497- وعن بُهْزِ بنِ حكيمٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ قالَ: قالَ رسول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((فِي كُلِّ سَائِمَةٍ إِبِلٌ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ)). رواه أحمدُ، وأبو داودَ، والنَّسائيُّ وصَحَّحَهُ الحاكمُ، وعَلَّقَ الشافعيُّ القولَ به عَلَى ثُبوتِه.
درجةُ الحديثِ:
الحديثُ حسَنٌ.
قالَ في (التخليصِ الْحِبِّيرِ): رواه أحمدُ وأبو داودَ والنَّسائيُّ والحاكِمُ والبَيهقِيُّ (7182) مِن طريقِ بَهْزِ بنِ حكيمٍ، قالَ يحيى بنُ مَعينٍ: إسنادُه صحيحٌ، إذا كان مِن دونِ بَهْزٌ ثِقَةً، وبَيَّنَ ابنُ حَجَرٍ مَن تَكَلَّمَ في بَهْزٍ، وأنه ليس بِحُجَّةٍ، لكنه قالَ: وقد وَثَّقَه خلْقٌ مِن الأئمَّةِ، وقد اسْتَوْفَيْتُ ذلك في (تلخيصِ التهذيبِ)، وقالَ عنه في (التقريبِ): صَدوقٌ، وعلى هذا يكونُ الحديثُ حَسَناً، واللهُ أعْلَمُ.
ووافَقَ الذهبِيُّ الحاكمَ؛ أنه صحيحُ الإسنادِ، وصَحَّحَه صاحِبُ (الْمُحَرَّرِ) وابنُ القَيِّمِ، وسُئِلَ عنه أحمدُ، فقالَ: ما أَدْرِي ما وَجْهُه، فسُئِلَ عن إسنادِه، فقالَ: صالِحُ الإسنادِ، وقالَ البَيهقيُّ: حديثٌ منسوخٌ، وتَعَقَّبَه النَّوويُّ بعَدَمِ نَسْخِه، والجوابُ عن ذلك ما أجابَ به إبراهيمُ الحربيُّ، فقالَ: في لفْظِه وَهْمٌ، وإنما هو: ((فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْ شَطْرِ مَالِهِ))، أيْ: يَجْعَلُ مالَه شَطرينِ، فيَتَخَيَّرُ عليه الْمُصَّدِّقُ، ويَنْظُرُ تَمامَه في (التلخيصِ الْحِبِّيرِ).
واحْتَجَّ بحديثِ بَهْزٍ كلٌّ مِن: أحمدَ، وإسحاقَ، والبخاريُّ، والنوويُّ، وابنُ الملَقِّنِ.
مفرداتُ الحديثِ:
-لا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عن حِسَابِها: يَعنِي: أنَّ الخليطينِ لا يَفرقانِ مالَيْهِما خَشيةَ الصدَقَةِ، إذا كانَتْ الْخُلْطَةُ أحَظَّ للفقراءِ.
-مُؤْتَجِراً بها: أيْ: قاصداً الأَجْرَ مِن اللهِ تعالى بإعطاءِ زَكاتِه.
-شَطْرَ مَالِه: بفْتَحِ الشينِ المعْجَمَةِ وسكونِ الطاءِ المهْمَلَةِ آخِرُه راءٌ مُهْمَلَةٌ- هو النصْفُ، ويُستعمَلُ في الجزْءِ والبعضِ منه، ولعلَّهُ المرادُ هنا.
-عَزْمَةً: بفْتَحِ العَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وسكونِ الزايِ ثم ميمٍ مفتوحةٍ ثم تاءِ التأنيثِ، منصوبٌ على المصدريَّةِ، والناصِبُ له فعْلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه جُملةُ: ((فَإِنَّا آخِذُوهَا))، والمرادُ به: العزيمةُ والْجِدُّ في الأمْرِ الواجِبِ الْمُتَحَتِّمِ.
-آلُ محمَّدٍ: هم بنو هاشمٍ الذين منهم آلُ أبي طالِبٍ، وآلُ العَبَّاسِ، وآلُ الحارثِ، وآلُ أبي لَهَبٍ بنو عبدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هاشمٍ، فأبو طالِبٍ والعبَّاسُ والحارثُ وأبو لَهَبٍ هم أعمامُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- الذين صارَت لهم ذُرِّيَّةٌ، وأمَّا مَن عداهُم مِن أعمامِه فلم يُخَلِّفُوا عَقِباً.
ما يُؤْخَذُ مِن الحديثِ:
1- يَدُلُّ الحديثُ كما يَدُلُّ سابِقُه -حديثُ أنَسٍ- على أنَّ في كلِّ أربعينَ مِن سائمةِ الإبِلِ بنتَ لَبونٍ، وبنتُ اللَّبُونِ هي: ما تَمَّ لها سَنتانِ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ أمَّها بعدَ وِلادتِها إيَّاها قدْ وَلَدَتْ غالباً مَرَّةً أُخرى، فصارَتْ ذاتَ لَبَنٍ.
2- يَدُلُّ على أنَّ المالَيْنِ الْخَليطينِ مِن الماشيةِ لا يَجوزُ التفريقُ بينَهما فِراراً مِن الزكاةِ، بلْ فيهما الزكاةُ على قَدْرِ حِسَابِهما، فلا يُفَرَّقُ بينَ مُجْتَمِعٍ، ولا يُجْمَعُ بينَ مُتَفَرِّقٍ خَشيةَ الصدَقَةِ.
3- أمَرَ اللهُ تعالى بإخراجِ الزكاةِ؛ فقالَ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الانعام: 141] والأمْرُ يَقتضِي الفَوْرِيَّةَ، وذلك مع القُدرةِ على إخراجِها، وهو مَذهَبُ الأئمَّةِ الثلاثةِ: مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ.
4- أمَّا مع الحاجةِ إلى تأخيرِها، فإنه يَجوزُ تأخيرُها، كأشَدِّ حاجةٍ مُرْتَقَبَةٍ أو حُضورِ قريبٍ، أو جارٍ غائبٍ، أو لعُذْرِ غَيبةِ المالِ ونحوَ ذلك.
5-قالَ في (الشرْحِ الكبيرِ): لا يَخْتَلِفُ الْمَذهَبُ أنَّ دَفْعَها للإمامِ جائزٌ؛ سواءٌ كان عَدْلاً أو غيرَ عَدْلٍ، وسواءٌ كانت الأموالُ ظاهرةً أو باطنةً، ويَبرَأُ بدَفْعِها، تَلِفَتْ في يدِ الإمامِ أم لا، صَرَفَها في مَصَارِفِها أمْ لا.
6- يَدُلُّ على أنَّ مَن أَدَّى الزكاةَ طَيِّبَةً بها نَفْسُه، بدَافِعِ طَلَبِ الثوابِ والأجْرِ- فقد قامَ برُكْنٍ مِن أركانِ الإسلامِ العِظامِ، وله على ذلك الأجْرُ العظيمُ.
7- مَن مَنَعَها، فقد هَدَمَ رُكناً مِن أركانِ الإسلامِ، وتَرَكَ وَاجِباً هامًّا مِن أمورِ دِينِه، فعليه وِزْرُ ذلك وإِثْمُه العظيمُ.
8- أنَّ على الإمامِ تعزيرَ مانِعِ الزكاةِ، وأنَّ مِن التعزيرِ أخْذَ الزكاةِ قَسْراً منه، وأخْذَ نِصْفِ مالِه تَعزيراً ونَكالاً له، ورَدْعاً لأَمْثَالِه.
9- جوازُ التعزيرِ بأخْذِ المالِ، فالتعزيرُ بابٌ واسعٌ يَختلِفُ باختلافِ الأحوالِ.
10- قولُه: ((عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا)) يَعْنِي: حَدَّ اللهِ في الْجِدِّ، وعَدَمَ التوانِي في القِيامِ به.
11- أنَّ الزكاةَ لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-, ولا لآلِه، وهم بنو هاشمٍ؛ لأنها أوساخُ الناسِ، وهم أرْفَعُ مِن ذلك، وسيَأتِي بأَتَمَّ مِن هذا إنْ شاءَ اللهُ.
12- قالَ شيخُ الإسلامِ: إنَّ العقوباتِ الماليَّةَ ثلاثةُ أقسامٍ:
أوَّلاً: الإتلافُ: هو إتلافُ مَحَلِّ الْمُنْكَراتِ تَبَعاً لها؛ مثلِ: الأصنامِ بتكسيرِها وإحراقِها، وتحطيمِ آلاتِ اللهْوِ، وتمزيقِ أوْعِيَةِ الخمورِ، وتحريقِ الحوانيتِ التي يُباعُ فيها الخمْرُ، وإتلافِ كتُبِ الزَّندقةِ والإلحادِ، والأفلامِ الخليعَةِ، والصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ، ونحوَ ذلك.
ثانياً: التغييرُ: مثلُ تكسيرِ العُملةِ الْمُزَيَّفَةِ، والستائِرِ التي فيها التصاويرُ، وجَعْلِه وِسادةً ونحوَ ذلك.
ثالثاً: التمليكُ: مثْلُ: سَرِقَةِ التمْرِ الْمُعَلَّقِ، والتصَدُّقِ بالزعفرانِ المغشوشِ، فمصادَرَةُ مثلِ هذه الأشياءِ والصدَقَةُ بها، أو بأثمانِها.
خِلاَفُ العُلماءِ:
ذَهَبَ جُمهورُ العُلماءِ -ومنهم الأئمَّةُ الأربعةُ- إلى أنَّ التعزيرَ بأَخْذِ المالِ لا يَجوزُ.
وأجابَ بعضُهم عن القضايا التي وَرَدَتْ في العقوبةِ بأخْذِ المالِ -: بأنها منسوخةٌ؛ إذا كانَ مَشروعاً في ابتداءِ الإسلامِ، ثم نُسِخَ بعدَ ذلك، وَعَلَّلُوا عدَمَ جَوازِ التعزيرِ بأخذِ المالِ؛ بأنَّ هذا النوعَ مِن العقوبةِ يكونُ ذَريعةً إلى أخْذِ ظَلَمَةِ الْحُكَّامِ والوُلاةِ أموالَ الناسِ بغيرِ حَقٍّ.
وذَهَبَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ وتلميذُه ابنُ القَيِّمِ إلى: جوازِ التعزيرِ بأَخْذِ المالِ، إذا رأى الوُلاةُ أنَّ هذا يُحَقِّقُ الْمَصلحَةَ، ويَرْدَعُ الظَّلَمَةَ، ويَكُفُّ الشرَّ؛ لأنَّ التعزيرَ بابٌ واسعٌ فأوَّلُه التوبيخُ بالكلامِ, وأعلاهُ التعزيرُ بالقتْلِ, إذا لم يَنْكَفَّ الشرُّ إلاَّ بالقتْلِ, وأخْذُ المالِ نوعٌ مِن أنواعِ التعزيرِ الذي يَحْصُلُ به رَدْعُ الْمُعتدينَ.
وقد رَدَّ الشيخينِ دَعْوَى النسخِ وَنَفَيَاهَا نَفياً بَاتًّا، ودَلَّلاَ على ذلك بما وَرَدَ مِن القضايا العَديدةِ الْمُؤَيِّدَةِ لوُجودِ العقوباتِ المالِيَّةِ.
قالَ الشيخُ: مُدَّعُو النسْخِ ليسَ معهم حُجَّةٌ شَرعيَّةٌ، لا مِن كتابٍ، ولا مِن سُنَّةٍ، وهو جائِزٌ على أصْلِ أحمدَ؛ لأنه لم يَختلِفْ أصحابُه أنَّ العقوباتِ في المالِ غيرُ مَنسوخةٍ كلَّها.
ومِن أدِلَّةِ التعزيرِ بأخْذِ المالِ ما يأتِي:
1- أباحَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- سَلَبَ الذي يَصطادُ في حَرَمِ المدينةِ لِمَن يَجِدُه، رواه أحمدُ (1381).
2- أمَرَ بكسْرِ دِنانِ الخمْرِ، وشَقِّ ظُروفِه، رواه أحمدُ (11744).
3- أمَرَ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو بحَرْقِ الثوبينِ الْمُعَصْفَرَيْنِ، رواه أبو داودَ (3546).
4- أضْعَفَ الغَرامةَ على مَن سرَقَ مِن غيرِ حِرْزٍ, رواه أبو داودَ (3816).
5- هَدَمَ مَسجِدَ الضِّرارِ.
6- حَرَمَ القاتِلَ مِن الْمِيراثِ والوَصِيَّةِ، رواه التِّرمذيُّ (2035).