495- وعن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهَ قالَ: قالَ رسول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: ((تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاِهِهْم)). رواه أحمدُ.
ولأبي داودَ: ((وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ)).
درجةُ الحديثِ:
الحديثُ حسَنٌ.
رواه أحمدُ وأبو داودَ مِن حديثِ عمرَ بنِ شُعيبٍ عن أبيهِ عن جَدِّه، وقد تُكُلِّمَ فيه.
فقالَ الآجُرِّيُّ: قلْتُ لأبي داودَ: عمرٌو عندَك حُجَّةٌ، قالَ: لا، ولا نِصْفَ حُجَّةٍ.
وقالَ أبو زُرعةَ: إنما تُكُلِّمَ فيه بسببِ كتابٍ عندَه، وما أقَلَّ ما نُصِيبُ عنه مما روى عن غيرِ أبيهِ عن جَدِّه مِن الْمُنْكَرِ.
وقالَ الإمامُ أحمدُ: أصحابُ الحديثِ إذا شاؤُوا احْتَجُّوا بحديثِ عمرِو بنِ شُعيبٍ عن أبيهِ عن جَدِّه، وإذا شاؤُوا تَرَكُوهُ.
وقالَ البُخاريُّ: رأيتُ أحمدَ بنَ حَنْبَلٍ، وعليَّ بنَ الْمَدِينِيَّ، وإسحاقَ بنَ رَاهويهِ، وأبا عُبيدٍ، وعامَّةَ أصحابِنا يَحْتَجُّونَ بحديثِ عمْرِو بنِ شُعيبٍ عن أبيهِ عن جَدِّه.
وللحديثِ شاهِدٌ مِن حديثِ عائشةَ رَواهُ ابنُ الجارودِ والطبرانيُّ
مفرداتُ الحديثِ:
-مِيَاهُهُم: الْمِياهُ جمْعُ: ماءٍ، والمرادُ به: موارِدُهم التي يَنْزِلُون عليها، ويَقْطُنُونَ فيها بالصيْفِ، حينما تَحتاجُ الْمَوَاشِي إلى شُرْبِ الماءِ.
- دُورُهم: منازلُهم التي يَسكنونَ فيها؛ لئلاَّ يَتَكَلَّفونَ نَقْلَ زَكاتِهم إلى مَقَرِّ الإمامِ.
ما يُؤْخَذُ مِن الحديثِ:
1- فيه أنَّ الزكاةَ لا تَجِبُ في المالِ، إلاَّ في السنةِ مَرَّةً واحدةً، ووجوبُها على تمامِ حَوْلِه عندَ مالِكِه.
2- الباديةُ أيَّامَ الشتاءِ وأيامَ الربيعِ مُنتشِرَةٌ في الْبَرِّ والخلاءِ، يَتْبَعُونَ مَواقِعَ المطَرِ ومكانَ الْحَيَا والخصْبِ؛ لرَعْيِ مَوَاشِيهِم، فإذا جاءَ فَصْلُ الصيْفِ نَزَلوا على الموارِدِ والمياهِ، واجتَمَعُوا فيَسْهُلُ أخْذُ الزكاةِ منهم، فمِن بابِ الرفْقِ بعُمَّالِ الزكاةِ، ومِن بابِ التقَصِّي في تحصيلِ الزكاةِ مِن كلِّ مسلِمٍ- أمَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أنْ تُؤْخَذَ منهم الزكاةُ على مِياهِهم ومَوَارِدِهم.
3- فيه أنَّ وَلِيَّ أمْرِ المسلمينَ هو الذي يَبْعَثُ السُّعاةَ والْجُباةَ لقَبْضِ الزكاةِ، وأنه لا يُكَلِّفُ صاحبَ المالِ أنْ يَأْتِيَ بصَدَقَتِه إلى بيتِ المالِ.
4- فيه إحياءُ هذه الشَّعِيرَةِ العظيمةِ التي هي أحَدُ أركانِ الإسلامِ، ببَعْثِ العمَّالِ إليها وجِبَايَتِها، ثم تَفْرِيقِها على أصحابِها مِن أهْلِ الزكاةِ.
5- فيه دليلٌ على جَوازِ نَقْلِ الزكاةِ مِن بَلَدِها الذي فيه الْمَالُ إلى بَلَدٍ آخَرَ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أمَرَ بقَبْضِها، ولم يَأْمُرْ بتوزيعِها على فُقراءِ المكانِ الذي فيه الأموالُ الْمُزَكَّاةُ.
6- فيه وجوبُ مُراعاةِ الرِّفْقِ بالرَّعِيَّةِ، وعَدَمُ تكليفِهم ما يَشُقُّ عليهم مِن الأمورِ، حتى فيما هو واجبٌ عليهم أداؤُه.
خِلاَفُ العُلماءِ:
اخْتَلَفَ العلماءُ في جوازِ نَقْلِ الزكاةِ مِن البلَدِ الذي فيه المالُ إلى بَلَدٍ آخَرَ.
فذَهَبَ الشافعيَّةُ والحنابِلَةُ إلى: مَنْعِ نَقْلِها إلى ما تُقْصَرُ فيه الصلاةُ، وهو عندَهم مَرحلتانِ تُقَدَّرَانِ بنَحْوِ (48 ميلاً).
ودليلُهم: حديثُ معاذٍ حين بَعَثَه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ((فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ: فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ)) فالفقراءُ هنا أهْلُ البلَدِ الذي فيه المالُ، وفيه الأغنياءُ.
وذَهَبَ المالكيَّةُ إلى: مسافةِ القصْرِ فأكثَرَ, إلاَّ لِمَن هو أَحْوَجُ إليها في غيرِ بَلَدِ المالِ.
وتَتَّفِقُ الْمَذاهِبُ الثلاثةُ على جَوازِه فيما دونَ مَسافةِ القَصْرِ؛ لأنَّ ما كان كذلك فهو في حُكْمِ الحاضِرِ.
وذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إلى كَراهةِ النقْلِ فقط، ما لم يَكُنْ في نَقْلِها مَصلحةٌ كأقاربَ.
وهذا القولُ هو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ، فإنه يُجِيزُ نَقْلَها لِمَصْلَحَةٍ شرعيَّةٍ.
ودليلُ الْمُجيزينَ: أنَّ ذِكْرَ الفقراءِ في حديثِ معاذٍ ليس خاصًّا بأَهْلِ تلك البَلَدِ، وإنما هو عامٌّ لعُمومِ الفُقراءِ.
والدليلُ الثاني: أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- كانَ يَبعَثُ الْجُباةُ، فيَأتونَ بالصَّدَقَاتِ مِن الأطرافِ البعيدةِ إلى المدينةِ؛ حيث تُوَزَّعُ على فُقَرَائِها.
وجُمهورُ العلماءِ- حتى الذينَ لا يُجيزونَ نَقْلَها- يقولون: لو نَقَلَها أَجْزَأَتْ عنه، وأَدَّتْ الواجبَ.
حَكَى ذلك الإمامُ الْمُوَفَّقُ في كتابِه (الْمُغنِي)، واللهُ أَعْلَمُ.