(2)قولُهُ: (اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ).
هذا دعاءٌ مِن الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ لكَ أيُّها القارئُ يَدُلُّ علَى مَحَبَّتِهِ لكَ، وشَفَقَتِهِ عليكَ، وأنَّهُ راغبٌ في حُصولِ الخيرِ لكَ، والشيخُ رَحِمَهُ اللهُ يَستعملُ مِثلَ هذه العِبارةِ كثيرًا، يقولُ:
(اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ)، (اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لطاعتِهِ)، (أَسْأَلُ اللهَ الكريمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أنْ يَتَوَلاَّكَ في الدنيا والآخِرَةِ).
وكلمةُ (اعْلَمْ)يُؤْتَى بها مِنْ بابِ التنبيهِ وحَثِّ السامعِ علَى أن يُصْغِيَ لِمَا سَيقالُ، فهيَ أمْرٌ بتحصيلِ العِلْمِ، والتَّهَيُّؤِ لِمَا سيُلْقَى إليكَ مِن العُلومِ.
ولهذا يَنبغِي للمُتَكَلِّمِ إذا تَحَدَّثَ أمامَ الناسِ أن يَستعْمِلَ معَهم بينَ حينٍ وآخَرَ العباراتِ التي تَشُدُّ أذهانَهم معه؛ لأنَّ السامعَ بطَبيعتِهِ يَحتاجُ إلَى ما يُحَرِّكُ ذِهْنَهُ ويُثيرُ انتباهَهُ.
ولهذا كانَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَطْرَحُ السؤالَ بينَ حينٍ وآخَرَ علَى الصحابةِ:
- ((أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟)).
-((أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)).
-((أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)).
والقصْدُ مِنْ هذا أنَّ السامعينَ يَستَعِدُّونَ لسَماعِ ما سيُقالُ لهم، وهذا يُعْتَبَرُ مِنْ بابِ اختيارِ الْمُقَدِّماتِ المناسِبَةِ للكلامِ.
وقولُهُ: (رَحِمَكَ اللهُ) جُملةٌ خَبَرِيَّةٌ لفظًا، إِنشائِيَّةٌ معنًى؛ لأنَّ الْمُرادَ بها الدعاءُ للمتعَلِّمِ بالرحمةِ؛ أيْ: غَفَرَ اللهُ لكَ ما مَضَى مِنْ ذُنوبِكَ، ووَفَّقَكَ وعَصَمَكَ فيما يُسْتَقْبَلُ.
هذا إذا أُفْرِدَت الرحمةُ، وإذا قُرِنَتْ بالْمَغفرةِ: فالْمَغفِرَةُ لِمَا مَضَى، والرحمةُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ بالتوفيقِ للخيرِ والسلامةِ مِن الذنوبِ.
(3)قولُهُ: (يَجِبُ علينا تَعَلُّمُ أَرْبَعِ مَسائلَ، الأُولَى: العِلْمُ)
الْمُرادُ هنا:الوجوبُ العَيْنِيُّ، وهوَ ما يَجِبُ أداؤُهُ علَى كلِّ مُكَلَّفٍ بعينِهِ.
والتعَلُّمُ:تَحصيلُ العِلْمِ، والعِلْمُ: مَعرِفَةُ الْهُدَى بدليلِهِ.
والْمُرَادُ بالْعِلْمِ هنا:الْعِلْمُ الشرعيُّ، والمقصودُ بهِ ما كانَ تَعَلُّمُهُ فرضَ عَيْنٍ؛ وهوَ كلُّ عِلْمٍ يَحتاجُ إليهِ الْمُكَلَّفُ في أَمْرِ دِينِهِ، كأصولِ الإيمانِ، وشرائعِ الإسلامِ، وما يَجِبُ اجتنابُهُ مِن الْمُحَرَّمَاتِ، وما يَحتاجُ إليهِ في الْمُعاملاتِ، ونحوِ ذلكَ ممَّا لا يَتِمُّ الواجِبُ إلاَّ بهِ فهوَ واجبٌ عليهِ الْعِلْمُ بهِ.
قالَ الإمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ: (يَجِبُ أن يَطْلُبَ مِن الْعِلْمِ ما يَقومُ بهِ دِينُهُ، قيلَ لهُ: مِثلُ أيِّ شيءٍ؟ قالَ: الذي لا يَسَعُهُ جَهْلُهُ: صلاتُهُ، وصِيامُهُ، ونحوُ ذلكَ).
فالواجِبُ علَى المسلِمِ أن يَتَعَلَّمَ ما يَجِبُ عليهِ مِنْ أمْرِ دِينِهِ ممَّا يَتَعَلَّقُ بعقيدتِهِ وعِبادتِهِ ومُعامَلَتِهِ، وعليهِ أن يَسْأَلَ أهلَ الْعِلْمِ، ويَحْذَرَ مِن الإعراضِ عمَّا جاءَ عن اللهِ تعالَى، وعنْ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وعليهِ أنْ يَقْبَلَ النُّصْحَ والتَّوجيهَ، ويَنقادَ للحقِّ، فهذه صِفةُ المؤمنِ الحقِّ.
أمَّا الْعِلْمُ الذي تَعَلُّمُهُ فَرْضُ كفايَةٍ: كتَفاريعِ الْمَسائلِ الفِقْهِيَّةِ، والاطِّلاعِ علَى أقوالِ الْعُلَمَاءِ، ومَعرِفَةِ الْخِلافِ، ومُناقشةِ الأَدِلَّةِ، فهذا ليسَ بوَاجِبٍ علَى كلِّ مُسلِمٍ، فإذا وُجِدَ مَنْ يَقومُ بهِ مِنْ أهلِ الْعِلْمِ صارَ في حقِّ الباقينَ سُنَّةً.
وممَّا يَدُلُّ علَى أنَّ الْعِلْمَ واجبٌ حَديثُ أَنَسٍ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)).
وقدْ فَسَّرَ الشيخُ رَحِمَهُ اللهُ الْعِلْمَ الذي لا بُدَّ مِنْ تَعَلُّمِهِ بأنَّهُ يَتناوَلُ ثلاثةَ أُمورٍ، فقالَ: (وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ، ومَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ، ومَعْرِفَةُ دِينِ الإسلامِ بالأَدِلَّةِ).
وخَصَّ الشيخُ رَحِمَهُ اللهُ هذه الأُمورَ؛ لأنَّها هيَ أُصولُ الإسلامِ التي لا يَقومُ إلاَّ عليها، وهيَ التي يُسْأَلُ عنها العَبْدُ في قَبْرِهِ.
فالإنسانُ إذا عَرَفَ ربَّهُ، وعَرَفَ نَبِيَّهُ، وعَرَفَ دِينَ الإسلامِ بالأَدِلَّةِ؛ كَمُلَ لهُ دِينُهُ، فهذا هوَ الْعِلْمُ الشرعيُّ الذي لا بُدَّ منهُ.
(4)وقولُهُ: (مَعْرِفَةُ اللهِ)أيْ: أنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تعالَى هيَ أساسُ الدِّينِ، ولا يكونُ الإنسانُ علَى حقيقةٍ مِنْ دِينِهِ إلاَّ بعدَ الْعِلْمِ باللهِ تعالَى، وذلكَ بالنظَرِ في الآياتِ الشرعيَّةِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، والنظَرِ في الآياتِ الكَوْنِيَّةِ التي هيَ المخلوقاتُ، وهذه المَعْرِفَةُ تَستلزِمُ قَبولَ ما شَرَعَهُ اللهُ تعالَى والانقيادَ لهُ.
(5)وقولُهُ: (ومَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ) أيْ: أنَّ مَعْرِفَةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فرْضٌ علَى كلِّ مُكَلَّفٍ، وأَحَدُ مُهِمَّاتِ الدِّينِ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هوَ المبلِّغُ عن اللهِ تعالَى، وهذه المَعْرِفَةُ تَستلزِمُ قَبولَ ما جاءَ بهِ مِنْ عندِ اللهِ تعالَى مِن الْهُدَى ودِينِ الحقِّ. وسيأتي - إنْ شاءَ اللهُ تعالَى - تفصيلُ ذلكَ في مَحَلِّهِ.
(6) وقولُهُ: (وَمَعْرِفَةُ دِينِ الإسلامِ بالأَدِلَّةِ).
الإسلامُ لهُ معنيانِ:
معنًى عامٌّ، ومعنًى خاصٌّ؛لأنَّهُ قدْ وَرَدَتْ أَدِلَّةٌ تَدُلُّ علَى أنَّ الإسلامَ خاصٌّ بهذه الأُمَّةِ، ووَرَدَتْ أدِلَّةٌ تَدُلُّ علَى أنَّ الإسلامَ مَوجودٌ في الشرائعِ السابقةِ، فتَحريرًا للمسألةِ نَذْكُرُ كلامَ شيخِ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ في هذا الموضوعِ، وهوَ أنَّ الإسلامَ بالمعنَى العامِّ يُرادُ بهِ: عِبادةُ اللهِ وَحْدَهُ لا شَريكَ لهُ، وهذا دِينُ الأنبياءِ عُمومًا.
-قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عن التوراةِ وأنبياءِ بني إسرائيلَ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}، فوَصْفُ اللهِ سُبحانَهُ وتعالَى أنبياءَ بني إسرائيلَ بالإسلامِ؛ ممَّا يَدُلُّ علَى أنَّ الإسلامَ ليسَ خاصًّا بهذه الأُمَّةِ بلْ هوَ عامٌّ.
-وذَكَرَ اللهُ تعالَى عنْ موسَى عليهِ السلامُ أنَّهُ قالَ لقومِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}.
-وعنْ أبناءِ يَعقوبَ عليهِ السلامُ: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبـَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
فهذا هوَ الإسلامُ بالمعنَى العامِّ.أمَّا الإسلامُ بالمعنَى الخاصِّ فيُرادُ بهِ: الدِّينُ الذي بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا بهِ، وجَعَلَهُ خاتِمَةَ الأديانِ، لا يُقبَلُ مِنْ أَحدٍ دِينٌ سواهُ:
- قالَ تعالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
-وقالَ تعالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}.فهذه الآيَةُ تُفيدُ أنَّ اللهَ تعالَى ارْتَضَى لهذه الأُمَّةِ الإسلامَ دِينًا، فيُفَسَّرُ بالمعنَى الخاصِّ. (7)وقولُهُ: (بِالأَدِلَّةِ) جَمْعُ: دليلٍ، والدليلُ: (فَعيلٌ) بمعنَى: فاعلٍ، مِن الدَّلالةِ، وهيَ الإرشادُ.
فالدليلُ هوَ الْمُرْشِدُ إلَى المطلوبِ، وهوَ إمَّا سَمْعِيٌّ: وهوَ ما ثَبَتَ بالوحيِ مِنْ كتابٍ أوْ سُنَّةٍ، وإما عَقْلِيٌّ: وهوَ ما ثَبَتَ بالنظَرِ والتأَمُّلِ، وسيأتي شيءٌ مِنْ ذلكَ في أثناءِ الرسالةِ.
وفي كلامِ الشيخِ رَحِمَهُ اللهُ إشارةٌ إلَى أنَّ التقليدَ لا يَنفَعُ في بابِ العقائدِ، وأنَّهُ لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِ الإسلامِ بالأدِلَّةِ مِنْ كتابٍ أوْ سُنَّةٍ أوْ إجماعٍ.
(8)قولُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ: (الثانيَةُ: العملُ بهِ) أي: العملُ بالْعِلْمِ؛ لأنَّ الْعِلْمَ لا يُطْلَبُ إلاَّ للعَمَلِ، وذلكَ بأنْ يَتَحَوَّلَ الْعِلْمُ إلَى سُلوكٍ واقعيٍّ يَظهرُ علَى فِكْرِ الإنسانِ وتَصَرُّفِهِ.
وقدْ وَرَدَت النصوصُ الشرعيَّةُ في وُجوبِ إتْبَاعِ الْعِلْمِ بالعملِ، وظُهورِ آثارِ الْعِلْمِ علَى طالِبِهِ، ووَرَدَ الوَعيدُ الشديدُ لِمَنْ لا يَعْمَلُ بعِلْمِهِ، ولم يَبْدَأْ بإصلاحِ نفسِهِ قبلَ إصلاحِ غيرِهِ، وهيَ أَدِلَّةٌ معروفةٌ معلومةٌ.
وما أَحسنَ قولَ الفُضَيْلِ بنِ عِياضٍ رَحِمَهُ اللهُ: (لا يَزالُ العالِمُ جاهلاً حتَّى يَعْمَلَ بعِلْمِهِ فإذا عَمِلَ بهِ صارَ عالمًا)، وهذا كلامٌ دقيقٌ؛ لأنَّهُ إذا كانَ عندَهُ عِلْمٌ ولكنه لا يَعملُ بهذا الْعِلْمِ فهوَ جاهلٌ؛ لأنَّهُ ليسَ بينَهُ وبينَ الجاهلِ فَرْقٌ إذا كانَ عندَهُ علْمٌ ولكنه لا يَعْمَلُ بهِ، فلا يكونُ العالِمُ عالِمًا حقًّا إلاَّ إذا عَمِلَ بما عَلِمَ.
ثمَّ إنَّ العملَ- إضافةً إلَى أنَّهُ حُجَّةٌ للإنسانِ - فهوَ أيضًا مِنْ أسبابِ ثَباتِ الْعِلْمِ وبَقائِهِ، ولهذا تَجِدُ الذي يَعْمَلُ بعِلْمِهِ يَستحضِرُ عِلْمَهُ، أمَّا الذي لا يَعْمَلُ بعِلْمِهِ، فسُرْعانَ ما يَضيعُ عِلْمُهُ، قالَ بعضُ السلَفِ: (كُنَّا نَستعينُ علَى حِفْظِ الحديثِ بالعَمَلِ بهِ).
أَضِفْ إلَى هذا ما قالَهُ بعضُ أهلِ الْعِلْمِ: (مَنْ عَمِلَ بما عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ عِلْمَ ما لم يَعْلَمْ، ومَنْ لم يَعْمَلْ بما عَلِمَ أَوْشَكَ اللهُ أن يَسْلُبَهُ ما عَلِمَ).
وهذا يَذْكُرُهُ بعضُهم علَى أنَّهُ حديثٌ، وهذا ليسَ بصحيحٍ، إنَّمَا هيَ عبارةٌ مأثورةٌ ذَكَرَها شيخُ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ.
ومعنَى: (أَوْرَثَهُ اللهُ عِلْمَ ما لم يَعْلَمْ) أيْ: زادَهُ إيمانًا، ونَوَّرَ بَصيرتَهُ، وفَتَحَ عليهِ مِن العلومِ أنواعًا وفُروعًا؛ ولهذا تَجِدُ العالِمَ العاملَ بازديادٍ، ويُبَارِكُ اللهُ في وَقْتِهِ وعِلْمِهِ.
ودليلُ هذا في كتابِ اللهِ، قالَ تعالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، قالَ الشَّوْكانيُّ: (زادَهم إيمانًا وعِلْمًا وبَصيرةً في الدِّينِ؛ أيْ: والذينَ اهْتَدَوْا إلَى طريقِ الخيرِ: فآمَنُوا باللهِ، وعَمِلُوا بما أَمَرَهم بهِ، زادَهم إيمانًا وعِلْمًا وبَصيرةً في الدِّينِ).
فعلَى المسلِمِ أن يُدْرِكَ أَهَمِّيَّةَ العمَلِ بالْعِلْمِ، وأنَّ الإنسانَ الذي لا يَعْمَلُ بعِلْمِهِ سيكونُ عِلْمُهُ حُجَّةً عليهِ، كما وَرَدَ في حديثِ أبي بَرْزَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ، ومنها: وعنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ)).
وهذا لا يَختصُّ به الْعُلَمَاءَ كما قدْ يَفْهَمُ بعضُ الناسِ،بلْ كلُّ مَنْ عَلِمَ مَسألةً مِن المسائلِ قامَتْ عليهِ الْحُجَّةُ فيها، فإذا سَمِعَ إنسانٌ فائدةً في مُحاضَرَةٍ أوْ خُطْبَةِ جُمُعَةٍ تَضَمَّنَتْ تَحذيرًا مِنْ مَعصيَةٍ هوَ واقِعٌ فيها، فعَلِمَ أنَّ هذه المعصيَةَ التي وَقَعَ فيها أنَّها أمْرٌ مُحَرَّمٌ، فهذا عِلْمٌ؛ فتقومُ عليهِ الْحُجَّةُ بما سَمِعَ، وقدْ ثَبَتَ في حديثِ أبي مالك الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ:((وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)).
(9)قولُ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ: (الثالثةُ: الدعوةُ إليهِ) أي: الدعوةُ إلَى توحيدِ اللهِ وطَاعتِهِ، وهذه وَظيفةُ الرُّسُلِ وأَتْبَاعِهم، قالَ تعالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .
لأنَّ الإنسانَ إذا كَمُلَتْ قُوَّتُهُ الْعِلْميَّةُ بالْعِلْمِ، وقُوَّتُهُ العَمَلِيَّةُ بالعملِ؛ فإنَّ عليهِ أن يَسْعَى إلَى بَذْلِ الخيرِ للآخرينَ، تَأَسِّيًا برُسُلِ اللهِ تعالَى عليهم الصلاةُ والسلامُ.
والدعوةُ إلَى اللهِ تعالَى أَمْرُها عظيمٌ، وثوابُها جَزيلٌ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((فَوَاللهِ لأََنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)).والدعوةُ لا تُؤْتِي ثِمارَها وتكونُ وَسيلةَ إصلاحٍ وبِناءٍ، إلاَّ إذا كانَ الداعي مُتَّصِفًا بما يكونُ سَببًا لقَبولِ دَعوتِهِ وظُهورِ أَثَرِها، ومِنْ ذلكَ:
-التقوَى: ويُقْصَدُ بها كلُّ مَعانيها مِن: امتثالِ المأمورِ، واجتنابِ المحظورِ،والتَّحَلِّي بصِفاتِ أهلِ الإيمانِ.
-الإخلاصُ: بأنْ يَقْصِدَ بدعوتِهِ وجهَ اللهِ تعالَى ورِضاهُ، والإحسانَ إلَى خَلْقِهِ، ويَحْذَرَ مِنْ أنْ يَقْصِدَ إظهارَ التمَيُّزِ علَى غيرِهِ، وإذلالَ الْمَدْعُوِّ بإشعارِهِ بالجهْلِ والتقصيرِ.
-الْعِلْمُ: فلا بدَّ أنْ يكونَ الداعي عالِمًا بما يَدْعو بهِ، ذا فَهْمٍ لِمَا جاءَ في كِتابِ اللهِ تعالَى وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وسِيَرِ السلَفِ الصالحِ.
-الحِلْمُ وضَبْطُ النفْسِ عندَ الغَضَبِ؛ لأنَّ مَيدانَ الداعيَةِ صُدُورُ الرجالِ ونُفوسُ البَشَرِ، وهيَ مُتَبَايِنَةٌ ومُخْتَلِفَةٌ كاختلافِ صُوَرِهِم وأَشكالِهم.
-أنْ يَبْدَأَ بالأَهَمِّ فالأَهَمِّ علَى حَسَبِ البيئةِ التي يَدْعُو فيها،فمَسائِلُ العَقيدةِ وأصولِ الدِّينِ تأتي في الْمَقامِ الأَوَّلِ، وقدْ دلَّ علَى ذلكَ قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِمُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ...)) الحديثَ.
-أنْ يَسْلُكَ في دعوتِهِ الْمَنْهَجَ الذي نَصَّ اللهُ عليهِ في كِتابِهِ الكريمِ،
يقولُ سُبحانَهُ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، والْحِكمةُ مَعْرِفَةُ الحقِّ والعملُ بهِ، والإصابةُ في القولِ والعملِ، وهذا لا يكونُ إلاَّ بفَهْمِ القرآنِ، والفقهِ في شرائعِ الإسلامِ وحقائقِ الإيمانِ، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}: الأمْرُ والنهيُ المقرونُ بالترغيبِ والترهيبِ، وإِلاَنَةِ القولِ وتَنشيطِ الْمَوعوظِ.
{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فيَسْلُكُ كلَّ طريقٍ يَكونُ أَدْعَى للاستجابةِ: مِن الالتزامِ بالموضوعِ، والبُعْدِ عن الانفعالِ، والترَفُّعِ عن المسائلِ الصغيرةِ في مُقابِلِ القضايا الكُبرَى؛ حِفْظًا للوَقْتِ، وعِزَّةً للنفْسِ، وكمالاً للمُروءةِ.
(10) قولُهُ: (الرابعةُ: الصبْرُ علَى الأَذَى فيهِ) أي: الرابعةُ مِن الْمَسائلِ الأربعِ: الصبرُ علَى الأَذَى في الدعوةِ إلَى اللهِ تعالَى، بأنْ يكونَ الداعيَةُ صابرًا علَى ما يَنالُهُ مِنْ أَذِيَّةِ الناسِ؛ لأنَّ أَذِيَّةَ الدُّعاةِ مِنْ طبيعةِ البَشَرِ إلاَّ مَنْ هَدَى اللهُ، كما قالَ تعالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}.
فيَجِبُ علَى الداعيَةِ أنْ يكونَ صابرًا علَى دَعوتِهِ مُسْتَمِرًّا فيها، صابرًا علَى ما يَعْتَرِضُ دَعوتَهُ أوْ ما يَعْتَرِضُهُ هوَ مِن الأَذَى؛ لأنَّ الداعيَةَ يَطْلُبُ مِن الناسِ أن يَتَحَرَّرُوا مِنْ شَهَوَاتِهم ورَغَبَاتِهم، وعاداتِ أقوامِهم، ويَقِفُوا عندَ حُدودِ اللهِ تعالَى في أَوامِرِهِ ونَواهِيهِ، وأكثرُالناسِ لا يُؤْمِنُ بهذا الْمَنْهَجِ.
فلهذا يُقاوِمُونَ الدعوةَ بكلِّ قُوَّةٍ، ويُحارِبون دُعاتَها بكلِّ سِلاحٍ، قالَ تعالَى عنْ لُقْمَانَ الحكيمِ في وَصِيَّتِهِ لابنِهِ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}.
وعلَى الداعيَةِ أن يَتَأَسَّى بالرسُلِ الكِرامِ الذينَ قَصَّ اللهُ علينا أَخبارَهم، وما حَصَلَ لهم مِنْ مَشاقِّ الدعوةِ ومَتاعبِها مِنْ إعراضِ الناسِ عنْ دعوتِهم وأَذِيَّتِهم بالقولِ والفِعلِ، معَ طولِ الطريقِ
واستبطاءِ النصْرِ، قالَ تعالَى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}.
وقدْ جعَلَ اللهُ تعالَى العاقِبةَ للمُتَّقِينَ، وكَتَبَ النصْرَ لدُعاةِ الحقِّ، قالَ تعالَى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}.
(11)قولُهُ: (والدليلُ قولُهُ تعالَى: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)}) استدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ علَى هذه المسائلِ الأربعِ بسورةٍ عظيمةٍ لا تَزيدُ علَى ثلاثِ آياتٍ، وهيَ سورةُ العصْرِ.
فالمسألةُ الأولَى والثانيَةُ في قولِهِ سُبحانَهُ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.، فإنَّ الإيمانَ لا يكونُ صَحيحًا، والعملَ لا يكونُ صالحًا إلاَّ بالْعِلْمِ بأنْ يُعْبَدَ اللهُ علَى بَصيرةٍ.
والمسألةُ الثالثةُ في قولِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}.
والرابعةُ في قولِهِ:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
وقولُهُ تعالَى:{وَالْعَصْرِِ} هذا قَسَمٌ، والعصْرُ الْمُرَادُ بهِ: الزمَنُ الذي تَقَعُ فيهِ الأحداثُ مِنْ خيرٍ أوْ شَرٍّ، أَقْسَمَ اللهُ بهِ؛ لأنَّ أفعالَ الناسِ وتَصَرُّفَاتِهم كُلَّها تَقَعُ في هذا الزمَنِ، فهوَ ظَرْفٌ يُودِعُهُ العِبادُ أعمالَهم؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ، فهوَ جَديرٌ أن يُقْسِمَ بهِ.
وقيلَ: {وَالْعَصْرِِ}ما بعدَ العَشِيِّ، وهوَ آخِرُ النهارِ، ومِنه صلاةُ العَصْرِ.
والأوَّلُ هوَ الأَظْهَرُ في معنَى الآيَةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
وجوابُ القَسَمِ قولُهُ تعالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، فاللهُ تعالَى يُقْسِمُ بالعصْرِ علَى أنَّ الإنسانَ في خُسْرٍ، والألِفُ واللامُ للاستغراقِ والشمولِ بدليلِ الاستثناءِ بعدَهُ؛ أيْ: كلُّ إنسانٍ في خُسْرٍ، كقولِهِ تعالَى: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا}.
والْخُسْرُ: هوَ النُّقصانُ والْهَلَكَةُ؛لأنَّ حياةَ الإنسانِ هيَ رأسُ مالِهِ، فإذا ماتَ ولم يُؤْمِنْ ولم يَعملْ صالحًا خَسِرَ كلَّ الْخُسرانِ.
ولم يُبَيَّنْ هنا نوعُ الْخُسرانِ في أيِّ شيءٍ بلْ أُطْلِقَ لِيَعُمَّ، فقدْ يكونُ مُطْلَقًا كحالِ مَنْ خَسِرَ الدنيا والآخِرةَ وفَاتَهُ النعيمُ، واسْتَحَقَّ الجحيمَ، وقدْ يكونُ خاسرًا مِنْ بعضِ الوُجوهِ دونَ بعضٍ.
والذي يُستفادُ مِنْ مَفهومِ الآيَةِ: أنَّ الْخُسرانَ قدْ يكونُ بالكُفْرِ - والعِياذُ باللهِ:
- قالَ تعالَى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
-وقالَ تعالَى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ}.
وقدْ يكونُ بتَرْكِ العمَلِ:
-قالَ تعالَى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
-وقالَ تعالَى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}.
-وقالَ تعالَى: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
وقدْ يكونُ الْخُسرانُ بتَرْكِ التَّوَاصِي بالْحَقِّ كُلِّيَّةً، أو التواصِي بالباطلِ، وليسَ بعدَ الحقِّ إلاَّ الضَّلالُ. وقدْ يكونُ بتَركِ التواصِي بالصبْرِ كُلِّيَّةً، أوْ بالوُقوعِ في الْهَلَعِ والْجَزَعِ، قالَ تعالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
والمقصودُ: أنَّ الإنسانَ في خُسْرٍ مهما كَثُرَ مالُهُ ووَلَدُهُ، وعَظُمَ قَدْرُهُ وشَرَفُهُ إلاَّ مَن اتَّصَفَ بالصفاتِ الأربَعِ.
فعلَى الإنسانِ أنْ يَتَأَمَّلَ حالَهُ، ويَعْلَمَ يَقينًا أنَّهُ لا نَجاةَ للعَبْدِ مِن الْخُسرانِ إلاَّ بهذا الطريقِ الذي رَسَمَهُ اللهُ تعالَى.
وقولُهُ تعالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} هذا هوَ الوَصْفُ الأَوَّلُ لِمَنْ يَسْلَمُ مِن الْخَسارِ وهوَ وَصْفُ الإيمانِ، والمعنَى: إلاَّ الذينَ آمَنُوا بما أَمَرَ اللهُ تعالَى مِن الإيمانِ بهِ، وهوَ الإيمانُ باللهِ والملائكةِ والكتابِ والنَّبِيِّينَ، وكلِّ ما يُقَرِّبُ إلَى اللهِ تعالَى مِن اعتقادٍ صحيحٍ، وعِلْمٍ نافعٍ.
وقولُهُ تعالَى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الْمُرَادُ بالعمَلِ الصالحِ: أفعالُ الخيرِ كلُّها، سواءٌ كانتْ ظاهِرةً أوْ باطِنةً، وسواءٌ كانت مُتَعَلِّقَةً بحقوقِ اللهِ تعالَى أوْ مُتَعَلِّقَةً بحقوقِ العِبادِ، وسواءٌ كانتْ مِنْ قَبيلِ الواجِبِ أوْ كانتْ مِنْ قَبيلِ الْمُسْتَحَبِّ، إذا كانت خالِصَةً صَوابًا.
وقولُهُ تعالَى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} الْمُرَادُ بالحقِّ في هذه الآيَةِ - واللهُ أَعْلَمُ - هوَ ما تَقَدَّم مِن الإيمانِ باللهِ والعملِ الصالحِ .
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}،جميعُ أنواعِ الصبْرِ: الصبرُ علَى طاعةِ اللهِ وأداءِ فَرائضِهِ، والقيامِ بحقوقِهِ وحقوقِ عِبادِهِ، فهذا يَحتاجُ إلَى صَبْرٍ، والصبرُ عنْ مَعصيَةِ اللهِ؛ لأنَّ النفْسَ أَمَّارَةٌ بالسُّوءِ فلا بُدَّ للإنسانِ أن يَصْبِرَ؛ لئلاَّ يَقَعَ في الْمَعْصِيَةِ.
ومِن الصبْرِ أيضًا: الصبْرُ عن البَطَرِ عندَ كثرةِ النِّعَمِ،فيَصْبِرُ الإنسانُ عن البَطَرِ والإسرافِ والتبذيرِ عندَ وُجودِ النِّعَمِ أوْ كَثْرَتِها.
ومِن الصبْرِ أيضًا: الصبْرُ علَى الْمَصائِبِ
وهيَ ما يُصِيبُ الإنسانَ في هذه الدنيا مِنْ مَصائبَ وحَوَادِثَ فإنَّهُ عُرْضَةٌ لذلكَ.
(12)قولُهُ: (قالَ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ علَى خَلْقِهِ إلاَّ هذه السورةَ لَكَفَتْهُمْ) ).
معنَى قولِ الشافعيِّ:لوْ أنَّ اللهَ جَلَّ وعَلاَ ما أَرْسَلَ للبَشريَّةِ طريقًا ومِنهاجًا إلاَّ هذه السورةَ القصيرةَ ذاتَ الثلاثِ الآياتِ لكانتْ كافيَةً؛ لأنَّ هذه السورةَ رَسَمَت الْمَنهجَ الذي شَرَعَهُ اللهُ تعالَى طريقًا للنَّجاةِ، وهوَ:الإيمانُ، والعمَلُ الصالحُ، والتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبْرِ.فهذه الأمورُ الأربعةُ هيَ التي تَحْصُلُ بها النَّجاةُ، فلوْ أنَّ اللهَ تعالَى ما أَنْزَلَ إلاَّ هذه السورةَ لكان مَنْ أَرادَ اللهُ هِدايَتَهُ يَعْرِفُ أنَّهُ لا نَجاةَ لهُ إلاَّ بالإيمانِ، والعَمَلِ الصالحِ، والتواصِي بالحقِّ، والتواصي بالصبْرِ.
وهذا مِن الإعجازِ الذي لا يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ اللهُ تعالَى، آيَةٌ واحدةٌ تُبَيِّنُ وَظيفةَ الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ، ووَظيفةَ كلِّ فَرْدٍ مِنْ أفرادِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ، وهيَ: التواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبْرِ، بعدَ الإيمانِ، والعملِ الصالحِ، فما أَعْظَمَها مِنْ سورةٍ.
ولهذا فإنَّ شيخَ الإسلامِ ابنَ تَيميَّةَ رَحِمَهُ اللهُ لَمَّا نَقَلَ كلامَ الشافعيِّ قالَ:(هوَ كما قالَ - يعنِي: ما قالَ الإمامُ الشافعيُّ هوَ في مَحَلِّهِ-، فإنَّ اللهَ جَلَّ وعلا أَخْبَرَ أنَّ جميعَ الناسِ خَاسِرون إلاَّ مَنْ كانَ في نفسِهِ مؤمِنًا صالحًا، ومعَ غيرِهِ مُوصيًا بالحقِّ، ومُوصيًا بالصبْرِ) انتهَى كلامُهُ.
وقدْ جاءَ في تفسيرِ ابنِ كثيرٍ ما يَخْتَلِفُ عن العبارةِ التي ذَكَرَها الْمُصَنِّفُ هنا، فقدْ جاءَ فيهِ: قالَ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (لوْ تَدَبَّرَ الناسُ هذه السورةَ لوَسِعَتْهُم)، والمعنَى واحدٌ، واللهُ أَعْلَمُ.
(13)قولُهُ: (وقالَ البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى) يعني: في (كتابِ الْعِلْمِ) مِنْ (صحيحِهِ).
(بابٌ: الْعِلْمُ قبلَ القولِ والعملِ).
وقولُهُ: (بابٌ) يُقرأُ بالتنوينِ؛ لأنَّهُ مَقطوعٌ عن الإضافةِ، و (الْعِلْمُ) مُبتدأٌ، (قبلَ القولِ) خبرُ الْمُبتدأِ، أَفادَتْ هذه التَّرجمةُ أنَّ قولَ الإنسانِ وعملَهُ لا اعتبارَ لهُ في مِيزانِ الشرْعِ إلاَّ إذا كانَ قائمًا علَى الْعِلْمِ، فالْعِلْمُ شَرْطٌ لصِحَّةِ القولِ والعملِ.
(14)وقولُهُ: (والدليلُ) هذا مِنْ كلامِ البخاريِّ، والذي في (الصحيحِ) أنَّ البخاريَّ قالَ: (بابٌ: الْعِلْمُ قبلَ القولِ والعملِ؛ لقولِ اللهِ تعالَى) ولكنَّ الشيخَ رَحِمَهُ اللهُ عَبَّرَ بقولِهِ: (والدليلُ) ليكونَ أَوْضَحَ.
(15)(قولُهُ تعالَى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فبَدَأَ بالْعِلْمِ قبلَ القولِ والعمَلِ)، وهذا مِنْ كلامِ البخاريِّ أيضًا، لكن ليسَ في (صحيحِهِ) كلمةُ: (قبلَ القولِ والعمَلِ) إنَّمَا الذي فيهِ: (فبَدَأَ بالْعِلْمِ) فإمَّا أنْ يكونَ قولُهُ: (قبلَ القولِ والعملِ) مِنْ كلامِ الشيخِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ للتوضيحِ، أوْ أنَّهُ في نُسخةٍ أخرَى.
وقولُهُ تعالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} الْخِطابُ للرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وهوَ يَشمَلُ الأُمَّةَ، وهذا هوَ الْعِلْمُ.
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}هذا هوَ العَمَلُ.
وقد اسْتَدَلَّ بعضُ السلَفِ بهذه الآيَةِ علَى فَضْلِ الْعِلْمِ، فقدْ ذَكَرَ أبو نُعيمٍ رَحِمَهُ اللهُ في (الْحِلْيَةِ) عنْ سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللهُ، أنَّهُ سُئِلَ عنْ فَضْلِ الْعِلْمِ فقالَ: (ألمْ تَسْمَعْ قولَهُ تعالَى حينَ بدأَ بهِ فقالَ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ}، ثمَّ أَمَرَهُ بالعمَلِ بعدَ ذلكَ فقالَ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}).
ووَجْهُ الاستدلالِ علَى فَضْلِ الْعِلْمِ أنَّ اللهَ تعالَى بَدَأَ بهِ فأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالْعِلْمِ قبلَ أنْ يَأْمُرَهُ بالعملِ.
وهذا يَدُلُّنَا علَى أَمرينِ:
أولاً:علَى فَضْلِ الْعِلْمِ.
ثانيًا:علَى أنَّ الْعِلْمَ مُقَدَّمٌ علَى العَمَلِ.