قال رحمه الله بعدها: "وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل , وبين الجبر والقدر، وبين الأمن واليأس"
هذه الأربع ألفاظ متقابلة , نص عليها رحمه الله؛ لأجل أن الفرق الضالة أو التي خالفت نحت إلى أحد هذه الثماني صفات، فذكر ثماني صفات:
الأولى: الغلو.
الثانية: التقصير.
الثالثة: التشبيه.
الرابعة: التعطيل.
الخامسة: الجبر.
السادسة: القدر.
السابعة: الأمن.
والثامنة: اليأس.
ثم قال بعدها: "فهذا ديننا واعتقادنا..." إلى آخره.
قوله: "وهو بين" يعني: أن هذه الصفات الإسلام لا يرتضيها، ودين الله الحق ليس مع الغلو، كما أنه ليس مع التقصير، ودين الله الحق ليس مع التشبيه، كما أنه ليس مع التعطيل، وكذلك دين الله الحق ليس مع الجبر في الأفعال , كما أنه ليس مع إثبات الفعل للإنسان خلقاً دون الله جل وعلا , وهو المسمى بالقدر , وكذلك بين الأمن من مكر الله جل وعلا, وبين اليأس من روح الله Y.
فيريد أن أهل السنة والجماعة , أتباع السلف الصالح , أخذوا بهذه الوسطية بين هذه المسائل، منهم وسط بين الغلو والتقصير، فهم وسط بين التشبيه والتعطيل، وهم وسط بين الجبر والقدر، وهم وسط بين الأمن واليأس.
وإذا تبين لك ذلك، فهذه الجملة يبحث فيها كل العقيدة، كل ما ذكرنا من شرح في هذا الكتاب تدخل في هذه الجمل، فهو بين الغلو والتقصير في العمل والإيمان ومراتبه، بين التشبيه والتعطيل في مسائل الصفات والإثبات... إلى آخره.
الغلو ذهب إليه الخوارج، والتقصير ذهب إليه المرجئة وأهل الشهوات، التشبيه ذهب إليه المجسمة، والتعطيل ذهب إليه المعطلة والمؤولة ونفاة الصفات، والجبر ذهب إليه الجبرية الجهمية والأشاعرة وطائفة من الماتريدية، والقدر يعني القدرية الأوائل نفاة العلم , ثم المعتزلة الذين أثبتوا خلق الإنسان بفعله.
والأمن من مكر الله جل وعلا ذهب إليه أهل الشهوات , فعلوا ما يشاؤون وأمنوا مكر الله.
واليأس ذهب إليه طائفة من المتصوفة , فيئسوا من روح الله جل وعلا , وهكذا في أصناف شتى في هذه الأمة.
فإذن هذه الجملة هي في الحقيقة تلخيص لما سبق، وهي عرض لها , كما تذكرون شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث الوسطية، وكل من صنف في الاعتقاد يعرض لها لكن بأساليب مختلفة، وهي التي سماها عدد من طلبة العلم في هذا العصر الوسطية، الوسطية في الاعتقاد، في الصفات، الوسطية في الإيمان، الوسطية في القدر، الوسطية في السلوك، الوسطية في العبادة، الوسطية في الحكم على الناس وعلى الأحوال.
وهكذا ولا شك أن دين الإسلام وسط، كما أثنى الله جل وعلا على أهله بقوله: ] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [ , وقوله: ] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [ يعني: أمة عدلاً خياراً. كما فسرها السلف، لماذا صارت عدلاً؟ لأنها توسطت فيما ذهب إليه الملل من قبل، فعندك اليهود، عندهم التشدد والغلو والأغلال والآصار، والنصارى عندهم التساهل والزيادة والابتداع إلى آخره. فأهل الإسلام وسط في كل أحوالهم، وسط في العقيدة , ووسط في العبادات في جميع أحوالها وأنواعها.
إذا تبين ذلك فنعرض لهذه الجمل سريعاً في مسائل:
المسألة الأولى:
الغلو والتقصير قد يعبر عنه بالغلو والجفاء، والغلو لفظ جاء في الكتاب والسنة كما قال الله جل وعلا: ] يا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [ , وقال جل وعلا في الآية الأخرى: ] يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق [ , وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي في بعض السنن: ((بمثل هؤلاء فارموا لما مسك أو قبض على حصى الخذف , وإياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)).
فنهى عن الغلو عليه الصلاة والسلام. كما أنه يكون في الاعتقاد، كذلك يكون في العبادة، وحقيقة الغلو في تعريفه الشرعي: هو الزيادة عما أذن به شرعاً في السلوك أو في التعبد أو في الاعتقاد. يعني: في التدين , في الدين , إذا زاد في الدين عما أذن به فإنه يكون غالياً , كما أنه إذا زاد في الإنفاق عما.. أو في الفعل عما أُذن به صار مسرفاً.
أما التقصير فهو: ترك ما أمر به العبد بأن يقصر ويجفو ويتبع الشهوات، وهو عكس الغلو، فأولئك يغلون في الاعتقاد , أو يغلون في الإثبات , أو يغلون في السلوك، مثاله الخوارج , غلوا في جانبين بل في عدة جوانب، غلوا في العقيدة، فضلوا كفروا وتركوا نهج الصحابة، وغلوا في العبادة , حتى إن بعض الصحابة يحقر صلاته مع صلاتهم , وصيامه مع صيامهم , كما جاء في الحديث.
وغلوا أيضاً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فقاتلوا جهاداً من لا يستحق القتال شرعاً، بل من يحرم قتاله، حتى آل الأمر بغلوهم أنهم تعبدوا بقتل خيار الله Y مثل الصحابة , فأكرم الصحابة وأعلاهم منزلة وأفضلهم في زمنه علي بن أبي طالب t , ومع ذلك تقربوا إلى الله بقتله، بل أساس قتل عثمان هو من فعل الخوارج t، قتلوا علياً وهم يتمنون الجنة بقتل عثمان , وبقتل علي؛ لشدة غلوهم، وكما وصفهم النبي r: ((يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)) يعني: أهل الشرك.
وأما التقصير فهو حال أهل الشهوات , الذين تركوا العبادة وتركوا طاعة الله جل وعلا , ولم يبلغوا ما أمر الله جل وعلا به، بل هم في تقصير وغشيان للشهوات والمحرمات والكبائر , ولا يرعون ولا يتوبون ولا يتذكرون، هؤلاء يقابلون المتشددين , يقابلهم أهل التساهل والكبائر والذنوب والمعاصي.
الثانية: قوله: "بين التشبيه والتعطيل". التشبيه هو أن يجعل شيئا شبهاً لشيء، فعملية الجعل هذه هي تشبيه، شبه تشبيهاً، والتشبيه قسمان , يعني جعل الشبيه قسمان , جعل الشبيه لله جل وعلا في صفاته كلها، أو في بعض صفاته أو في تمام معنى الصفة، ممكن أن تقول اختصاراً أن يشبه الله جل وعلا بخلقه أو يشبه الخلق بالله جل وعلا في الكيفية , في كيفية الصفات أو في كيفية صفة، أو في تمام معنى بعض الصفة.
النوع الثاني من التشبيه: أن يشبه الله جل وعلا بخلقه , أو أن تشبه صفة الله جل وعلا ليس أن يشبه الله بخلقه، أن يشبه صفة من صفات الله تعالى بصفة خلقه في أصل المعنى , دون تمامه , اتركوا الأولى , لا يدخل هنا أن يشبه الله بخلقه هذا في الأول، أما الثاني أن تشبه صفة الخالق جل وعلا بصفة المخلوق في بعض المعنى , أو في أصل المعنى.
وهذان القسمان هل ينفيان عن الله جل وعلا جميعاً؟ أم ينفى أحدهما دون الآخر؟ اختلف أهل العلم في ذلك، والذي يوافق طريقة أهل السنة والجماعة أن يُنفى الأول وهو المراد بالتمثيل دون نفي الثاني؛ لأن إثبات الصفات إثبات للصفة مع المعنى، والمعنى يشترك المخلوق فيه أصل الصفة، في أصل المعنى دون كماله، كما أنه المخلوق يوصف بالوجود والله جل وعلا يوصف بالوجود، فبينهما اشتراك في أصل المعنى دون تمامه ودون حقيقته لذلك , يوصف المخلوق بالسمع , والله جل وعلا يوصف بالسمع، وللمخلوق سمع يناسبه , ولله جل وعلا سمع كامل متنزه عن النقائص , وما لا يليق بجلاله وعظمته جل وعلا.
فتحصل من هذا أن الأول متفق على منعه وهو التمثيل، والثاني مختلف في إطلاقه بين أهل العلم، والأَوْلَى ألا يستعمل التشبيه إلا في معنى التمثيل؛ حتى لا يظن الظان ممن لا يفهم طريقة أهل السنة والجماعة , أنهم يتساهلون في مسألة التشبيه , فيصدقون أنهم مشبهة أو يؤكدون أنهم شبهة، فهذا وإن استعمله بعض أهل العلم كابن تيمية وغيره، لكن أرادوا منه حقًّا , وهو ألا تنفى الصفات، ولكن من حيث الاستعمال لا تستعمل لا يقال: إنه هناك تشبيه جائز أو أن من التشبيه ما هو حق، فهذا ليس كذلك.
لذلك لفظ التشبيه لم يأت في الكتاب والسنة منفياً، وإنما جاء نفي المثيل ] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[ لكن لا نستعمل لفظ التشبيه , فالله جل وعلا ليس كمثله شيء , لا في ذاته ولا في صفاته، وكذلك ليس له شبيه جل وعلا.
وأهل التشبيه هم أهل الضلال، لهذا قال هنا: "وبين التشبيه والتعطيل"، فالمشبهة وهم الذين جعلوا صفات الله جل وعلا مشبهة بصفات خلقه , إما جميع الصفات كحال أهل التجسيم، أو بعض الصفات، هؤلاء نتبرأ منهم , وليس في طريقة أهل السنة لفظ التشبيه مثبتاً، ما نقول: إنه قد يكون مثلما استعمله بعض المعاصرين ممن لم يتحقق بطريقة أهل السنة والجماعة وأهل الحديث.
القسم الثاني: التعطيل، والتعطيل مأخوذ.. أو معناه الإخلاء , مأخوذ من العطل وهو التخلية، يقال: جيد عاطل، يعني جيد للمرأة عاطل، يعني أنه خال من الحلية، من الحلي، كما قال الشاعر وهو امرؤ القيس:
وجيدٍ كجيد الريم ليس بفاحشٍ إذا هي نصته ولا بمعطل
يعني: بمعطل يعني بخالٍ من الحلية.
فالتعطيل معناه التخلية، فتعطيل الله، أو التعطيل في حق معناه أن يخلى الله جل وعلا من صفاته، فنفاة الصفات معطلة، وكل من نفى صفة أو أكثر فله نصيب من التعطيل بقدر ما نفى؛ لأن التعطيل إخلاء من الصفة، فنفاة الصفات مثل المعتزلة والأشاعرة، أو يعني من نفى كل الصفات أو نفى بعضها فإنه يطلق عليهم معطلة.
وبالمناسبة تجد في كتب أهل العلم تارة يقولون عن هؤلاء: نفاة الصفات , وتارة يقولون: مثبتة الصفات. ففي موضع يجعلونهم مع النفاة , وفي موضع يجعلونهم مع المثبتة بحسب السياق، فإذا نظر إلى نفيهم للصفات يعني المعتزلة والأشاعرة , إذا نفيهم للصفات قيل لهم: نفاة، نفاة للصفات مع الجهمية , يعني هم أصلا نفاة الصفات، وإذا نظر إلى ما أثبتوا , وأن الجهمية تنفي جميع الصفات قيل عنهم: إنهم مثبتة للصفات، يعني الأصل الصفات وليسوا منكرين لأصل الاتصاف.
فالمقصود من ذلك أن التعطيل ينطبق على نفاة الصفات , سواء نفى كل الصفات أو نفى بعض الصفات، إذا كان كذلك فدين الله بين التشبيه والتعطيل , يعني ما بين نفي الصفات , وما بين أن يجعل لله جل وعلا صفات كصفات المخلوق، فنثبت لله جل وعلا الصفات لكن
الـوجـه الـثـانـي
على قاعدة: ] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [، وعلى قاعدة أهل العلم أن إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وأن بين الصفة وبين الصفة , يعني بين صفة الخالق وصفة المخلوق , كما بين الذات والذات.
والله جل وعلا ضرب لنا مثلاً في المخلوقات، المخلوقات ليست متساوية في الصفات، الذباب له قوة تناسبه , والإنسان له قوة تناسبه، ولكن هنا ثم قوة وثم قوة، البعوض له سمع وله بصر يناسبه، والإنسان له سمع وله بصر يناسبه , والفيل له قوة وله سمع وله بصر وله قدرة تناسبه.
فإذن المخلوقون، الأصناف التي خلقها الله جل وعلا جعلها متفاوتة فيما تتصف به، وإذا كان كذلك فإذن ما بين الخالق وما بين المخلوقين من البون والفرق الكبير في الاتصاف , في الصفات , كما بين ذات الرب Y وذوات المخلوقين الوضيعة. والناس يدركون هذا تمام الإدراك فيما يزاولونه وينظرون إليه.
الثالثة: قال: "بين الجبر والقدر"، والجبر والقدر مر معنا تفصيل ذلك، وأن الجبر يعني به الجبرية , وأن الجبرية صنفان: جبرية غالية وجبرية متوسطة، مرت معنا في مبحث القدر.
وكذلك القدرية صنفان: قدرية غلاة وهم الذين نفوا العلم، وقدرية ليسوا بغلاة وهم المعتزلة الذين نفوا مرتبة من مراتب القدر، وهي خلق الله جل وعلا لأفعال العباد، وعموم مشيئته I.
قال: "وبين الأمن والإياس". والأمن كما ذكرت لك الأمن من مكر الله , واليأس هو اليأس من روح الله جل وعلا, والواجب على المؤمن والمسلم أن يعلم أن الإسلام لا يقر الأمن من مكر الله كما لا يقر اليأس من روح الله، فهو بين هذا وهذا، وهو أن يسير خائفاً راجياً، يخاف من الله جل وعلا أن يعاقبه , أو أن يستدرجه , وأنه إذا فعل ذنباً فإنه لا ييأس من روح الله جل وعلا.
وههنا مسألة يذكرها أهل العلم، وهي الأمن والإياس والخوف يعني والرجاء، أيهما يغلب؟ هل يكون خائفاً أو يكون راجياً؟ وهم متفقون على أن الخوف الذي يبلغ المرء إلى اليأس فإنه مذموم، وأن الرجاء الذي يبلغ المرء إلى الأمن من مكر الله فإنه مذموم، فإذا كان كذلك فهم يبحثون بين الخوف والرجاء , ولا يقصدون الخوف الذي يوصل إلى اليأس، ولا الرجاء الذي يوصل إلى الأمن، اختلف أهل العلم في ذلك كما هو معلوم لديكم، في أي الخوف والرجاء يغلب؟
قال طائفة: يغلب جانب الخوف، وقال آخرون: يغلب جانب الرجاء. والصحيح في ذلك هو التفصيل، وهو أن الإنسان لا يخلو في حاله من أحد ثلاثة أحوال: إما حال صحة أو حال مرض، أو حال قرب للوفاة:
فإذا كان في حال الصحة فيغلب جانب الخوف على الرجاء، حتى ينتهي عن الذنوب ولا يضره ولا تغرنه صحته في الإقدام على الذنوب والمعاصي , واقتحام ما لا يرضي الله جل وعلا , وكذلك يرجو حتى يعمل ويستمر في العمل.
الحالة الثانية حال المرض..
والحالة الأولى قال فيها طائفة من أهل العلم: إنه يسوي بين الخوف والرجاء، وهذا ليس بموضعه كما سيأتي.
الحالة الثانية: حال المرض، حال المرض ينبغي للإنسان أن يغلب جانب الرجاء في الله جلا وعلا , ويكون أعظم من خوفه؛ لأنه في حالٍ، الخوف عنده، ولو أمر بتغليب الخوف خشي أن يصل به إلى عدم الرجاء في الله جل وعلا، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)) ويناسب المريض أن يكون راجياً مغلباً عن الخوف؛ حتى يلطف الله جلا وعلا به.
الحالة الأخيرة: هي حالة الوفاة، حال الوفاة الأفضل للمرء فيها أن يسوي بين الجانبين، أن يكون خائفاً راجياً، وقد جاء رجل إلى النبي r فقال له، أظنه كان مريضاً فعاده (هه؟) كان مريضا فعاده في أول الحديث أظنه كان مريضا فعاده، فقال: ((كيف تجدك)) قال: أجدني أخشى ذنوبي وأرجو رحمة ربي , فقال عليه الصلاة والسلام له: ((لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا إلا أنجاه الله من النار)) أو كما جاء في الحديث. حفظي له مشوش.
المقصود أنه استدل به على أنه في هذه الحال , أن يسوي المرء بين الخوف والرجاء.