أيٌّ كَمَا وأُعْرِبَتْ مَا لَمْ تُضَفْ = وصَدْرُ وَصْلِهَا ضَمِيرٌ انْحَذَفْ([1])
وبَعْضُهُمْ أَعْرَبَ مُطْلَقاً وَفِي = ذا الحَذْفِ أَيًّا غَيْرُ أَيٍّ يَقْتَفِي ([3])
إِنْ يُسْتَطَلْ وَصْلٌ وإِنْ لَمْ يُسْتَطَلْ = فالحذفُ نَزْرٌ وأَبَوْا أَنْ يُخْتَزَلْ ([4])
إنْ صَلَحَ الباقي لِوَصْلٍ مُكْمِلِ = والحذفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي ([5])
في عائدٍ متَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ = بفِعْلٍ او وَصْفٍ كمَن نَرْجُو يَهَبْ([6])
وكذا بَقِيَّةُ الأمثلةِ المذكورةِ، ولا فرقَ في ذلك بينَ (أيٍّ) وغيرِها، فلا تقولُ في (يُعْجِبُنِي أيُّهم هو يقومُ): (يُعْجِبُنِي أيُّهم يَقُومُ)؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ الحذفُ ولا يُخْتَصُّ هذا الحكمُ بالضميرِ إذا كانَ مبتدأً، بل الضابطُ أنه متَى احْتَمَلَ الكلامُ الحذفَ وعَدَمَه لم يَجُزْ حذفُ العائدِ، وذلك كما إذا كانَ في الصلةِ ضميرٌ غيرُ ذلكَ الضميرِ المحذوفِ صالحٌ لعودِه على الموصولِ، نحوُ: (جاءَ الذي ضَرَبْتُ في دارِه)، فلا يَجُوزُ حذفُ الهاءِ مِن ضَرَبْتُهُ فلا تقولُ: (جاءَ الذي ضَرَبْتُهُ في دارِه)؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ المحذوفُ.
وبهذا يَظْهَرُ لكَ ما في كلامِ المصنِّفِ من الإبهامِ؛ فإنَّه لم يُبَيِّنْ أنه متَى صَلَحَ ما بعدَ الضميرِ لأنْ يكونَ صلةً لا يُحْذَفْ، سواءٌ أكانَ الضميرُ مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، وسواءٌ أكانَ الموصولُ أيًّا أمْ غيرَها، بل رُبَّما يُشْعِرُ ظاهرُ كلامِه بأنَّ الحكمَ مخصوصٌ بالضميرِ المرفوعِ وبغيرِ أيٍّ مِن الموصولاتِ؛ لأنَّ كلامَه في ذلكَ، والأمرُ ليسَ كذلكَ، بل لا يُحْذَفُ معَ (أيٍّ) ولا معَ غيرِها متى صَلَحَ ما بعدَها لأنْ يكونَ صلةً؛ كما تَقَدَّمَ، نحوُ: (جاءَ الذي هو أبوه منطلِقٌ، ويُعْجِبُنِي أَيُّهُم هو أبوه منطلِقٌ)، وكذلك المنصوبُ والمجرورُ، نحوُ: (جاءني الذي ضَرَبْتُهُ في دارِهِ، ومَرَرْتُ بالذي مَرَرْتُ به في دارِه)، و: (يُعْجِبُنِي أيُّهُم ضَرَبْتُهُ في دارِه، ومَرَرْتُ بأيِّهِم مَرَرْتُ به في دارِهِ).
وأشارَ بقولِهِ: (والحذفُ عِنْدَهم كثيرٌ مُنْجَلِي... إلى آخرِه) إلى العائدِ المنصوبِ.
وشرطُ جوازِ حذفِه أنْ يكونَ متَّصلاً منصوباً بفعلٍ تامٍّ أو بوصفٍ، نحوُ: (جاءَ الذي ضَرَبْتُه، والذي أنا مُعْطِيكَه دِرْهَمٌ).
فيَجُوزُ حذفُ الهاءِ مِن (ضَرَبْتُهُ)، فتقولُ: (جاءَ الذي ضَرَبْتُ)، ومِنه قولُه تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}، وقولُه تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}، التقديرُ: (خَلَقْتُهُ وبَعَثْتُهُ) ([9]).
وكذلك يَجُوزُ حذفُ الهاءِ مِن (مُعْطِيكَهُ) فتقولُ: (الذي أنا مُعْطِيكَ دِرْهَمٌ)، ومِنه قولُه:
34- ما اللهُ مُولِيكَ فَضْلٌ فَاحْمَدَنْهُ بِهِ = فَمَا لَدَى غَيْرِهِ نَفْعٌ وَلاَ ضَرَرُ ([10])
تقديرُه: الذي اللهُ مُولِيكَهُ فَضْلٌ. فحُذِفَتِ الهاءُ.
وكلامُ المصنِّفِ يَقْتَضِي أنه كثيرٌ، وليسَ كذلكَ، بل الكثيرُ حَذْفُه مِن الفعلِ المذكورِ، وأمَّا معَ الوصفِ فالحذفُ مِنه قليلٌ.
فإنْ كانَ الضميرُ مُنْفَصِلاً ([11]) لم يَجُزِ الحذفُ، نحوُ: (جاءَ الذي إيَّاهُ ضَرَبْتُ)، فلا يَجُوزُ حذفُ (إيَّاه)، وكذلكَ يَمْتَنِعُ الحذفُ إنْ كانَ متصلاًَ منصوباً بغيرِ فعلٍ أو وصفٍ، وهو الحرفُ، نحوُ: (جاءَ الذي إنه منطلِقٌ)، فلا يَجُوزُ حذفُ الهاءِ ([12])، وكذلكَ يَمْتَنِعُ الحذفُ إذا كانَ منصوباً متصلاً بفعلٍ ناقصٍ، نحوُ: (جاءَ الذي كانَه زيدٌ).
كذاكَ حَذْفُ ما بوَصْفٍ خُفِضَا = كأنتَ قاضٍ بعدَ أمرٍ مِن قَضَى ([13])
كذا الذي جُرَّ بما الموصولَ جَرْ = كـ(مُرَّ بالذي مَرَرْتُ فَهْوَ بَرْ) ([14])
لَمَّا فَرَغَ مِن الكلامِ على الضميرِ المرفوعِ والمنصوبِ شَرَعَ في الكلامِ على المجرورِ، وهو إما أنْ يكونَ مجروراً بالإضافةِ أو بالحرفِ.
فإن كانَ مجروراً بالإضافةِ لم يُحْذَفْ إلاَّ إذا كانَ مجروراً بإضافةِ اسمِ فاعلٍ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ، نحوُ: (جاءَ الذي أنا ضارِبُه الآنَ أو غداً) فتقولُ: (جاءَ الذي أنا ضاربٌ) بحذفِ الهاءِ.
وإنْ كانَ مجروراً بغيرِ ذلكَ لم يُحْذَفْ، نحوُ: (جاءَ الذي أنا غلامُه، أو أنا مضروبُه، أو أنا ضاربُه أمسِ)، وأشارَ بقولِه: (كأَنْتَ قَاضٍ) إلى قولِهِ تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}، التقديرُ: (ما أنتَ قَاضِيه)، فحُذِفَتِ الهاءُ، وكأنَّ المصنِّفَ اسْتَغْنَى بالمثالِ عن أنْ يُقَيِّدَ الوصفَ بكونِه اسمَ فاعلٍ بمعنَى الحالِ أو الاستقبالِ.
وإنْ كانَ مجروراً بحرفٍ فلا يُحْذَفُ إلاَّ إنْ دَخَلَ على الموصولِ حرفٌ مثلُه لفظاً ومعنًى واتَّفَقَ العاملُ فيهما مادَّةً، نحوُ: (مَرَرْتُ بالذي مَرَرْتَ به، أو أنتَ مارٌّ به)، فيَجُوزُ حذفُ الهاءِ فتقولُ: (مَرَرْتُ بالذي مَرَرْتَ) قالَ اللهُ تعالى: {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}؛ أي: منه، وتقولُ: (مَرَرْتُ بالذي أنتَ مارٌّ)؛ أي: به، ومِنه قولُه:
35- وقدْ كُنْتَ تُخْفِي حُبَّ سَمْرَاءَ حِقْبَةً = فَبُحْ لاَنَ مِنْهَا بالَّذِي أنتَ بائحُ ([15])
أي: أنتَ بائحٌ به.
فإنِ اخْتَلَفَ الحرفانِ لم يَجُزِ الحذفُ، نحوُ: (مَرَرْتُ بالذي غَضِبْتَ عليه) فلا يَجُوزُ حذفُ (عليه)، وكذلك (مَرَرْتُ بالذي مَرَرْتَ به على زيدٍ)، فلا يَجُوز حذفُ (به) مِنه؛ لاختلافِ معنَى الحرفيْنِ؛ لأنَّ الباءَ الداخلةَ على الموصولِ للإلصاقِ والداخلةَ على الضميرِ للسببيَّةِ، وإنِ اخْتَلَفَ العاملانِ لم يَجُزِ الحذفُ أيضاً، نحوُ: (مَرَرْتُ بالذي فَرِحْتَ به)، فلا يَجُوزُ حذفُ (به).
وهذا كلُّه هو المشارُ إليه بقولِهِ: (كَذا الذي جُرَّ بما الموصولَ جَرَّ)؛ أي: كذلك يُحْذَفُ الضميرُ الذي جُرَّ بمثلِ ما جُرَّ الموصولُ به ([16]) نحوُ: (مَرَرْتُ بالذي مَرَرْتَ فَهْوَ بَرْ)؛ أي: الذي مَرَرْتَ به.
فاسْتَغْنَى بالمثالِ عن ذِكْرِ بقيَّةِ الشروطِ التي سَبَقَ ذِكْرُها ([17]).
([1]) (أَيٌّ) مبتدأٌ، (كَمَا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٍ، (وأُعْرِبَتْ) الواوُ عاطفةٌ، أُعْرِبَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، والتاءُ تاءُ التأنيثِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هي يعودُ على (أَيٌّ)، (مَا) مصدريَّةٌ ظرفيَّةٌ، (لم) حرفُ نفيٍ وجَزْمٍ، (تُضَفْ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ مجزومٌ بلَمْ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هي يعودُ على (أيٌّ)، (وصَدْرُ) الواوُ واوُ الحالِ، صدرُ: مبتدأٌ، وصدرُ مضافٌ ووصلِ مِن (وَصْلِهَا) مضافٌ إليه، ووَصْلِ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (ضَمِيرٌ) خبرُ المبتدأِ، والجملةُ من المبتدأِ والخبرِ في محَلِّ نصبِ حالٍ صَاحِبُهُ الضميرُ المُسْتَتِرُ في تُضَفِ العائدِ على أيٌّ، (انْحَذَفْ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على (ضَمِيرٌ)، والتقديرُ: أيٌّ مثلُ ما في كونِها موصولاً صالحاً لكلِّ واحدٍ مِن المفردِ والمثنَّى والجمعِ مذكَّراً كانَ أو مؤنَّثاً، وأُعْرِبَتْ هذه الكَلِمَةُ مُدَّةَ عَدَمِ إضافتِها في حالِ كونِ صَدْرِ وَصْلِها ضميراً محذوفاً.
([2]) هذا البيتُ يُنْسَبُ لِغَسَّانَ بنِ وَعْلَةَ أحدِ الشعراءِ المُخَضْرَمِينَ مِن بَنِي مُرَّةَ بنِ عَبَّادٍ، وأَنْشَدَهُ أبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ في كتابِ الحروفِ، وابنُ الأنباريِّ في كتابِ (الإنصافِ)، وقالَ قبلَ إنشادِه: (حَكَى أبو عَمْرٍو الشَّيبانِيُّ عن غَسَّانَ ـ وهو أحدُ مَن تُؤْخَذُ عنهم اللغةُ مِن العربِ ـ أنه أَنْشَدَ) وذَكَرَ البيتَ.
الإعرابُ: (إذا) ظرفٌ تَضَمَّنَ معنَى الشرطِ، (ما) زائدةٌ، (لَقِيتَ) فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ (إذا) إليها، وهي جملةُ الشرطِ، (بني) مفعولٌ به لِلَقِيَ، وبني مضافٌ و(مالكٍ) مضافٌ إليه، (فسَلِّم) الفاءُ داخلةٌ في جوابِ الشرطِ، وسَلِّمْ: فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، (على) حرفُ جرٍّ، (أَيُّهُمْ) يُرْوَى بضمِّ (أيُّ) وبِجَرِّهِ، وهو اسمٌ موصولٌ على الحاليْنِ، فعلى الضمِّ هو مبنيٌّ، وهو الأكثرُ في مِثْلِ هذه الحالةِ، وعلى الجرِّ هو مُعْرَبٌ بالكسرةِ الظاهرةِ، وعلى الحاليْنِ هو مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (أَفْضَلُ) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: هو أَفْضَلُ، والجملةُ مِن المبتدأِ وخبرِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةُ الموصولِ الذي هو (أيُّ).
الشاهدُ فيه: قولُه: (أَيُّهُمْ أَفْضَلُ) حيثُ أَتَى بأيٍّ مبنيًّا على الضمِّ ـ على الروايةِ المشهورةِ الكثيرةِ الدورانِ على أَلْسِنَةِ الرُّوَاةِ ـ لكونِه مضافاً، وقد حُذِفَ صدرُ صِلَتِه وهو المبتدأُ الذي قَدَّرْنَاهُ في إعرابِ البيتِ، وهذا هو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وجماعةٍ من البَصْرِيِّينَ في هذه الكَلِمَةِ: يَذْهَبُونَ إلى أنها تأتي موصولةً، وتكونُ مبنيَّةً إذا اجْتَمَعَ فيها أمرانِ:
أحدُهما: أنْ تكونَ مضافةً لَفظاً.
والثاني: أنْ يكونَ صدرُ صِلَتِها محذوفاً.
فإذا لم تَكُنْ مضافةً أصلاً، أو كانَتْ مضافةً لكنْ ذُكِرَ صدرُ صِلَتِها، فإنَّها تكونُ مُعْرَبَةً، وذَهَبَ الخليلُ بنُ أحمدَ ويُونُسُ بنُ حَبِيبٍ ـ وهما شيخانِ مِن شيوخِ سِيبَوَيْهِ ـ إلى أنَّ أيًّا لا تَجِيءُ موصولةً، بل هي إمَّا شرطيَّةٌ وإما استفهاميَّةٌ، لا تَخْرُجُ عن هذيْنِ الوجهيْنِ.
وذَهَبَ جماعةٌ مِن الكُوفِيِّينَ إلى أنها قد تأتي موصولةً، ولكنَّها مُعْرَبَةٌ في الأحوالِ كُلِّها، أُضِيفَتْ أو لم تُضَفْ، حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِها أو ذُكِرَ.
([3]) (وَبَعْضُهُمْ) الواوُ للاستئنافِ، بعضُ: مبتدأٌ، وبعضُ مضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه، (أَعْرَبَ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى بعضُ، والجملةُ مِن أَعْرَبَ وفاعلِه في مَحَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ الذي هو بعضُهم، (مُطْلَقاً) حالٌ مِن مفعولٍ به لأَعْرَبَ محذوفٍ، والتقديرُ: وبعضُهم أَعْرَبَ أيًّا مطلقاً، (وَفِي ذَا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِهِ: (يَقْتَفِي) الآتِي، (الحَذْفِ) بَدَلٌ مِن اسمِ الإشارةِ أو عطفُ بيانٍ عليه، أو نَعْتٌ له، (أَيًّا) مفعولٌ به لقولِهِ: (يَقْتَفِي) الآتِي، (غَيْرُ) مبتدأٌ، وغيرُ مضافٌ و(أيٍّ) مضافٌ إليه، (يَقْتَفِي) فعلٌ مضارعٌ وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على المبتدأِ، والجملةُ في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، ومعنى الكلامِ: وبعضُ النُّحَاةِ حَكَمَ بإعرابِ أيٍّ الموصولةِ في جميعِ الأحوالِ، وغيرُ أيٍّ يَقْتَفِي ويَتَّبِعُ أيًّا في جوازِ حذفِ صدرِ الصلةِ إذا كانَتِ الصلةُ طويلةً.
([4]) (إِنْ) شرطيَّةٌ، (يُسْتَطَلْ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، فعلُ الشرطِ، (وَصْلٌ) نائبُ فاعلٍ لِيُسْتَطَلْ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يَدُلُّ عليه ما قبلَه، وتقديرُه: إنْ يُسْتَطَلْ وَصْلٌ فغَيْرُ أيٍّ يَقْتَفِي أيًّا، (وإِنْ) الواوُ عاطفةٌ، إنْ: شَرْطِيَّةٌ، (لَمْ) حرفُ نفيٍ وجزمٍ وقَلْبٍ، (يُسْتَطَلْ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ مجزومٌ بلَمْ، وجملتُه فعلُ الشرطِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى (وَصْلٌ)، (فَالْحَذْفُ) الفاءُ واقعةٌ في جوابِ الشرطِ، والحذفُ مبتدأٌ، (نَزْرٌ) خبرُ المبتدأِ، وجملةُ المبتدأِ وخبرِه في مَحَلِّ جَزْمِ جوابِ الشرطِ، (وَأَبَوْا) فعلٌ وفاعلٌ، (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، (يُخْتَزَلْ) فعلٌ مضارِعٌ مبنيٌّ للمجهولِ منصوبٌ بأنْ، وسُكِّنَ للوقفِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى (وَصْلٌ)، والمرادُ أنهم امْتَنَعُوا عن تجويزِ الحذفِ، وأنْ وما دَخَلَتْ عليه في تأويلِ مصدرٍ مفعولٍ به لأَبَوْا.
([5]) (إِنْ) شرطيَّةٌ، (صَلَحَ) فعلٌ ماضٍ، فِعْلُ الشرطِ مَبْنِيٌّ على الفتحِ في محلِّ جزمٍ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يَدُلُّ عليه ما قَبْلَه، والتقديرُ: إنْ صَلَحَ الباقِي بعدَ الحذفِ للوصلِ فقد أَبَوُا الحذفَ، (الْبَاقِي) فاعلُ صَلَحَ، (لِوَصْلٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بصَلَحَ، (مُكْمِلِ) نعتٌ لوَصْلٍ، (وَالْحَذْفُ) مبتدأٌ، (عِنْدَهُمْ) عندَ: ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بالحَذْف، أو بكثير أو بمُنْجَلِي، وعندَ مضافٌ والضميرُ العائدُ إلى العربِ أو النُّحاةِ مضافٌ إليه، (كَثِيرٌ) خبرُ المبتدأِ، (مُنْجَلِي) خبرٌ ثانٍ، أو نعتٌ للخبرِ.
([6]) (في عَائِدٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بكثير أو بمُنْجَلٍ في البيتِ السابقِ، (مُتَّصِلٍ) نعتٌ لعائدٍ، (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ، (انْتَصَبْ) فعلٌ ماضٍ فِعْلُ الشرطِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ جزمٍ، وسُكِّنَ للوقفِ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يَرْجِعُ إلى عائدٍ، (بِفِعْلٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بانْتَصَبْ، (أو وَصْفٍ) معطوفٌ على فِعْلٍ، (كَمَنْ) الكافُ جارَّةٌ، ومَجْرُورُها محذوفٌ، ومَنِ: اسمٌ موصولٌ مبتدأٌ، (نَرْجُو) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بضمَّةٍ مقدَّرَةٍ على الواوِ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه نحنُ، ومفعولُه محذوفٌ، وهو العائدُ، والتقديرُ: كمَن نرْجُوهُ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صِلَةٌ، (يَهَبْ) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِن الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ، وسُكِّنَ للوقفِ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على (مَن)، والجملةُ في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ.
([7]) ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنه يَجُوزُ حذفُ العائدِ المرفوعِ بالابتداءِ مطلقاً؛ أي: سواءٌ أكانَ الموصولُ أيًّا أمْ غَيْرَه، وسواءٌ أَطَالَتِ الصلةُ أم لم تَطُلْ، وذَهَبَ البصريونَ إلى جوازِ حذفِ هذا العائدِ إذا كانَ الموصولُ أيًّا مُطْلَقاً، فإنْ كانَ الموصولُ غيرَ أيٍّ لم يُجِيزُوا الحذفَ إلا بشرطِ طولِ الصلةِ، فالخلافُ بينَ الفريقيْنِ مُنْحَصِرٌ فيما إذا لم تَطُلِ الصلةُ وكانَ الموصولُ غيرَ أيٍّ، فأمَّا الكُوفِيُّونَ فاسْتَدَلُّوا بالسَّمَاعِ، فمِن ذلك قراءةُ يَحْيَى بنِ يَعْمُرَ: (تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ) قالُوا: التقديرُ: على الذي هو أَحْسَنُ، ومن ذلكَ قراءةُ مالكِ بنِ دِينَارٍ وابنِ السماكِ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا) قالُوا: التقديرُ: مثلاً الذي هو بَعُوضَةٌ فما فَوْقَها، ومِن ذلكَ قولُ الشاعِرِ:
لاَ تَنْوِ إِلاَّ الَّذِي خَيْرٌ فَمَا شَقِيَتْ = إلاَّ نُفُوسُ الأُلَى للشَّرِّ نَاوُونَا
قالوا: التقديرُ: لا تَنْوِ إلا الذي هو خيرٌ، ومن ذلكَ قولُ الآخرِ:
مَنْ يُعْنَ بِالْحَمْدِ لَمْ يَنْطِقْ بِمَا سَفَهٌ = وَلاَ يَحِدْ عَنْ سَبِيلِ المجْدِ والكَرَمِ
قالوا: تقديرُ هذا البيتِ: مَن يُعْنَ بالحمدِ لم يَنْطِقْ بالذي هو سَفَهٌ. ومن ذلكَ قولُ عَدِيِّ بنِ زَيْدٍ العَبَّادِيِّ:
لم أَرَ مِثْلَ الْفِتْيَانِ فِي غَبَنِ الْـ = أَيَّامِ يَدْرُونَ مَا عَوَاقِبُهَا
قالوا: ما موصولةٌ، والتقديرُ: يَدْرُونَ الذي هو عَوَاقِبُها.
وبعضُ هذا الشواهدِ يَحْتَمِلُ وُجُوهاً من الإعرابِ غيرَ الذي ذَكَرُوه؛ فمِن ذلكَ أنَّ (ما) في الآيةِ الثانيةِ يجوزُ أنْ تكونَ زائدةً، و(بَعُوضَةٌ) خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، ومِن ذلك أن (ما) في بيتِ عَدِيِّ بنِ زَيْدٍ يَحْتَمِلُ أنْ تكونَ استفهاميَّةً مبتدأً، وما بعدَها خبرٌ، والجملةُ في مَحَلِّ نَصْبِ مفعولٍ به لِيَدْرُونَ، وقد عُلِّقَ عنها لأنَّها مُصَدَّرَةٌ بالاستفهامِ، والكلامُ يَطُولُ إذا نحنُ تَعَرَّضْنَا لكلِّ واحدٍ مِن هذه الشواهدِ، فلْنَجْتَزِئْ لكَ هنا بالإشارةِ.
([8]) الاسمُ الواقعُ بعد (لا سيَّما) إما معرفةٌ، كأنْ يُقالَ لكَ: أَكْرِمِ العلماءَ لا سِيَّما الصالِحُ مِنهم، وإما نكرةٌ، كما في قولِ امرئِ القيسِ:
أَلاَ رُبَّ يَوْمٍ صَالِحٍ لَكَ مِنْهُمَا = ولا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ
فإنْ كانَ الاسمُ الواقعُ بعد (لا سيَّما) نَكِرَةً جازَ فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ: الجرُّ، وهو أعلاها، والرفعُ، وهو أقلُّ مِن الجرِّ، والنصبُ، وهو أقلُّ الأوجهِ الثلاثةِ: فأمَّا الجرُّ فتخريجُه على وجهيْنِ:
أَحَدِهِما: أنْ تكونَ (لا) نافيةً للجنسِ، و(سِيَّ) اسمُها منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، و(ما) زائدةٌ، وسيَّ مضافٌ، و(يومٍ) مضافٌ إليه، وخبرُ لا محذوفٌ، والتقديرُ: ولا مِثْلَ يومٍ بِدارَةِ جُلْجُلٍ موجودٌ.
والوجهُ الثاني: أنْ تكونَ (لا) نافيةً للجنسِ أيضاًً، و(سِيَّ) اسمُها منصوبٌ بالفتحةِ الظاهرةِ، وهو مضافٌ، و(ما) نَكِرَةٌ غيرُ موصوفةٍ مضافٌ إليه مبنيٌّ على السكونِ في محَلِّ جرٍّ، و(يومٍ) بَدَلٌ مِن ما.
وأمَّا الرفعُ فتخريجُه على وجهيْنِ أيضاًً:
أحدُهما: أنْ تكونَ (لا) نافيةً للجنسِ أيضاًً، و(سيَّ) اسْمُهَا، و(ما) نكرةٌ موصوفةٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ (سِيَّ) إليها، و(يومٌ) خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: هو يومٌ، وخبرُ لا محذوفٌ، وكأنك قلتَ: ولا مِثْلَ شيءٍ عظيمٍ هو يومٌ بِدَارَةِ جُلْجُلٍ موجودٌ.
والوجهُ الثاني: أنْ تكونَ (لا) نافيةً للجنسِ أيضاًً، و(سيَّ) اسمُها، و(ما) موصولٌ اسْمِيٌّ بمعنى الذي مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ (سيَّ) إليه، و(يومٌ) خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: هو يومٌ، والجملةُ من المبتدأِ والخبرِ لا محَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةُ الموصولِ، وخبرُ (لا) محذوفٌ، وكأنك قلتَ: ولا مِثْلَ الذي هو يومٌ بِدَارَةِ جُلْجُلٍ موجودٌ، وهذا الوجهُ هو الذي أَشَارَ إليه الشارِحُ.
وأما النصبُ فتخريجُه على وجهيْنِ أيضاًً:
أحدُهما: أنْ تكونَ (ما) نكرةً غيرَ موصوفةٍ، وهو مبنيٌ على السكونِ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ (سِيَّ) إليها، و(يوماً)مفعولٌ به لفعلٍ محذوفٍ، وكأنك قلتَ: ولا مِثْلَ شيءٍ أَعْنِي يوماً بدَارَةِ جُلْجُلٍ.
وثانيهما: أنْ تكونَ (ما) أيضاً نَكِرَةً غيرَ موصوفةٍ، وهو مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافةِ، و(يوماً) تَمْيِيزٌ لها.
وإنْ كانَ الاسمُ الواقِعُ بعدَها معرفةً كالمثالِ الذي ذَكَرْنَاهُ فقد أَجْمَعُوا على أنه يجوزُ فيه الجرُّ والرفعُ، واخْتَلَفُوا في جوازِ النصبِ؛ فمَن جَعَلَ النصبَ على المفعوليَّةِ أجازَه كما أجازَ في النكرةِ، ومَن جَعَلَ النصبَ على التمييزِ وقالَ: إن التمييزَ لا يكونُ إلا نكرةً مَنَعَ النصبَ في المعرفةِ؛ لأنَّه لا يَجُوزُ عندَه أنْ تكونَ تمييزاً، ومَن جَعَلَ نَصْبَه على التمييزِ وجَوَّزَ أنْ يكونَ التمييزُ معرفةً كما هو مَذْهَبُ جماعةِ الكُوفِيِّينَ جَوَّزَ نَصْبَ المعرفةِ بعدَ (سِيَّمَا).
والحاصلُ أنَّ نَصْبَ المعرفةِ بعدَ (لا سِيَّمَا) لا يَمْتَنِعُ إلاَّ بشرطيْنِ: التزامِ كونِ المنصوبِ تمييزاً، والتزامِ كونِ التمييزِ نكرةً.
([9]) لم يَذْكُرِ الشارِحُ شيئاً مِن الشواهدِ مِن الشعرِ العربِيِّ على جوازِ حذفِ العائدِ المنصوبِ بالفعلِ المتصرِّفِ، بل اكْتَفَى بذِكْرِ الآيتيْنِ الكريمتيْنِ؛ لأنَّ مجيئَه في القرآنِ دليلٌ على كثرةِ استعمالِه في الفصيحِ، ومن ذلكَ قولُ عُرْوَةَ بنِ حِزَامٍ:
وما هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً = فأُبْهَتَ حتَّى ما أَكَادُ أُجِيبُ
وأُصْرَفَ عَنْ وَجْهِي الَّذِي كُنْتُ أَرْتَئِي = وَأَنْسَى الَّذِي أَعْدَدْتُ حِينَ أُجِيبُ
أرادَ أنْ يقولَ: أُصْرَفَ عن وجهي الذي كُنْتُ أَرْتَئِيهِ، وأَنْسَى الذي أَعْدَدْتُه، فحَذَفَ العائدَ المنصوبَ بأَرْتَئِي وبأَعْدَدْتُ، وكلٌّ مِنهما فعلٌ تامٌّ مُتَصَرِّفٌ.
([10]) هذا البيتُ مِن الشواهدِ التي ذَكَرُوها ولم يَنْسُبُوها إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ.
اللغةُ: (مُولِيكَ) اسمُ فاعلٍ مِن أَوْلاَهُ النعمةَ، إذا أَعْطَاهَا إيَّاهُ، (فَضْلٌ) إحسانٌ.
المعنى: الذي يَمْنَحُكَ اللهُ مِن النِّعَمِ فَضْلٌ مِنه عليكَ، ومِنَّةٌ جاءَتْكَ مِن عندِهِ مِن غيرِ أنْ تَسْتَوْجِبَ عليه سُبْحَانَهُ شيئاً مِن ذلك، فاحْمَدْ رَبَّكَ عليه، واعْلَمْ أنَّه هو الذي يَنْفَعُكَ ويَضُرُّكَ، وأنَّ غَيْرَه لا يَمْلِكُ لكَ شيئاً مِن نَفْعٍ أو ضَرٍّ.
الإعرابُ: (ما) اسمٌ موصولٌ مبتدأٌ، (اللَّهُ) مبتدأٌ، (مُولِيكَ) مُولِي: خبرٌ عن لفظِ الجلالةِ، وله فاعلٌ مُسْتَتِرٌ فيه عائدٌ على الاسمِ الكريمِ، والكافُ ضميرُ المخاطَبِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ، وهو المفعولُ الأوَّلُ للمُولِي، وله مفعولٌ ثانٍ محذوفٌ، وهو العائدُ على الموصولِ، والتقديرُ: مُولِيكَهُ، والجملةُ من المبتدأِ والخبرِ لا محَلَّ لها من الإعرابِ؛ صلةُ الموصولِ، (خَيْرٌ) خبرٌ عن (ما) الموصولةِ، (فاحْمَدَنْهُ) الفاءُ عاطفةٌ، احْمَدْ: فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُه أنتَ، والنونُ نونُ التوكيدِ، والضميرُ البارزُ المتَّصِلُ مفعولٌ به، (بِهِ) جارٌّ ومجرورٌ، مُتَعَلِّقٌ باحْمَدْ، (فَمَا) الفاءُ للتعليلِ، وما: نافيةٌ تَعْمَلُ عملَ ليسَ، (لَدَى) ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرُ (ما) مُقَدَّمٌ على اسمِها، وجازَ تَقْدِيمُه لأنَّه ظرفٌ يُتَوَسَّعُ فيه، ولَدَى مضافٌ وغيرِ مِن (غيرِه) مضافٌ إليه، وغيرِ مضافٌ والضميرُ الموضوعُ للغائِبِ العائدُ على اللهِ سُبْحَانَهُ مضافٌ إليه، (نَفْعٌ) اسمُ (ما) مؤخَّرٌ، (ولا) الواوُ عاطفةٌ، ولا نافيةٌ، (ضَرَرُ) معطوفٌ على نَفْعٌ، ويجوزُ أنْ تكونَ (ما) نافيةً مُهْمَلَةً، و(لَدَى) مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٌ مقدَّمٌ، و(نَفْعٌ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (ما اللهُ مُولِيكَ) حيثُ حَذَفَ الضميرَ العائدَ على الاسمِ الموصولِ؛ لأنَّه منصوبٌ بوَصْفٍ، وهذا الوصفُ اسمُ فاعلٍ، وأصلُ الكلامِ: ما اللهُ مُولِيكَهُ؛ أي: الشيءَ الذي اللهُ تعالى مُعْطِيكَهُ هو فضلٌ وإحسانٌ مِنه عليكَ.
واعْلَمْ أنه يُشْتَرَطُ في حذفِ العائدِ المنصوبِ بالوصفِ ألاَّ يكونَ هذا الوصفُ صِلَةً لألْ، فإنْ كانَ الوصفُ صِلَةً لألْ كانَ الحذفُ شاذًّا، كما في قولِ الشاعرِ:
ما المُسْتَفِزُّ الهَوَى مَحْمُودَ عَاقِبَةٍ = ولو أُتِيحَ لَهُ صَفْوٌ بِلاَ كَدَرِ
كانَ يَنْبَغِي أنْ يقولَ: ما المُسْتَفِزُّهُ الهَوَى محمودَ عاقبةٍ، فحَذَفَ الضميرَ المنصوبَ معَ أنَّ ناصِبَه صلةٌ لألْ، ومثلُه قولُ الآخرِ:
في المُعْقِبِ البَغْيِ أَهْلَ البَغْيَ مَا = يَنْهَى امْرأً حَازِماً أنْ يَسْأَمَا
أرادَ أنْ يقولَ: في المُعْقِبِهِ البَغْيَ. فلم يَتَّسِعْ لَهُ الكلامُ.
وإنما يَمْتَنِعُ حذفُ المنصوبِ بصِلَةِ ألْ إذا كانَ هذا المنصوبُ عائداً على ألْ نَفْسِها؛ لأنَّه هو الذي يَدُلُّ على اسميَّةِ ألْ، فإذا حُذِفَ زالَ الدليلُ على ذلكَ.
([11]) الذي لا يَجُوزُ حذفُه هو الضميرُ الواجبُ الانفصالِ، فأمَّا الضميرُ الجائزُ الانفصالِ فيجوزُ حذفُه، وإنما يكونُ الضميرُ واجبَ الانفصالِ إذا كانَ مقدَّماً على عاملِه كما في المثالِ الذي ذَكَرَه الشارِحُ، أو كانَ مقصوراً عليه كقولِكَ: جاءَ الذي ما ضَرَبْتُ إلاَّ إيَّاهُ، والسرُّ في عدمِ جوازِ حذفِه حينَئذٍ أنَّ غَرَضَ المتكلِّمِ يَفُوتُ بِسَبَبِ حَذْفِهِ، ألاَ تَرَى أنَّكَ إذا قُلْتَ: (جاءَ الذي إيَّاهُ ضَرَبْتُ) كانَ المعنى: جاءَ الذي ضَرَبْتُهُ ولم أَضْرِبْ سِوَاهُ، فإذا قُلْتَ: (جاءَ الذي ضَرَبْتُ) صارَ غيرَ دالٍّ على أنك لم تَضْرِبْ سِوَاهُ، وكذلك الحالُ في قولِكَ: (جاءَ الذي ما ضَرَبْتُ إلاَّ إيَّاهُ)؛ فإنَّه يَدُلُّ على أنَّكَ قد ضَرَبْتَ هذا الجائِيَ ولم تَضْرِبْ غيره، فإذا قلتَ: (جاءَ الذي ما ضَرَبْتُ) دَلَّ الكلامُ على أنكَ لم تَضْرِبْ هذا الجائِيَ فحَسْبُ، فانْعَكَسَ المعنى بالنسبةِ للجائِي، ولم يَدُلَّ شيءٌ بالنظرِ لغيرِ الجائِي.
فأمَّا المنفصِلُ جوازاً فيجوزُ حذفُه، والدليلُ على ذلكَ قَوْلُ الشاعِرِ:
* مَا اللَّهُ مُولِيكَ فَضْلٌ فَاحْمَدَنْهُ بِهِ *
فإنَّ التقديرَ يَجُوزُ أنْ يكونَ (ما اللهُ مُولِيكَهُ) ويجوزُ أنْ يكونَ: (ما اللهُ مُولِيكَ إِيَّاهُ) وقد عَرَفْتَ فيما سَبَقَ - في مباحثِ الضميرِ- السرَّ في جوازِ الوجهيْنِ، وممَّا يَدُلُّ على جوازِ حذفِ الجائزِ الانفصالِ قولُ اللهِ تعالى: {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} فإنَّه يجوزُ أنْ يكونَ التقديرُ: (بالذي آتَاهُمُوهُ رَبُّهُم) وأنْ يكونَ التقديرُ: (بالذي آتَاهُمْ إيَّاهُ رَبُّهُم)، والثاني أَوْلَى، فيُحْمَلُ عليه تقديرُ الآيةِ الكريمةِ، وكذلك قولُ اللهِ تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فإنَّه يجوزُ أنْ يكونَ التقديرُ: (ومِن الذي رَزَقْنَاهُمُوهُ) كما يَجُوزُ أنْ يكونَ التقديرُ: (ومِن الذي رَزَقْنَاهُمْ إيَّاهُ).
([12]) إنما قالَ الشارِحُ: (فلا يَجُوزُ حذفُ الهاءِ) إشارةً إلى أنَّ الممنوعَ هو حذفُ الضميرِ المنصوبِ بالحرفِ معَ إبقاءِ الحرفِ، فأما إذا حَذَفْتَ الضميرَ والحرفَ الناصبَ له جميعاً فإنَّه لا يَمْتَنِعُ، ومن ذلك قولُ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، هذا إذا قَدَّرْتَ أصلَ الكلامِ: أينَ شُرَكَائِيَ الذين كُنْتُم تَزعُمُون أنهم شُرَكَائِي، على حدِّ قولِ كُثَيِّرٍ:
وَقَدْ زَعَمَتْ أَنِّي تَغَيَّرْتُ بَعْدَهَا = وَمَنْ ذَا الَّذِي يَا عَزُّ لاَ يَتَغَيَّرُ
فإن قَدَّرْتَ الأصلَ: (الذين كُنْتُمْ تَزْعُمُونَهُم شُرَكَائِي) لم يَكُنْ من هذا النوعِ.
([13]) (كذاكَ) الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٌ مقدَّمٌ، والكافُ حرفُ خطابٍ، (حَذْفُ) مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وحَذْفُ مضافٌ، و(ما) اسمٌ موصولٌ مضافٌ إليه مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ جرٍّ، (بِوَصْفٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِهِ: (خُفِضَ) الآتِي، (خُفِضَا) خُفِضَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على (ما)، والجملةُ لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةٌ، (كأنتَ) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ؛ أي: كقولِكَ، أنتَ: مبتدأٌ، (قاضٍ) خبرُ المبتدأِ، (بَعْدَ) ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ نعتٍ للقولِ الذي قَدَّرْنَاهُ مجروراً بالكافِ، وبعدَ مضافٌ و(أمرٍ) مضافٌ إليه، (مِن قَضَى) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ نعتٍ لأَمْرٍ؛ أي: بعدَ فعلِ أمرٍ مُشْتَقٍّ من مادَّةِ قَضَى، يُشِيرُ إلى قولِهِ تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}. كما قالَ الشارِحُ.
([14]) (كَذَا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرٌ مُقَدَّمٌ، (الذي) اسمٌ موصولٌ مبتدأٌ مؤخَّرٌ، (جُرَّ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على (الذي)، والجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ صِلَةٌ، (بِمَا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بالفعلِ الذي قَبْلَه، (المَوْصُولَ) مفعولٌ مُقَدَّمٌ لجَرَّ الآتِي، (جَرْ) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ على (ما)، والجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ صلةٌ، (كَمُرَّ) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ، وهي ومجرورُها يَتَعَلَّقَانِ بمحذوفٍ خبرٍ لمبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: وذلكَ كائنٌ كقولِكَ، مُرَّ: فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُهُ أنتَ، (بالذي) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمُرَّ السابقِ، (مَرَرْتُ) فعلٌ ماضٍ وفاعلٌ، والجملةُ لا محَلَّ لها؛ صِلَةٌ، والعائدُ محذوفٌ تقديرُه (به)، وقولُه: (فَهْوَ بَرْ) الفاءُ واقعةٌ في جوابِ شرطٍ محذوفٍ، وهو: ضميرٌ منفصلٌ مبتدأٌ، بَرْ: خبرُ المبتدأِ، وجملةُ المبتدأِ وخبرِه في محَلِّ جزمِ جوابِ ذلكَ الشرطِ المحذوفِ.
([15]) هذا البيتُ لِعَنْتَرَةَ بنِ شَدَّادٍ الْعَبْسِيِّ، الشَّاعِرِ المشهورِ والفارِسِ المذكورِ، مِن كَلِمَةٍ مَطْلَعُها:
طَرِبْتَ وَهَاجَتْكَ الظِّبَاءُ السَّوَانِحُ = غَدَاةَ غَدَتْ مِنْهَا سَنِيحٌ وبَارِحُ
تَغَالَتْ بِيَ الأَشْوَاقُ حَتَّى كَأَنَّمَا = بِزَنْدَيْنِ فِي جَوْفِي مِنَ الْوَجْدِ قَادِحُ
اللغةُ: (طَرِبْتَ) الطَّرَبُ: خِفَّةٌ تَعْتَرِيكَ مِن سُرُورٍ أو حُزْنٍ، (هَاجَتْكَ) أَثَارَتْ هَمَّكَ، وبَعَثَتْ شَوْقَكَ، (الظِّباءُ) جَمْعُ ظبيٍ، (السَّوَانِحُ) جمعُ سانحٍ، وهو ما أتاكَ عن يَمِينِكَ فوَلاَّكَ مَيَاسِرَهُ مِن ظبيٍ أو طيرٍ أو غيرِهما، ويقالُ له: سَنِيحٌ، ( بَارِحُ) هو ضدُّ السانِحِ، وهو ما أتاكَ عن يَسَارِكَ فوَلاَّكَ مَيَامِنَه، (قادِحُ) اسمُ فاعلٍ مِن قَدَحَ الزَّنْدَ قَدْحاً، إذا ضَرَبَه لِتَخْرُجَ منه النارُ، (حِقْبَةً) بكسرٍ فسكونٍ: في الأصلِ تُطْلَقُ على ثمانينَ عاماً، وقد أرادَ بها المدَّةَ الطويلةَ، (فَبُحْ) أمرٌ مِن (باحَ بالأمرِ يَبُوحُ به)؛ أي: أَعْلَنَه وأَظْهَرَهُ، (لاَنَ) أي: الآنَ، فحَذَفَ همزةَ الوصلِ والهمزةَ التي بعدَ اللامِ، ثمَّ فَتَحَ اللامَ لمناسبةِ الألفِ، وقيلَ: بل هي لغةٌ في الآنَ، ومثلُه قولُ جَرِيرِ بنِ عَطِيَّةَ:
أَلاَنَ وَقَدْ نَزَعْتَ إلى نُمَيْرٍ = فَهَذَا حِينَ صِرْتَ لَهُمْ عَذَابَا
وقولُ الآخَرِ:
أَلاَ يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي عُمَيْرٍ = أَرَثٌّ لاَنَ وَصْلُكِ أَمْ جَدِيدُ
وقولُ أَشْجَعَ السُّلَمِيِّ:
أَلاَنَ اسْتَرَحْنَا واسْتَرَاحَتْ رِكَابُنَا = وأَمْسَكَ مَنْ يُجْدِي ومَن كَانَ يَجْتَدِي
ورَوَى الأَعْلَمُ بيتَ الشاهدِ هكذا:
تَعَزَّيْتَ عن ذِكْرَى سُمَيَّةَ حِقْبَةً = فَبُحْ عَنْكَ مِنْهَا بِالَّذِي أَنْتَ بَائِحُ
وأَنْشَدَهُ الأخفشُ كما في الشرحِ، وهو كذلكَ في المشهورِ مِن شِعْرِ عَنْتَرَةَ.
الإعرابُ: (قدْ) حرفُ تحقيقٍ، (كُنْتَ) كانَ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، وتاءُ المخاطَبِ اسمُه مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعٍ، (تُخْفِي) فعلٌ مضارِعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه أنتَ، والجملةُ مِن تُخْفِي وفاعلِهِ خبرُ (كانَ) في محلِّ نصبٍ، (حُبَّ) مفعولٌ به لِتُخْفِي، وحُبَّ مضافٌ و(سَمْرَاءَ) مضافٌ إليه، (حِقْبَةً) ظرفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ بتُخْفِي، (فَبُحْ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وجوباً تقديرُه أنتَ، (لاَنَ) ظرفُ زمانٍ مُتَعَلِّقٌ بِبُحْ، (بالذي) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ببُحْ أيضاًً، (أَنْتَ بائِحُ) مبتدأٌ وخبرٌ، والجملةُ منهما لا مَحَلَّ لها؛ صِلَةُ الموصولِ المجرورِ مَحَلاًّ بالباءِ، والعائدُ محذوفٌ، وتقديرُ الكلامِ: فَبُحِ الآنَ بالذي أنتَ بائحٌ به.
الشاهدُ فيه: قولُه: (بِالَّذِي أَنْتَ بَائِحُ) حيثُ اسْتَسَاغَ الشاعرُ حَذْفَ العائدِ على الموصولِ من جملةِ الصلةِ؛ لكونِه مجروراً بمِثْلِ الحرفِ الذي جَرَّ الموصولَ ـ وهو الباءُ ـ والعاملُ في الموصولِ مُتَّحِدٌ معَ العاملِ في العائدِ مادَّةً: الأوَّلُ: (بُحْ)، والثاني: (بائِحٌ)، ومعنًى: لأنَّهما جميعاً من البَوْحِ بمعنى الإظهارِ والإعلانِ.
([16]) ومثلُه أنْ يكونَ الموصولُ وصفاً لاسمٍ، وقد جُرَّ هذا الموصوفُ بحرفٍ مثلِ الذي جَرَّ العائدَ، ومنه قولُ كَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ:
إنْ تُعْنَ نَفْسُكَ بِالأَمْرِ الذي عُنِيَتْ = نُفُوسُ قَوْمٍ سَمَوْا تَظْفَرْ بِمَا ظَفِرُوا
لا تَرْكَنَنَّ إِلَى الأَمْرِ الَّذِي رَكَنَتْ = أَبْنَاءُ يَعْصُرَ حِينَ اضْطَرَّهَا الْقَدَرُ
ففي كلِّ بيتٍ من هذيْنِ البيتيْنِ شاهدٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ:
أمَّا البيتُ الأوَّلُ فإنَّ الشاهدَ فيه قولُه: (بالأمرِ الذي عُنِيَتْ) فإنَّ التقديرَ فيه: بالأمرِ الذي عُنِيَتْ به، فحَذَفَ المجرورَ ثمَّ الجارَّ؛ لِكَوْنِ الموصوفِ بالموصولِ مجروراً بمثلِ الذي جَرَّ ذلك العائدَ.
وأمَّا البيتُ الثاني فالشاهدُ فيه قولُه: (إلى الأمرِ الذي رَكَنَتْ)، فإنَّ تقديرَ الكلامِ: إلى الأمرِ الذي رَكَنَتْ إليه، فحَذَفَ المجرورَ، ثمَّ حَذَفَ الجارَّ؛ لِكَوْنِ الموصوفِ ـ وهو الأمرُ ـ مجروراً بحرفِ جرٍّ مُمَاثِلٍ للحرفِ الذي جُرَّ به ذلكَ العائدُ.
([17]) من أحكامِ صلةِ الموصولِ أنه يَجِبُ تَأَخُّرُها عن الموصولِ، وأنْ تَتَّصِلَ به.
أمَّا تَأَخُّرُها عنه فلأنَّها كالجزءِ المُتَمِّمِ له، ومِن شأنِ الجزءِ المتمِّمِ أنْ يَقَعَ بعدَ ما له التمامُ، وعلى ذلكَ يَجِبُ ألاَّ تَتَقَدَّمَ على الموصولِ، لا هي ولا شيءٌ من مُتَعَلِّقَاتِها؛ ولهذا قَدَّرَ النحاةُ في قَوْلِهِ تعالى: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} أن (فِيهِ) مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ تَدُلُّ عليه صلةُ ألْ، وتقديرُ الكلامِ: وكانوا زاهدينَ فيه مِن الزاهدينَ؛ لئلاَّ يَتَقَدَّمَ معمولُ صلةِ ألْ عليها.
وأمَّا اتِّصَالُها به فقد خَالَفُوا هذا فأجازُوا أنْ يُفْصَلَ بينَ الموصولِ وصِلَتِه: وجملةِ القَسَمِ، وجملةِ النداءِ، والجملةِ الاعتراضيَّةِ، فمثالُ الأُولَى قولُ الشاعرِ:
ذاكَ الذي - وأَبِيكَ - يَعْرِفُ مَالِكاً = والحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الْبَاطِلِ
ومثالُ الثانيةِ قولُ الفَرَزْدَقِ:
تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخُونُنِي = نَكُنْ مِثْلَ مَنْ - يا ذِئْبُ -يَصْطَحِبَانِ
ومثالُ الثالثةِ قولُ الشاعرِ:
وإني لراجٍ نَظْرَةً قِبَلَ الَّتِي = لَعَلِّي وإِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا أَزُورُهَا
إذا جَعَلْتَ جملةَ (أَزُورُهَا) صِلَةَ التي، وجملةَ (لعل) ومَعْمُولَيْهَا لا محلَّ لها مُعْتَرِضَةً بينَ الموصولِ والصلةِ.