وَا، بِأَبِي أَنْتِ وَفُوكِ الأَشْنَبُ = كَأَنَمَّا ذُرَّ عَلَيْهِ الزَّرْنَبُ
الإِعْرَابُ: (خَالَطَ) فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ، يَعُودُ إِلَى الخمرِ، والخمرُ مِمَّا يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَإِنْ يَكُن الأكثرُ فِيهِ التأنيثَ. (مِنْ سَلْمَى) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِخَالَطَ، (خَيَاشِيمَ) مَفْعُولٌ بِهِ لِخَالَطَ منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ. (وَفَا) الْوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ، فَا: مَعْطُوفٌ عَلَى خَيَاشِيمَ مَنْصُوبٌ بالألفِ نِيَابَةً عَن الفتحةِ؛ لأَنَّهُ مِن الأسماءِ الستَّةِ، والمضافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ فِي بيانِ الاستشهادِ بالبيتِ، (صَهْبَاءَ) حَالٌ مِن الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ فِي خَالَطَ، (خَرْطُوماً عُقَاراً قَرْقَفَا) أَحْوَالٌ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ الضميرِ المُسْتَتِرِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (وَفَا)، فَإِنَّ هَذِهِ الْوَاوَ حَرْفُ عَطْفٍ، وَقَدْ عَطَفَتْ (فا) عَلَى (خَيَاشِيمَ) المنصوبِ عَلَى أَنَّهُ مفعولٌ بِهِ لِخَالَطَ، كَمَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي الإعرابِ، وَهَذَا المعطوفُ مِن الأسماءِ الستَّةِ، وَقَدْ نَصَبَهُ الشاعرُ بالألفِ نيابةً عَن الفتحةِ، مع أَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ فِي اللفظِ إِلَى شَيْءٍ.
وبهذا الظاهرِ يَبْطُلُ قَوْلُ النُّحَاةِ: إِنَّ شَرْطَ إعرابِ هَذِهِ الأسماءِ الستَّةِ بالواوِ رَفْعاً وبالألفِ نَصْباً وبالياءِ جَرًّا أَنْ تَكُونَ مضافةً؛ لأَنَّ الشاعرَ أَعْرَبَهَا هَذَا الإعرابَ وَلَيْسَتْ مِن الإضافةِ فِي شَيْءٍ، وللنُّحَاةِ فِي الردِّ عَلَى هَذَا الاعتراضِ وَجْهَانِ:
الأوَّلُ: أَنَّ هَذَا البيتَ شَاذٌّ غَيْرُ جَارٍ عَلَى الكثيرِ المُسْتَعْمَلِ فِي كَلامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الشاذَّ يُحْفَظُ وَلا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وأنَّهُ لا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى القواعدِ المُتْلئِّبَّةِ المُطَّرِدَةِ فِي كَلامِ الفُصَحَاءِ.
والثاني: أَنا لا نُسَلِّمُ أَنَّ (فَا) فِي هَذَا البيتِ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَى ضميرٍ عَائِدٍ إِلَى المَحْبُوبَةِ مَحْذُوفٍ مع أَنَّهُ مَنْوِيُّ الثبوتِ، وَأَصْلُ الْكَلامِ عَلَى هَذَا: (خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَهَا وَفَاهَا)، فَحَذَفَ الضميرَ مِن اللفظِ وقَدَّرَهُ مَوْجُوداً، فَأَعْرَبَ الاسمَ نَفْسَ الإعرابِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ وُجُودُ المُضَافِ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مَا فِي البابِ أَنَّنَا نَتَوَسَّعُ فِي شرطِ الإضافةِ فنقولُ: سَوَاءٌ أَكَانَ المضافُ إِلَيْهِ مَذْكُوراً فِي اللفظِ وَهُوَ الغالبُ أَمْ كَانَ مُقَدَّراً وَهُوَ قليلٌ، وَهَذَا البيتُ مِمَّا فِيهِ الإضافةُ إِلَى مُقَدَّرٍ، فَهُوَ مِن القليلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ أَبُو الْحَسَنِ الأَخْفَشُ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ صَاحِبُ الألفيَّةِ، وَعَنْهُمَا نَقَلَ المُؤَلِّفُ هَذَا التخريجَ بِقَوْلِهِ: (أَو الإِضَافَةُ مَنْوِيَّةٌ)، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْكَلامَ اشْتَمَلَ عَلَى جَوَابَيْنِ عَن البيتِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ العبارةَ (أَو الإضافةُ)، وَفِي نُسْخَةٍ (والإضافةُ مَنْوِيَّةٌ) بالواوِ، فَيَكُونُ جَوَاباً وَاحِداً، وَمَا بَعْدَ الْوَاوِ تَسْهِيلٌ لِوَجْهِ الشذوذِ.
([5]) سُورَةُ القصصِ، الآيَةُ: 34.
([6]) سُورَةُ المائدةِ، الآيَةُ: 25.
([7]) اعْلَمْ أَوَّلاً أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَصِفُوا بأسماءِ الأجناسِ؛ أَيْ: أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا أَسْمَاءَ الأجناسِ صِفَاتٍ، فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لأَنَّ النَّعْتَ لا يَكُونُ إِلاَّ مُشْتَقًّا أَوْ مُؤَوَّلاً بالمُشْتَقِّ، فَاتَّخَذُوا كلمةَ (ذُو) وُصْلَةً وَذَرِيعَةً إِلَى الوصفِ باسمِ الجنسِ، وَالْتَزَمُوا إِضَافَتَهَا لاسمِ جنسٍ غَيْرِ وَصْفٍ؛ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمُ الجنسِ وَصْفاً لَمَا احْتِيجَ فِي الوصفِ بِهِ إِلَى وصلةٍ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّ (ذُو) لا تُضَافُ إِلَى الأعلامِ، وَلا إِلَى الضمائرِ، وَلا إِلَى الصفاتِ، وَلا إِلَى الجُمَلِ، وَقَدْ وَرَدَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى الْعَلَمِ قَلِيلاً فِي نَحْوِ: (أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةٍ)، وَوَرَدَ إِضَافَتُهَا إِلَى الضميرِ شُذُوذاً فِي قَوْلِ الشاعرِ:
إِنَّمَا يَعْرِفُ ذَا الْفَضْـ = ـلِ مِنَ النَّاسِ ذَوُوهُ
وَوَرَدَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى جملةٍ شُذُوذاً أَيْضاً فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: (اذْهَبْ بِذِي تَسْلَمْ).
7 - هَذَا الشاهدُ مِنْ كلمةٍ لِمَنْظُورِ بْنِ سُحَيْمٍ الفَقْعَسِيِّ، وَقَبْلَهُ:
وَلَسْتُ بِهَاجٍ فِي القِرَى أَهْلَ مَنْزِلٍ = عَلَى زَادِهِمْ أَبْكِي وَأُبْكِي الْبَوَاكِيَا
فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ = فَحَسْبِي مِنْ ذِي.........
الْبَيْتَ، وَبَعْدَهُ:
وَإِمَّا كِرَامٌ مُعْسِرُونَ عَذَرْتُهُمْ = وَإِمَّا لِئَامٌ فَادَّخَرْتُ حَيَائِيَا
وَعَرْضِيَ أَبْقَى مَا ادَّخَرْتُ ذَخِيرَةً = وَبَطْنِيَ أَطْوِيهِ كَطَيِّ رِدَائِيَا
اللغةُ: (هَاجَ) اسْمُ فاعلٍ مِنَ الْهِجَاءِ، وَهُوَ الذمُّ والقدحُ، تَقُولُ: هَجَاهُ يَهْجُوهُ هَجْواً وَهِجَاءً. (فِي القِرَى) الْقِرَى -بكسرِ القافِ مَقْصُوراً -: إِكْرَامُ الضيفِ، و (فِي) هُنَا دَالَّةٌ عَلَى السببيَّةِ والتعليلِ، مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ))؛ أَيْ: بِسَبَبِهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ لَنْ يَهْجُوَ أَحَداً بِسَبَبِ القِرَى عَلَى كُلِّ حالٍ؛ لأَنَّ النَّاسَ ثلاثةُ أنواعٍ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الأنواعَ الثلاثةَ، وَذَكَرَ مَعَ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَدْعُوهُ إِلَى تَرْكِ هِجَائِهِ، (كِرَامٌ) جَمْعُ: كَرِيمٍ، وَأَرَادَ بِهِ الطَّيَّبَ العُنْصُرِ الشَّرِيفَ الآباءِ، وَقَابَلَهُم باللِّئَامِ، (مُوسِرُونَ) ذَوُو مَيْسَرَةٍ وَغِنًى وَعِنْدَهُمْ مَا يُقَدِّمُونَهُ للضِّيفَانِ، (مُعْسِرُونَ) ذَوُو عُسْرَةٍ وَضِيقٍ لا يَجِدُونَ مَا يَقْرُونَ بِهِ الضَّيْفَ.
الإعرابُ: (إِمَّا) حَرْفُ شَرْطٍ وَتَفْصِيلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ لا مَحَلَّ لَهُ، (كِرَامٌ) فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ السِّيَاقُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلامِ: إِمَّا قَابَلَنِي كِرَامٌ، (مُوسِرُونَ) نَعْتٌ لـ (كرامٌ) مَرْفُوعٌ بالواوِ نِيَابَةً عَن الضمَّةِ؛ لأَنَّهُ جَمْعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ، وَالنونُ عِوَضٌ عَن التنوينِ فِي الاسمِ المفردِ، (لَقِيتُهُمْ) فِعْلٌ مَاضٍ وَفَاعِلُهُ وَمَفْعُولُهُ، وَالجملةُ لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإعرابِ مُفَسِّرَةٌ، (فَحَسْبِي) الفاءُ واقعةٌ فِي جوابِ الشرطِ، حَسْب: اسْمٌ بِمَعْنَى كَافٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إِلَيْهِ، (مِنْ) حَرْفُ جَرٍّ، (ذِي) اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، مَجْرُورٌ بِمِنْ، والجارُّ وَالمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِحَسْبِ، (عِنْدَهُمْ) عِنْدَ: ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صِلَةِ الموصولِ، والضميرُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، (مَا) اسْمٌ موصولٌ بِمَعْنَى الَّذِي مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَيَجُوزُ العكسُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَسْب مُبْتَدَأً، والاسمُ الموصولُ خَبَراً، (كَفَانِيَا) كَفَى: فِعْلٌ ماضٍ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً، تَقْدِيرُهُ هُوَ، يَعُودُ إِلَى الاسمِ الموصولِ، والنونُ للوقايةِ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ مَفْعُولٌ بِهِ، والجملةُ لا مَحَلَّ لَهَا صِلَةُ الموصولِ وَهُوَ مَا.
الشَّاهِدُ فِيهِ: (مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ) فَإِنَّ (ذِي) فِي هَذِهِ العبارةِ اسْمٌ موصولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الكلمةُ بِرِوَايَتَيْنِ، فَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ رَوَاهَا: (فَحَسْبِي مِنْ ذُو عِنْدَهُمْ) بالواوِ، مع أَنَّ الكلمةَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِمِنْ، وَاسْتَدَلَّ بهذهِ الروايةِ عَلَى أَنَّ (ذُو) الموصولةَ مَبْنِيَّةٌ مِثْلُ سَائِرِ الموصولاتِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهَا: (فَحَسْبِي مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ) بالياءِ، وَاسْتَدَلَّ بهذهِ الروايةِ عَلَى أَنَّ (ذِي) الموصولةَ تُعَامَلُ معاملةَ (ذِي) الَّتِي هِيَ مِن الأسماءِ الستَّةِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا مُعْرَبَةٌ، وَأَنَّهَا تُرْفَعُ بالواوِ وَتُنْصَبُ بالألفِ وَتُجَرَّ بالياءِ، والمُؤَلِّفُ قَدْ أَتَى بالكلمةِ هُنَا عَلَى هَذِهِ الروايةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جمهورُ النُّحَاةِ هُوَ الأوَّلُ، قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَأَمَّا قَوْلُ الشاعرِ:
فَإِنَّ بَيْتَ تَمِيمٍ ذُو سَمِعْتُ بِهِ
فإنَّ (ذُو) هَهُنَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَلا يَكُونُ فِي الرفعِ والنصبِ والجرِّ إِلاَّ عَلَى لفظٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَتْ بالصفةِ الَّتِي تُعْرَبُ، نَحْوَ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ برجلٍ ذِي مَالٍ، وَهُوَ ذُو مَالٍ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً ذَا مَالٍ، وَتَقُولُ: رَأَيْتُ ذُو جَاءَكَ، وذُو جَاءَاكَ، وَذُو جَاؤُوكَ، وذُو جَاءَتْكَ، وَذُو جِئْنَكَ، بِلَفْظٍ وَاحِدٍ للمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، وَمِنْ أمثلةِ الْعَرَبِ: أَتَى عَلَيْهِ ذُو أَتَى عَلَى النَّاسِ؛ أَي: الَّذِي أَتَى عَلَيْهِمْ.
قالَ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهِيَ لُغَةُ طَيِّئٍ، وَذُو بِمَعْنَى الَّذِي) اهـ.
وفي كلامِهِ شَاهِدٌ كالذي مَعَنَا عَلَى أَنَّ ذُو بالوَاوِ ولو كَانَ مَوْضِعُهَا جَرًّا أَوْ نَصْباً؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: (ذُو سَمِعْتَ بِهِ) نَعْتٌ لِبَيْتِ تَمِيمٍ المنصوبِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ إِنَّ، وَلَوْ كَانَتْ (ذُو) مُعْرَبَةً لَقَالَ: فَإِنَّ بَيْتَ تَمِيمٍ ذا سَمِعْتَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا بالواوِ مع ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ يَرَاهَا مَبْنِيَّةً.
([8]) تُسْتَعْمَلُ كَلِمَةُ (فَم) بالميمِ مُضَافَةً، وَتُسْتَعْمَلُ مَقْطُوعَةً عَن الإضافةِ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا مضافةً فَنَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)). وَنَحْوُ قَوْلِ الرَّاجِزِ:
يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي البَحْرِ فَمُهْ
وَمِنْ مَجِيئِهَا غَيْرَ مُضَافَةٍ قَوْلُهُمْ: (هِنْدٌ أَطْيَبُ النَّاسِ فَماً)، وَقَد اسْتَعْمَلَهُ الشاعرُ مَقْصُوراً مِثْلُ: الفَتَى وَالْعَصَا فِي قَوْلِهِ:
يَا حَبَّذَا وَجْهُ سُلَيْمَى وَالْفَمَا = وَالْجِيدُ وَالنَّحْرُ وَثَدْيٌ قَدْ نَمَا
وَوَجْهُ الدلالةِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ صحيحَ الآخرِ لَكَانَ بِضَمِّ الميمِ.
([9]) تَعَزَّى - بِوَزْنِ تَجَلَّى -؛ أي: انْتَسَبَ وَانْتَمَى، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: (يَالِفُلانٍ) لِيَخْرُجَ النَّاسُ معهُ إِلَى القتالِ فِي الباطلِ. وَأَعِضُّوهُ - بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ العَيْنِ وَتَشْدِيدِ الضادِ -؛ أَيْ: قُولُوا لَهُ: (اعْضَضْ عَلَى هَنِ أَبِيكَ)، وَمَعْنَى (لا تَكْنُوا) قُولُوهُ بِلَفْظِهِ الصريحِ؛ اسْتِهْزَاءً بِهِ وَاحْتِقَاراً لِمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ.
8 - مِنَ النُّحَاةِ مَنْ نَسَبَ هَذَا البيتَ إِلَى رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَمْدَحُ فِيهِ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ، وَلا يُوجَدُ البيتُ فِي ديوانِ أَرَاجِيزِ رُؤْبَةَ، وَإِنْ ذَكَرَهُ نَاشِرُهُ فِي زِيَادَاتِهِ، وَقَبْلَ هَذَا البيتِ قَوْلُهُ:
أَنْتَ الْحَلِيمُ وَالأَمِيرُ الْمُنْتَقِمْ = تَصْدَعُ بِالْحَقِّ وَتَنْفِي مِنْ ظُلَمْ
اللُّغَةُ: (الْحَلِيمُ) وَصْفٌ مِنَ الحِلْمِ، وَهُوَ ضِدُّ الخِفَّةِ وَالطَّيْشِ والجَهْلِ، (تَصْدَعُ بالحَقِّ) تُجَاهِرُ بِهِ وَتُعْلِنُ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ، وَأَصْلُ الصَّدْعِ كَسْرُ الإناءِ، وَنَحْوُهُ (ظُلَم) بِضَمِّ الظاءِ وَفَتْحِ اللامِ، جَمْعُ ظُلْمَةٍ، (اقْتَدَى) يُرِيدُ أَنَّهُ جَعَلَهُ قُدْوَةً لَهُ إِمَاماً فَسَارَ سِيرَتَهُ وَاتَّبَعَ أَثَرَهُ، (فَمَا ظَلَمْ) أَحْسَنُ مَا تُوَجَّهُ بِهِ هَذِهِ العبارةُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ أُمَّهُ؛ لأَنَّهُ جَاءَ عَلَى مثالِ أَبِيهِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَنَّهُ لَوْ خَالَفَ أَبَاهُ لَنَسَبَ النَّاسُ أُمَّهُ إِلَى الزِّنَا، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي المَثَلِ: (مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ) انْظُرِ المَيْدَانِيَّ.
الإِعْرَابُ: (بِأَبِهِ) الْبَاءُ حَرْفُ جَرٍّ، أَب: مَجْرُورٌ بِالْبَاءِ، وعلامةُ جَرِّهِ الكسرةُ الظاهرةُ، وَهُوَ مُضَافٌ، وَضَمِيرُ الغائبِ مُضَافٌ إِلَيْهِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بِاقْتَدَى الآتِي، (اقْتَدَى) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى فتحٍ مُقَدَّرٍ عَلَى الأَلِفِ، (عَدِيٌّ) فَاعِلُ اقْتَدَى مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، (فِي) حَرْفُ جَرٍّ، (الْكَرَم) مَجْرُورٌ بِفِي، وعلامةُ جَرِّهِ الكسرةُ الظاهرةُ، وَسُكِّنَ لأجلِ الوقفِ، (مَنْ) اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ يَجْزِمُ فِعْلَيْنِ الأَوَّلُ فِعْلُ الشرطِ وَالثاني جَوَابُهُ وَجَزَاؤُهُ، مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتَدَأٌ، (يُشَابِهْ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ فِعْلُ الشَّرْطِ مَجْزُومٌ وَعَلامةُ جَزْمِهِ السكونُ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ، يَعُودُ إِلَى مَن الشَّرْطِيَّةِ، (فَمَا) الفاءُ وَاقِعَةٌ فِي جوابِ الشرطِ، مَا: حَرْفُ نَفْيٍ، (ظَلَمْ) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هُوَ، يَعُودُ إِلَى مَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَلَهُ مَفْعُولٌ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُ الْكَلامِ: فَمَا ظَلَمَ أُمَّهُ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ لَكَ فِي لغةِ البيتِ، وَالجملةُ مِنَ الفعلِ الماضي المَنْفِيِّ بِمَا وَفَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ المَحْذُوفِ فِي مَحَلِّ الشرطِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (بِأَبِهِ)، وَقَوْلُهُ: (يُشَابِهْ أَبَهُ) حيثُ أَعْرَبَ الشاعرُ هَاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ بالحركاتِ الظاهرةِ، فَجَرَّ الأُولَى بالكسرةِ الظاهرةِ، وَنَصَبَ الثانيةَ بالفتحةِ الظاهرةِ، معَ أَنَّهُمَا مُضَافَتَانِ إِلَى ضميرِ الغائبِ، وهذهِ لُغَةٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ فِي الأسماءِ الستَّةِ، يُعْرِبُونَهَا بالحركاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُضَافَةً لِغَيْرِ ياءِ المُتَكَلِّمِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ اللغةُ لُغَةَ النَّقْصِ، كَمَا أَنَّ إِعْرَابَهَا بالحروفِ - الْوَاوِ والألفِ والياءِ، تُسَمَّى لُغَةَ الإتمامِ، وَسَتَأْتِي لُغَةٌ ثالثةٌ نُبَيِّنُهَا فِي الشاهدِ التالي، وَتُسَمَّى لغةَ القصرِ، وعلى لغةِ النقصِ الَّتِي جَاءَ عليها بيتُ الشاهدِ مَوْضِعِ حَدِيثِنَا الآنَ يُقَالُ فِي تَثْنِيَةِ الأبِ: أَبَانِ، وَفِي تَثْنِيَةِ الأخِ: أَخَانِ، جَعَلُوا الْبَاءَ وَالخاءَ آخِرَ الكلمةِ، وَلَمْ يَكْتَرِثُوا باللامِ المحذوفةِ، وَذَلِكَ كَمَا قِيلَ فِي تثنيةِ يَدٍ وَدَمٍ: يَدَانِ وَدَمَانِ، وَقِيلَ فِي جَمْعِهِ جَمْعَ المُذَكَّرِ السالِمَ، مع أَنَّهُ لَيْسَ وَصْفاً وَلا عَلَماً: أَبُونَ، وَأَبِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ زِيَادِ بْنِ وَاصِلٍ السُّلَمِيِّ:
فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أَصْوَاتَنَا = بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالأَبِينَ
قالَ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: (الْعَرَبُ تَقُولُ: هَذَا أَبُوكَ، وَتَقُولُ: هَذَا أَبَاكَ، وَتَقُولُ: هَذَا أَبُكَ، فَمَنْ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ، أَوْ قَالَ: هَذَا أَبَاكَ، قَالَ فِي التَّثْنِيَةِ: هَذَانِ أَبَوَانِ، وَمَنْ قَالَ: هَذَا أَبُكَ، قَالَ فِي التثنيةِ: هَذَانِ أَبَانِ) انْتَهَى بِإِيضَاحٍ يَسِيرٍ.
([10]) يُرِيدُ أَنَّ مِنْ نَقْصِ أَبٍ وَأَخٍ، قَوْلَ بَعْضِهِمْ فِي التثنيةِ: أَبَانِ وَأَخَانِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ آخِرَ الْكَلامِ عَلَى الشاهدِ السابقِ رَقْمِ 8، وَبَيَانُ ذَلِكَ بإيضاحٍ أَنَّهُ ثَنَّاهُ بِغَيْرِ وَاوٍ، فَقَالَ: (أَبَانِ، وَأَخَانِ) كَمَا تَقُولُ فِي تَثْنِيَةِ يَدٍ: (يَدَانِ)؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ ثَنَّى أَباً وَأخاً مَحْذُوفَي اللامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدَّ لَهُمَا اللامَ المحذوفةَ، وَلَوْ كَانَ يُثَنِّي أَبُوكَ وَأَخُوكَ أَوْ يُثَنِّي أَباً وَأَخاً بِرَدِّ لامِهِمَا، عَلَى مَا هُوَ الأصلُ فِي نَظَائِرِهِمَا - لَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ: (أَبَوَانِ وَأَخَوَانِ). وَقَدْ تَلَخَّصَ لَك مِنْ هَذَا الْكَلامِ أَنَّ قَوْلَكَ: (أَبَانِ، وأَخَانِ) لا يَحْتَمِلُ إِلاَّ وَجْهاً وَاحِداً هُوَ أَنْ يَكُونَا تَثْنِيَةَ أَبٍ وَأَخٍ، وَأَمَّا أَبَوَانِ وَأَخَوَانِ فَيَحْتَمِلانِ وَجْهَيْنِ؛ لِذَلِكَ كَانَ (أَبَانِ وَأَخَانِ) دَلِيلاً عَلَى لغةِ النقصِ.
9- نَسَبَ بَعْضُ النَّاسِ هَذَا الشاهدَ إِلَى أَبِي النَّجْمِ الفَضْلِ بْنِ قُدَامَةَ العِجْلِيِّ الرَّاجِزِ، وَنَسَبَهُ آخَرُونَ إِلَى رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ، وَزَعَمَ العَيْنِيُّ أَنَّ أَبَا زَيْدٍ رَوَاهُ بِسَنَدٍ عَنْ أَبِي الغولِ مَنْسُوباً إِلَى بَعْضِ أَهْلِ اليمنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَفِي نَوَادِرِ أَبِي زَيْدٍ (ص58) أَبْيَاتٌ عَلَى قَافِيَةِ هَذَا الشاهدِ تَرْتَفِعُ رِوَايَتُهُ لَهَا إِلَى أَبِي الغولِ الطُّهَوِيِّ، وَلَكِنَّ بيتَ الشاهدِ لَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا، والنُّحَاةُ يَرْوُونَ قَبْلَ البيتِ المُسْتَشْهَدِ بِهِ:
وَاهاً لِرَيَّا ثُمَّ وَاهاً وَاهَا = هِيَ الْمُنَى لَوْ أَنَّنَا نِلْنَاهَا
يَا لَيْتَ عَيْنَاهَا لَنَا وَفَاهَا = بِثَمَنٍ نُرْضِي بِهِ أَبَاهَا
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا = قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا
اللُّغَةُ: (وَاهاً) كلمةٌ تُقَالُ عِنْدَ التعجُّبِ مِنَ الشيءِ، وَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ، مَعْنَاهُ: أَعْجَبُ، قَالَ الجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: (إِذَا تَعَجَّبْتَ مِنْ طِيبِ الشيءِ قُلْتَ: وَاهاً لَهُ مَا أَطْيَبَهُ!) اهـ كلامَهُ.
(لِرَيَّا) يُرْوَى فِي مَكَانِهِ: (لِسَلْمَى) وَيُرْوَى: (لِلَيْلَى) وَكُلُّهُنَّ أَسْمَاءُ نِسَاءٍ، (المَجْدِ) الشَّرَفُ وَرِفْعَةُ النسبِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: (الشَّرَفُ والمجدُ يَكُونَانِ بالآباءِ، يُقَالُ) رَجُلٌ شَرِيفٌ مَاجِدٌ، إِذَا كَانَ لَهُ آباءٌ مُتَقَدِّمُونَ فِي الشرفِ، وَالحَسَبِ والكرمِ يَكُونَانِ فِي الرجلِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آبَاءٌ لَهُمْ شَرَفٌ) اهـ.
الإعرابُ: (وَاهاً). اسْمُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ بِمَعْنَى: أَعْجَبُ، مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أَنَا، (لِسَلْمَى) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِوَاهاً، (ثُمَّ) حَرْفُ عَطْفٍ، (وَاهاً) مِثْلُ سَابِقِهِ، (وَاهاً) تَأْكِيدٌ لَهُ، (هِيَ المُنَى) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، (لَوْ) حَرْفُ شَرْطٍ مَعْنَاهُ امْتِنَاعُ الجوابِ لامتناعِ الشرطِ، (أَنَّنَا) أَنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ وَنَصْبٍ، والضميرُ اسْمُهُ، (نِلْنَاهَا) فِعْلٌ مَاضٍ وفاعلُهُ وَمَفْعُولُهُ، والجملةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ أَنَّ، وَأَنَّ مع مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ يَقَعُ فَاعِلاً لِفِعْلٍ محذوفٍ، وَتَقْدِيرُ الْكَلامِ: لَوْ ثَبَتَ نَيْلُنَا إِيَّاهَا، وَهَذِهِ الجملةُ شرطُ لَوْ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، وَالتقديرُ: لَوْ ثَبَتَ نَيْلُنَا إِيَّاهَا لَكَانَ ذَلِكَ غَايَةَ المُنَى، (إِنَّ) حَرْفُ تَوْكِيدٍ وَنَصْبٍ، (أَبَاهَا) اسْمُ إِنَّ مَنْصُوبٌ بفتحةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وَضَمِيرُ الغائبةِ العائدُ إِلَى سَلْمَى مُضَافٌ إِلَيْهِ، (وَأَبَا) الْوَاوُ عَاطِفَةٌ، أَبَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَبَاهَا السابقِ مَنْصُوبٌ بِفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ مِثْلَهُ، وَهُوَ مُضَافٌ، وَأَبَا مِنْ (أَبَاهَا) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بِكَسْرَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ، مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وَهُوَ مُضَافٌ، وَضَمِيرُ الغائبةِ مُضَافٌ إِلَيْهِ، (قَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ، (بَلَغَا) بَلَغَ: فِعْلٌ ماضٍ، وَأَلِفُ الاثْنَيْنِ فَاعِلُهُ، وَجُمْلَةُ الفعلِ وَفَاعِلِهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ إِنَّ، (فِي المجدِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِبَلَغَ، (غَايَتَاهَا) غَايَتَا: مَفْعُولٌ بِهِ لِبَلَغَ مَنْصُوبٌ بفتحةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ، مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وهذهِ لغةُ مَنْ يُلْزِمُ الْمُثَنَّى الأَلِفَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا، وَغَايَتَا: مُضَافٌ، وَضَمِيرُ الغائبةِ مُضَافٌ إِلَيْهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السكونِ فِي محلِّ جَرٍّ.
الشاهدُ فِيهِ: فِي هَذِهِ الأبياتِ عِدَّةُ شَوَاهِدَ للنُّحَاةِ، والمقصودُ الاستشهادُ هُنَا بقولِهِ: (وَأَبَا أَبَاهَا) حيثُ أَتَى بِأَبَاهَا مَجْرُوراً بِكَسْرَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ مع كَوْنِهِ مُضَافاً لِغَيْرِ ياءِ المُتَكَلِّمِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُعْرِبُ الأسماءَ الستَّةَ مع اسْتِيفَائِهَا للشروطِ، إِعْرَابَ المقصورِ مِنْ نَحْوِ: فَتًى وَعَصًى وَأَشْبَاهِهِمَا، وَهِيَ لُغَةُ القَصْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي شرحِ الشاهدِ السابقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الاستشهادَ عَلَى هَذِهِ اللغةِ بِهَذا البيتِ إِنَّمَا يَتِمُّ بالكلمةِ الثالثةِ؛ لأَنَّ مَوْضِعَهَا خَفْضٌ بإضافةِ (أَبَا) الثانيةِ إِلَيْهَا، أَمَا الكلمتانِ الأُولَى والثانيةُ فَتَحْتَمِلانِ الإجراءَ عَلَى هَذِهِ اللغةِ والإجراءَ عَلَى لغةِ الإتمامِ الَّتِي هِيَ أشهرُ اللغاتِ الثلاثِ؛ وَذَلِكَ لأنَّهُمَا مَنْصُوبَتَانِ: الأُولَى لِكْوَنِهَا اسْمَ إِنَّ، والثانيةُ لِكَوْنِهَا مَعْطُوفَةً عَلَى الأُولَى، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهَما بالألفِ نِيَابَةً عَن الفتحةِ كَمَا هُوَ أَشْهَرُ اللُّغَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُمَا بِفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، عَلَى مَا هُوَ لغةُ القصرِ، الَّتِي نَحْنُ الآنَ بِصَدَدِهَا، لَكِنْ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُجْرِيَهُمَا عَلَى لغةِ القصرِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الكلمةَ الثالثةَ تَتَعَيَّنُ فِيهَا لغةُ القصرِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ البيتَ مُلَفَّقاً مِنْ لُغَتَيْنِ، فَافْهَمْ ذَلِكَ وَتَدَبَّرْهُ.
([11]) هَذَا مَثَلٌ مِنْ أمثالِ الْعَرَبِ، ذَكَرَهُ المَيْدَانِيُّ مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي حَرْفِ الميمِ (4117 فِي 2/318)، والأُخْرَى فِي حَرْفِ الثاءِ فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ قَوْلِهِمْ فِي المَثَلِ: (ثُكْلٌ أَرْأَمَهَا وَلَداً) (771 فِي 1/152) وَهُوَ يُضْرَبُ للرجلِ يَحْمِلُهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ رَجُلاً اسْمُهُ بَيْهَسٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضٍ كَانَ سَابِعَ سَبْعَةٍ إِخْوَةٍ لَهُ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَهُمْ فِي إِبِلِهِمْ، فَقَتَلُوا إِخْوَتَهُ جَمِيعاً، وَبَقِيَ هُوَ وَحْدَهُ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ، وَكَانَ مُحَمَّقاً، وَغَبَرَ عَلَى ذَلِكَ دَهْرٌ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ أُنَاساً مِنْ أَشْجَعَ فِي غَارٍ يَشْرَبُونَ، فَانْطَلَقَ بِخَالٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو حَنَشٍ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي غَارٍ فِيهِ ظِبَاءٌ لَعَلَّنَا نُصِيبُ مِنْهَا؟ وَانْطَلَقَ بَيْهَسٌ بِخَالِهِ حَتَّى أَقَامَهُ عَلَى فَمِ الغارِ وَهُوَ يَقُولُ: ضَرْباً أَبَا حَنَشٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَبَا حَنَشٍ لَبَطَلٌ، فَقَالَ أَبُو حَنَشٍ: مُكْرَهٌ أَخَاكَ لا بَطَلٌ، هكذا رَوَى المَيْدَانِيُّ، وَحَكَى شَارِحُ الْكِتَابِ القِصَّةَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ أَبَا حَنَشٍ هُوَ الَّذِي دَفَعَ بَيْهَساً فِي الغارِ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى المُتَلَمِّسِ قَوْلُهُ.
قِيلَ: وَعَزَمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى عَمْرِو بْنِ العاصِ يَوْماً لِيَخْرُجَنَّ إِلَى قِتَالِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَلَمَّا الْتَقَيَا قَالَ عَمْرٌو: مُكْرَهٌ أَخَاكَ لا بَطَلٌ، فَأَعْرَضَ عنهُ عَلِيٌّ ولمْ يُحَارِبْهُ. وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ نِسْبَةَ قَوْلِ هَذَا المَثَلِ إِلَى عَمْرِو بْنِ العاصِ لَيْسَتْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الظاهرُ، وَإِنَّمَا تَمَثَّلَ بِهِ عَمْرٌو.
الإعرابُ: (مُكْرَهٌ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ، (أَخَاكَ) أَخَا: مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مَرْفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ، مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وَأَخَا مُضَافٌ، وَضَمِيرُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إِلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ فِي محلِّ جرٍّ، (لا) حَرْفُ عَطْفٍ، (بَطَلٌ) مَعْطُوفٌ بِلا عَلَى مُكْرَهٌ، وَالمَعْطُوفُ عَلَى المرفوعِ مَرْفُوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ، وَلا يَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ (مُكْرَهٌ) مُبْتَدَأً وَتَجْعَلَ (أَخَاكَ) نَائِبَ فَاعِلٍ سَدَّ مَسَدَّ الخبرِ؛ لأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ ذَلِكَ عِنْدَ جَمْهَرَةِ النُّحَاةِ أَنْ يَكُونَ المُبْتَدَأُ مُعْتَمِداً عَلَى نَفْيٍ أَو اسْتِفْهَامٍ، نَعَمْ لَوْ جَرَيْتَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِينَ لا يَشْتَرِطُونَ الاعتمادَ عَلَى النفيِ أَو الاستفهامِ كَانَ لَكَ أَنْ تُعْرِبَهُ هَذَا الإعرابَ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (أَخَاكَ)، حَيْثُ أَتَى بهذهِ الكلمةِ بالألفِ مع كَوْنِهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، سَوَاءٌ أَجَرَيْتَ عَلَى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ فَجَعَلْتَ (أَخَاكَ) مُبْتَدَأً مُؤَخَّراً أَمْ جَرَيْتَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَجَعَلْتَ (أَخَاكَ) نَائِبَ فاعلٍ بِـ(مُكْرَهٌ) سَدَّ مَسَدَّ خَبَرِهِ، وَمَجِيءُ هَذِهِ الكلمةِ بِالألفِ فِي مَوْضِعِ الرفعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُتَكَلِّمَ اعْتَبَرَ رَفْعَهُ بضمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ كَالأسماءِ المقصورةِ.
([12]) قَدْ وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
إِنَّ الْحَمَاةَ أُولِعَتْ بِالكَنَّهْ = وَأُولِعَتْ كَنَّتُهَا بِالْهَنَّهْ
وَالكَنَّةُ امْرَأَةُ الابنِ، وَوَجْهُ الاستدلالِ أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا للأُنْثَى: (حَمَاة) فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ للمُذَكَّرِ: (حَماً) بِأَلِفِ مَقْصُورَةً؛ إِذْ لا فَرْقَ بَيْنَ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ إِلاَّ تاءُ التأنيثِ كَمَا قَالُوا: (فَتًى، وَفَتَاةٌ) وَأَنْتَ تُعْرِبُ (الفَتَى) بِحَرَكَاتٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الأَلِفِ، وَتُعْرِبُ (الفتاةَ) بِحَرَكَاتٍ ظَاهِرَةٍ عَلَى التاءِ؛ لأَنَّ الإعرابَ الَّذِي كَانَ عَلَى أَلِفِ (الفَتَى) لِكَوْنِهَا آخِرَ الكلمةِ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى تاءِ (الفتاةِ) لَمَّا صَارَتْ هِيَ آخِرَ الكلمةِ، فَافْهَمْ ذَلِكَ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ مِنَ اللُّغَاتِ فِي الأسماءِ السِّتَّةِ: أَنَّ هَذِهِ الأسماءَ عَلَى ثلاثةِ أَضْرُبٍ، ضَرْبٌ فِيهِ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ ذُو بِمَعْنَى صَاحِبٍ، وَالفَمُ إِذَا فَارَقَتْهُ الميمُ، وَضَرْبٌ فِيهِ لُغَتَانِ: النَّقْصُ، وَالإتمامُ، وَهُوَ الهَنُ، وَضَرْبٌ فِيهِ ثَلاثُ لُغَاتٍ: الإتمامُ، والقصرُ، والنقصُ، وَهُوَ ثلاثةُ ألفاظٍ: الأبُ، والأخُ، والحمُ.