السؤال الرابع: ما معنى قولكم: (وإثم القاتل لإيثاره نفسه) بعد قولكم: (إن المكره غير مكلف)، وقضية كلامكم هنا: (أن السكران غير مكلف)، واخترتم في (شرح المختصر) أنه مكلف، ونقلتموه عن نص الإمام الشافعي رضي الله عنه؟
. . .
وأما قولنا: (وإثم القاتل لإيثاره نفسه) بعد قولنا ما نصه: (والصواب امتناع تكليف الغافل والملجأ وكذا المكره على الصحيح ولو على القتل).
فإنه جواب سؤال مقدر، تقديره إذا كان المكره غير مكلف، فما بال المكره على القتل يأثم؟
وتقرير الجواب أنه لا يأثم من حيث إنه مكره وإنه= قتل، بل من حيث إنه آثر نفسه على غيره، فهو ذو جهتين: جهة الإكراه ولا إثم من ناحيتها، وجهة الإيثار ولا إكراه فيها. وهذا لأنك إذا قلت: (اقتل زيداً وإلاَّ قتلتك) فمعناه التخيير بين نفسه وزيد، فإذا آثر نفسه فقد أثم لأنه اختار.
وهذا كما قيل في خصال الكفارة: محل التخيير لا وجوب فيه، ومحل الوجوب لا تخيير فيه، كذلك نقول هنا: أصل القتل لا عقاب فيه، والقتل المخصوص فيه عقاب لتضمنه الاختيار، وهو إيثار نفسه على غيره.
وهذا تحقيق هائل، عليك بعرض كلام الفقهاء والخلافيين عليه، فإن أباه فادرأ ما عداه.
وأنت إذا حققته علمت أنه لا استثناء لصورة القتل من قولنا: (المكره غير مكلف).
وقول الفقهاء: (الإكراه يسقط أثر التصرف إلاَّ في صور)، إنما ذكروه لضبط تلك الصور لا لأنه يستثنى من حقيقته شيء. وإن وقع ذلك في كلام الغزالي وغيره من المحققين.
وما ذاك إلاَّ لأن دأب الفقهاء – لاتساع علمهم وتشعب مواقع النظر فيه – أن يحاولوا ضبط المتفرقات وجمع المتناظرات، حرصاً على الإحاطة بالمقصود.
حقيقة الإكراه تنافي التكليف:
ثم إذا عرض الكلام على ميزان التحقيق والاعتبار سلك به سبيله، فاحفظ ما نلقيه إليك. وإلاَّ فإذا كانت حقيقة الإكراه منافية لصحة التكليف فكيف تقع ولو في صورة؟ وأنى يصح الاستثناء؟ وإذا لم تنافِ فما وجه الإخراج؟ فالتحقيق بيان أنه: هل هو منافٍ أو لا؟ فإذا صحت المنافاة لم يجتمع معه التكليف أصلاً.
وعذر من استثنى ما أبديناه من قصد الإفادة والإحاطة، ولو ضايقه مضايق لقال: صواب العبارة إذا كان هذا مقصدك أن تقول: الإكراه يسقط أثر التصرف مطلقًا، أو ينفي التكليف مطلقًا، وثَمَّ صور يتصور فيها الإكراه ولم ينتفِ فيها التكليف وهي: كيت وكيت.
وإن أخذ الشادي في العلم يتعنت ويقول، إن حقيقة الإكراه تنافي التكليف إلاَّ في هذه الصور.
قلنا له: هذا من فضول الكلام، فالحقائق لا تختلف، ولئن صلحت الحقيقة من حيث هي للتكليف في صورة صلحت في كل الصور.
فإن قال: تخرج تلك لمانع.
قلنا: خروج صورة لمانع لا يدفع النقض، والنقض قادح مطلقًا.
فإذاً، الاستثناء لا وجه له. وهذا يزداد تحقيقاً بعد تأمل ما سطرناه في (شرح المختصر) في النقض.
الإكراه قد يكون ملجئاً وقد يكون غير ملجئ:
ولعلك تقول: المُلجأ بعض المكره، وهذا لأن المكره قد يكره إكراهًا ملجئاً وقد يكره إكراهاً غير ملجئ، فهل قولكم: (وكذا المكره) بعد قولكم (الملجأ) من عطف العام على الخاص؟
فاعلم أن الملجأ عندنا: من لا يجد مندوحة عن الفعل مع حضور عقله، وذلك كمن يلقى من شاهق، فهو لا يجد بدًّا من الوقوع، ولا اختيار له في الوقوع، ولا هو بفاعل له، وإنما هو آلة محضة كالسكين في يد القاطع، فلا ينسب إليه فعل، وحركته كحركة المرتعش.
والمكره من ينسب إليه الفعل فيقال: فعل مكرهاً غير مختار. وهو من لا يجد مندوحة عن الفعل إلاَّ بالصبر على إيقاع ما أكره به، كمن قال له قادر على ما يتوعد: (اقتل زيداً وإلاَّ قتلتك) لا يجد مندوحة عن قتله إلاَّ بتسليم نفسه للهلاك.
فهذا إقدامه على قتل زيد ليس كوقوع الذي ألقي من شاهق، وإن اشتركا في عدم التكليف، لكن تكليف هذا أقرب من تكليف ذاك، كما أن تكليف ذاك أقرب من تكليف الغافل الذي لا يدري.
فإذن المراتب ثلاث، وقد رتبناها، وأبعدها تكليف الغافل فإنه لا يدري، ويتلوها تكليف الملجأ فإنه يدري، ولكن لا مندوحة له عن الفعل، ويتلوها المكره فإنه يدري وله مندوحة ولكن بطريق:
تارةً: لم يكلفه الشارع الصبر عليها كما في الإكراه على شرب الخمر وكلمة الكفر.
وتارةً: قيل: إنه كلفه كما في الإكراه على القتل: يعتقد أكثر الفقهاء أنه كلف الصبر على قتل نفسه ونحن لا نعتقد ذلك، وإنما نعتقد أنه كلف أن لا يؤثر نفسه على نفس غيره المكافئ له لاستوائهما في نظر الشارع، فلما آثر وأقدم لمجرد حظ نفسه وجب عليه القصاص على الأصح وأثم بلا خلاف. وانظر كيف راعى الفقهاء هذه المراتب الثلاث فلم يقل أحد بأن الغافل الذي لا يحس (يأثم) (ولا بأنه يضمن)، (إذا لم يصلح لأن ينسب إليه الفعل) ونظيره ميت انتفخ فانكسر بسبب انتفاخه قارورة، أو راكب مات فسقط على شيء، لا يضمنان؛ لأنهما لا فعل لهما.
ودونه الملجأ كمن ألقاه إنسان من شاهق فسقط على إنسان، فقتله، فكذلك لا شيء عليه لأنه لا فعل له أيضاً. ولكنه يدري بسقوط نفسه، فيمكن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى جعله طريقاً في الضمان فيطالب به، ولكن يكون القرار على الملقى. ويقرب من ذلك طفل سقط على شيء، قال أصحابنا: يضمن ويستقر الضمان عليه، (واستقرار الضمان) في مسألة الإلقاء متعذر، لأن الملقى موجود وهو سبب يحال عليه: ودون ذلك المكره، فهل هو كالآلة فلا يتعلق به شيء؟ هذا لم يقل به أحد، بل اتفقوا على أنه يتعلق به الإثم.
وجوب القصاص على القاتل والآمر حالة الإكراه:
واختلفوا في القصاص، وفي الدية أيضاً بناء على انتفائه، والأصح وجوب القصاص، ثم وجوب نصف الدية إن قلنا لا يجب القصاص، ودون ذلك من أمر بشيء من شيئين كمن قيل له: اقتل زيداً أو عمراً وإلاَّ قتلتك) فالصحيح: أن هذا ليس بمكره لأنه يجد محيصاً. وفي وجه: أنه إكراه. اختاره القاضي حسين. وهو عندي قوي لا فرق بينه وبين المكره على قتل معين إلاَّ من جهة أن هذا يجد محيصاً عمن قتله بنفسه وبرفيقه، وذاك لا يجد إلاَّ بنفسه.
وقولهم: (هذا تخيير وليس بإكراه): يقال عليه: موضوع التخيير لا إكراه فيه، وموضع الإكراه وهو أحدهما لا تخيير فيه. وهذا كما قلناه في المكره على قتل معين سواء، والله المستعان.
وأما قولكم: (إن قضية كلامنا هنا أن السكران غير مكلف) فمن أين لكم ذلك؟ ونحن لم نقل إلاَّ: (أن الغافل غير مكلف)، فإن قلتم: (فالسكران غافل)، قلنا: قد بينا في الشرح له أحوالاً غايتها أن يكون طافحاً لا يدري السماء من الأرض ولا الطول من العرض. ونحن نقول فيمن وصل إلى هذه الحالة: (إن التكليف في حقه مستصحب لا واقع وقوعاً مبتدأً كما حققناه في الخارج من المغصوب نحن وإمام الحرمين، حين قلنا: إنه مرتبك في المعصية. وهذا وإن رده رادون على إمام الحرمين فهو عندنا الحق الذي لا مرية فيه.
فإذن صح قولنا في (شرح المختصر): (إن السكران مكلف).
ومكلف اسم مفعول من الكلفة، وإن شئت قل: التكليف. مع قولنا إن الغافل غير مكلف لأن عدم تكليفه إنما جاء من قبل غفلته، وهو أمر عام من هذه الحيثية، وقد يستمر عليه التكليف استصحابًا من قبل غيه وتعاطيه المحرم تغليظاً عليه. ولو قلنا: (السكران يكلف) بالياء لأمكن أن يورد علينا ما قلتم؛ لأن الفعل يدل على الحدث والزمان، وكان مقتضى قولنا آن ذاك أنه يصح طريان التكليف عليه زمن سكره، ونحن لا نقول ذلك وإنما نقول: إن مكلف اسم مفعول واسم المفعول كاسم الفاعل قد سلب الدلالة على الزمان، وازداد الدلالة على الاستقرار والثبوت).
السكران المتعدي مكلف:
فإن قلت: إن كانت الغفلة تنافي التكليف، فينبغي أن لا يفترق الحال بين السكران وغيره، وإلاَّ فكذلك. قلت: الغفلة تنافي ابتداء التكليف دون دوامه، والفرق بين السكران وغيره اقتحامه المعصية، ولذلك نخص ذلك بمن سكر عدواناً دون من لم يعص بسكره.