: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
كتاب الجهاد
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيه العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم ، فقال: ((يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموه فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلالِ السيوفِ)) . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:((اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم))
عن سهل بن سعد رضي الله عنه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((انتدب الله - ولمسلم: تضمن الله - لمن خرج في سبيله , لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ، وإيمان بي ، وتصديق برسلي ، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة ، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة)) . ولمسلم: ((مثل المجاهد في سبيل الله ، والله أعلم بمن جاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم ، وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله إن توفى أن يدخله الجنة ، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)).
الشيخ: بسم الله والحمد لله , والصلاة والسلام على محمد .
هذه الأحاديث تتعلَّق بالجهادِ. وقد عرفنا أن الجهاد مشتق من الجهد ، الذي هو بذل الوسع ، وأقصى ما في الإمكان ، وأن المرادَ به قتال الكفار ، وأن قتالهم يكون لأجل كفرهم ، ولأجل عنادهم ، وذكرنا مراتب القتال ، ومراتب فرضيته ، إلى أن أنزل الله الآية التي تسمَّى آية السيف في سورة التوبة: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ونحوها من الآيات .
والنبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمتِهِ الجهاد والقتال ، وعمم فكان يقاتل كل من بلغته الدعوة , ولكنه لا يقاتلهم إلا بعد أن يدعوهم ، وكان يأمر مَن بعثه للقتال أن يبدأ بالدعوةِ, ففي حديث بريدة قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لكل أمير: ((إذا لقيت عدوكَ من المشركينَ فادعهم إلى ثلاث خصال: ادعهم إلى الإسلامِ, فإن أبوا فاسألهم الجزية ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلْهم)) . هذه هي الثلاث: إما أن تسلموا وإما أن تبذلوا الجزية ، وإما أن تستعدوا للقتال ، لا يبدأ بالقتال أولا ، إلا إذا عرف أن الدعوة قد بلغتهم ، وأنهم أصروا وعاندوا ، فحينئذ يقاتلهم .
ثم إن بعض المعاصرينَ ظنوا أو رجحوا أن القتال لا يكون إلا دفاعا , وأن المسلمين لا يقاتلون الكفارَ إلا لدفع شرهم ، وهذا ظن خاطىء , بل الكفار يقاتلون لكفرهم ، فماداموا كفارا فإنا نقاتلهم إلى أن يبذلوا الجزية ، أو يسلموا ؛ لقول الله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} , {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} , {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} , والآيات كثيرة ، فيها أن الله أمر بقتالِ المشركين عموما لشركهم ولكفرِهِمْ ، وسمى كفرهم فتنة وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} .
هذه هو شرعيَّة القتال ، لم يكن قتال الكفار لأجل الولايةِ ، ولا لأجل السيطرة ، ولا لأجل الانتقامِ منهم ، ولا لأجل التولي على أموالهِم ، ولا على نسائهم وأولادهم استعبادا واسترقاقا ، ولكن قتالهم لأجلِ أن يدخلوا في الإسلامِ ، قتالهم لأجلِ أن يذل الكفر وأهله ، وأن ينتصر الإسلام وأهله ، هذا هو السبب في قتالهم ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل اللهِ)) , فهكذا كان المسلمون من عهدِ الصحابةِرضي الله عنهم مع نبيهم, يقاتلونَ لأجل إعلاء كلمة الله ، ولأجل إذلال الكفر وكلمة الكفر ، أن تكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى . فإذا وجد هذا القتال فإنه قتال في سبيل الله ، أمَّا القتالُ لأجلِ الولاية ولأجل السلطة ولأجل السيطرة ...
الوجـه الثانـي
... فإنه قتال في سبيل الله ، أما القتال لأجل الولاية ولأجل السلطة ولأجل السيطرة ، ولأجل التغلب على مَن اعتدى عليه ، فإن مثل هؤلاءِ لا يبالون بمن قاتلوا ، يقاتلون المسلمين ، ويقاتلون الكفارَ ، ويقاتلونَ النصارى ، وليس لهم رغبة في نصر الإسلامِ ، وإنما رغبتهم أن يكونَ لهم سلطة ، وأن يكون لهم ولاية ، وأن تعمَّ ولايتهم وتكبر دولتهم ، وهذا ليس قتالا في سبيل الله ، ولا يشجع أهله ، بل يقال لهم: أخلصوا نيتكم ، وقاتلوا من كفر باللهِ ، لا تقاتلون من آمن بالله ، إنما تقاتلون الكفار لأجل كفرهم أيا كان نوع الكفر .
ثم الحديث الأوَّل عندنا حديث عبد الله بن أبي أوفى , فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أيَّامِهِ التي لقي فيها العدو انتظر حتى زالتْ الشمس , هذه الفقرة الأولى فيها أنه صلى الله عليه وسلَّم كان يحب أن يكون القتال في آخر النهارِ ، وذلك إذا هبَّت الرياح ، وخفَّت الحرارة ، ونزل النصر , هكذا كان يحب أن يكون ابتداءُ القتالِ بعد زوالِ الشمسِ .
في هذا الحديث أنه أخر بدء القتال حتى زالتْ الشمسُ ، وقبل أن تزول أو قرب زوالها خطب أصحابَه بهذه الخطبة ، وذكر فيها هذه الجمل ، أولها قوله: ((لا تتمنوا لقاء العدو)) ؛ وذلك لأنَّكمْ لا تثقونَ منْ أنفسكم بالقوة ، ولا بالصلابَةِ ، فقد تتمنون لقاء العدو فتفشلون ، وتذهب ريحكم ، وتتنازعون ، ويحصل بينكم خللٌ ، فينتقم أو ينتصر العدو عليكم ، فلا تتمنوا لقاء العدوِ؛ وذلك لأنه فتنة وضرر ، هذه هي الجملةُ الأولى .
أما الجملةُ الثانية فهي قوله: ((وإذا لقيتموهم فاصبروا)). وصية بالصبر . وقد أوصى الله تعالى به , قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاصبروا} فئة: يعني طائفة من المشركين ، فاثبتوا واصبروا ، ثُمَّ الصبر: الاستعداد والتأهب وأخذ الحذرِ ولقاء ومقابلة العدو بقوة وبشجاعةٍ ، الاستعدادُ للقتال بكل ما أوتي الإنسان من قوة , فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكرو الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} كل هذا توجيه من الله لمقابلةِ العدو , كيف يكون ؟أولا الثبات وهو الصبر {فاثبتوا} {واصبروا} مثل قوله: {اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله} , كذلك في هذا الحديث: ((إذا لقيتموهم فاصبروا)) .
أما الجملة الثالثة قوله: ((واعلموا أن الجنة تحت ظلالِ السيوفِ)) . قال ذلك ؛ ترغيبا لهم في الصبرِ تحتَ أشعة السيوف ، وكان القتال في ذلك الزمان غالبا بالسيفِ ، إذا تقابلوا فإنهم يسلون سيوفهم ، ثم يتقابلون مع عدوهم ، قال الله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهمْ فشدوا الوثاق} , ضرب الرقاب يعني بالسيف , بالسيوف ، فهكذا كانوا يسلون السيوف ،ويكون لها شعاع ، ويكون لها أيضًا ظلال ، والذين يقاتلوا هذا في ظل سيف هذا , وهذا في ظل سيف هذا ، فكأنه يقول: ما دمتم في حومة الوغى ، وما دمتم في هذه المعركة ، وما دمتم مقابلين لهؤلاء العدو ، فإنكم تمثلون أنفسكم أنكم قد تبوأتم ما أنزل من الجنة ، فالجنة تحت أقدامكم ، أنتم في ظلها ، الجنة تحت ظلال السيوف ؛ ترغيب لهم في الصبر والثبات على القتال .
أما دعاؤه في هذا الحديث فإنه دعاءٌ بالنصر ، ودعاء بالثباتِ ، توسل إلى الله تعالى بهذه الصفات ، ثم سأَلَه ما قصده , توسل بقوله: ((اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهمْ)) . وكان إذا دعا بهذا الدعاء رُجي قبوله ، ورؤي أثره ، فيسن أيضا لمن تقابل مع القتال ووقف بالجبهات أن يبدأَ بهذا الدعاء: ((اللهم منزل الكتاب))يعني الكتب , أي جنس الكتب وأشرفها , أو آخر ما نزل هو هذا الكتاب المنزل على محمد صلَّى الله عليه وسلم القرآن الكريم . ((مجري السحاب)) يعني مسير هذا السحاب ، فإنه آية من آيات الله , هو الذي يرسل هذا السحاب ، هو الذي ينشؤه ، وهو الذي يجريه ويسيره كما يشاء، وهو من آياته العجيبة في خلقه . ((مجري السحاب ، هازم الأحزاب)) الأحزاب هم المتحزبون ضدَّ الإسلام ، الذين يتحزبون ويجتمعون ليقاتلوا المسلمين ، فالله تعالى هو الذي يهزمهم كما هزم الأحزاب ، أو زلزلهم في قصة .. وقعة الأحزاب في قوله تعالى: {فأرسلنا عليه ريحا وجنودا لم تروها} .
والحاصل أنَّ هذا فيه الأمر بالصبر ، وفيه الأمر بالدعاءِ أو شرعية وسنة الدعاء في مقابلة العدو ، فإذا دعا المسلم بمثل هذا وهو صادق رجي بذلك أن يستجيب الله دعوته ، وأن يهزم العدو ، وأن يمكن المسلمون من رقابهم ، وأن يسير المسلمون في آثارهم حتى يتمكنوا من الاستيلاء عليهم .