الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
- أمَّا بعد –
قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) سورة محمد
لنتدبر القرآن كتاب ربنا الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) نعيش في رحابها ونتدبر آياتها
ونلخص تفسير ما أفاده تنكير لفظ (الغاسق) وأقوال العلماء في المراد به، وبيان القول الراجح في سورة الفلق
ما يفيده تنكير الغاسق في الآية
{غاسق} التنوين هنا للتنكير المفيد للعموم
أي: من شر كل غاسقٍ، وهذا يدل على أن الذي يغسق أشياء كثيرة.
قال ابن جرير: (كل غاسق فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤمر بالاستعاذة من شرِّه إذا وقب).
أقوال العلماء في المراد بالغاسق
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح في تفسير الغاسق ما يدل على أنه يقع على أشياء متعددة يجمعها وصف الغسوق.
ففُسِّرَ الغاسق بالليل، وفسر بالقمر، وفسر بالكوكب، وفسر بالثريا، وفسّر بغير ذلك.
فأما تفسيره بالليل فعليه أكثر المفسرين من التابعين وعلماء اللغة ، ولا شك أن الليل يغسِق وقد قال الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}.
وغسق الليل فيه ثلاثة أقوال أيضاً:
أول ظلمته عند غروب الشمس
وأول العشاء عند غياب الشفق
وحين اشتداد ظلمة الليل واجتماعها، وذلك نصف الليل.
وهذه الأقوال كلها صحيحة وهي تنتظم مواقيت الصلوات بَدْءًا وانتهاء سوى صلاة الفجر، فقال تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً}.
ما قيل في سبب وصف الليل بأنه غاسق
فالذين فسروا الغاسق بأنه الليل
منهم من تكلم في علة وصف الليل بالغسوق واختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن الليل سمي غاسقاً لأنه مظلم، وكل ما يُظلِم فهو غاسق، والظلمة غسق.
وهذا قول الفراء وابن قتيبة وابن جرير الطبري وجماعة من اللغويين منهم: الأخفش واليمان البندنيجي وابن خالويه وغيرهم.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (وقوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} يقول: ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه)
وهؤلاء يذهبون إلى أن الغاسق هو كل ما كان فيه ظلمة من الليل وغيره، فكل ظلمة هي غسق.
والقول الثاني: أن الليل سمي غاسقاً لأنه أبرد من النهار، وهذا قول الزجاج فإنه قال: (قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد ، والغسق: البرد).
والزجاج ومن قال بقوله ممن أتى بعده يُستدل لهم بقول الله تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساق}
وعند هؤلاء أن كل بارد فهو غاسق؛ سواء أكان مظلماً أم غير مظلم.
وعند الأولين: كل مظلم فهو غاسق؛ سواء أكان بارداً أم غير بارد.
وقيل غير ذلك من الأقوال، وكل طائفة منهما أصابت بعض الحق.
ما قيل في تفسير الغاسق بالقمر
وأما تفسير الغاسق بالقمر؛ فقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والنسائي في السنن الكبرى وغيرهما من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قالت عائشة: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدِي فأرانيَ القمر حين طلع ؛ فقال: ((تعوَّذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب)
وقال بعضهم: {ومن شر غاسق إذا وقب} أي: القمر إذا خَسَف، وهؤلاء أرادوا أن القمر إذا خَسَف اسودَّ فيكون ذلك غسوقه لأنهم فهموا من معنى الغسوق الإظلام، والقمر إذا كسف أظلم، وهذا التعليل ذكره ابن قتيبة في غريب القرآن والبغوي في معالم التزيل، وهو خطأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى القمر لم يكن منكسفاً.
وقد ضعَّف هذا القولَ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأحسنا في ذلك.
وأغرب منه قول ابن خالويه في توجيه هذا القول بأن الغاسق إذا وقب: القمر إذا ذهب ضوءه، قال: (وإنما يكون ذهابُ ضوئه أمارة لقيام الساعة).
والصواب أن يقال: إن القمر غاسق من جملة ما يغسق، ودلَّ الحديث على أن لغسوقه شرّا عظيماً لا نعلمه ولا ندركه بحواسنا؛ كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من الشر في الليل والخلوة فيه ما لو علمناه ما سار راكب بليل وحده أبداً.
تفسير الغاسق بالكوكب
وقد رَوى ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الغاسق كوكب.
ورَوى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال: (كانت العرب تقول: الغاسق سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها).
تفسير الغاسق بالذَّكَر
وأغرب ما ذكر في تفسير هذه الآية هو ما ذكره أبو المظفر السمعاني، عن أبي بكر النقاش المفسّر -وهو تلميذ ابن خزيمة-، أنه روى في تفسير بإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس قالَ: {مِن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ}: "مِن شرِّ الذَّكَرِ إذا دَخَلَ".
قالَ النَّقَّاشُ: فذَكَرْتُ ذلك لمحمَّدِ بن إسحاقَ ابن خُزيمةَ، وقلْتُ: هل يَجوزُ أن تُفَسِّرَ القرآنَ بهذا؟
قالَ: نعم , قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّ مَنِيِّي)).
والبَرْدُ كذلك يغسِق لأنه يتغشى من يصيبه البرد شيئاً فشيئاً، ويدخل البرد إلى أعضائه دخولاً يكون فيه شرور وآفات، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته لرعيته لما حضر الشتاء: (فإن البرد عدو سريع دخوله، بعيد خروجه)
والجرح يغسق إذا سال بصديده
والسِّحر يغسِق ، والحسد يغسِق، والعين تغسق
وسائر الشرور تغسق على الإنسان فيحصل بسبب ذلك من الضرر والأذى ما يحصل مما يأذنُ الله به، ويعصمُ الله من شره من استعاذ به.
القول الراجح في معنى الغاسق في اللغة
و الصواب والتحقيق إن شاء الله ، وهو ما قاله الماوردي في تفسيره إذ قال: (أصل الغسق: الجريان بالضرر، مأخوذ من قولهم: غسقت القرحة إذا جرى صديدها).
قوله: (الجريان بالضرر) لو قال: (بما يحتمل الضرر) لكان أدق في العبارة وأصوب.
وهذا المعنى – إذا تأملته وجدته - يجمع الأقوال التي قيلت في تفسير الغاسق كلها، وهو معنى صحيح تدل عليه شواهد اللغة.
وغَسَقُ الطعامِ عند العرب هو: قُمَاشُه وما يكون فيه من أخلاط يسمونه غسقاً.
وتقول العرب: غَسَقَ اللبنُ إذا انصبَّ من الضرع.
وغسقت السماء إذا أمطرت وإذا أظلمت.
وهذه المعاني مذكورة بشواهدها في كتب اللغة.
وفي حديث عمر موقوفاً: (ولا تفطروا حتى يغسِقَ اللّيلُ على الظِّرابِ) أي: حتى تغشى ظلمةُ الليل الظرابَ وهي الجبال الصغار، وذلك إذا كانت الشمس متوارية بسبب غيم أو جبال ولم يتبيَّن غروبُها، فلا يفطر الصائم حتى يغسِق الليل وهو أوَّل ظلمته.
وكان الربيع بن خثيمٍ الثوري يقول لمؤذنه يوم الغيم: "أَغْسِقْ أَغْسِقْ"، أي: لا تؤذن للمغرب حتى تبدوَ ظلمةُ الليل.
فتبيَّن بذلك أن الغسق شيء ينتقل ويجري وربما يتغشى وربما يكون فيه ما يكون من الأخلاط والآفات.
.
القول الراجح في المراد بالغاسق في الآية
قال ابن جرير: (الليلُ إذا دخل في ظلامه: غاسق، والنجم إذا أفل: غاسق، والقمر: غاسق إذا وقب، ولم يخصِّص بعضَ ذلك، بل عمَّ الأمرَ بذلك ، فكلُّ غاسق فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بالاستعاذة من شرّه إذا وقب) ا.هـ.
وقال محمد بن كعب القرظي: {ومن شر غاسق إذا وقب} هو النهار إذا دخل في الليل. رواه ابن جرير.
وقال الزهري: (الغاسق إذا وقب: الشمس إذا غربت). رواه ابن وهب في جامعه.
وقال الزمخشري: (ويجوز أن يراد بالغاسق : الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه).
وهذا القول لا يُؤثر عن أحد من السلف، لكن يشمله المعنى العامّ للآية، لأن السمَّ يجري في الجسد بما يحتمله من الضرر.