الحديث: تعاد روحه في جسده، ويجلسانه فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟.
فأما المؤمن فيقول: ربي الله, والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي, فينادي منادٍ أن صدق عبدي,فأفرشوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة, ويوسع له في قبره مد بصره فيصبح في روضة من رياض الجنة, إلى أن يبعثه الله سبحانه وتعالى في نعيم.
وأما المنافق والمرتاب, الذي كان يظهر الإيمان في الدنيا ويبطن الكفر والإلحاد، فهذا لا يستطيع الجواب، فإذا قيل له: من ربك؟ يقول: هاهاها
, لا أدري, سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
المعنى: أنه مجرد مقلد للناس من غير إيمان في قلبه, وإنما يتلفظ بما يتلفظون به, ويعمل ما يعملون به من غير إيمان في قلبه؛ وإنما يقولهالمصالح واعتبارات دنيوية, ويقال له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه, لا أدري, سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. من نبيك؟ هاه هاه, لا أدري. مع أنه في الدنيا يشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, لكن لما لم يكن هذا عن إيمان فإنه لا يستطيع الإجابة ويتلجلج عند السؤال.
ومصداق ذلك في قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.
فينادي مناد أن كذب عبدي فأفرشوه من النار, وافتحوا له باباً إلى النار,ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه, ولا يزال في عذاب إلى أن يبعثه الله إلى منزله في الآخرة.
فالقبر إما روضة من رياض الجنة, وإما حفرة من حفر النار، وقد يعذب المؤمن في قبره؛ فعذاب القبر ليس خاصاً بالمنافق، قد يعذب المؤمن في قبره بسبب معاصٍ ارتكبها في الدنيا,مثل: الغيبة والنميمة وعدم إسباغ الوضوء,كما في الحديث: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله)).
يعذب الإنسان في قبره ولو كان من أهل الإيمان لكن لا يدوم عليه العذاب, يعذب بقدر ذنبه, ثم يرفع عنه العذاب.
أما المنافق, والعياذ بالله, فهذا يدوم عذابه في القبر إلى أن يبعث, أما المؤمن إذا عُذب في قبره فإنه لا يدوم, وقد يرفعه الله لأسباب؛منها دعاء الصالحين له, والإستغفار لهوغير ذلك, ومنها رحمة أرحم الراحمين.
فالمؤمن قد يعذب في قبره، ولكن لا يدوم عذابه كعذاب المنافق، فهذا حق, يؤمن أهل السنة والجماعة بعذاب القبر أو نعيمه, تواترت الأحاديث في ذلك، ومن القرآن, استدلوا بقوله تعالى في آل فرعون:{النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} فهذه الآية أصل عظيم في الإستدلال على عذاب القبر.
{النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} هذا عذاب القبر, {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}.
وفي قوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر},قالوا: المراد بالعذاب الأدنى عذاب القبر, العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة,
هذا أحد التفسيرات للآية.
وأما الأحاديث فكثيرة في الصحاح وغيرها, تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعذاب القبر حق, ولا ينكره إلا ملحد, قد أنكرته المعتزلة بناء على عقولهم الفاسدة؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل، فلما كانت عقولهم لا تدرك عذاب القبر نفوه وكذبوا بالأحاديث, نسأل الله العافية. وأمور الغيب وأمور الآخرة لا دخل للعقول فيها، لا تدركها العقول، وإنما تبنى على الأخبار الصادقة, فنؤمن بها بناء على الأخبار الصادقة, ولا نقول بشيء إلا ما دل عليه الدليل من أمور الآخرة, وأمور القبر, لا أحد يتكلم أو يثبت شيئا إلا بدليل صحيح من الكتاب والسنة؛ لأنه من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى, هذا من الإيمان باليوم الآخر؛ لأن القبر أول منازل الآخرة.