كيف كان تذوق الكلام
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) :(
وبيان ذلك أن الله سبحانه حين اصطفى من البشر محمدًا صلى الله عليه وسلم، وابتعثه من العرب رسولاً نبيًّا، لم يجعل له سبحانه آية على نبوته كآيات الأنبياء من قبله، بل آتاه آية واحدة، كتابًا عربيً منجم التنزيل على مد ثلاث وعشرين سنة، يقرأه على النسا على مكث، وطالب السامعيه أن يقروا أن هذا الكلام العربي المنزل، هو كلام الله سبحانه، وأنه وإن كان جاريًا على أساليب لغتهم، فإنه مفارق لكلام البشر، بدليل ظاهر قاهر هم قادرون على تبينه واستظهاره. فإذا تبينوا ذلك، فالتالية عليهم، وهو رجل من أنفسهم، نبي مرسل مبلغ عن ربه كلام رب العالمين. وبين أنه لم يطالبهم بذلك التمييز بين نظمه وبيانه، ونظم كلام البشر وبيانهم، إلا وهم قادرون على ذلك التمييز.
هذه واحدة. فلما كابر المشركون وكذبوه عنادًا، تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات [هود: 13]، ثم بسورة مثله [يونس: 10]، ثم قضى غاية التحدي فقال لهم: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88]، ثم لم ينصب لهم حكمًا يحتكمون إليه = في الموازنة بين كلامه سبحانه، والكلام الذين يأتون به استجابةً لهذا التحدي = سوى أنفسهم، فالأمر كله مفوض إليهم. وذلك أيضًا دليل على أنهم كانوا قادرين على هذا التمييز، وأنهم مؤتمنون على هذا الحكم. وإذن، فالأمر في الحالين: في طلب إقرارهم بأن هذا القرآن المنزل مباين بنظمه وبيانه لكلام البشر = وفي الحكم المفوض إليهم في
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 94]
التمييز بين القرآن، وبين ما عسى أن يعارض به المعارضون استجابةً للتحدي = كلاهما دال على أن المخاطبين بالقرآن، كانوا يملكون قدرًا لا يمكن تحديده من القدرة على تذوق البيان والنظم، تتيح لهم الفصل الواضح بين الذي هو كلام البشر، والذي هو مباين لكلام البشر، وتمنحهم اليقين القاطع بأن هذا القرآن العربي المنزل بلسانهم، هو كلام رب العالمين. وهو دال أيضًا على أن هذا القدر من التذوق كان عامًا فيهم، يستغرق جميع المخاطبين بهذا القرآن، وأنه كان كائنًا فيهم من قبل أن ينزل القرآن.
وهذا التذوق العام الذي كان فيهم حين نزل القرآن، يهدينا كونه إلى أصلين عظيمين لا انفكاك له منهما. أولهما: أنه غير ممكن أن يكون نشأ فيهم ابتداءً عند تنزيل القرآن، بل هو نتيجة دهور متطاولة من تذوق البيان في أوسع نطاق من التنوع وأشمله، وعلى أعلى درجة من دقة الإحساس بالأبنية اللغوية المختلفة التي أتيحت للبيان الصادر عن الإنسان في جميع لغات البشر. وثانيهما: أنه لا يمكن أن يكون كان الأمر على هذا الوجه عند تنزيل القرآن، إلا وفي أيدي الناس وفي نفوسهم أمثلة حية كثيرة متنوعة عتيقة جدًا متداولة بينهم، وأمثلة أخرى محدثة عتيدة ذائعة بين الناس، على اختلاف درجاتهم، لا يكفون عن تتبعها وتذوقها، وعن المقارنة بين قديمها ومحدثها، باهتمام وحرص وشغف غالب، يصقل التذوق صقلاً حتى تبلغ هذه الغاية.
وإذا كان الأمر كذلك، وكان مقطوعًا به أن أهل الجاهلية كانوا أمة أمية لم تعتمد حياتها الأدبية، كما نقول اليوم على كتابة الكتب وعلى التصنيف والتأليف، بل كان كل علمهم، كما قال عمر رضي الله عنه، في الشعر = كان مقطوعًا به أيضًا أن الشعر عندهم كان هو أرفع الأمثلة الحية، للبيان الذي يتذوقونه بحرص وشغف، حتى بلغوا هذا المبلغ الذي دلتنا عليه آية النبوة، وهي القرآن العظيم، إذ تقاضاهم رب العالمين أن يميزوا بهذا التذوق المذهل الذي كان فيهم، بين كلام البشر كلهم، وبين الكلام المنزل على نبيهم، فيحكموا بهذا التذوق وحده بأنه كلام مباين لكلام البشر، وأنه كلام رب العالمين سبحانه = ثم
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 95]
جعلهم أيضًا محكمين في الفصل بين هذا القرآن المنزل، وما عسى أن يأتي به من يستجيب للتحدي محاولاً أن يأتي بمثل هذا القرآن.
ونحن لا نستطيع، بل لا يجوز لأحد عاقل، أن يسقط هذه الحقيقة من الدراسة الأدبية، لأن معنى إسقاطها من الدراسة هو عزل حقيقة في عصر بعينه عن عصرها وعن أصحابها، ثم دراسة هذا العصر مجردًا من الناس الذين كانوا فيه، والذين كانت هذه الحقيقة قائمة فيه بهم وفيهم. ولو فعلنا، لكان معنى ذلك أننا ندرس عصرًا فارغًا من أهله من البشر، وهذا عبث فارغ، بل جهل، بل هو جنون مطبق على الأصح. وإذا كان غير العرب معذورين في عزل هذه الحقيقة وأشباهها عند دراستهم للشعر العربي والتاريخ العربي، لأن هذه حالة فريدة وحيدة لا شبيه لها في تاريخ الجنس البشري كله، وليس في إمكانهم تصورها إلا بمفارقة عقائدهم التي أشربوها منذ الميلاد = فإن المرء العربي، أو المرء المسلم، لا يغدر في عزلها، لأنها جزء لا يتجزأ من عقيدته، وأيضًا لأنها جزء لا يتجزأ من ميراث تاريخه ولغته، ولأنه لو فعل، لما بقي في يديه شيء يدرسه بعد إسقاط البشر الذين كانت تقوم بهم حقيقة الأدب وحقيقة التاريخ. وكل من أسقط هذه الحقيقة من المحدثين في زماننا، فإنما اسقطها عن طريق تقليد الدارسين من غير العرب، في زمان صار لغير العرب فيه الظهور والغلبة والسيطرة على الحضارة، والتفوق في الفكر والعلم، بل آلت إليهم السيطرة على الحياة كلها. فمن هذا وحده سقطوا في التقليد، والتقليد عجز وفساد، ولا يكون التقليد عذرًا لأحد يعقل! ومعذرة لهذا الاستطراد.
ولا ينبغي أن نترك الأمر غفلاً، فإن هذا التذوق الفاخر الذي كان عامًّا في العرب المخاطبين بالقرآن، كان أيضًا شاملاً لمن عاشرهُم من طوائف البشر، من مواليهم من غير العرب، ومن غير مواليهم، حتى ظهر من السُّودان وغيرهم شعراء محكمون مجيدون، مثل سحيم عبد بني الحسحاس، وكان حبشيًا مغلظًا قبيحًا، وكان أعجميًا ألكن، يقلب الشين سينًا (ما سَعَرْن) والتاء كافًا (أحسنك والله)، ومع ذلك كان شاعرًا محسنًا، يقول فيه ابن سلام: >هو
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 96]
حُلْوُ الشعر، رقيق حواشي الكلام<، و>أنه عبد من عبيد العرب، نافذ<. بل زاد الأمر على ذلك، فنحن نعلم أن الفرس الذين جاءوا إلى اليمن وحكموه دهرًا، اكتسبوا قدرًا وافرًا من هذا التذوق، وهم المعروفون بالأبناء، وقد روى الطبري حديثًا طريفًا عن أحدِ من حكم اليمن منهم، (2: 157)، وذلك أن كسرى هرمز، عزل أحد ولاة اليمن واستعمل مكانه >المروزان<، فأقام باليمن زمانًا حتى ولد له بها وبلغ ولده، وكان للمروزان ابنان، أحدهما تعجبه العربية ويروى الشعر، ويقال له: >خرخسرة< والآخر أسوار يتكلم بالفارسية ويتدهقن. فاستخلف >المروزان< ابنه >خرخسرة<، وكان أحب ولديه إليه. فلما ولى كسرى أبرويز بن هرمز، بلغه تعرب >خرخسرة<، وروايته للشعر، وتأدبه بأدب العرب، عزله وولى مكانه >باذان<، وهو الذي جاء الإسلام عليه، وبعث بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى هذا: أن هذا التذوق كان من العمق، ومن القوة والظهور في الناس، ومن الذيوع بين عامتهم وخاصتهم، بمنزلة فريدة غريبة لا نكاد اليوم نبلغ صفتها، لأنا لم نشهدها، وإن كانت شهادة النظر، ثم شهادة التاريخ بعد الإسلام، دالة أوضح الدلالة على هذا العمق النافذ، إذ حمل الموالي في الإسلام قسطًا وافرًا من علم العربية، ومن علم الشعر، ومن الجهبذة فيه، وبلغوا في ذلك مبلغًا لم يكن له مثال في التاريخ من قبل ذلك ولا من بعده، في أمة من الأمم سوى العرب، ولا في لغة من اللغات سوى العربية، إلى يومنا هذا. ونحن نعلم ما يقول أصحاب المناهج الساقطة في هذه الغريبة الفريدة، ولكن ليس هذا موضع بيانه وتفصيله.
فإذا كان هذا التذوق المصقول المرهف البالغ أقصى غاية الدقة والنفاذ في الإحساس بروعة البيان الإنساني، لا يمكن أن يكون قد نشأ ابتداءً حين نزل القرآن = وكان غير ممكن أيضًا أن يبلغ هذا المبلغ إلا بعد دهور متطاولة من
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 97]
التذوق النبيل الحر = وكان غير ممكن أيضًا أن ينفذ هذا النفاذ إلا وفي أيدي الناس وفي نفوسهم وعلى ألسنتهم، أمثلة وافرة بالغة الوفرة، متنوعة كل التنوع، يمارسون عليها تذوقهم ممارسة متأنية متطاولة، حتى يصقل هذا الصقل، وحتى ينتهي إلى أقصى حد من الرهف واللطف، وهذه الأمثلة الحية الوافرة المتنوعة، لم تكن إلا من الشعر وحده.
ومعنى هذا أن العرب في العصر الذي نزل فيه القرآن العظيم، كان عندهم من الشعر القديم المعرق، ومن الشعر المحدث في زمانهم وقبيل زمانهم بقليل، قدر لا يمكن تحديده أو حصره من هذا الشعر. وكان هذا القدر الوافر البليغ الوفرة، ذائعًا على الألسنة في هذه الجزيرة العربية، من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، ومن أبعد شرقها إلى أبعد غربها = وأن هذا الشعر كان ملء أيامهم ولياليهم وساعاتهم، يتناشدونه في كل منزل، ويتمثلونه عند كل موقف وميسر، ويتذوقونه تذوقًا بصيرًا مرهفًا، ويفضلون بعضه على بعض، بما اكتسبوا من القدرة على هذا التذوق الفاصل بين أدق درجات البيان على اختلافها وتنوعها.
وأظني أني في غنى عن ذكر مواسم العرب المشهورة، حيث يتجمع الناس من كل بطن وقبيلة، ويتناشدون هذا الشعر، فضلاً عن تجمع قبائلهم وبطونهم المختلفة عند النجعة في مساقط الغيث في قلب الجزيرة وأطرافها، في كل مصيف ومربع. أما الذي هو أجود، فهو أن ننظر قليلاً، كيف عبر الشعر الجاهلي الذي شارف ظهور الإسلام، عن سيرورة الشعر في الناس جميعًا على اختلاف منازلهم وطبقاتهم. يقول المسيب بن علس، وهو جاهلي، وهو خال الأعشى، يثني على رجل أدركه الإسلام بعد ذلك فأسلم، وهو الجواد المعروف >بتيار الفرات<، القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس الدارمي، فأهدى المسيب إليه ثناءه وهو مقيم بديار قومه بني ضبيعة، والقعقاع مقيم بأرض بعيدة في ديار قومه بني تميم، قال له:
فلأهدين مع الرياح قصيدة.... مني مغلغلة إلى القعقاع
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 98]
ترد المناهل، لا تزال غريبة .... في القوم، بين تمثل وسماع
>فلأهدين مع الرياح<، كلمة بارعة، قصيدة تحملها الرياح مسرعة منتشرة لا يحتمي منها أحد، >مغلغلة<، حثيثة الانتقال من بلد إلى بلد، >ترد المناهل<، مناهل الماء، حيث ينزل المسافرون في البوادي والقفار، بعد أن قل ماؤهم وبلغ منهم الجهد، فتأتيهم هذه القصيدة، فتشفي هي أيضًا ظمأهم، فهي بينهم، >لا تزال غريبة في القوم، بين تمثل وسماع<، غريبة لا تستقر عند راويها. بل يرويها هذا عن هذا، فهم يتناقلونها، كما تتناقل >الغريبة< وهي الرحى، رحى اليد، فإنها لا تستقر عند أربابها، بل يتعاورونها بينهم يتداولونها، فهم بين منشد، وهو >المتمثل< وبين سامع قد منحها أذنه وقلبه مصغيًا ليقيدها ويحفظها، ويتكفل بإنشادها حيث كان. فهذه صفة سيرورة الشعر، كما قال المسيب للقعقاع، والمسيب يقول أيضًا لجيفر بن الجلندي الأزدي ملك عمان، وقد أدركه الإسلام أيضًا فأسلم، أهدى إليه تحيته على البعد، ولم يرحل إليه ولم ينشده أياها:
وإني امرء مهد بغيب تحيــــــــــــــــــــــــــــــــة .... إلى ابن الجلندي فارس الخيل جيفر
بها تنفض الأحلاس، والديك نائم..... إلى مسنفات آخر الليل ضمـــــــــــــــــر
فهؤلاء سفر آخرون، بعدت عليهم الشقة، حتى كلت ركائبهم، وبلغ منها الضمور وخمصت بطونها، واضطربت حبال رحالها التي تشد عليها، فوقعوا وقعة يسيرة ليستريحوا، ثم قاموا من آخر الليل والديك نائم لم يؤذن بعد، وفي أعينهم النوم، وفي أبدانهم فتور الجهد، فقاموا ينفضون الأحلاس وهم يتناشدون هذه القصيدة، لتنفي عنهم السِّنة، وتبعث فيهم النشاط والحركة، تهيجهم على تدبير أمر رحلتهم على هذه النياق الضمَّر. فالقصدية هي دواء الكلال وحافز العمل، وقد تابع الأعشى خاله، وزاد على
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 99]
هذه الصفة وفصلها تفصيلاً حيث قال:
وإن عتاق العيس سوف يزوركم ... ثناء على أعجازهن معلـــــــــق
به تنفض الأحلاس في كل منــــزل .... وتعقد أطراف الحبال وتطلق
فأما زهير بن أبي سلمى، فهو يجعل الشعر بضاعة حاضرةً مع التجار، تجار الخمر، يفضونها في الناس عند كل منزل حيث يقول:
فأبلغ إن عرضت به رسولاً .... بنى الصيداء، إن نفع الجوار
فإن الشعر ليس له مـــــــــــرد .... إذا ورد المياه به التجــــــــــــــــــــــــار
يقول: إذا نزل التجار منهلاً وحطوا عن رواحلهم، ونصبوا غاياتهم ورفعوها، ليعلم الناس أن الخمر حاضرة وافاهم المشترون الراغبون من كل أخياف الناس، لينالوا نصيبهم من الشراب والمنادمة، فينشدونهم هذا الشعر، فتصغى له أسماعهم، ويومئذ لا مرد لهذا الشعر، فإنه سوف يذهب مع هؤلاء الأخياف كل مذهب، ويتناقله كل لسان.
وأما حميد بن ثور الهلالي، وهو جاهلي أظله الإسلام فأسلم وصحب، فهو يقول متهددًا:
أتاني عن كعب مقال، ولم يزل ... لكعب يمين من يدي وناصـــــــــــــــــــــــــر
لأعترضن بالسهل ثم لأحدون ... قصائد فيها للمعاذير زاجـــــــــــــــــــــــــــر
قصائد تستحلى الرواة نشيدها ... ويلهو بها من لاعب الحي سامـــــــــــــر
يعض عليها الشيخ إبهام كفــــــــــــه ... وتخزى به أحياؤكم والمقابـــــــــــــــــــــــــــــــر
فهو يذكر كيف يتذوقها الرواة تلذذًا وهم ينشدونها في الحي، فيتلقفها اللاعب اللاهي، ويعيد إنشادها في السامر من تحت الليل، وكيف يكون موقعها عند الشيخ الكبير الذي لا يملك لها دفعًا إلا عض إبهامه ندمًا على ما كان من غواة قومه وصغارهم.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 100]
وأما مزرد أخو الشماخ بن ضرار الغطفاني، وهو جاهلي أسلم، فهو يزيد على هؤلاء جميعًا في صفة سيرورة الشعر يومئذٍ، وكثرة رواته ومنشديه، وأنه إذا نزل بأرض كثر منشدوه حتى تختلط أصوات المتمثلين. وترن أصداؤه في كل مجلس وفي كل سمع، ثم يعاد مرة بعد مرة، فلا يزداد إلا وضوحًا وصقلاً واستنارة، وأن الناس يروزونه بأفواههم يتذوقونه، حتى ترى الشفاه >عوامل< كثيرة الحركة من كثرة الترداد، يقول:
فقد علموا في ســـــــــــــالف الدهر أنني ... معن إذا جد الجراء ونايـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
زعيم لمن قــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذفته بأوابد ... يغني بها السـاري، وتحدى الرواحــــــــــــــــــــــــــــــــل
مذكرة، تلقى كثيرًا رواتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ...ضواح لها في كل أرض أزامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
تكر، فلا تزداد إلا استنـــــــــــــــــــــــــــــــــارة ... إذا رازت الشعر الشفاه العوامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
فمن أرمه منهـــــــــــــــــــــــــــا ببيت يلح به ... كشامة وجه ليس للشام غاســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
فالشعر هو سلوة السارين ليلاً، وبه يحثون رواحلهم كأنها تستمع أيضًا وتتذوق وتنشط بما تسمع، وهو ملء كل مكان.
ولا أذكر ما قيل في تناشد الإماء العبيد والولائد والعاملين في كل عمل عند الاستقاء من الآبار، وعند معالجة الشؤون الأخرى كلها في الحياة العربية، وأختم هذا، بما حدثنا به تميم بن أُبي بن مقبل، عن الشعر كيف يستقبله الناس إذا سمعوا بيتًا ماردًا بارعًا، فكأنه جواد سابق بلغ الغاية، فتمتد إليه الأيدي تمسح وجهه إعزازًا له وتكرمةً ومحبة وفرحًا به، يقول لامرأته:
إذا مت عن ذكر القــــــــــــــــــــــوافي، فلن ترى ... لها تاليًا مثلي أطب وأشعـــــــــــــــــــــــــــــــــــرا
وأكثر بيتًا مـــــــــــــــاردًا، ضربت لـــــــــــــــــــــــــــــــــه ... حزون جبال الشعر حتى تيســــــــــــــــــــــــرا
أغر غريبًا، يمسح النــــــــــــــــــــــــــــــــــاس وجهه، ...كما تمسح الأيدي الأغر المشهــــــــــــــــــرا
أما الجاهلي الذي فاق هؤلاء، وأوجز كل هذا وزاد عليه، فإنه يقول:
فـــــــــــــــــــــــــــــــــإن أهلك، فقد أبقيت بعدي ... قوافي تعجب المتمثلينـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 101]
لذيذات المقاطع، محكمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات ... لو أن الشعر يلبس لارتدينــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
ما أروعه!! وهذه الأبيات القلائل ترفع لأعيننا صورة حية للشعر في الجاهلية، كان الشعر زاد كل ركب يقطع البيد من منزل إلى منزل، يتناشدونه تحت رهبة الليل المتمادي عن أيمانهم وعن شمائلهم، ينقلونه معهم من منهل إلى منهل، أو يردون به على كل حي حلال. كان الشعر يومئذ سمر السامرين واللاهين تحت أشلاء الليل، يتمثلونه في أنديتهم مع الفراغ المتطاول في أيامهم ولياليهم، يتأمله المقيم والساري ويستعيده ويكرره، حتى يزداد استنارةً ولألاءً. كان مع كل قلب وعلى كل لسان، على اختلاف طبقات الناس من ساداتهم وأشرافهم، وصغارهم وكبارهم، وإمائهم وعبيدهم. كانوا يستقبلونه استقبال الحفاوة والشغف واللذة والبهاء والخيلاء. لا يزالون يتذوقونه تذوقًا مستمرًا بشفاه عوامل في المحافل الجامعة، وفي الوحدة المتمطية بهم مع آناء الليل وأطراف النهار كان تذوق الشعر هو عمل النفس العربية الجاهلية، لا تأخذها عنه فترة ولا ملل، بل تهتز تنشط وتبتهج، وتجد وتهزل، وتنبسط وتنقبض، وتجد فيه لذة الحياة التي تخالط الأحياء بالليل والنهار، فهي عليه، وعلى ما تجد له من الأريحية، أشد حرصًا من حرصها على كل نفيس وغال. هكذا كانوا، حتى جاء الإسلام، ونزل القرآن). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 94-102]