طرق معرفة الإحسان
ورد بيان معنى الإحسان في القرآن الكريم والسنة النبوية وهدي السلف الصالح .
بيان القرآن لمعنى الإحسان
1: فأما بيان القرآن لمعنى الإحسان ففي قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
فالدعاء هنا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
ومن قام بهذه الأمور التي أمر الله عز وجل بها فهو من أهل الإحسان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقوله : {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فيه تنبيهٌ ظاهرٌ على أن فِعْلَ هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من الله رحمته، ورحمته قريبٌ من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه تضرعًا وخفيةً وخوفًا وطمعًا .
فَقَدْرُ مطلوبكم منه - وهو الرحمة - بحسب أدائكم لمطلوبه، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم .
وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} له دلالةٌ بمنطوقه ودلالةٌ بإيمائه وتعليله ودلالةٌ بمفهومه:
- فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان.
- ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، وهو السبب في قرب الرحمة منهم.
- ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين .
فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة ؛ وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسانٌ من الله عز وجل أرحم الراحمين وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان ؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته.
وأما من لم يكن من أهل الإحسان؛ فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة، بُعْدٌ ببُعْدٍ وَقُرْبٌ بقُرْب؛ فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته.
والله سبحانه يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيءٍ منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شيءٍ منه.
والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواءٌ كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه؛ فأعظم الإحسان: الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالًا ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً؛ فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان -؛ فقال : (( أن تعبد الله كأنك تراه ))
فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريبٌ من صاحبه ؛ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه).ا.هـ
وهو من نفيس ما كتب رحمه الله ، وهو من رسالة له في تفسير هاتين الآيتين، وما تضمنتاه من آداب الدعاء بنوعيه.
فهاتان الآيتان من سورة الأعراف في بيان معنى الإحسان في العبادة عموماً.
وقد جاء وصف الإحسان في القرآن في بعض المواضع بصفات مخصوصة؛ كما سبق بيان معنى الإحسان في الجهاد لمن يطيقه ولمن لا يطيقه.
وجاء بيان معنى الإحسان في الابتلاء بأنه يكون بالصبر والتقوى كما قال يوسف عليه السلام: {أنا يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}
فالإحسان عند البلوى، يكون بالصبر والتقوى.
وورد في القرآن الكريم بيان معنى الإحسان في ذبح الهدي وتوزيعه فقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}.
والإحسان عند سماع خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم هو التصديق والتسليم وأن لا يكون في صدر المؤمن حرج من ذلك كما قال تعالى: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}
فهؤلاء قد أحسنوا في تصديقهم.
وهذا الباب لو تأمله من يتدبر القرآن الكريم لعرف به أبواباً من الإحسان، وعرف في كل باب خصال الإحسان التي يحبها الله عز وجل.
بيان السنّة لمعنى الإحسان
2: وقول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه قد جمع في هذه العبارة الموجزة الغنية بلوازمها وآثارها ما يكفي اللبيب في معرفة معنى الإحسان الذي يحبه الله.
فيلزم من ذلك لوازم لا تحيط بها العبارة ولا يحصرها العاد، ولذلك اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم في بيانها بقوله: (كأنك تراه).
قال النووي رحمه الله: (قوله صلى الله عليه و سلم:(( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )).
هذا من جوامع الكلم التى أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدَّرنا أن أحدنا قام فى عبادة، وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به؛ فقال صلى الله عليه و سلم: اعبد الله فى جميع أحوالك كعبادتك فى حال العيان؛ فإنَّ التتميم المذكور فى حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه؛ فلا يقدم العبد على تقصيرٍ فى هذا الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد؛ فينبغى أن يعمل بمقتضاه؛ فمقصود الكلام الحثّ على الإخلاص فى العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى فى إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم؛ فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه فى سره وعلانيته).
والخلاصة أن معنى الإحسان يعرف بأمور:
الأمر الأول: بيان القرآن الكريم لمعنى الإحسان العام والإحسان في الأمور التي بيَّنها الله عز وجل في كتابه.
الأمر الثاني: بيان النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الإحسان بهديه العملي والقولي والإقراري.
الأمر الثالث: تأمل سير أئمة المحسنين، والاهتداء بهديهم فيما أحسنوا فيه.