دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > أصول الفقه > متون أصول الفقه > جمع الجوامع

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 07:38 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تكليف الغافل والمُلجأ والمُكرَه

وَالصَّوَابُ امْتِنَاعُ تَكْلِيفِ الْغَافِلِ وَالْمُلْجَأِ، وكذا المكره عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ عَلَى الْقَتْلِ، وَإِثْمُ الْقَاتِلِ لِإِيثَارِهِ نَفْسَهِ.


  #2  
قديم 2 ذو الحجة 1429هـ/30-11-2008م, 10:43 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي منع الموانع للقاضي: عبد الوهاب السبكي


السؤال الرابع: ما معنى قولكم: (وإثم القاتل لإيثاره نفسه) بعد قولكم: (إن المكره غير مكلف)، وقضية كلامكم هنا: (أن السكران غير مكلف)، واخترتم في (شرح المختصر) أنه مكلف، ونقلتموه عن نص الإمام الشافعي رضي الله عنه؟
. . .
وأما قولنا: (وإثم القاتل لإيثاره نفسه) بعد قولنا ما نصه: (والصواب امتناع تكليف الغافل والملجأ وكذا المكره على الصحيح ولو على القتل).
فإنه جواب سؤال مقدر، تقديره إذا كان المكره غير مكلف، فما بال المكره على القتل يأثم؟
وتقرير الجواب أنه لا يأثم من حيث إنه مكره وإنه= قتل، بل من حيث إنه آثر نفسه على غيره، فهو ذو جهتين: جهة الإكراه ولا إثم من ناحيتها، وجهة الإيثار ولا إكراه فيها. وهذا لأنك إذا قلت: (اقتل زيداً وإلاَّ قتلتك) فمعناه التخيير بين نفسه وزيد، فإذا آثر نفسه فقد أثم لأنه اختار.
وهذا كما قيل في خصال الكفارة: محل التخيير لا وجوب فيه، ومحل الوجوب لا تخيير فيه، كذلك نقول هنا: أصل القتل لا عقاب فيه، والقتل المخصوص فيه عقاب لتضمنه الاختيار، وهو إيثار نفسه على غيره.
وهذا تحقيق هائل، عليك بعرض كلام الفقهاء والخلافيين عليه، فإن أباه فادرأ ما عداه.
وأنت إذا حققته علمت أنه لا استثناء لصورة القتل من قولنا: (المكره غير مكلف).
وقول الفقهاء: (الإكراه يسقط أثر التصرف إلاَّ في صور)، إنما ذكروه لضبط تلك الصور لا لأنه يستثنى من حقيقته شيء. وإن وقع ذلك في كلام الغزالي وغيره من المحققين.
وما ذاك إلاَّ لأن دأب الفقهاء – لاتساع علمهم وتشعب مواقع النظر فيه – أن يحاولوا ضبط المتفرقات وجمع المتناظرات، حرصاً على الإحاطة بالمقصود.
حقيقة الإكراه تنافي التكليف:
ثم إذا عرض الكلام على ميزان التحقيق والاعتبار سلك به سبيله، فاحفظ ما نلقيه إليك. وإلاَّ فإذا كانت حقيقة الإكراه منافية لصحة التكليف فكيف تقع ولو في صورة؟ وأنى يصح الاستثناء؟ وإذا لم تنافِ فما وجه الإخراج؟ فالتحقيق بيان أنه: هل هو منافٍ أو لا؟ فإذا صحت المنافاة لم يجتمع معه التكليف أصلاً.
وعذر من استثنى ما أبديناه من قصد الإفادة والإحاطة، ولو ضايقه مضايق لقال: صواب العبارة إذا كان هذا مقصدك أن تقول: الإكراه يسقط أثر التصرف مطلقًا، أو ينفي التكليف مطلقًا، وثَمَّ صور يتصور فيها الإكراه ولم ينتفِ فيها التكليف وهي: كيت وكيت.
وإن أخذ الشادي في العلم يتعنت ويقول، إن حقيقة الإكراه تنافي التكليف إلاَّ في هذه الصور.
قلنا له: هذا من فضول الكلام، فالحقائق لا تختلف، ولئن صلحت الحقيقة من حيث هي للتكليف في صورة صلحت في كل الصور.
فإن قال: تخرج تلك لمانع.
قلنا: خروج صورة لمانع لا يدفع النقض، والنقض قادح مطلقًا.
فإذاً، الاستثناء لا وجه له. وهذا يزداد تحقيقاً بعد تأمل ما سطرناه في (شرح المختصر) في النقض.
الإكراه قد يكون ملجئاً وقد يكون غير ملجئ:
ولعلك تقول: المُلجأ بعض المكره، وهذا لأن المكره قد يكره إكراهًا ملجئاً وقد يكره إكراهاً غير ملجئ، فهل قولكم: (وكذا المكره) بعد قولكم (الملجأ) من عطف العام على الخاص؟
فاعلم أن الملجأ عندنا: من لا يجد مندوحة عن الفعل مع حضور عقله، وذلك كمن يلقى من شاهق، فهو لا يجد بدًّا من الوقوع، ولا اختيار له في الوقوع، ولا هو بفاعل له، وإنما هو آلة محضة كالسكين في يد القاطع، فلا ينسب إليه فعل، وحركته كحركة المرتعش.
والمكره من ينسب إليه الفعل فيقال: فعل مكرهاً غير مختار. وهو من لا يجد مندوحة عن الفعل إلاَّ بالصبر على إيقاع ما أكره به، كمن قال له قادر على ما يتوعد: (اقتل زيداً وإلاَّ قتلتك) لا يجد مندوحة عن قتله إلاَّ بتسليم نفسه للهلاك.
فهذا إقدامه على قتل زيد ليس كوقوع الذي ألقي من شاهق، وإن اشتركا في عدم التكليف، لكن تكليف هذا أقرب من تكليف ذاك، كما أن تكليف ذاك أقرب من تكليف الغافل الذي لا يدري.
فإذن المراتب ثلاث، وقد رتبناها، وأبعدها تكليف الغافل فإنه لا يدري، ويتلوها تكليف الملجأ فإنه يدري، ولكن لا مندوحة له عن الفعل، ويتلوها المكره فإنه يدري وله مندوحة ولكن بطريق:
تارةً: لم يكلفه الشارع الصبر عليها كما في الإكراه على شرب الخمر وكلمة الكفر.
وتارةً: قيل: إنه كلفه كما في الإكراه على القتل: يعتقد أكثر الفقهاء أنه كلف الصبر على قتل نفسه ونحن لا نعتقد ذلك، وإنما نعتقد أنه كلف أن لا يؤثر نفسه على نفس غيره المكافئ له لاستوائهما في نظر الشارع، فلما آثر وأقدم لمجرد حظ نفسه وجب عليه القصاص على الأصح وأثم بلا خلاف. وانظر كيف راعى الفقهاء هذه المراتب الثلاث فلم يقل أحد بأن الغافل الذي لا يحس (يأثم) (ولا بأنه يضمن)، (إذا لم يصلح لأن ينسب إليه الفعل) ونظيره ميت انتفخ فانكسر بسبب انتفاخه قارورة، أو راكب مات فسقط على شيء، لا يضمنان؛ لأنهما لا فعل لهما.
ودونه الملجأ كمن ألقاه إنسان من شاهق فسقط على إنسان، فقتله، فكذلك لا شيء عليه لأنه لا فعل له أيضاً. ولكنه يدري بسقوط نفسه، فيمكن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى جعله طريقاً في الضمان فيطالب به، ولكن يكون القرار على الملقى. ويقرب من ذلك طفل سقط على شيء، قال أصحابنا: يضمن ويستقر الضمان عليه، (واستقرار الضمان) في مسألة الإلقاء متعذر، لأن الملقى موجود وهو سبب يحال عليه: ودون ذلك المكره، فهل هو كالآلة فلا يتعلق به شيء؟ هذا لم يقل به أحد، بل اتفقوا على أنه يتعلق به الإثم.
وجوب القصاص على القاتل والآمر حالة الإكراه:
واختلفوا في القصاص، وفي الدية أيضاً بناء على انتفائه، والأصح وجوب القصاص، ثم وجوب نصف الدية إن قلنا لا يجب القصاص، ودون ذلك من أمر بشيء من شيئين كمن قيل له: اقتل زيداً أو عمراً وإلاَّ قتلتك) فالصحيح: أن هذا ليس بمكره لأنه يجد محيصاً. وفي وجه: أنه إكراه. اختاره القاضي حسين. وهو عندي قوي لا فرق بينه وبين المكره على قتل معين إلاَّ من جهة أن هذا يجد محيصاً عمن قتله بنفسه وبرفيقه، وذاك لا يجد إلاَّ بنفسه.
وقولهم: (هذا تخيير وليس بإكراه): يقال عليه: موضوع التخيير لا إكراه فيه، وموضع الإكراه وهو أحدهما لا تخيير فيه. وهذا كما قلناه في المكره على قتل معين سواء، والله المستعان.
وأما قولكم: (إن قضية كلامنا هنا أن السكران غير مكلف) فمن أين لكم ذلك؟ ونحن لم نقل إلاَّ: (أن الغافل غير مكلف)، فإن قلتم: (فالسكران غافل)، قلنا: قد بينا في الشرح له أحوالاً غايتها أن يكون طافحاً لا يدري السماء من الأرض ولا الطول من العرض. ونحن نقول فيمن وصل إلى هذه الحالة: (إن التكليف في حقه مستصحب لا واقع وقوعاً مبتدأً كما حققناه في الخارج من المغصوب نحن وإمام الحرمين، حين قلنا: إنه مرتبك في المعصية. وهذا وإن رده رادون على إمام الحرمين فهو عندنا الحق الذي لا مرية فيه.
فإذن صح قولنا في (شرح المختصر): (إن السكران مكلف).
ومكلف اسم مفعول من الكلفة، وإن شئت قل: التكليف. مع قولنا إن الغافل غير مكلف لأن عدم تكليفه إنما جاء من قبل غفلته، وهو أمر عام من هذه الحيثية، وقد يستمر عليه التكليف استصحابًا من قبل غيه وتعاطيه المحرم تغليظاً عليه. ولو قلنا: (السكران يكلف) بالياء لأمكن أن يورد علينا ما قلتم؛ لأن الفعل يدل على الحدث والزمان، وكان مقتضى قولنا آن ذاك أنه يصح طريان التكليف عليه زمن سكره، ونحن لا نقول ذلك وإنما نقول: إن مكلف اسم مفعول واسم المفعول كاسم الفاعل قد سلب الدلالة على الزمان، وازداد الدلالة على الاستقرار والثبوت).
السكران المتعدي مكلف:
فإن قلت: إن كانت الغفلة تنافي التكليف، فينبغي أن لا يفترق الحال بين السكران وغيره، وإلاَّ فكذلك. قلت: الغفلة تنافي ابتداء التكليف دون دوامه، والفرق بين السكران وغيره اقتحامه المعصية، ولذلك نخص ذلك بمن سكر عدواناً دون من لم يعص بسكره.

  #3  
قديم 2 ذو الحجة 1429هـ/30-11-2008م, 10:44 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح جمع الجوامع لجلال الدين المحلي


(وَالصَّوَابُ امْتِنَاعُ تَكْلِيفِ الْغَافِلِ وَالْمُلْجَأِ) أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ مَنْ لَا يَدْرِي كَالنَّائِمِ وَالسَّاهِي فَلِأَنَّ مُقْتَضَى التَّكْلِيفِ بِالشَّيْءِ الْإِتْيَانُ بِهِ امْتِثَالًا وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالتَّكْلِيفِ بِهِ وَالْغَافِلُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ تَكْلِيفُهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ يَقَظَتِهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ الْمَالِ وَقَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي زَمَانِ غَفْلَتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِمَا وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ مَنْ يَدْرِي وَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَمَّا أُلْجِئَ إلَيْهِ كَالْمُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ عَلَى شَخْصٍ يَقْتُلُهُ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهِ الْقَاتِلِ لَهُ فَامْتِنَاعُ تَكْلِيفِهِ بِالْمُلْجِئِ إلَيْهِ أَوْ بِنَقِيضِهِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُلْجِئَ إلَيْهِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ وَنَقِيضُهُ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ وَقِيلَ بِجَوَازِ تَكْلِيفِ الْغَافِلِ وَالْمُلْجَأِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ كَحَمْلِ الْوَاحِدِ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ مِنْ الِاخْتِيَارِ هَلْ يَأْخُذُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مُنْتَفِيَةً فِي تَكْلِيفِ الْغَافِلِ وَالْمُلْجَأِ وَإِلَى حِكَايَةِ هَذَا وَرَدِّهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِتَعْبِيرِهِ بِالصَّوَابِ). وَكَذَا الْمُكْرَهُ (وَهُوَ مَنْ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا أُكْرِهَ بِهِ يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُهُ بِالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ أَوْ بِنَقِيضِهِ (عَلَى الصَّحِيحِ) لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى امْتِثَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْفِعْلَ لِلْإِكْرَاهِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِامْتِثَالُ وَلَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ مَعَهُ بِنَقِيضِهِ (وَلَوْ) كَانَ مُكْرَهًا (عَلَى الْقَتْلِ) لِمُكَافِئِهِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُهُ حَالَةَ الْقَتْلِ لِلْإِكْرَاهِ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ (وَإِثْمُ الْقَاتِلِ) الَّذِي هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ (لِإِيثَارِهِ نَفْسِهِ) الْبَقَاءَ عَلَى مُكَافِئِهِ الَّذِي خَيَّرَهُ بَيْنَهُمَا الْمُكْرِهُ بِقَوْلِهِ اُقْتُلْ هَذَا وَإِلَّا قَتَلْتُك فَيَأْثَمُ بِالْقَتْلِ مِنْ جِهَةِ الْإِيثَارِ دُونَ الْإِكْرَاهِ وَقِيلَ يَجُوزُ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ بِنَقِيضِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى امْتِثَالِ ذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِي بِالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لِدَاعِي الشَّرْعِ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَنَوَاهَا عِنْدَ أَخْذِهَا مِنْهُ أَوْ بِنَقِيضِهِ صَابِرًا عَلَى مَا أُكْرِهَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُكَلِّفْهُ الشَّارِعُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ فَامْتَنَعَ مِنْهُ صَابِرًا عَلَى الْعُقُوبَةِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالثَّانِي لِلْأَشَاعِرَةِ وَرَجَعَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ آخِرًا وَمِنْ تَوْجِيهِهِمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ التَّحْقِيقَ مَعَ الْأَوَّلِ فَلْيُتَأَمَّلْ.

  #4  
قديم 2 ذو الحجة 1429هـ/30-11-2008م, 10:47 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تشنيف المسامع لبدر الدين الزركشي


ص: (والصوابُ:امتناعُ تكليفِ الغافلِ والمُلْجَأِ، وكذا المُكْرَهُ على الصحيحِ، ولو على القتلِ، وأَثِمَ القاتِلُ؛ لإيثارِهِ نفسَه.
ش: فيه مسائلُ:
أحَدُها: يَمْتَنِعُ تكليفُ الغافِلِ؛ كالنائِمِ والناسِي؛ لِمُضَادَّةِ هذه الأمورِ الفَهْمَ، فيَنْبَغِي شرطُ صِحَّةِ التكليفِ، ولا يَرِدُ ثُبُوتُ الأحكامِ في أفعالِهِ في الغَفْلَةِ والنومِ؛ لأنَّ ذلك من قَبِيلِ رَبْطِ الأحكامِ بالأسبابِ، وقالَ القَفَّالُ: إِنَّمَا طَلَبَ منه سُجُودَ السهوِ، ووَجَبَتِ الكَفَّارَةُ على المُخْطِئِ؛ لكونِ الفعلِ في نفسِهِ مُحَرَّماً مِن حيثُ إنَّه محظورٌ عَقْدُه، لا إِنَّه في نَفْسِهِ غيرُ مَنْهِيٍّ عنه في هذه الحالةِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُهُ التحفُّظُ منه، وتعبيرُ المصنِّفِ بـ (الصوابِ) يُشْعِرُ بأنَّ مُقَابِلَه قَوْلٌ مُزَيَّفٌ، وإليهِ أشارَ في (المِنْهَاجِ) بقولِهِ: بِنَاءً على التكليفِ بالمُحَالِ. أي: فإنْ مَنَعْنَاهُ فهَهُنا أَوْلَى، وإنْ جَوَّزْنَاهُ فللأَشْعَرِيِّ هنا قَوْلانِ، نَقَلَهُما ابنُ التِّلِمْسَانِيِّ وغيرُه.
قالُوا: والفرقُ أنَّ للتكليفِ هنا كَفائدةً، وهي الابتلاءُ، وهنا لا فائدةَ له، لكِنْ نَقَلَ ابنُ بُرهانَ في (الأوسطِ) عن الفقهاءِ أنَّه يَصِحُّ تكليفُ الغافلِ على معنَى ثُبُوتِ الفِعْلِ في الذمَّةِ، وعن المُتَكَلِّمِينَ المَنْعُ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ ذلك عندَهم.
وقد يُظَنُّ أنَّ الشافعيَّ يَرَى تكليفَ الغافلِ مِن نَصِّهِ على تكليفِ السَّكْرَانِ، وهو فاسدٌ؛ فإنَّه إنما كَلَّفَ السكرانَ عُقُوبَةً له؛ لأنَّه تَسَبَّبَ بِمُحَرَّمٍ حَصَلَ باختيارِهِ؛ ولهذا وَجَبَ عليه الحَدُّ، بخلافِ الغافِلِ.
الثانيةُ: يَمْتَنِعُ تكليفُ المُلْجَأِ أيضاًً، والمرادُ به مَن لا يَجِدُ مَنْدُوحَةً على الفعلِ معَ حضورِ عَقْلِهِ، وذلك كمَن يُلْقَى من شاهِقٍ، فهو لا بُدَّ له من الوقوعِ، ولا اختيارَله فيه، ولا هو بفاعلٍ له، وإنما هو آلةٌ مَحْضَةٌ كالسِّكِّينِ في يدِ القاطِعِ، فلا يُنْسَبُ إليه فِعْلٌ، وحَرَكَتُه كحركةِ المُرْتَعِشِ، وسِيَاقُ المُصَنِّفِ يَقْتَضِي حكايةَ خلافٍ في هذه الحالةِ، وكلامُ الآمِدِيِّ في (الإحكامِ) يُشِيرُ إليه؛ بِناءً على جوازِ تكليفِ ما لا يُطَاقُ عقلاً، وإنِ امْتَنَعَ سَمْعاً.
الثالثةُ: يَمْتَنِعُ تكليفُ المُكْرَهِ، والمرادُ به مَن يُنْسَبُ إليه الفعلُ، فيقالُ: فَعَلَ مُكْرَهاً غيرَ مُخْتَارٍ، وهو مَن لا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عن الفعلِ إلاَّ بالصبرِ على إيقاعِ ما أُكْرِهَ به، كمَن قالَ له قادرٌ على ما يَتَوَعَّدُ: اقْتُلْ زَيْداً وإلاَّ قَتَلْتُكَ. لا يَجِدُ مندوحةً عن قتلِهِ إلاَّ بتسليمِ نفسِه للهلاكِ، فهذا إقدامُه على قَتْلِ زيدٍ ليسَ كَوُقُوعِ الذي أُلْقِيَ مِن شاهِقٍ، وإنِ اشْتَرَكَا في عدمِ التكليفِ، لكِنَّ تكليفَ هذا المُكْرَهِ أَقْرَبُ مِن تكليفِ المُلْجَأِ، كما أنَّ تَكْلِيفَ المُلْجَأِ أَقْرَبُ من تكليفِ الغافلِ الذي لا يَدْرِي، فإذاً المَرَاتِبُ ثلاثةٌ كما رَتَّبَهَا المصنِّفُ: فأَبْعَدُها تكليفُ الغافِلِ؛ فإنَّه لا يَدْرِي. ويَتْلُوها: تَكْلِيفُ المُلْجَأِ؛ فإنَّه يَدْرِي، ولكِنْ لا مَنْدُوحَةَ له عن الفعلِ. ويَتْلُوها: المُكْرَهُ؛ فإنَّه يَدْرِي وله مَنْدُوحَةٌ عن الفعلِ، لكِنْ بطريقٍ تارَةً لم يُكَلِّفْهُ الشرعُ الصبرَ عليها؛ كما في الإكراهِ على شُرْبِ الخَمْرِ وكَلِمَةِ الكُفْرِ، وتَارَةً قيلَ: إنَّه كَلَّفَه، كما في الإكراهِ على القتلِ، فيَعْتَقِدُ أكثرُ الفقهاءِ أنَّه كُلِّفَ الصبرَ على قتلِ نفسِه، والمختارُ عندَ المصنِّفِ أنَّه كُلِّفَ أنْ لا يُؤْثِرَ نفسَه على نفسِ غيرِ المكافِئِ له؛ لاسْتِوَائِهِما في نظرِ الشارعِ، فلَمَّا آثَرَ وأقدَمَ لمجرَّدِ حَظِّ نفسِه وَجَبَ عليه القِصاصُ في الأصحِّ، وأَثِمَ بلا خلافٍ، وهذا معنى قولِه: (ولو على القتلِ).
وأمَّا قولُهُ : (وإثمُ القاتلِ) فهوَ جوابٌ عنْ سؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ تقديرُهُ: إذَا كَانَ المُكْرَهُ غيرَ مُكَلَّفٍ، فَمَا بالُ المُكْرَهِ على القتلِ يَأْثَمُ؟
وَأَجَابَ بأَنَّهُ لاَ يَأْثَمُ مِنْ حَيثُ إِنَّهُ مُكْرَهٌ وَإِنَّهُ قَتَلَ؛ بَلْ مِنْ حَيثُ إِنَّهُ آثَرَ نَفْسَهُ على غيرِهِ.
فَهُوَ ذُو وجهينِ: جِهَةُ الإكراهِ ولاَ إِثْمَ فيها، وجِهَةُ الإِيثَارِ ولاَ إِكْرَاهَ فيها، وَهَذَا لأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: اقْتُلْ زَيْداً وإِلاَّ قَتَلْتُكَ. فمعنَاهُ التخييرُ بينَ نَفْسِهِ وزيدٍ، فإذا آثَرَ نَفْسَهُ فقدْ أَثِمَ؛ لأَنَّهُ اختيارٌ، وهذا كَمَا يُقَالُ فِي خِصَالِ الكَفَّارَةِ: مَحِلُّ التخييرِ لاَ وُجُوبَ فِيهِ، وَمَحِلُّ الوجوبِ لاَ تخييرَ فِيهِ، فَكَذَا هُنَا، أَصْلُ القتلِ لاَ عِقَابَ فِيهِ، وَالْقَتْلُ المخصوصُ فِيهِ عِقَابٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ الاختيارَ، وَهُوَ إِيثَارُ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
قالَ: وهذا تحقيقٌ حَسَنٌ، وبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ استثناءَ لصورةِ القتلِ مِنْ قولِنَا: الْمُكْرَهُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ.
وقولُ الفقهاءِ: الإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التصرفِ إِلاَّ في صُوَرٍ - إِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِضَبْطِ تلكَ الصُّورَةِ؛ لاَ لأنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ حقيقتِهِ شَيءٌ.
تنبيهانِ:
الأولُ: مَا اخْتَارَهُ المُصَنِّفُ هُنَا مِنَ امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، خِلاَفَ مَا عَلَيْهِ الأصحابُ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ آخِراً وَوَافَقَ الأَشْعَرِيَّةَ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاقِعٍ.
قالَ ابنُ بُرْهَانَ في (الأَوْسَطِ): المُكْرَهُ عِنْدَنَا مُخَاطَبٌ بالفعلِ الذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، قالَ: وَانْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَاطَباً بِمَا عَدَا مَا أُكْرِهَ عَلَيهِ مِنَ الأَفْعَالِ، وَنَقَلَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَهَذَا خَطَأٌ في النَّقْلِ عَنْهُمْ؛ بَلْ عِنْدَهُمْ إِنَّهُ مُخَاطَبٌ، إِلاَّ أَنَّ العلماءَ رَأَوا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْمُلْجَأَ ليسَ بِمُخَاطَبٍ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُلْجَأَ والْمُكْرَهَ وَاحِدٌ، وليسَ كَذَلِكَ. انتهَى.
وَكَانَ حَقُّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لِيُخْرِجَ الصُّورَةَ التِي حَكَى ابنُ بُرْهَانَ فِيهَا الإجماعَ، وَكأنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ؛ لأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، لَيْسَ بِمُكْرَهٍ.
الثَّانِي: مَا اخْتَارَهُ فِي القَاتِلِ، هُوَ بِظَاهِرِهِ مُصَادِمٌ للإِجْمَاعِ، فِفِي (التَّلْخِيصِ) لإمامِ الحرمينِ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى تَوْجِيهِ النَّهْي عَلَى المُكْرَهِ عَلَى القتلِ، وَهَذَا عَيْنُ التَّكْلِيفِ فِي حَالِ الإِكْرَاهِ، وَهُوَ مِمَا لاَ مَنْجَى مِنْهُ. انتهَى.
وَقَالَ الشيخُ فِي (شَرْحِ اللُّمَعِ): انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ المُكْرَهَ عَلَى القتلِ مأمورٌ باجتنابِ القتلِ، وَدَفْعِ المُكْرَهِ عَنْ نَفْسِهِ، وإِنْ أَثِمَ بِقَتْلِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قتلِهِ، وَذَلِكَ يَدْلُّ عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ الإِكْرَاهِ.
وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ الغزاليُّ وَغيرُهُ، وَاقْتَضَى كلامُهُمْ تخصيصَ الخلافِ بِمَا إِذَا وَافَقَ دَاعِيَةُ الإِكْرَاهِ دَاعِيَةَ الشرعِ، كَالإِكْرَاهِ عَلَى قتلِ الكافرِ، وِإِكْرَاهِهِ عَلَى الإسلامِ، وَأَمَّا مَا خَالَفَ فِيِه دَاعِيَةُ الإِكْرَاهِ دَاعِيَةَ الشرعِ كَالإِكْرَاهِ عَلَى القتلِ، فَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ التكليفِ بِهِ. انتهَى.


  #5  
قديم 2 ذو الحجة 1429هـ/30-11-2008م, 10:58 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الغيث الهامع لولي الدين العراقي


ص: والصواب امتناع تكليف الغافل والملجأ وكذا المكره على الصحيح، ولو على القتل، وأثم القاتل لإيثاره نفسه.
ش: فيه مسائل:
الأولى: يمتنع تكليف الغافل كالنائم والساهي والمجنون والسكران، وللأشعري قول بجوازه بناء على جواز تكليف ما لا يطاق، وهو مقابل الصواب في عبارة المصنف، والمشهور منعه، وإن جوزنا ذاك، لأن في ذاك فائدة الابتلاء، ولا فائدة له هنا.
ونقل ابن برهان في (الأوسط) عن الفقهاء جوازه على معنى ترتب الفعل في الذمة، وقد يتوهم أن الشافعي يرى تكليف الغافل لنصه على تكليف السكران، وليس كذلك، فإنه إنما قال بتكليف السكران عقوبة له، لتسببه إلى ذلك بمحرم باختياره، واستثنى البيضاوي تبعاً لصاحب (الحاصل) بمعرفة الله تعالى فإنه مكلف بها مع الغفلة عن ذلك، إذ لو عرف تكليفه بها لعرف الله تعالى، فيكون الأمر بمعرفته تحصيلاً للحاصل، وهو محال، والحق أنها لا تستثنى، فإن الحاصل المعرفة الإجمالية، والمكلف به المعرفة التفصيلية.
الثانية: يمتنع تكليف الملجأ، وهو الذي صار كالمرتعش بالنسبة للرعشة، كالملقى من شاهق، وتعبير المصنف يفهم حكاية خلاف فيه، وكلام الآمدي يشير إليه بناء على جواز تكليف ما لا يطاق عقلاً.
الثالثة: في تكليف المكره قولان:
أحدهما وهو قول المعتزلة: المنع، أمر بالمكره عليه دون ما عداه من الأفعال، وهو مختار المصنف هنا.
الثاني: الجواز، وإن كان غير واقع، وهو قول الأشاعرة، وقد رجع إليه المصنف آخراً، وطرد المصنف مع تكليفه في القتل، فالإكراه عليه يخرج المكره عن التكليف، ثم استشعر سؤالا، وهو أنه آثم بلا خلاف، ويجب عليه القصاص في الأصح، فكيف لا يكون مكلفاً؟ وأشار إلى الجواب عنه بأنه لم يأثم من جهة الإكراه بل من جهة أنه آثر نفسه على غيره، فإن معنى قول المكره: اقتل زيداً، وإلا قتلتك ـ التخيير بين نفسه ونفس زيد، فإذا قتل زيداً فقد آثر نفسه فأثم لاختياره، فهذا الفعل ذو جهتين: جهة الإكراه، ولا إثم فيها، وجهة الإيثار، ولا إكراه فيها.
وقال الشارح: ما اختاره في القاتل هو بظاهره مضاد للإجماع، ففي (التلخيص) لإمام الحرمين: (أجمع العلماء قاطبة على توجه النهي على المكره على القتل، وهذا عين التكليف في مثال الإكراه، وهو مما لا منجاة منه.
وقال الشيخ في (شرح اللمع): (انعقد الإجماع على أن المكره على القتل مأمور باختيار القتل، ودفع المكره عن نفسه، وأنه آثم بقتل من أكره على قتله، وذلك يدل على أنه مكلف حال الإكراه، وبه صرح الغزالي، وغيره انتهى.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الغافل, تكليف

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:52 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir