القارئ :
قال المؤلف ...
التأمل : التحلي بالتأمل ، فإنّ من تأمل أدرك ، وقيل:"تأمل تدرك" . وعليه ، فتأمل عند التكلم : بماذا تتكلم ؟ وما هي عائدته ؟ وتحرز في العبارة والأداء دون تعنت أو تحذلق ، وتأمل عند المذاكرة كيف تختار القالب المناسب للمعنى المراد ، وتأمل عند سؤال السائل كيف تتفهم السؤال على وجهه حتى لا يحتمل وجهين ؟ و هكذا.
الشيخ :
الأدب الرابع عشر من آداب طالب العلم أن يكون متأملا متفكرا في عواقب الأمور ، التأمل يشمل عددا من الأشياء :
أولها : التفكر بحيث يعرف حقيقة ما يعرض عليه سواءا كان من آيات الله الكونية أو من آيات الله الشرعية ، وقد جاءت النصوص في الترغيب في التفكر في ذلك.
الثاني : الاعتبار وهو مقايسة النّفس بغيرها بحيث يقيس العبد نفسه على غيره فيما يتعلق بما حصل عليهم سواءا كان من العاقبة الحميدة أو العواقب السيئة ، فإنّ ما حل بغيرك سيحل بك متى ما فعلت مثل فعله .
الأمر الثالث : مما يدخل في التأمل : التدبر بحيث يعرف الإنسان معاني الكلام ويتأمل في دلالاته وقد جاءت النصوص في الترغيب في التدبر قال تعالى : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ، وقال جل وعلا : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) ، وحينئذ أيضا يتأمل الإنسان في كلامه فلا يتكلم إلا بالكلام الذي تكون عاقبته حميدة ، ويشمل هذا أمور :
الأول : أن يكون اللفظ مناسبا غير نابي أو أقل مما يراد به من المعاني ، فإنّ اللغة واسعة واللفظ يدل على معنى ، وهناك ألفاظ تدل على معنى أعلى منه ، وهناك ألفاظ تدل على معاني أقل منه ، وحينئذ ننتقي من الألفاظ ما يكون دالا على المراد ، و بالتالي يتفكر الإنسان في ألفاظه ، ويتفكر في معاني الألفاظ بحسب الدلالة اللغوية قبل أن يتكلم بالكلمة .
الثاني : أن يتأمل الإنسان في العواقب التي تنتج عن هذه الكلمة فإن كانت العاقبة حميدة تكلم بها ، و إن كانت العاقبة غير ذلك لم يتكلم بها ، و هكذا أيضا يتأمل في طريقة كلامه و أسلوبه بحيث يكون مرتبا ترتيبا صحيحا لا يأتي بكلام متنافر لا يصح أن يرتب بعضه على بعض ، كذلك يحرص أن يكون كلامه سهلا بحيث يجتنب التقعر في الكلام ، كذلك يحرص أن يكون كلامه سهلا من جهة وضوحه ، واضحا عند سامعه يعرف المراد به ، كذلك يجتنب اللفظ الذي يكون مجملا يحتمل معانيَ متعددة ، فإنّ الألفاظ المشتركة إذا أطلقها الإنسان قد يفهم منها غير ما يريده المتكلم به ، وكذلك فيما يتعلق بإطلاق الأسئلة يتحرز الإنسان في أسئلته عند شيخه فلا يتكلم بلفظ في سؤاله إلا وهو دال على المراد الذي يريده ويكون ملتزما فيه جانب الأدب ، كذلك يكون مفهوما عند شيخه بحيث يجتنب ما قد يظن أنه لا يفهم ، وكذلك يحرص عند سؤاله ألا يتكلم بالألفاظ التي لها معاني متعددة ويكون الكلام في أحد هذه الأبواب التي يُفهم منها خلاف مراد السائل ، مثال هذا : عند كلمة المفرد في النحو نطلقها ماذا نريد بها ؟ مرة نريد بها ما يقابل الجملة وما يقابل شبه الجملة ، ومرة نطلق كلمة المفرد ونريد بها ما يقابل المثنى والجمع ، فعندما يأتي المتكلم ويتكلم في باب الخبر ويقول : الخبر ينقسم إلى مفرد وجملة وشبه جملة فيسأله عن المفرد الذي هو مقابل للمثنى والجمع ، فحينئذ يكون قد أدخل في الكلام ما يكون سببا للتشويش؛ إما تشويشا على الطلاب أو جعل الأستاذ لا يتمكن من الجواب عن ذلك السؤال في هذا الموطن خشية من تداخل هذه المصطلحات ، مثال ذلك : عندما يأتي الفقيه أو الأصولي ويأمر الناس بالعمل بالنصوص ثم يأتي السائل ويسأله عن النص الذي في مقابلة الظاهر فحينئذ يُلبس وقد يُظن أنّ العمل بالنصوص إنما يراد به الأدلة القطعية ، و هذا ليس مرادا للشيخ وإنما المراد الشيخ بكلامه النص الذي يشمل ما كان صريح الدلالة وما ورد عليه احتمال و يشمل أيضا اللفظ الظاهر ، فعندما يأتي السائل ويسأل بهذا اللفظ يكون قد أوقع الناس في لبس سواءا أوقع شيخه أو أوقع زملاءه ، نعم . هناك مسألة وهي كلمة العبارة ، وذلك أنّ هذه اللفظة أصلها من الفعل عبر بمعنى انتقل من مكان إلى مكان وقد قال جل وعلا في سور عديدة أمر الله جل و علا بالاعتبار فقال : (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) يعني اعبروا بأذهانكم وانتقلوا بذهنكم من حال أولئك اليهود الذين خُربت عليهم بيوتهم وعُذبوا بهذا التعذيب المذكور في أول السورة وقيسوا أنفسكم وانتقلوا بأذهانكم إلى أنفسكم ، فإنكم إذا فعلتم مثل فعلهم عاقبكم الله بمثل عقوبتهم ، وبعض أهل العلم يطلق على الكلام هذا اللفظ العبارات ، و هذا ناشئ من منشأ عقدي وذلك أنّ بعض الطوائف يرون أنّ الكلام هو المعاني النفسية وأنّ الألفاظ والأصوات والحروف عبارة عن الكلام وليست هي الكلام ، ولذلك يسمون الجمل والكلمات عبارات ، وهذا منشؤه عقدي ولذلك ينبغي التحرز من إطلاق هذه الجملة جملة العبارة .