وسَمِّ مُعْتَلاًّ مِنَ الأسماءِ مَا = كالْمُصْطَفَى والمُرْتَقِي مَكَارِمَا(1)
فالأوَّلُ الإعرابُ فيه قُدِّرَا = جَمِيعُهُ وَهْوَ الَّذِي قدْ قُصِرَا (2)
والثَّانِ مَنْقُوصٌ ونَصْبُهُ ظَهَرْ = ورَفْعُهُ يُنْوَى كذا أَيْضاً يُجَرْ (3)
شَرَعَ في ذِكْرِ إعرابِ المُعْتَلِّ مِن الأسماءِ والأفعالِ، فذكَرَ أنَّ ما كانَ مِثلَ (المُصْطَفَى والمُرْتَقِي) يُسَمَّى مُعْتَلاًّ، وأشارَ (بالمُصْطَفَى) إلى ما في آخِرِه ألفٌ لازمةٌ قبلَها فتحةٌ، مِثلُ (عَصًا ورَحًى) وأشارَ (بالمُرْتَقِي) إلى ما في آخِرِه ياءٌ، مكسورٌ ما قبلَها، نحوُ: (القاضِي والدَّاعِي).
ثم أشارَ إلى أنَّ ما في آخِرِه ألفٌ مفتوحٌ ما قبلَها؛ يُقَدَّرُ فيه جميعُ حركاتِ الإعرابِ: الرفعُ والنصبُ والجرُّ، وأنه يُسمَّى المقصورَ، فالمقصورُ هو الاسمُ المعرَبُ الذي في آخِرِه ألفٌ لازمةٌ، فاحْتَرَزَ بـ(الاسمِ) من الفعلِ، نحوِ: يَرْضَى وبـ(المُعْرَبِ) من المبنيِّ، نحوِ: إذَا، وبـ(الألفِ) من المنقوصِ، نحوِ: القاضِي، كما سيأتي، وبـ(لازمةٌ) مِن المُثنَّى في حالةِ الرفعِ، نحوُ: الزيدانِ؛ فإنَّ ألِفَه لا تَلْزَمُه؛ إذ تُقْلَبُ ياءً في الجرِّ والنصبِ، نحوِ: رأيتُ الزيديْنِ.
وأشارَ بقولِه: (والثانِ منقوصٌ) إلى المُرْتَقِي، فالمنقوصُ هو الاسمُ المعرَبُ الذي آخرُه ياءٌ لازمةٌ قبلَها كسرةٌ، نحوُ: المُرْتَقِي، فاحْتَرَزَ بـ(الاسمِ) عن الفعلِ، نحوِ: يَرْمِي، وبـ(المُعْرَبِ) عن المبنيِّ، نحوِ: الذي، وبقولِنا: (قبلَها كسرةٌ) عن التي قَبْلَها سكونٌ، نحوِ: ظَبْيٍ ورَمْيٍ، فهذا معتلٌّ جارٍ مَجْرَى الصحيحِ في رَفْعِه بالضمَّةِ ونصبِه بالفتحةِ وجَرِّه بالكسرةِ.
وحكمُ هذا المنقوصِ أنه يَظْهَرُ فيه النصبُ (4) نحوُ: (رأيتُ القاضِيَ)، وقالَ اللهُ تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}، ويُقَدَّرُ فيه الرفعُ والجرُّ؛ لِثِقَلِهِمَا على الياءِ(5) نحوُ: (جاءَ القاضِي، ومَرَرْتُ بالقاضِي) فعلامةُ الرفعِ ضمَّةٌ مقدَّرَةٌ على الياءِ، وعلامةُ الجرِّ كسرةٌ مقدَّرَةٌ على الياءِ.
وعُلِمَ ممَّا ذُكِرَ أنَّ الاسمَ لا يكونُ في آخِرِه واوٌ قبلَها ضمَّةٌ، نعمْ إنْ كانَ مبنيًّا وُجِدَ ذلك فيه، نحوُ: هو، ولم يُوجَدْ ذلك في المُعرَبِ إلاَّ في الأسماءِ الستَّةِ في حالةِ الرفعِ، نحوُ: (جاءَ أَبُوه)، وأجازَ ذلك الكُوفِيُّونَ في موضعيْنِ آخريْنِ:
أحدُهما: ما سُمِّيَ به مِن الفعلِ، نحوُ: يَدْعُو ويَغْزُو.
والثاني: ما كانَ أعجميًّا، نحوَ: سَمَنْدُو وقَمَنْدُو.
([1]) (وَسَمِّ) الواوُ للاستئنافِ، سَمِّ: فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه أنتَ، (مُعْتَلاًّ) مفعولٌ ثانٍ لسَمِّ مقدَّمٌ على المفعولِ الأوَّلِ، (مِن الأسماءِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ مِن ما، (ما) اسمٌ موصولٌ مفعولٌ أَوَّلُ لسَمِّ، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبٍ، (كالمُصْطَفَى) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صلةُ الموصولِ، (والمُرْتَقِي) معطوفٌ على المصطفَى، (مَكَارِمَا) مفعولٌ به للمُرْتَقِي، والمعنى: سمِّ ما كانَ آخرُه ألفاً كالمُصْطَفَى، أو ما كانَ آخرُه ياءً كالمُرْتَقِي ، حالَ كونِه من الأسماءِ، لا مِن الأفعالِ ـ مُعْتَلاًّ.
([2]) (فالأَوَّلُ) مبتدأٌ أوَّلُ، (الإعرابُ) مبتدأٌ ثانٍ، (فِيهِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ (قُدِّرَ) الآتي، (قُدِّرَا) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على الإعرابُ، والألفُ للإطلاقِ، (جَمِيعُهُ) جميعُ: توكيدٌ لنائبِ الفاعلِ المُسْتَتِرِ، وجميعُ مضافٌ والهاءُ مضافٌ إليه، والجملةُ من الفعلِ ونائبِ الفاعلِ خبرُ المبتدأِ الثانِي، وجملةُ المبتدأِ الثانِي وخبرُه في مَحَلِّ رفعِ خَبَرِ المبتدأِ الأوَّلِ، ويَجُوزُ أنْ يكونَ (جَمِيعُه) هو نائبَ الفاعلِ لقُدِّرَ، وعلى ذلكَ لا يكونُ في قُدِّرَ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ، كما يَجُوزُ أنْ يكونَ (جَمِيعُه) توكيداً للإعرابُ ويكونُ في قُدِّرَ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ عائدٌ إلى الإعرابُ أيضاًً، (هو الذي) مبتدأٌ وخبرٌ، (قدْ) حرفُ تحقيقٍ، (قُصِرَا) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على الذي، والألفُ للإطلاقِ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ صِلَةُ الذي، والمعنى: فالأوَّلُ - وهو ما آخِرُه ألفٌ مِن الأسماءِ كالمُصْطَفَى - الإعرابُ جميعُه - أي: الرفعُ والنصبُ والجرُّ - قُدِّرَ على آخرِه الذي هو الألفُ، وهذا النوعُ هو الذي قد قُصِرا؛ أي: سُمِّيَ مَقْصُوراً، من القصرِ بمعنى الحَبْسِ، وإنما سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه قد حُبِسَ ومُنِعَ مِن جِنْسِ الحركةِ.
([3]) (والثان منقوصٌ) مبتدأٌ وخبرٌ، (ونَصْبُهُ) الواوُ عاطفةٌ، نَصْبُ: مبتدأٌ، ونصبُ مضافٌ والهاءُ ضميرُ الغائبِ العائدُ على الثاني مضافٌ إليه، (ظَهَرْ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يَعودُ على نَصْبُ، والجملةُ في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ الذي هو نَصْبُ، (وَرَفْعُهُ) الواوُ عاطفةٌ، ورَفْعُ: مبتدأٌ، ورَفْعُ مضافٌ والهاءُ ضميرُ الغائبِ مضافٌ إليهِ، (يُنْوَى) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على رَفْعُ، والجملةُ في محَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ الذي هو رَفْعُ، (كذا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ (يُجَرْ)، (أيضاًً) مفعولٌ مطلَقٌ لفعلٍ محذوفٍ، (يُجَرْ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى المنقوصِ.
([4]) من العربِ مَن يُعامِلُ المنقوصَ في حالةِ النصبِ معاملَتَه إيَّاه في حالتَيِ الرفعِ والجرِّ، فيُقَدِّرُ فيه الفتحةَ على الياءِ أيضاًً؛ إجراءً للنصبِ مُجْرَى الرفعِ والجرِّ، وقد جاءَ مِن ذلكَ قولُ مَجْنُونِ لَيْلَى:
ولوْ أَنَّ وَاشٍ باليَمَامَةِ دَارُهُ = ودَارِي بأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا
وقولُ بِشْرِ بنِ أبي خَازمٍ، وهو عربيٌّ جاهليٌّ:
كفَى بالنَّأْيِ مِن أسماءَ كَافِي = وليسَ لِنَأْيِهَا إذْ طَالَ شَافِي
فأنتَ تَرَى المجنونَ قالَ: (أنَّ وَاشٍ) فسَكَّنَ الياءَ ثمَّ حَذَفَها معَ أنه منصوبٌ؛ لكونِه اسمَ أنَّ، وترَى بِشْراً قالَ: (كَافِي) معَ أنه حالٌ مِن النَّأْيِ أو مفعولٌ مُطْلَقٌ.
وقدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في ذلك؛ فقالَ المُبَرِّدُ: هو ضرورةٌ، ولكنَّها من أحسنِ ضَرُورَاتِ الشعرِ. والأصحُّ جوازُه في سَعَةِ الكلامِ؛ فقد قُرِئَ (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ) بسكونِ الياءِ.
([5]) مِن العربِ مَن يُعامِلُ المنقوصَ في حالتَيِ الرفعِ والجرِّ كما يُعامِلُه في حالةِ النصبِ، فيُظْهِرُ الضمَّةَ والكسرةَ على الياءِ كما يُظْهِرُ الفتحةَ عليها، وقد وَرَدَ مِن ذلكَ قَوْلُ جَرِيرِ بنِ عَطِيَّةَ:
فيَوْماً يُوَافِينَ الهَوَى غَيْرَ ماضِيٍ = ويوماً تَرَى مِنْهُنَّ غُولاً تَغَوَّلُ
وقولُ الآخَرِ:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ جَائِيٌ = ولكِنَّ أَقْصَى مُدَّةِ الدَّهْرِ عاجِلُ
وقولُ الشَّمَّاخِ بنِ ضِرَارٍ الغَطَفَانِيِّ:
كأنَّهَا وقدْ بَدَا عوَارِضُ = وفاضَ مِن أَيْدِيِهِنَّ فَائِضُ
وقولُ جَرِيرٍ أيضاًً:
وعِرْقُ الفَرَزْدَقِ شَرُّ العُرُوقِ = خَبِيثُ الثَّرَى كَابِيُ الأَزْنُدِ
ولا خِلافَ بينَ أَحَدٍ مِن النُّحَاةِ في أنَّ هذا ضرورةٌ لا تَجُوزُ في حالةِ السَّعَةِ، والفرقُ بينَ هذا والذي قبلَه أنَّ فيما مَضَى حَمْلَ حالةٍ واحدةٍ على حالتيْنِ، ففيه حملُ النصبِ على حالتَيِ الرفعِ والجرِّ، فأَعْطَيْنَا الأقلَّ ـ وهو النصبُ ـ حكمَ الأكثرِ؛ ولهذا جَوَّزَهُ بعضُ العلماءِ في سَعَةِ الكلامِ.
ووَرَدَ في قِرَاءَةِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ)، أما هذا ففيه حَمْلُ حالتيْنِ ـ وهما حالةُ الرفعِ وحالةُ الجرِّ ـ على حالةٍ واحدةٍ، وهي حالةُ النصبِ، وليسَ مِن شأنِ الأكثرِ أنْ يُحْمَلَ على الأقلِّ؛ ومِن أجلِ هذا اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ النُّحَاةِ على أنه ضرورةٌ يُغْتَفَرُ مِنها ما وقَعَ فِعلاً في الشعرِ، ولا يَنْقَاسُ عليها.