القارئ :
الأمر العاشر - هَجْرُ التَّرَفُّهِ :
لا تَسْتَرْسِلْ في ( التَّنَعُّمِ والرفاهِيَةِ )؛ فإنَّ ( البَذاذةَ من الإيمانِ ) وخُذْ بوَصيةِ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ في كتابِه المشهورِ وفيه : ( وإِيَّاكُم والتنَعُّمَ وزِيَّ العَجَمِ ، وتَمَعْدَدُوا واخْشَوْشِنُوا .... ) .
الشيخ :
لا تسترسل في التنعم والرفاهية، وهذه النصيحة تقال لطالب العلم ولغير طالب العلم , لأن الاسترسال في ذلك مخالف لإرشاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم , فقد كان ينهى عن كثرة الإرفاه ويأمر بالاحتفاء أحيانا, والإنسان الذي يعتاد الرفاهية يصعب عليه معالجة الأمور , لأنه قد تأتيه الأمور على وجه لا يتمكن معه من الرفاهية ولنضرب لذلك مثلا بهذا المثل الذي ذكرناه في الحديث يأمر بالاحتفاء أحيانا , بعض الناس لا يحتفي , دائما عليه جورب وعليه خف وعليه نعل , لا يكاد يمشي هذا الرجل لو عرض له عارض وقيل له تمشي 500 متر بدون وقاية للرجل لوجدت ذلك يشق عليه مشقة عظيمة , وربما تدمى قدمه من مماسة الأرض , لكن لو عوَّد نفسه على الخشونة وعلى ترك الترفه دائما , لحصل له خير كثير .
ثم إن البدن إذا لم يعود على مثل هذه الأمور لم يكن عنده مناعة , فتجده يتألم من أي شيء من ذلك , لكن إذا كان عنده مناعة لا يهتم له ولهذا تجد أيدي العمال الآن أقوى بكثير من أيدي طلبة العلم , لأنها تعودت واعتادت على ذلك حتى إن بعض العمال فيما سبق لما كانوا يعانون الطين واللبن إذا مسست أيديهم كأنما مسست حجرا من خشونتها , لو أنه ضم أصابعه على يدك لآلمك كثيرا لإنه اعتاد على ذلك.
فترفيه الإنسان نفسه كثيرا لا شك أنه ضرر عليه كبير .
قوله : " البذاذة من الإيمان " ما هي البذاذة ؟
البذاذة : عدم التنعم والترفه , وليست البذاءة , فرق بين البذاءة وبين البذاذة .
البذاءة صفة غير محمودة , أما البذاذة فهي صفة محمودة .
وخذ بوصيه أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه المشهور، وفيه: وإياكم وزي العجم .
هذه الجمله تحذيرية , لأن العرب عندهم جمل تحذيرية وعندهم جمل إغرائية . فإن وردت في مطلوب فهي إغراء , وإن وردت في محذور فهي تحذير .
فلو قلت لشخص : الأسد الأسد , هذا تحذير .
وإن قلت : الغزال الغزال, هذا إغراء .
أما (إيَّا) فهي للتحذير .
قال ابن مالك :
إياك والشر ونحوه نصب = محذر بما استتاره وجب
ومعنى إياكم : أحذركم .
والتنعم : هذه الواو للعطف , وقيل للمعية , والمعنى : أحذركم مع التنعم يعني أن تكونوا مع التنعم , التنعم باللباس وبالبدن وكل شيء, والمراد بذلك كثرته .
لأن التنعم بما أحل الله على وجه لا إسراف فيه , من الأمور المحمودة بلا شك .
ومن ترك التنعم بما أحل الله من غير سبب شرعي , فهو مذموم .
وقوله: وزي العجم ، ما هو زي العجم ؟ شكله . سواء كان ذلك في الحلية كشكل الشعر شعر الرأس أو اللحية أو ما أشبه ذلك أو كان باللباس يعني بالتحلي باللباس. فإننا منهيون عن زي العجم , وليس المراد بالعجم أمة إيران بل المراد بالعجم كل ما سوى العرب فيدخل فيه الأوربيون والشرقيون في آسيا وغيرها, كل من سوى العرب فهو عجم لكن المسلم من العجم التحق بالعرب حكما لا نسبا , لأنه اقتدى بمن بعث في الأميين رسولا , صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
تمعددوا : هل معناه كبروا معدتكم؟!لا، معد بن عدنان هذا أعلى أجداد الرسول عليه الصلاة والسلام بعد عدنان وهو ولا شك من صميم العرب فكأنه يقول: اتركوا زي العجم وعليكم بزي العرب (معد بن عدنان) .
وأما اخشوشنوا : فهو من الخشونة التي هي ضد الليونة والتنعم .
وكل هذه وصايا نافعة من عمر رضي الله عنه , لو أن الناس عملوا بها , سواء من طلبة العلم أو غير طلبة العلم , لكان في هذا خير كثير .
لكن الآن في البلاد التي منَّ الله عليها بالأمن وطيب العيش وكثرة المال , صار الأمر بالعكس تماما, فالتنعم موجود لا يريد الإنسان إلا أن يركب مركبا مريحا ويبني قصرا مشيدا ولا يناله شيء من الأذى لا برد في برد ولا حر في حر ولا يريد أن يمسه شيء متنعم تماما.
ولهذا كثرت فيهم الأوبئة التي تترتب على عدم الحركة , مثل السمنة والضغط وضيق التنفس وعدم القدرة ، يعني بعض الناس تجد الشاب تصعد أنت وهو الجبل ،لا ينتصف الجبل إلا وقد سارع نَفَسُه حتى يكاد يسقط بدنه, وأنت مستريح لأنك تعودت وهو لم يتعود مع أنه شاب لكن لم يعود نفسه , زي العجم الآن موجود يترقبون كل موضة تخرج حتى يقلدوها , وقد أتعبت النساء رجالها في هذا الباب تجدها تأتي صباح النهار كل يوم بلباس من أحسن الألبسة نظيف، ساتر , ثم تنزل إلى السوق في آخر النهار فإذا بموضة جديدة , فتصيح أريد أن أشتري هذا الثوب مع أنه أضيق من الأول وأسوأ من الأول ولكن هذا شيء جديد، لا بد من الإعجاب به لا بد من أن تأخذ منه , خصوصا من منَّ الله عليها بالمال كبعض المدرسات وغيرهم , فتجدها لا يهمها تشتري ما تريد , وهذا غلط .
ولهذا كثرت الآن بين أيدي النساء مجلات تسمى البردة , تأخذها المرأة وتنظر ما يروق لها حتى وإن كان لباسا لا يتناسب مع اللباس الشرعي , لكنه جديد، نسأل الله السلامة والهداية .
القارئ :
وعليه فازْوَرَّ عن زَيْفِ الحضارةِ فإنه يُؤَنِّثُ الطِّباعَ ويُرْخِي الأعصابَ ويُقَيِّدُك بِخَيْطِ الأَوْهَامِ ويَصِلُ المُجِدُّونَ لغاياتِهم وأنتَ لم تَبْرَحْ مكَانكَ، مَشْغُولٌ بالتأَنُّقِ في مَلْبَسِكَ وإن كان منها شِيَاتٌ ليست مُحَرَّمَةً ولا مَكروهةً لكن ليست سَمْتًا صالحًا والحِلْيَةُ في الظاهرِ كاللِّباسِ عُنوانٌ على انتماءِ الشخصِ بل تَحديدٌ له ، وهل اللِّباسُ إلا وَسيلةٌ من وسائلِ التعبيرِ عن الذاتِ ؟!
فكُنْ حَذِرًا في لِباسِكَ؛ لأنه يُعَبِّرُ لغَيْرِكَ عن تَقْوِيمِك في الانتماءِ والتكوينِ والذوْقِ ، ولهذا قِيلَ : الْحِلْيَةُ في الظاهِرِ تَدُلُّ على مَيْلٍ في الباطِنِ والناسُ يُصَنِّفُونَكَ من لِباسِك بل إنَّ كيفِيَّةَ اللُّبْسِ تُعْطِي للناظِرِ تَصنيفَ اللابسِ من : الرصانةِ والتعَقُّلِ أو التَّمَشْيُخِ والرَّهْبَنَةِ أو التصابِي وحُبِّ الظهورِ، فخُذْ من اللِّباسِ ما يَزينُك ولا يَشينُك ولا يَجْعَلْ فيكَ مَقالًا لقائلٍ ولا لَمْزًا لِلَامِزٍ ، وإذا تلاقَى مَلْبَسُك وكيفيَّةُ لُبْسِك بما يَلتَقِي مع شَرَفِ ما تَحْمِلُه من العِلْمِ الشرعيِّ كان أَدْعَى لتعظيمِك والانتفاعِ بعلْمِك، بل بِحُسْنِ نِيَّتِك يكونُ قُرْبَةً إنه وسيلةٌ إلى هِدايةِ الْخَلْقِ للحَقِّ . وفي المأثورِ عن أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ : ( أَحَبُّ إليَّ أن أَنْظُرَ القارِئَ أبيضَ الثيابِ ) . أي : ليَعْظُمَ في نفوسِ الناسِ فيَعْظُمَ في نفوسِهم ما لَدَيْهِ من الْحَقِّ .
والناسُ – كما قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى – كأسرابِ الْقَطَا ، مَجبولون على تَشَبُّهِ بعضِهم ببَعْضٍ . فإيَّاكَ ثم إيَّاكَ من لِباسِ التصابِي، أمَّا اللِّباسُ الإفرنجيُّ فغَيرُ خافٍ عليك حُكْمُه ، وليس معنى هذا أن تأتِيَ بلِباسٍ مُشَوَّهٍ لكنه الاقتصادُ في اللِّباسِ برَسْمِ الشرْعِ ، تَحُفُّه بالسمْتِ الصالحِ والْهَدْيِ الْحَسَنِ .
وتَطْلُبُ دلائلَ ذلك في كتُبِ السنَّةِ والرِّقاقِ ، لا سِيَّمَا في ( الجامعِ ) للخطيبِ .
ولا تَسْتَنْكِرْ هذه الإشارةَ فما زالَ أهلُ العِلْمِ يُنَبِّهُون على هذا في كُتُبِ الرِّقاقِ والآدابِ واللِّباسِ ، واللهُ أَعْلَمُ .
الشيخ :
لما ذكر , وفقه الله , هجر الترفه , أطنب في ذكر اللباس , لأن اللباس الظاهر عنوان على اللباس الباطن .
ولهذا يمر بك رجلان كلاهما عليه ثوب مثل الآخر, فتزدري أحدهما ولا تهتم بالآخر, تزدري بمن لباسه ينبغي أن يكون على غير هذا الوجه . إما في الكيفية وإما في اللون وإما في الخياطة أو غير ذلك , والثاني لا ترفع به رأسا ولا ترى في لباسه بأسا , لأن لكل قالب ما يناسبه .
مثلا لبس العقال : هو في الأصل لا بأس به , بل إن بعضهم يقول: إنه العمامة العصرية , العمامة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانت لفافة تطوى على الرأس وتحتاج إلى تعب في طيها ونقلها, لكن هذا مطوي جاهز ليس عليك إلا أن تضعه على رأسك , فهو العمامة إلا أنها عمامة ميسرة , ولهذا كان بعض الناس فيما سبق يجعلون ( العُقُل ) يجعلونها بيضاء لتكون كالعمامة تماما , هذه العُقُل لا يلبسها كل الناس على حد سواء , يمر بك رجلان كلاهما قد لبس العقال أحدهما تزدريه والثاني لا تهتم به , لأن الأول لبس ما لا يلبسه مثله والثاني لبس ما يلبسه مثله ولا تهتم به .
وأشياء كثيرة من هذا النوع، مر بك رجلان أحدهما ميكانيكي عليه بنطلون ومر بك عالم كبير عليه بنطلون في بلد لا يلبس العلماء مثله, تجد أنك تزدري الثاني ولا تزدري الأول .
فالمهم أن الشيخ وفقه الله , يقول إن بعض الناس يكون مشغولا بالتأنق في ملابسه , حتى وإن كانت مباحة , فلا ينبغي أن يكون أكبر همك الهندمة والتأنق في اللباس , والتأنق في لبس الغترة (واجعلها مرزاب لا مرزابين ولا ثلاثة) لا تهتم بهذا , ولكن لا تكون أيضا بالعكس , لا تهتم بنفسك ولا بلباسك , وقد سبق أن التجمل في اللباس مما يحبه الله عز وجل , وهذا عمر رضي الله عنه يقول : أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب . لأنه جمال.
وقول الشيخ بكر أبي زيد , وفقه الله : (إنه يعبر لغيرك عن تقويمك، في الانتماء، والتكوين، والذوق)؛ هذا أيضا صحيح لأن كل إنسان قد يزن من لاقاه بحسب ما عليه من اللباس , كما أنه يزنه بالنسبة لحركاته وكلامه وأقواله , وخفته ورزانته كذلك في اللباس .
ثم حذر من لباس التصابي، قبلها كلام شيخ الإسلام أيضا كلام مهم: الناس كأسرابِ الْقَطَا ، مَجبولون على تَشَبُّهِ بعضِهم ببَعْضٍ . وهذا صحيح ولذلك إذا ظهر نوع جديد من اللباس تجد الناس يتقاطرون عليه فما تلبث أن يسع الناس كلهم .
أما لباس التصابي , بأن يلبس الشيخ الكبير سنا ما يلبسه الصبيان , من رقيق الثياب وما أشبه ذلك فهذا أيضا من الأمور التي لا ينبغي للإنسان أن يمارسها .
أما اللباس الإفرنجي فغير خاف عليك حكمه , ما هو حكمه ؟
التحريم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) .
لكن ما هو اللباس الإفرنجي ؟ اللباس الإفرنجي هو المختص بهم بحيث لا يلبسه غيرهم , وإذا رآه الرائي قال: إن لابسه من الإفرنج , وأما ما كان شائعا بين الناس , من الإفرنج وغير الإفرنج , فهذا لا يكون من التشبه , لكن قد يحرم من جهة أخرى مثل أن يكون حريرا بالنسبة للرجال , أو قصيرا بالنسبة للنساء أو ما أشبه ذلك , ثم لما خاف أن يمضي الذهن بعيدا قال : وليس معنى هذا أن تأتي بلباس مشوه، يعني ليس معنى ما قاله أن الإنسان يأتي باللباس المشوه كما يفعله بعض الناس , إظهارا للزهد . تجد ثوبه يشق يقول: دعه، ما يهتم به ويتسخ يقول لا يهم أنا مآلي للتراب والأرض تأكل الكفن وتوسخ الجسد ما يهم, أو مثلا يأتي وغترته غير مرتبه ولا يبالي، الجانب هذا قليل والجانب هذا كثير ويمشي بدون مبالاة هذا ليس طيبا, الإنسان ينبغي أن يعتني بنفسه ولا يأتي بما يكون هزءا في حقه, لأنه مأمور بأن يدفع الغيبة عن نفسه ((رحم الله امرءا كف الغيبة عن نفسه)) .
تمت المراجعة الصوتية بواسطة: محمد أبو زيد
تم التهذيب بواسطة زمزم