دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 11:00 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي قوله: إن الله واحد لا شريك له ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره

نَقُولُ فِي توحيدِ اللهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللهِ: إنَّ اللهَ واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ.
ولا شيءَ مِثْلُهُ.
ولا شيءَ يُعْجِزُهُ.
ولا إلهَ غَيْرُهُ.


  #2  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 12:33 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات على الطحاوية لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

نقول في توحيد الله ([1]) معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره.



([1]) قوله: (نقول في توحيد الله.. إلخ).
اعلم أن التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب ينقسم إلى أقسام ثلاثة، حسب استقراء النصوص من الكتاب والسنة وحسب واقع المكلفين.
القسم الأول: توحيد الربوبية:
وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه، وهو الإيمان بأنه الخالق الرازق المدبر لأمور خلقه ، المتصرف في شئونهم في الدنيا والآخرة لا شريك له في ذلك ،كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس:3] . وهذا النوع قد أقر به المشركون عباد الأوثان، وإن جحد أكثرهم البعث والنشور ولم يدخلهم في الإسلام، لشركهم بالله في العبادة وعبادتهم الأصنام والأوثان معه سبحانه وعدم إيمانهم بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: توحيد العبادة :

ويسمى توحيد الألوهية: وهي العبادة. وهذا القسم هو الذي أنكره المشركون فيما ذكر الله عنهم سبحانه بقوله : {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:4-5]. وأمثالها كثيرة وهذا القسم يتضمن إخلاص العبادة لله وحده، والإيمان بأنه المستحق لها وأن عبادة ما سواه باطلة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود إلا الله ،كما قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62].
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:

وهو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله العزيز، وفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته، وإثباتها لله سبحانه على الوجه الذي يليق به من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص]. وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]. وقال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180]. وقال سبحانه في سورة النحل: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60]. والآيات في هذا المعنى كثيرة. والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا نقص فيه، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان ،يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، ويثبتون معانيها لله سبحانه إثباتا بريئا من التمثيل، وينزهون الله سبحانه عن مشابهة خلقه وهم المذكرون في قوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. جعلنا الله منهم بمنه وكرمه والله المستعان.


  #3  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 12:35 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات المختصرة للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

(1) نَقُولُ فِي توحيدِ اللهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللهِ: إنَّ اللهَ واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ.
(2) ولا شيءَ مِثْلُهُ.
(3) ولا شيءَ يُعْجِزُهُ.
(4) ولا إلهَ غَيْرُهُ.



(1) (نَقُولُ): أي؛ نَعْتَقِدُ (في توحيدِ اللَّهِ) عَزَّ وَجَلَّ.
والتوحيدُ لُغَةً: مَصْدَرُ وَحَّدَ، إذا جَعَلَ الشيءَ وَاحِدًا.
وَشَرْعًا: إِفْرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعِبَادةِ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ ما سِوَاهُ.
وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ من كتابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مَا تَقَرَّرَ عليهِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، فَمَنْ زَادَ قِسْمًا رَابِعًا أو خَامِسًا فهو زِيَادَةٌ من عِنْدِهِ؛ لأَنَّ الأَئِمَّةَ قَسَّمُوا التوحيدَ إلى أقسامٍ ثَلَاثَةٍ من الكتابِ والسُّنَّةِ. فَكُلُّ آياتِ القرآنِ والأحاديثِ في العقيدةِ لا تَخْرُجُ عن هذهِ الأقسامِ الثلاثةِ.
الأَوَّلُ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: وهو توحيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْرَادُهُ بِأَفْعَالِهِ: كالخلقِ، والرزقِ، والإحياءِ ،والإماتةِ، وَتَدْبِيرِ الكونِ، فليسَ هناكَ رَبٌّ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، رَبُّ العالَمِينَ.
القسمُ الثاني: تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ: أو تَوْحِيدُ العِبَادَةِ؛ لأَنَّ الأُلُوهِيَّةَ مَعْنَاهَا عبادةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وطاعةِ أمرِهِ، وتَرْكِ مَا نَهَى عنهُ فهو إِفْرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ العِبَادِ التي شَرَعَهَا لَهُم.
القسمُ الثالثُ: توحيدُ الأسماءِ والصفاتِ: وهو إثباتُ ما أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ أو أَثْبَتَهُ لهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسماءِ والصفاتِ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا نَزَّه عنهُ نَفْسَهُ، وَنَزَّهَهُ عنهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العيوبِ والنقائصِ.
فَكُلُّ الآياتِ التي تَتَحَدَّثُ عن أفعالِ اللَّهِ فَإِنَّهَا في تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وكُلُّ الآياتِ التي تَتَحَدَّثُ عن العِبَادةِ والأمرِ بها والدعوةِ إليها فَإِنَّهَا في توحيدِ الأُلُوهِيَّةِ ، وَكُلُّ الآياتِ التي تَتَحَدَّثُ عن الأسماءِ والصفاتِ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهَا في توحيدِ الأسماءِ والصفاتِ.
وهذه الأقسامُ الثلاثةُ المطلوبُ منها هو تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ؛ لأنَّهُ هو الذي دَعَتْ إليهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بهِ الكُتُبُ، وَقَامَ من أَجْلِهِ الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ، حتى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَتُتْرَكَ عِبَادَةُ مَا سِوَاهُ.
وَأَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَمنه تَوْحِيدُ الأسماءِ والصفاتِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أحدٌ من الخلقِ، وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلكَ في آياتٍ كثيرةٍ، ذَكَرَ أَنَّ الكُفَّارَ مُقِرُّونَ بأنَّ اللَّهَ هو الخالقُ الرازقُ، الْمُحْيِي المُمِيتُ، وَالمُدَبِّرُ، فَهُم لا يُخَالِفُونَ فيهِ. وهذا النوعُ إذا اقْتَصَرَ عليهِ الإنسانُ لا يُدْخِلُهُ ذلك في الإسلامِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ الناسَ وهم يُقِرُّونَ بتوحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَهُم وَأَمْوَالَهُم. ولو كانَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ كَافِيًا لَمَا قَاتَلَهُم الرسولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، بلْ ما كانَ هناكَ حَاجَةٌ إلى بِعْثَةِ الرُّسُلِ، فَدَلَّ على أنَّ المقصودَ والمطلوبَ هو توحيدُ الأُلُوهِيَّةِ، أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عليهِ، وآيةٌ لَهُ، وَلِذَلِكَ إِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِعِبَادَتِهِ ذَكَرَ خَلْقَهُ لِلسَّماواتِ والأَرْضِ، وَقِيَامَهُ سُبْحَانَهُ بِشُؤُونِ خَلْقِهِ، بُرْهَانًا على توحيدِ الأُلُوهِيَّةِ إِلْزَامًا للكفارِ والمشركينَ، الذينَ يَعْتَرِفُونَ بالرُّبُوبِيَّةِ وَيُنْكِرُونَ الأُلُوهِيَّةَ، وَلَمَّا قَالَ لَهُم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) ، قَالَوا : {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزُّمَر: 45] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}. [الصَّافَّات: 35-36] . فَهُم لا يُرِيدُونَ تَوْحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ، بل يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ الآلِهَةُ مُتَعَدِّدَةً، وَكُلٌّ يَعْبُدُ ما يُرِيدُ. فَيَجِبُ أنْ يُعْلَمَ هذا، فَإِنَّ كُلَّ أصحابِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ؛ الحديثةِ والقديمةِ، يُرَكِّزُونَ على توحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنَّهُ إذا أَقَرَّ العبدُ عِنْدَهُم بِأَنَّ اللَّهَ هو الخالقُ الرازقُ، قالوا: هذا مُسْلِمٌ، وَكَتَبُوا بذلكَ عَقَائِدَهُم، فَكُلُّ عقائِدِ المُتَكَلِّمِينَ لَا تَخْرُجُ عن تَحْقِيقِ توحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالأَدِلَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا لا يَكْفِي، بلْ لَا بُدَّ من الأُلُوهِيَّةِ، قالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْل: 3]. يَأْمُرُونَ الناسَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وهي توحيدُ الأُلُوهِيَّةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأَنْبِيَاء: 25]، { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النِّسَاء: 36].
كُلُّ الآياتِ تَأْمُرُ بِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ وَتَدْعُو إليهِ، وَجَمِيعُ الرُّسُلِ دَعَوْا إِلَى تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ وَأَمَرُوا به أُمَمَهُم، وَنَهَوْهُم عن الشِّرْكِ، هذا هو المطلوبُ والغايَةُ والقصدُ من التوحيدِ، وَأَمَّا توحيدُ الأسماءِ والصفاتِ فَأَنْكَرَهُ المُبْتَدِعَةُ من الجَهْمِيَّةِ وَالمُعْتَزِلَةِ والأَشَاعِرَةِ، على تَفَاوُتٍ بَيْنَهُم في ذلكَ.
وَقَوْلُهُ : (نَقُولُ): أي يَقُولُ مَعْشَرُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ.
(مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ : إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ)
: العقيدةُ والتوحيدُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. سَوَاءٌ سُمِّيَتْ عَقِيدَةً أو تَوْحِيدًا أو إِيمَانًا، فَالمَعْنَى واحدٌ وإن اخْتَلَفَت الأَسْمَاءُ.
وَقَوْلُهُ: (بِتَوْفِيقِ اللَّهِ) :هَذَا تَسْلِيمٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَضَرُّعٌ إلى اللَّهِ، وَتَبَرُّؤٌ من الحَوْلِ والقوَّةِ، فالإنسانُ لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ، وإِنَّمَا يقولُ: بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، بِحَوْلِ اللَّهِ، هذا أَدَبُ العلماءِ رَحِمَهُم اللَّهُ.
(إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ) :هذا هوَ التوحيدُ؛ واحدٌ في رُبُوبِيَّتِهِ، وَاحِدٌ في أُلُوهِيَّتِهِ، وَوَاحِدٌ في أَسْمَائِه وَصِفَاتِهِ.

(2) مَأْخُوذٌ من قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى:11] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإِخْلَاص:4] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا} [البَقَرَة: 22] ، أي شُبَهَاءَ وَنُظَرَاءَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَم: 65] ، أي: مُمَاثِلٌ يُسَامِيهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَالتَّمْثِيلُ والتشبيهُ مَنْفِيَّانِ عن اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ من خَلْقِهِ، وهذا هو الواجبُ أَنْ نُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لنفسِهِ وَنَعْتَقِدَهُ وَلَا نُشَبِّهَهُ بِأَحَدٍ من خَلْقِهِ، ولا نُمَثِّلَهُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا فيه رَدٌّ على المُشَبِّهَةِ الذين يَعْتَقِدُونَ أنَّ اللَّهَ مِثْلُ خَلْقِهِ، ولا يُفَرِّقُونَ بينَ الخالقِ والمَخْلُوقِ، وهو مَذْهَبٌ بَاطِلٌ.
وَفِي مُقَابِلِهِ مَذْهَبُ المُعَطِّلَةِ؛ الذينَ غَلَوْا في التَّنْزِيهِ حَتَّى نَفَوْا عن اللَّهِ ما أَثْبَتَهُ من الأسماءِ والصفاتِ؛ فِرَارًا من التشبيهِ بِزَعْمِهِم.
فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ غَلَتْ، المُعَطِّلَةُ غَلَوْا في التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ المُمَاثَلَةِ، والمُشَبِّهَةُ غَلَوْا في الإثباتِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ تَوَسَّطُوا؛ فَأَثْبَتُوا ما أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ على مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، من غيرِ تَشْبِيهٍ ولا تَعْطِيلٍ على حَدِّ قولِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11].
فَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نَفْيٌ لِلتَّشْبِيهِ، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } نَفْيٌ لِلتَّعْطِيلِ، وهذا المَذْهَبُ الذي يَسِيرُ عليهِ أَهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ. ولهذا يُقَالُ: المُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا، والمُشَبِّهُ يَعْبُدُ صَنَمًا، والمُوَحِّدُ يَعْبُدُ إِلَهًا وَاحِدًا فَرْدًا صَمَدًا.

(3) هذا إثباتٌ لكمالِ قُدْرَتِهِ:
قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المَائِدَة: 120].وَقَالَ تَعَالَى: { وَكَانَ اللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } [الكَهْف: 45].وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فَاطِر: 44]. والقَدِيرُ مَعْنَاهُ: المُبَالِغُ في القُدْرَةِ، فَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ، إذا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يقولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. فهذا فيهِ إثباتُ قدرةِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ، وَإِثْبَاتُ شُمُولِهَا، وَعُمُومِهَا لِكلِّ شَيْءٍ.
أَمَّا العبارةُ التي يَقُولُهَا بَعْضُ المُؤَلِّفِينَ: إِنَّهُ على ما يشاءُ قَدِيرٌ. فهذهِ غَلَطٌ؛ لأنَّ اللَّهَ لم يُقَيِّدْ قُدْرَتَهُ بالمشيئةِ، بلْ قالَ: على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَقُلْ مَا قَالَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إِنَّمَا هذه وَرَدَتْ في قولِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِم إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشُّورَى: 29]؛ لأنَّ الجمعَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ في المستقبلِ، وهو قادرٌ على جَمْعِهِم في ذلكَ الوقتِ، أي أهلِ السَّمَاوَاتِ وأهلِ الأَرْضِ، قالَ تَعَالَى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشُّورَى 29].

(4) هذا هو تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ.
(لَا إِلَهَ) :أي لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ (غَيْرُهُ).
أَمَّا إِذَا قُلْتَ: لَا مَعْبُودَ إِلَّا هو, أو لا معبودَ سِوَاهُ، فهذا باطلٌ؛ لأنَّ المعبوداتِ كَثِيرَةٌ من دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فإذا قُلْتَ: لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ، فقدْ جَعَلْتَ كلَّ المعبوداتِ هِيَ اللَّهُ، وهذا مَذْهَبُ أهلِ وِحْدَةِ الوُجُودِ، فإذا كانَ قَائِلُ ذلكَ يَعْتَقِدُ هذا فهو من أَصْحَابِ أَهْلِ وِحْدَةِ الوجودِ، وأمَّا إنْ كانَ لا يَعْتَقِدُ هذا، إِنَّمَا يقولُهُ تَقْلِيدًا أو سَمِعَهُ من أحدٍ، فهذا غَلَطٌ، وَيَجِبُ عليه تَصْحِيحُ ذلكَ. وبعضُ الناسِ يَسْتَفْتِحُ بهذا في الصلاةِ فَيَقُولُ: ولا مَعْبُودَ غَيْرُكَ، واللَّهُ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ مَعْبُودٌ بالباطلِ، قالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحَجّ: 62].


  #4  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 09:29 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي


قوله: ( نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له ).

ش: أعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }. وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. وقال صالح عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }. وقال شعيب عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله). ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهاده أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم. بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك. ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك.
وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى [بغير ذلك من خصائص الإسلام، ولم يتكلم بهما، هل يصير مسلماً أم لا ؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام. فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ]. وهو أول واجب وآخر واجب.
فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني: توحيد الإلهية، فإن التوحيد يتضمن ثلاث أنواع:
أحدها: الكلام في الصفات. والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء. والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له.
أما الأول: فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات [في] مسمى التوحيد، كجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: اثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة، فإن اثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وانما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله وهذا غاية التعطيل. وهذا القول قد أفضى بقوم الى القول بالحلول والإتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى، فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات. ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة.
ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله لا غيره.
ومن فروعه: أنه لا فرق في التحريم التحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، والكل من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة.
ومن فروعه: أن الأنبياء ضيقوا على الناس.
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية، وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضة طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستسيقناً به في الباطن، كما قال له موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـَؤُلآءِ إِلاّ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ}. وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ولهذا [لما] قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ على وجه الإنكار له تجاهل العارف، قال [له] موسى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ* قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} .
وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم تكن له ماهية عجز موسى عن الجواب وهذا غلط. وإنما هذا استفهام إنكار وجحد، كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحداً لله نافياً له، لم يكن مثبتاً له طالب للعلم بماهيته. فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟ بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف. ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: أن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس، والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما -: متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة، هل هي قديمة أو محدثة ؟ فلم يثبتوا ربين متماثلين.
وأما النصارى القائلون بالتثليت، فانهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الإبن والأب وروح القدس إله واحد. وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد أثنان يتفقان على معنى واحد، فانهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالاقنوم ! والاقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص. وقد فطر الله العباد على فساد [هذه] الاقوال بعد التصور التام. وبالمجلة فهم لا يقولون باثبات خالقين متماثلين.
والمقصود هنا: أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيراً من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في اثبات هذا المطلوب وتقريره. ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع.
والمشهور عند أهل النظر اثباته بدليل التمانع، وهو: أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما احياءه والآخر اماتته -: فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما. والأول ممتنع، لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع، لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، واذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية.
وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت اليه الرسل عليهم السلام، وليس الامر كذلك، بل التوحيد الذي دعت اليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ * قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم الى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف، أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما، قبيلة قبيلة وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الاسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض قبل موته: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذره ما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً، وفي الصحيحين أنه ذكر في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال: (إن أولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصورا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك.)
ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الاصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب [من] طباعها.
وشرك قوم إبراهيم عليه السلام كان - فيما يقال - من هذا الباب. وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم.
وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع، وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هؤلاء شفعاء، كما أخبر عنهم تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى* وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كذبوا الرسل. [كما] حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين تقاسموا بالله، [أي تحالفوا بالله]، لنبيتنه وأهله. فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله عند قتل نبيهم وأهله، وهذا بين أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان المشركين.
فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية، الذي يتضمن توحيد الربوبية. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}.
وقال تعالى: {أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولا يقال: أن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً، كما قال بعضهم - لما تلونا، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين) الحديث. وفي الحديث المتقدم ما يدل على ذلك، حيث قال: (.. يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: ويسلمانه. وفي رواية يولد على الملة وفي أخرى: على هذه الملة.

وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه. منها، أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الأعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلًا، وهو حساس متحرك بالإرادات، ولا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما. ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذب ويتضرر، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع الإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به. وبعد ذلك: أما أن يكون في فطرته [محبته أنفع للعبد أولاً. والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته] محبة ماينفعه.
ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه. وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة، كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.
ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجهال والبهائم وحضضا لم يقبلا. ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها، كانت مقره بالصانع عابدة له. ومنها: أن يقال، إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح، لأن المقتضي فيها للعلم والارادة قائم، والمانع منتف.
ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية. فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة، تذهب فتمتلىء من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟ ! ! فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً ! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله ! ! وتحكى هذه الحكاية أيضاً عن غير أبي حنيفة.
فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية، الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه - كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين.
والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له. ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً على الثاني، إذ كانوا يسلمون [في] الأول وينازعون في الثاني، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله [وحده]، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، لا شريك له في ذلك، فلم تعبدون غيره، وتجعلون معه آلهة أخرى ؟
كقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونْ }الآيات. يقول الله تعالى في آخر كل آية: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أي أإله مع الله فعل هذا ؟ وهذا استفهام انكار، يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، [فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى أنه استفهام هل مع الله إله، كما ظنه بعضهم، لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله] آلهة أخرى، كما قال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ}وكانوا يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. لكنهم ما كانوا يقولون: أن معه إلها جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً. بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا، وهكذا سائر الآيات. وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }. وكذلك قوله في سورة الأنعام:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}. وأمثال ذلك.
واذا كان توحيد الربوبية، الذي يجعله هؤلاء النظار، ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد -: داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل اثبات الصانع ودلائل صدق الرسول، فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر، رحمة من الله بخلقه.
والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها، استدل بها، ولم يحتج إلى الاستدلال عليها.
والطريقة الصحيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة [القرآن، بخلاف ما يدعيه الجهال، الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة] برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه.
ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الأمتناع عند الناس كلهم، باعتبار اثبات خالقين متماثلين في الصفات والافعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم، كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس، أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون أحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أوضر، بدون أن يخلق الله ذلك.
فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس، بين القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. فتأمل هذا البرهان الباهر، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر. فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه، لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل أن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد [بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه، إذا لم يقدر المنفرد] منهم على قهر الآخر والعلو عليه. فلا بد من أحد ثلاثة آمور:
أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
واما أن يعلو بعضهم على بعض.
واما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.
وانتظام أمر العالم كله واحكام أمره، من أدل دليل على أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه. كما قد دل [دليل] التمانع على أن خالق العالم واحد، لا رب غيره ولا إله سواه، فذلك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية. فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون [لهم] إلهان معبودان.
فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين. فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية.
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان الخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل أرباب.
وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا.
وأيضا فإنه قال: (لَفَسَدَتَا)، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا. ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحد، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره. فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والارض.
وأظلم الظلم على الاطلاق الشرك، وأعدل العدل التوحيد.
وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس. فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلها. قال تعالى: أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون. وقال تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون. وقال تعالى: قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً.
وفيها للمتأخرين قولان: أحدهما: لا تخذوا سبيلاً الى مغالبته، والثاني، وهو الصحيح المنقول عن السلف، كقتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره -: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب اليه، كقوله تعالى: إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا. وذلك أنه قال: لو كان معه آلهة كما يقولون وهم لم يقولوا: إن العالم [له] صانعان، بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء، وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، بخلاف الآية الأولى.

[انواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل]

ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول: هو اثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أفصح القرآن عن هذا [النوع] كل الإفصاح، كما في أول (الحديد) و(طه) وآخر (الحشر) وأول (آلم تنزيل السجدة) وأول (آل عمران) وسورة (الإخلاص) بكمالها، وغير ذلك.
والثاني: وهو توحيد الطلب والقصد، مثل ما تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون، و قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة (يونس) وأوسطها وآخرها، وأول سورة (الأعراف) وآخرها، وجملة سورة (الأنعام).
وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن. فالقرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري. وأما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وأما أمر ونهي والزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن اكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده. وأما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في [الدنيا] من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. فـ الحمد لله رب العالمين توحيد، الرحمن الرحيم توحيد، مالك يوم الدين توحيد، إياك نعبد وإياك نستعين توحيد، اهدنا الصراط المستقيم توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد.
وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله. قال تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }. فتضمنت هذه الآية الكريمة اثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد، بأجل مشهود به.
وعبارات السلف في شهد - تدور على الحكم، والقضاء، والإعلام، والبيان، والإخبار. وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها: فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه.
فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك، وان لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره [به] ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه بذلك سبحانه، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم والزامهم به.
فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهداً بما لا علم له به. قال تعالى: إلا من شهد بالحق وهم يعلمون. وقال صلى الله عليه وسلم: على مثلها فاشهد، وأشار إلى الشمس.
وأما مرتبة التكلم والخبر، فقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}. فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل. وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر: تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله. ولهذا كان من جعل داره مسجداً وفتح بابها وأفرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها -: معلماً أنها وقف، وان لم يتلفظ به. وكذلك من وجد متقرباً الى غيره بأنواع المسار، يكون معلماً له ولغيره أنه يحبه، وان لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس. وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة، وبفعله أخرى. فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه. وأما بيانه وإعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه -: أنه لا إله إلا هو. وقال آخر: وفي كل شيء له أية تدل على أنه واحد
ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل، قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}. [فهذه شهادة منهم على أنفسهم] بما يفعلونه.
[والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته] المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله.
وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه - فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: إِيَّاهُ{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}. وقال الله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}. وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}. وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ}. والقرآن كله شاهد بذلك.
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، أو آلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلاً لذلك، ويدع من هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان، والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي.

وأيضا: فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة، تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحق الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.
وأيضا: فلفظ الحكم و القضاء يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية، وحكم، وقد حكم فيها بكذا. قال تعالى: {أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}. فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً وقال تعالى: {أفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . لكن هذا حكم لا إلزام معه.
والحكم والقضاء بأنه لا إله الا هو متضمن الإلزام. ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، [ولم ينتفعوا بها،] ولم تقم عليهم بها الحجة. بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة.
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع، والبصر، والعقل. أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا إياه من صفات كماله كلها، الوحدانية وغيرها، غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات توقع الحيرة، تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}.{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}.{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ }.{هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}.{ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }.{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، [ولا إلى ذوق فلان] ووجده في أصول ديننا.
ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطرين. بل قد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}. فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي فيما يأتي من كلامه من قوله: لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والإستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية، والعقل يجمع بين هذه وهذه، ويجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.
فهو سبحانه لكمال عدله ورحمته واحسانه وحكمته ومحبته للعذر واقامة الحجة - لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}. [وقال تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ.] وقال تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}. حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ }، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليه بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله، جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه، اشهاد واثق به معتمد عليه، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلط لهم عليه. ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها، ثم أكد ذلك عليهم بالإستهانة لهم واحتقارهم وازدرائهم. ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه [لم يقدروا على ذلك إلا ما كتبه الله عليه]. ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يشمت به أعداءه.
فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم ؟ وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان.
ومن أسمائه تعالى المؤمن وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فإنه لا بد أن يري العباد من الآيات الافقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسله حق [قال] تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآْفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. أي القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله. ثم قال: أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد. فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضاً. ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته سبحانه [بأنه] على كل شيء شهيد، فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليم بتفاصيله. وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، واستدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.
فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الأصطلاح ؟
فالجواب: أن الله تعالى قد أودع في الفطرة التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما يعرفونه منه. ومن كماله المقدس شهادته على كل شيء واطلاعه عليه، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السموات ولا في الأرض باطناً وظاهراً. ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره ويجعلوا معه إلهاً آخر؟ وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي شأنه ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على دينه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب غير مفتر؟ !
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك. ومن جوز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته.
والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص، يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعل [ولا يفعله]، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}. وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى. ويستدل أيضاً بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وأضعاف ذلك في القرآن. وهذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص. وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهده، لأنها أسهل تناولاً وأوسع. والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له. قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وإذا عرف أن توحيد الالهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة - فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني توحيد الخاصة، وهو الذي يثبت بالحقائق، والنوع الثالث توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة، فإن أكمل الناس توحيد الأنبياء [صلوات الله عليهم،] والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيداً، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين. وأكملهم توحيداً الخليلان: محمد وإبراهيم، صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً، ومعرفة، وحالاً، ودعوة للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه. ولهذا أمر سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه. كما قال تعالى، بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: (أصبحنا على فطرة الاسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين). فملة إبراهيم: التوحيد، ودين محمد صلى الله عليه وسلم: ما جاء به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً. وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله. وفطرة الإسلام: هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والإستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة.
فهذا توحيد خاصة الخاصة، الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. وكل من له حس سليم وعقل يميز به، لايحتاج في الاستدلال إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به. ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إلى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر، يفضي إلى الأتحاد. انظر إلى ما أنشد شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول:
ما وحد الواحد من واحـــد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عـــارية أبطلها الواحد
توحيده إيـــاه تــــوحـــيده ونعــت من ينعته لأحد

وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الإتحاد، لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا أجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوباً منا لنبه الشارع عليه ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة ؟ أو ما يقرب من هذا المعنى؟ أو أشار إلى هذه النقول والعقول حاضرة.
فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جاء ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم ؟ وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين، المشبه لغلو [الخوارج، بل] لغلو النصارى في دينهم. وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه، فقال: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق. قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. وقال صلى الله عليه وسلم: لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كان قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم رواه أبو داود.

قوله: (ولاشيء مثله).

ش: اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظ، مجملاً يراد به المعنى الصحيح، وهو ما نفاه القرآن ودل عليه العقل، من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته: ليس كمثله شيء، رد على الممثلة المشبهة وهو السميع البصير، رد على النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النصارى في كفرهم، ويراد به أنه لا يثبت لله شي من الصفات، فلا يقال: [له] قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات ! ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذلك كلامه وسمعه وبصره [وإرادته] وغير ذلك. وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود، عليم قدير، حي. والمخلوق يقال له: موجود حي عليم قدير، ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه عاقل، فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمي فسمى نفسه: حياً، عليماً، قديراً، رؤوفاً، رحيماً، عزيزاً، حكيماً، سميعاً، بصيراً، ملكاً، مؤمناً، جباراً، متكبراً. وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقال: يخرج الحي من الميت. وبشروه بغلام عليم. فبشرناه بغلام حليم. بالمؤمنين رؤوف رحيم. فجعلناه سميعاً بصيراً. قالت امرأة العزيز. وكان وراءهم ملك. أفمن كان مؤمناً. كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار. ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي، ولا العليم العليم، ولا العزيز العزيز، وكذلك سائر الأسماء، وقال تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه. أنزله بعلمه. وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة. وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الإستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا اقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به. قال: ويسمي حاجته، رواه البخاري. وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحييني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين). فقد سمى الله ورسوله صفات الله علماً وقدرة وقوة. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}.{وإنَّهُ لَذُو عِلْـمٍ لِـمَا عَلَّـمْناهُ}. ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة. وهذا لازم لجميع العقلاء. فإن من نفي صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب، والحب والبغض، ونحو ذلك، ورغم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم ! قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما.
فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً من الصفات ! قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: عليم، حي، قادر. والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما يثبت للعبد فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه.
فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول. هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة!
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود وحق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلاً له.
فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر الى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر الى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق [غني] عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك. وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم، والآخر حادث، أحدهما غني، والآخر فقير، أحدهما خالق، والآخر مخلوق. وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً، ومن المعلوم أيضاً أن أحدهما ليس مماثلاً للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه، والآخر لا يجب قدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما خالق والآخر ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير.
فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم، موجوداً بنفسه غير موجود بنفسه، خالقاً ليس بخالق، غنياً غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما. فعلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع.
فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه. فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً بالباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً بالباطل، والله أعلم. وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه، فاللة [تعالى] مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه، وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه.
وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه.
وهذا موضع اضطراب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الإتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد.
وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث. ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا [أو على كذا]، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه.
وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فان ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، [بل] لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به. فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق ؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه. وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه.
فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر.
والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه.
واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عنها أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفرده، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له الى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة الى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداء، ولكن [لا] يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعني به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه. وإن كانت الإشارة الى ما يحس بالباطن، مثل الجوع والشبع والري والعطش والحزن والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال، جوعه وإدراكه بنظرها أو نحوه جنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره.
اذا عرف ذلك فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو إما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كانت من القسمين الأولين لم يحتج إلا إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة ومعنى التركيب، فاذا قيل له بعد ذلك: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ}، أو قيل له: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ}. ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه، وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما [لا] يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل.
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماء لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر. وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية، والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قال ربيعة ابن أبي عبد الرحمن: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم.
وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم، وإن كانت أشد. وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية. ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}. وقد يكون الذي يخبر به الرسول ما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه. كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم. فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كامله ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل قولاً يكون حكاية له وشبهاً، به يعلم المستعمون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة. فينبغي أن يعرف هذه الدرجات:
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب. فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والإشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة. ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق، كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا، ونحو ذلك. وإذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط.

قوله: (ولا شيء يعجزه).

ش: لكمال قدرته. قال تعالى: {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}.{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}.{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }. لا يؤده أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه. فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}،لكمال عدله.{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}،لكمال علمه. وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} لكمال قدرته. {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لكمال حياته وقيوميته. {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ} لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفى الصرف لا مدح فيه، ألا ترى أن قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمة =ولا يظلمون الناس حبة خردل
لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله قبيلة علم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم. وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد =ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، علم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضاً.
ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم: فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا رائحة ولا طعم، ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار الى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة.
وفي هذه الجملة حق وباطل. ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة. وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، [فيه] إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك ! لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل. فإذا أجملت في النفي أجملت في الأدب.
والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الآلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة. والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتعدوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده. [وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده]. والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً، أو يبينوا حاله تفصيلاً، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، [لا يحكم به على الكتاب والسنة].
والمقصود: أن غالب عقائدهم السلوب، ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل، وهي أنه عالم قادر حي، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات، فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي. ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله، مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن [العظيم] ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي). وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى.
وليس قول الشيخ رحمه الله تعالى ولا شيء يعجزه من النفي المذموم، فأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيما قَدِيرا} ،فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة، فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو على كل شيء قدير، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز، لما بينه وبين القدرة من التضاد، ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، تعالى الله عن ذكر ذلك علواً كبيراً.

قوله: {ولا إله غيره).

ش: هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم، كما تقدم ذكره. وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الإحتمال. ولهذا - والله أعلم - لما قال تعالى: {وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَـٰهَ.. قال بعده: إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: {إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.
وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في لا إله إلا هو - فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله. ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى.
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن إله في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلا بد من خبر المبتدأ، وإلا فما قاله من الإستغناء عن الإضمار فاسد. وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية - فليس بشيء، لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية و لا وجود. وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود، و إلا الله - مرفوع، بدلاً من لا إله لا يكون خبراً لـ لا، ولا للمبتدأ. وذكر الدليل على ذلك.
وليس المراد هنا ذكر الاعراب، بل المراد رفع الأشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة. وهو فاسد: فإن قولهم: نفي الوجود ليس تقييداً، لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}. ولا يقال: ليس قوله: غيره كقوله: إلا الله، لأن غير تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا. فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً. فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا.


  #5  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 09:37 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)

القارئ: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لا شريك له.

الشيخ: قوله: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لا شريك له"، قوله: نقول هذا؛ لأنه لا يكتفى في الاعتقاد باعتقاد القلب، بل لابد من قول اللسان، وأعظم قول اللسان وكاف شهادة ألا إله إلا الله،وأن محمدا رسول الله؛ لأن العقيدة الصحيحة اعتقاد بالجنان، وقول باللسان؛ حتى يكون الإيمان صحيحاً، ثم امتثال العمليات في الأمر والنهي.
وقوله: "معتقدين"، هذه حال من "نقول"، يعني أقول حالة كوني معتقداً هذا الكلام عاقداً عليه قلبي، غير متردد فيه، ولا مرتاب، فمعتقدين ولو تأخرت فهي حال من الضمير في نقول.
وقوله: "بتوفيق الله"، هذه استعانة بالله جل وعلا أن يوفقه في القول الحق في ذلك، والتوفيق اختلفت فيه التفسيرات، بما سيأتي بيانه إِنْ شَاءَ اللَّهُ مفصلاً في ذكر مسائل القدر، فأهل السنة لهم تفسير للتوفيق وللخزلان، وأهل البدع كل له مشربه في تفسير التوفيق والخزلان.
قال: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له"، اشتملت هذه الجملة على ذكر التوحيد، وعلى تفسيره، وكلمة التوحيد هذه: مصدر وحَّد يوحد توحيداً، يعني جعل الشيء واحداً، قد جاء في السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في حديث معاذ:((إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله))،وجاء أيضاً في قول الصحابي رَضِي اللهُ عَنْهُم، فأهل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد، في قوله: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك))، التلبية المعروفة في أول الحج، فأهل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد.
فإذن كلمة التوحيد جاءت في السنة، ومعنى التوحيد كما ذكرنا جعل الشيء واحدا في اللغة، فتوحيد الله معناه: أن تجعل الله واحداً، واحدا فيما وحد الله جل وعلا نفسه فيه، فيما دلت عليه النصوص، والنصوص دلت على أن الله واحد في ربوبيته، واحد في إلهيته، واحدٌ في أسمائه وصفاته.
فالتوحيد إذن في الكتاب والسنة راجع إلى توحيد الربوبية، توحيد الإلهية، توحيد الأسماء والصفات، وهذا على التقسيم المشهور، وقسمه بعض أهل العلم إلى تقسيم آخر، وهو أن توحيد الله ينقسم إلى قسمين؛ ينقسم إلى توحيد في المعرفة والإثبات، وإلى توحيد في القصد والطلب. وعنى بقوله:"في المعرفة والإثبات"، في معرفة الله جل وعلا بأفعاله، وهذا هو الربوبية والإثبات له، فيما أثبت لنفسه، وهذا هو الأسماء والصفات.
وقوله:"في القصد والطلب"، هو توحيد الإلهية، وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، جاء في عبارات المتقدمين من أئمة الحديث والأثر، فجاء عند أبي جعفر الطبري في تفسيره، وفي غيره من كتبه، وفي كلام ابن بطة، وفي كلام ابن منده، وفي كلام ابن عبد البر وغيرهم من أهل العلم من أهل الحديث والأثر، خلافاً لمن زعم من المبتدعة أن هذا التقسيم أحدثه ابن تيمية، فهذا التقسيم قديم، يعرفه من طالع كتب أهل العلم التي ذكرنا.
إذا تقرر ذلك فمعنى توحيد الربوبية اعتقاد أن الله واحد في أفعاله سبحانه لا شريك له، وأفعال الله جل وعلا منها خلقه سبحانه، ومنها رزقه، وإحياؤه، وإماتته، وتدبيره للأمر، وإغاثته للناس ونحو ذلك، يعني أن توحيد الربوبية راجع إلى أفراد الربوبية، التي هي السيادة والتصرف في الملكوت، فكل مارجع إلى السيادة والتصرف في الملكوت رجع إلى توحيد الربوبية، فالإيمان بتوحيد الربوبية معناه: أنه إيمان بأن الله وحده لا شريك له، هو المتصرف في هذا الملكوت أمراً ونهياً، هو الخالق وحده، وهو الرزاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده، وهو القابض الباسط وحده في ملكوته، إلى آخر مفردات الربوبية، كما قال جل وعلا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.

فأثبت أنهم أقروا بالربوبية، وأنكر عليهم أنهم لم يتقوا الشرك به، وترك توحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية هو توحيد الله بأفعال العبيد، توحيد في القصد والطلب بأن يفرد العبد ربه جل وعلا في إنابته، وخضوعه، ومحبته ورجائه، وأنواع عبادته من صلاته، وزكاته، وصيامه، ودعائه، وذبحه ونذره، إلى آخر أفراد العبادة بما هو معلوم في توحيد الإلهية.
وتوحيد الأسماء والصفات هو جعل الله جل وعلا واحداً لا مثل له، في أسمائه وصفاته، كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}،وكما قال: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}،وكما قال جل وعلا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }.
إذن قوله:"نقول في توحيد الله معقتدين بتوفيق الله"، هنا ذكر التوحيد؛ لأن الخلاف قائم فيه، ففي الربوبية قام الخلاف مع الدهرية والفلاسفة، الذين يقولون: إن هذا العالم قديم لم يزل، وأنه ليس له خالق، بل وجد العالم هكذا باتفاق، وغير ذلك من مقالات نفاة الرب جل وعلا،وكذلك مخالفة للذين جعلوا الله ربا، ولكن جعلوا معه شريكاً في الربوبية، وهم طوائف وملل مختلفة، وفي هذه الأمة دخل ذلك في قول غلاة المتصوفة، الذين يقولون: إن لهذا العالم من يتصرف فيه من الأولياء والأقطاب، الذين لكل بلد قطب، يمنع ويعطي فيها، ويرزق ويحيي ويميت... إلى آخر ما يعتقدون فيه في الإلهية، ثم من خالف في الأسماء والصفات، ثم من خالف كما سيأتي تفصيله.

هنا سؤال وهو أنه قدم القول في الاعتقاد في الله جل وعلا،لم؟
والجواب عن ذلك: أنه قدم ذلك لأمرين: الأول منهما: أن الإيمان بالله مقدم على غيره من أركان الإيمان،كما قال جل وعلا: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}،فقدم الإيمان بالله على غيره، وكما في قوله جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}،وقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل المعروف: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر،وبالقدر خيره وشره)).
الأمر الثاني: أن الاعتقاد في الله جل وعلا هو أصل الإيمان، وبه يصير المرء مؤمنا، الاعتقاد في الله جل وعلا بالوحدانية، بما دلت عليه شهادة ألاَّ إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن ذلك هو أول واجب على العبيد، وفي هذا مخالفة للذين زعموا أن أول واجب على العبد، ويقدمونه في عقائدهم، أن يعرف الله، أو أن يستدل على معرفة الله، أو ما يسمونه بالنظر للتوحيد أو للمعرفة، أو بالقصد إلى النظر.
فلما كان أول واجب هو التوحيد، قدمه مخالفة لمن قال: إن أول واجب هو أن ينظر في الدلائل، وفي الملكوت لمن كان أهلا لذلك.
قال: "إن الله واحد لا شريك له"، "إن الله واحد"، لفظ واحد هذا من أسماء الله الحسنى، كما قال جل وعلا: {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، وأيضاً من أسمائه سبحانه الأحد، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وواحدٌ يعني أنه لا شريك له، ولذلك كانت كلمة لا شريك له هذه مؤكدة تأكيداً بعد تأكيد.
قال الحافظ ابن حجر وغيره في قوله: "واحد لا شريك له": هذا تأكيد بعد تأكيد، لبيان عظم مقام التوحيد. وكلمة واحد هذه راجعة عند أهل الاعتقاد إلى أحديته سبحانه، ونقول: الصحيح أنه لا فرق بين واحد وأحد، والمتكلمون يفرقون ما بين الواحد والأحد، واحد وأحد، فيرجعون الواحدية للصفات، والأحدية للأفعال، لكن الصحيح أن اسم الله جل وعلا الواحد يرجع إليه أحديته سبحانه في الذات، وفي الصفات، وفي الأفعال، في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
قوله: "لا شريك له" هذا التفسير لواحد وتأكيد له، ولهذا دل قوله: "إن الله واحد لا شريك له" على أن التوحيد أعظم ما يفسر به نفي الشريك عن الله جل وعلا "نقول في توحيد إن الله واحد لا شريك له"، فالتوحيد يفسر بضده وهو نفي الشرك، قال كما الشاعر (وبضدها تتبين الأشياء) فقد لا يستقيم معرفة التوحيد بتفاصيله، إلا بالإيقان بنفي الشرك بأنواعه، لهذا نقول هنا قوله:"لا شريك له" هذا عام، يشمل نفي الشريك في الربوبية، ونفي الشريك في الألوهية، ونفي الشريك في الأسماء والصفات.
والشركة في الربوبية راجعة إلى جعل المخلوق له من صفات الرب جل وعلا في صفات الربوبية، يعني أن يجعل للمخلوق تصرفاً. إذا جعل للمخلوق تصرفاً في الكون، مما يختص به الله جل وعلا فهذا ادعاء للشريك معه في الربوبية، أو أن يعتقد أن الله معه معين أو ظهير أو وزير، وهذا كله منفي، وكل هذا داخل في الاشتراك في الربوبية كما قال جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ
فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ}.
فذكر أنواع الاشتراك في الربوبية؛ إما شركة مستقلة {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني استقلالاً أو معاونة، أو اتخاذ ظهير ووزير لله جل وعلا، وهذا، المعتقدات هذه موجودة في طوائف من هذه الأمة.
والإيمان بتوحيد الربوبية ونفي الشركة في الربوبية على درجتين:
الدرجة الأولى: واجبة على كل مكلف، ومن لم يأتِ بها فليس بموحد، بل هو مشرك، وهو ما ذكرنا من الاعتقاد بأن الله واحد في ربوبية، في أفعاله سبحانه، فهو الخالق وحده، وهو الرزاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده جل وعلا، وهو مدبر الأمر وحده، وهو خالق الخلق وحده... إلى آخر أفراد ذلك. وهذه واجبة على كل أحد.
والمرتبة الثانية من الإيمان بتوحيد الربوبية هي مرتبة للخاصة وأهل العلم، وهي شهود آثار الربوبية في خلق الله جل وعلا، وهذه بحيث لا يرى غير الله جل وعلا مؤثراً في هذا الملكوت، ولو كان تأثير معلولات عن علل، فإنه يرى، أو تأثير مسببات عن أسباب، فإنه يرى ألا مؤثر في الحقيقة، ولا خالق إلا الله جل وعلا، وينظر لذلك في الملكوت متفكراً متدبراً، وهذه حال الخاصة، وهى مستحبة، وهي لأهل العلم ولأهل الإيمان، وليست واجبة على كل أحل، كما قال سبحانه: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا}.
وكما وصف الله جل وعلا بعض عباده بالتفكر والنظر والتدبر في خلق الله جل وعلا، بل أمر بذلك في بعض الآيات، كقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}،وكقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}،وكقوله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}.
فهذا التفكر في ربوبية الله جل وعلا في خلق الله يدل على توحيده في الربوبية، وهو حال الخاصة، كما قال الحسن البصري رحمه الله تَعَالَى: عاملنا القلوب بالتفكر، فأورثها التذكر، فرجعنا بالتذكر على التفكر، وحركنا القلوب بهما، فإذا القلوب لها أسماع وأبصار، وهذه عند أهل البدع وأهل الكلام مطلوبة، وواجبة، لمن كان أهلاً لها، فيوجبون النظر ويوجبون التفكر، ولا يصح إيمان أحد عندهم.. عند طائفة منهم ممن كان أهلا للنظر إلا بالنظر، فلو مات المتأهل للنظر من غير نظر، لم يكن مؤمناً بربوبية الله جل وعلا، وإن كانت تجري عليه أحكام أهل الإسلام في الدنيا، فإنهم لا يجرون عليه أحكام أهل الإسلام في الآخرة على تفصيل مذهب أهل الكلام في ذلك.

النوع الثاني: أن يعتقد بأن الله لا شريك له في إلهيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والإلهية معناها العبادة، يعني لا شريك له في عبادته، كما دلت عليها كلمة التوحيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فيعتقد أن الله جل وعلا ليس معه إله يستحق العبادة، وأن كل من ادعي فيه الإلهية وأنه يعبد فإنما عبد بالبغي والظلم والعدوان والتعدي، وكل من أشرك بالله جل وعلا فهو ظالم، أبشع الظلم وأكبر الظلم؛ لأنه سبحانه توعد أهل الشرك بالنار، بل أوجب لهم النار في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وكما قال المسيح عليه السلام {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}، ببيان هذا التوحيد وما يتصل به كتب توحيد العبادة المعروفة، ومن أعظمها وأشملها كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تَعَالَى.
الثالث من أنواع نفي الشريك المشتمل عليه قوله: "لا شريك له" نفي الشريك لله في الأسماء والصفات؛ وذلك بأن يعتقد أن الله جل وعلا لا شريك له في كيفية اتصافه بالصفات، يعني لا مماثل له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا مشابه له في كيفية اتصافه بالصفات، وأنه سبحانه لا شريك له في المعنى المطلق لصفاته سبحانه ولأسمائه، ولا مشابه له في المعنى المطلق لأسمائه وصفاته، وأن اشتراك بعض خلقه معه سبحانه في الصفات إنما هو اشتراك في مطلق المعنى وفي أصله، لا في المعنى المطلق ولا في كماله، ولا في الكيفية، فيعتقد أنه لا شريك له في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله سبحانه، بل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
لأجل هذا المعنى العام عطف عليها المصنف بقوله: "ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره" كما سيأتي تفصيل الكلام على هذه المسائل في ذكر معنى هذه الجمل الثلاث.
إذن هذا إجمال لمعنى التوحيد ونفي الشريك، ويأتي تفصيلها مع بيان كل مسألة، توحيد الربوبية وأبحاثه، توحيد الأسماء والصفات وأبحاثه، وتوحيد الإلهية وأبحاث توحيد الإلهية، بقي أن نقول: إن في قوله: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له" إن هذه العبارة: "لا شريك له" تفسيرها على طريقة أهل السنة ذكرناها،وأما أهل البدع فيقولون في تفسير: واحد ولا شريك له عبارات مختلفة، تجدونها في التفاسير، ويكثر منها أهل البدع، فيقولون في تفسير: (واحد) واحدٌ في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شريك له، وواحد في أفعاله لا ند له.
وفي قولهم في أولها: واحد في ذاته لا قسيم له هذه من التعبيرات المحدثة، وإن كان يمكن أن تحتمل معنًى صحيحاً، لكن التوحيد والأحدية تفسر بواحديته سبحانه، وأحديته في ربوبيته وإلهيته وفي أسمائه وصفاته، وأهل البدع في التوحيد اختلفت عباراتهم، وسبب اختلاف عباراتهم في التوحيد؛ أنهم نظروا في تعريف التوحيد إلى حال النصارى وأهل الملل، ففسروا التوحيد بما يخالف ما عليه بعض الطوائف، فقالوا: واحد في ذاته لا قسيم له، يعني نفيا للأقانين الثلاثة التي هي صور لله جل وعلا مختلفة، كما هو اعتقاد النصارى أو طائفة من النصارى، وكذلك اعتقاد الثنوية، والذين يقولون: إن ثم إلهين, هو إنه واحد، لكن له أقنونان، شيء للخير وشيء للشر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد في ذاته، وأسمائه وصفاته، واحد في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
سيأتي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مزيد بيان لقول المخالفين في تفسير الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فيما نستقبل إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.نكتفي الليلة بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه أن يوفقكم لما يحب ويرضى، وأن يزيدني وإياكم من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يختم لنا برضاه.
اللهم اغفر لنا جميعاً، ووفقنا لعلم يكون حجة لنا، وترفع به درجاتنا ونكون فيه من الذين قلت فيهم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} اللهم فاغفر جما، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
نختار خمس أسئلة فقط، اختار خمس، بِسْمِ اللهِ.

سؤال: قد يفهم من الدرجة الثانية من توحيد الربوبية نفي الأسباب وآثارها.
جواب: لا يفهم ذلك؛ لأن المقصود أن يرى، أن يشهد آثار الأسماء والصفات، وشهود آثار الأسماء والصفات هذا ليس نفياً للأسباب، بل هو جعل الأسباب أسباباً، وعدم مجاوزتها لكونها أسباباً، فيرى أن الفاعل هو الله جل وعلا، وأنه سبحانه أجرى الأسباب بجعلها أسباباً، وأنتج سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها مسبباتها، وأن العلل تنتج معلولاتها، وأن المؤثر تنتج الآثار إلى غير ذلك مما هو معلوم من اعتقاد أهل التوحيد.

سؤال: ما نكاد نقرأ كتاباً من كتب السنة،كالسنة لعبد الله واللالكائي، والإبانة إلا ونجد فصلاً أو باباً في طعن الأئمة في أبي حنيفة، فما هو السبب؟وما موقفنا من هذه الآثار؟
جواب:هذا كان في ذلك الزمان؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله تَعَالَى خالف السنة والآثار في مسائل كثيرة جداً، ورد عليه أهل السنة والحديث؛ حتى لا يأخذ الناس بكلامه في ذلك، فتآليف هذه لأجل انتشار مذهب الحنفية في هذا في البلاد فكتبوا ذلك تحذيراً من اتباعه فيما أخطأ فيه، لكن لما استقرت المذاهب، واستقرت الفرق، وصار أبو حنيفة رحمه الله أحد الأئمة الأعلام، الذين يشار إليهم والذين يتبعون في مسائل الفقه، ترك أهل السنة إيراد ذلك بعد نهاية القرن الخامس، واجتمعوا على عدم ذكرها بل عدوه من الأئمة الأعلام، كما عقد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب المعروف (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، وذكر منهم أبا حنيفة رحمه الله.
فأخطأ هو في مسائل وخالف السنة في مسائل، وعد من مرجئة الفقهاء، لكن ما ورد في تلك الكتب من شتمه ولعنه وسبه أو نحو ذلك، هذا تركه أهل السنة، فلم يصر من شعار أهل السنة أن يفعل ذلك، كما قرره الأئمة في كتبهم، وتركوه في مؤلفاتهم بعد نهاية القرن الخامس.

سؤال: بعض أهل العلم يقسم التوحيد إلى أربعة أقسام: توحيد الإلهية،وتوحيد الربوبية،وتوحيد الأسماء والصفات, توحيد الحاكمية، فهل هذا التقسيم صحيح أم لا؟
جواب: توحيد الحاكمية داخل إما في توحيد الربوبية، أو في توحيد الإلهية، أو فيهما معا؛لأن الله جل وعلا جعل الحكم إليه سبحانه بقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}،وقال جل وعلا: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ونحو ذلك من الآيات، وكقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}.
فالحاكمية من جهة تحاكم الناس هذا فعل العبد، وفعل العبد داخل في توحيد الإلهية، ولهذا أدخل إمام الدعوة مباحث هذا النوع من التوحيد في كتاب التوحيد، فعقد عدة أبواب في بيان هذه المسألة العظيمة المهمة.
ولهذا نقول: إن إفراده بالذكر لا يصلح لدخوله في توحيد الإلهية، فهو من ضمن مسائله الكثيرة، لكن قد يقسم التوحيد عند طائفة من أهل العلم إلى أربعة أقسام، ويجعلون الرابع توحيد المتابعة، توحيد المتابعة يعني: متابعة النبي عليه الصلاة والسلام، وهم يقصدون بهذا التقسيم ما دلت عليه الشهادتان، فإذا قالوا: توحيد الله قالوا: ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وإذا قالوا: التوحيد بدون الإضافة إلى الله جل وعلا جعلوه أربعة أقسام، ثلاثة مختصة بالله جل وعلا، والرابع هو توحيد المتابعة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يتبع في التشريع غير المصطفى عليه الصلاة والسلام.

سؤال: هذا يقول: نرجوا أن تعيد الكرسي ليتثنى المشاهدة؛ لأنها أدعى للفهم والإدراك؟
جواب: إن شاء الله يكون خيرا إن شاء الله [كلام ليس له فائدة علمية] وفقكم الله لما يحب ويرضى.
القارئ:... نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،قال المؤلف رحمه الله تَعَالَى...
الشيخ: نقول في توحيد الله.
القارئ: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لاشريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره، قديم بلا ابتداء، دائم لا انتهاء.
الشيخ: (بس) يكفي غيره يقرأ. اقرأها مرة ثانية. نعم.
القارئ: بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على عبده ورسوله نبينا محمد.قال المؤلف رحمه الله تَعَالَى:
نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لا شريك له،ولا شيء مثله،ولا شيء يعجزه ولا إله غيره.
الشيخ: يكفي، اقرأ.
القارئ:بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ،الحمد لله رب العالمين.قال الإمام الطحاوي رحمه الله تَعَالَى:
نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره، قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء.
الشيخ: بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، وأَشْهَدُ أَلاّ إِلَهَ إِلا اللهَ وحده لا شريك له، وَأَشْهَدُ أن مُحَمَّدًا عبد الله ورَسُوله، وصفيه وخليله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وقلباً خاشعاً، ودعاءً مسموعاً، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا من العلم والعمل يا أرحم الراحمين،أما بعد..,
فهذه الجمل الثلاث،وهي قوله: "ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه ولا إله غيره" تفصيل لما يعتقده في توحيد الله جل وعلا.والتوحيد كما ذكرنا منقسم إلى الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية،وتوحيد الأسماء والصفات،وتوحيد الإلهية، فذكر هذه الأقسام الثلاثة في قوله: "ولا شيء مثله،ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره".
فقوله: "ولا شيء مثله" راجع إلى توحيد الأسماء والصفات والأفعال، وقوله: "ولا شيء يعجزه" راجع أو مثبت لتوحيد الربوبية، وقوله: "ولا إله غيره" مثبت لتوحيد العبادة والألوهية.
وقدم (رحمه الله) ما يدل على توحيد الأسماء والصفات بعد ذكر توحيد الإلهية في قوله: "إن الله واحد لا شريك له"؛ لأن النزاع كائن في توحيد الإلهية، وفي توحيد الأسماء والصفات، فمع أهل الشرك النزاع في توحيد الإلهية، وهو الذي كان النزاع فيه ما بين الرسل وبين أقوامهم، ولهذا قدم ما يعتقده بقوله: "إن الله واحد لا شريك له"؛ لأن هذا هو حقيقة النزاع بين الرسل وبين أقوامهم.
ثم قال: "ولا شيء مثله"؛ لأن هذا هو حقيقة النزاع ما بين أهل السنة والجماعة، وما بين مخالفيهم من المبتدعة على أصنافهم من المجسمة، والمعطلة، والنفاة، وأشباه هؤلاء. وأيضاً قرن بينهما؛ لأن البدع بريد الشرك، فإن ترك تنزيه الله جل وعلا عن مماثلة المخلوقين يؤدي إلى الشرك به جل وعلا.
ولهذا قال من قال من السلف: المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً، فالتمثيل ثم اقتران بينه وبين الشرك؛ لأن الممثل اتخذ صورة جعلها على صفات معينة فصارت صنماً له، كما أن المشركين عبدوا الأصنام، واتخذوها آلهة.
وأما قوله: "ولا شيء يعجزه" فهو توحيد الربوبية، كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً.
إذن فترتيب المصنف الطحاوي (رحمه الله) لهذه الجمل الأربع ترتيب مناسب، وهو متنقل بفهم في أمور الاعتقاد، وموقف أهل السنة وأهل الإسلام من مخالفيهم، والجملة الأولى في هذا اليوم هي قوله: "ولا شيء مثله" والكلام عليها يكون في مسائل:
المسألة الأولى: أن قوله: "ولا شيء مثله" مأخوذ من قول الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}, ومن قوله جل وعلا: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}،ومن قوله جل وعلا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}،ومن قوله سبحانه: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وأشباه هذه الأدلة، التي تدل على أن الله سبحانه لا يماثله شيء من مخلوقاته.
والمسألة الثانية: أن قوله: "لا شيء مثله" راجع لنفي المماثلة، وهذا هو الذي جاء في الكتاب والسنة، أن ينفى عن الله جل وعلا أن يماثل أحداً أو شيئاً من خلقه، وكذلك ينفى عن المخلوق أن يكون مماثلاً لله جل وعلا.
وإذا كان كذلك فالمماثلة أو التمثيل أو المثلية تعرف بأنها المساواة في الكيف والوصف، والمساواة في الكيفية راجعة إلى أن يكون اتصافه بالصفة من جهة الكيفية مماثل لاتصاف المخلوق، كقولهم: يد،يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وأشباه ذلك. وأما المماثلة في الصفات فهي أن يكون معنى الصفة بكماله التام في الخالق، كما هو في المخلوق.
إذا تقرر ذلك فإن اعتقاد المماثلة في الكيفية،أو في الصفات على النحو الذي ذكرت، هذا تمثيل يكفر صاحبه، ولهذا كفر أهل السنة النصارى، وكفر أهل السنة المجسمة؛ لأن النصارى شبهوا المخلوق بالخالق، وشبهوا عيسى بالله جل وعلا، والمجسمة شبهوا الله جل وعلا ومثلوه بخلقه.
المسألة الثالثة: الفرق ما بين المماثلة والمثلية وبين التشبيه، ولتقرير ذلك تنتبه إلى أن الذي جاء نفيه في الكتاب والسنة إنما هو نفي المماثلة، أما نفي المشابهة؛ مشابهة الله لخلقه فإنها لم تنفى في الكتاب والسنة؛ لأن المشابهة تحتمل أن تكون مشابهة تامة، ويحتمل أن تكون مشابهة ناقصة، فإذا كان المراد المشابهة التامة، فإن هذه المشابهة هي التمثيل، وهي المماثلة، وذلك منفي؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
فإذن لفظ المشابهة ينقسم إلى موافق للمماثلة الشبيه موافق للمثيل وللمثل، وإلى غير موافق، يعني قد يشرك معنى الشبيه والمثيل، ويكون المعنى واحداً، إذا أريد بالمشابهة المشابهة التامة في الكيفية وفي تمام معنى الصفة في الكيفية،وفي تمام معنى الصفة.
وأما إذا كان المراد بالمشابهة المشابهة الناقصة، وهي الاشتراك في أصل معنى الاتصاف، فإن هذا ليس هو التمثيل المنفي، فلا ينفى هذا المعنى الثاني، وهو أن يكون ثم مشابهة، بمعنى أن يكون ثم اشتراك في أصل المعنى.
وإذا كان كذلك، فإن لفظ الشبيه والمثيل بينهما فرق كما قررت لك، ولفظ المشابهة لفظ مجمل، لا ينفى ولا يثبت، وأهل السنة والجماعة إذا قالوا: إن الله جل وعلا لا يماثله شيء ولا يشابهه شيء يعنون بالمشابهة المماثلة، أما المشابهة التي هي الاشتراك في المعنى، فنعلم قطعاً أن الله جل وعلا لم ينفها؛ لأنه سُبْحَانَهُ سمى نفسه بالملك، وسمى بعض خلقه بالملك،{مٰلِكِ يَومِ الدّينِ} {الْـمَلِكُ الحق}، وسمى بعض خلقه بالملك {وَقَالَ الْـمَلِكُ} وأشباه ذلك من الآيات، وكذلك سمى نفسه بالعزيز، وسمى بعض خلقه بالعزيز، وكذلك جعل نفسه سبحانه سميعاً، وأخبرنا بصفة السمع له والبصر والقوة، والقدرة، والكلام، والاستواء والرحمة، والغضب والرضا وأشباه ذلك، وأثبت هذه الأشياء للمخلوق، للإنسان فيما يناسبه منها.
فدل على أن الاشتراك في اللفظ، وفي بعض المعنى ليس هو التمثيل الممتنع؛ لأن كلام الله جل وعلا حق، وبعضه يفسر بعضاً، فنفى المماثلة سبحانه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وأثبت اشتراكاً في الصفة، وإذا قلت اشتراكاً، ليس معنى ذلك أنها من الأسماء المشتركة في الصفات، ولكن أثبت اشتراكاً في الوصف، يعني شركة فيه، فإن الإنسان له مُلك، والله جل وعلا له المُلك، والإنسان له سمع، والله جل وعلا له سمع، والإنسان له بصر، والله جل وعلا له بصر، وهذا الإثبات فيه قدر من المشابهة، لكنها مشابهة في أصل المعنى، وليست مشابهة في تمام المعنى، ولا في الكيفية، فتحصل من ذلك أن المشابهة ثلاثة أقسام:
الأول: مشابهة في الكيفية، وهذا ممتنع.
والثاني: مشابهة في تمام الاتصاف ودلالة الألفاظ على المعنى بكمالها، وهذا ممتنع.
والثالث: مشابهة في معنى الصفة، في أصل المعنى، وهو مطلق المعنى وهذا ليس بمنفي. ولهذا صار لفظ التمثيل ونفي التمثيل ونفي المثلية صار شرعيا؛ لأنه واضح دلالته غير مجملة وأما لفظ المشابهة فإن دلالته مجملة، فلم يأتِ نفيه.
ونحن نقول: إن الله جل وعلا لا يماثله شيء، ولا يشابهه شيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،ونعني بقولنا: لا يشابهه شيء، معنى المماثلة في الكيفية، أو المماثلة في تمام الاتصاف بالصفة، وتمام دلالة اللفظ على كمال معناه.
المسألة الرابعة على قوله: "ولا شيء مثله": أن إثبات الصفات لله جل وعلا قاعدته مأخوذة من هذه الجملة (ولا شيء مثله) فإثبات الصفات مأخوذ من قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فنفى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأثبت، وعند أهل السنة والجماعة أن النفي يكون مجملا:"لا شيء مثله"، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}،وأن الإثبات يكون مفصلا: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}،وهذا بخلاف طريقة أهل البدع؛ فإنهم يجعلون الإثبات مجملاً، والنفي مفصلاً، فيقولون في صفة الله جل وعلا: إن الله ليس بجسم، ولا بشبح، ولا بصورة، ولا بذي أعضاء، ولا بذي جوارح، ولا فوق ولا تحت، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا قدام ولا خلف، وليس بذي دم، ولا هو خارج ولا داخل... إلى آخر تصنيفهم للمنفيات. وإذا أتى الإثبات إنما أثبتوا مجملاً، فصار نفيهم وإثباتهم على خلاف ما دلت عليه الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
فطريقة أهل السنة أن النفي يكون مجملاً، وأن الإثبات يكون مفصلاً، على قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}،والنفي المجمل فيه مدح، والإثبات المفصل فيه مدح، والنفي المجمل والإثبات المفصل من فروع معنى استحقاق الله جل وعلا للحمد، والله سبحانه أثبت أنه محمود، ومسبحٌ في سماواته وفي أرضه جل وعلا كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، وكقوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}،وكقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ونحو ذلك.
والجمع بين التسبيح والحمد هو جمع بين النفي والإثبات؛ لأن التسبيح نفي النقائص عن الله، فجاء مجملاً، والحمد إثبات الكمالات لله جل وعلا فجاء مفصلاً، فإثبات الكمالات من فروع حمده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا صار محموداً جل وعلا على كل أسمائه وصفاته، وعلى جميع ما يستحقه سبحانه، وعلى أفعاله جل وعلا، وتنزيهه سبحانه بالنفي، يعني بالتسبيح، أن يكون ثم مماثل له سبحانه وتعالى، فمعنى سبحان الله تنزيهاً لله جل وعلا عن أن يماثله شيء، أو عن النقائص جميعاً، والحمد إثبات الكمالات بالتفصيل.
فإذن من نفى مجملاً وأثبت مفصلاً فإنه وافق مقتضى التسبيح والحمد، الذي قامت عليه السماوات والأرض، ومن نفى مفصلاً وأثبت مجملاً فقد نافى طريقة الحمد والتسبيح... سقط... الذي في السماوات، والذي قامت عليه السماوات والأرض، بهذا صارت طريقة الْقُرْآنِ أن يكون النفي مجملاً، والإثبات.. أن يكون النفي مجملاً، والإثبات مفصلاً، وطريقة أهل البدع بعكس ذلك.
المسألة الخامسة: أن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}الذي هو دليل "ولا شيء مثله" قد اختلف فيه المفسرون في معنى الكاف في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}،والكاف هنا على أي شيء تدل،على أقوال الأول منها أن الكاف هذه بمعنى مثل، فيكون معنى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ليس مثل مثله شيء، مبالغة في النفي عن وجود مثل المثل، فكيف يوجد المثل فنفيه من باب أولى، ومجيء الكاف بمعنى الاسم هذا موجود في الْقُرْآنِ، وكذلك في لغة العرب، فأما مجيئه في الْقُرْآنِ مجيء الكاف بمعنى الاسم وهي حرف كما في قوله جل وعلا: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} فقوله:{أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} عطف الاسم على الكاف، التي هي في قوله:{كَالْحِجَارَةِ}، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ}.
ومعلوم أن الاسم إنما يعطف على الاسم، فقوله:{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} يعني فهي مثل الحجارة {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} من الحجارة، ومجيئه في اللغة أيضاً ظاهر ومحفوظ كقول الشاعر:

لو كان في قلبي كقدر قلامة = حبا لغيركما أتتك رسائلي
فقوله: (لو كان في قلبى كقدر قلامة) هذا جعل شبه الجملة الجار والمجرور في قلبه مقدم، وجعل الاسم كقدر؛ لكون الكاف بمعنى مثل، يعني لو كان في قلبي مثل قدر قلامة، وهذا التوجيه الأول لطائفة من المفسرين، في أن الكاف هنا بمعنى مثل على ما ذكرنا، وهذا التوجيه لهم وجيه وظاهر في اللغة ومستقيم المعنى أيضاً في الآية.
الثاني: أن الكاف في قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } هذه صلة، وهي التي تسمى عند النحويين زائدة، وزيادتها ليس زيادة للفظ وإنما هو زيادة لها ليكون المعنى زائداً، فليست زائدة بمعنى أن وجودها وعدم وجودها واحد،حاشا وكلا أن يكون في الْقُرْآنِ شيء من ذلك،وإنما تزاد ليكون مبالغة في الدلالة على المعنى، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } تكون الكاف صلة، والزيادة أو مجيء الصلة في مقام تكرار الجملة تأكيداً، كما حرره ابن جني النحوي المعروف في كتابه (الخصائص)، حيث قال: إن الصلة والزيادة تكون في الجمل لتأكيدها، فتكون في مقام تكريرها مرتين أو أكثر. أو كما قال.
فيكون معنى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ليس مثله شيء، ليس مثله شيء، ليس مثله شيء {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وهذا تفهمه العرب في كلامها، وجاءت الزيادة بالصلة في مواضع كثيرة من الْقُرْآنِ كقول الله جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} فقوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، يعني ليس من جهتك، وإنما هو رحمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكقوله جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} يعني: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، فبنقضهم ميثاقهم.
الشيخ: ثم قال رحمه الله تعالى: "ولا شيء يعجزه"، ومعنى ولا شيء يعجزه يعني: أنه سبحانه وتعالى لا شيء مما يصح أن يطلق عليه أنه شيء يعجزه جل وعلا، ويكرثه ويثقله، ولا يكون قادرا عليه، بل هو سبحانه الموصوف بكمال القدرة، وكمال العلم، وكمال اتصافه بالصفات، وكمال القوة، فلذلك لا شيء يعجزه سبحانه وتعالى.
"ولا شيء يعجزه" فيها تقرير لتوحيد الربوبية كما ذكرنا آنفا؛ لأن نفي العجز لأجل كمال القدرة، وكمال الغنى, وكمال قوته سبحانه وتعالى، وهذا راجع إلى أفراد توحيد الربوبية.
وفي الكلام على قوله: "ولا شيء يعجزه" مسائل:
المسألة الأولى: أن هذا منتزع من قول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}، فنفى سبحانه أن يكون ثم شيء يعجزه في السماوات وكذلك في الأرض، وعلل ذلك بكونه عليما قديرا، ونفي العجز في الآية جاء معللا بكمال علمه وقدرته؛ وذلك لأن العجز في الجملة إما أن يرجع إلى عدم علم، فلأجل عدم علمه بالأمر عجز عنه، وإما أن يرجع لعدم القدرة، فعلم ولكن لا يقدر على إنفاذ ما علم، أو ما يريد، وإما أن يرجع إليهما معا، وذلك لما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}، علله بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}.
ومن المتقرر في علم الأصول في مسالك العلة من أبواب القياس: أن التعليل في القرآن والسنة يستفاد من جهات؛ ومنها مجيء (إن) بعد الخبر، أو بعد الأمر والنهي، وهنا لما أخبر عن نفسه بعدم العجز، وعلل ذلك بكونه سبحانه، ليس بكونه سبحانه عليما قديرا علمنا أن سبب عدم العجز هو كمال علمه سبحانه، وكمال قدرته.
المسألة الثانية: أن هذه الجملة نأخذ منها قاعدة قعدها أئمة أهل السنة والجماعة، وهي أن النفي إذا كان في الكتاب والسنة فإنه لا يراد به حقيقة النفي، وإنما يراد به كمال ضده يعني أن كل نفْي نُفِي عن الله جل وعلا، أن كل نفي أضيف لله جل وعلا فنُفي عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله في القرآن، أو في السنة فإن المقصود منه إثبات كمال الضد؛ لأن النفي المحض ليس بكمال، فقد ينفى عن الشيء الاتصاف بالصفة؛ لأنه ليس بأهل لها فيقال: فلان ليس بعالم؛ لأنه ليس أهلا لأن يتصف بذلك ويقال: فلان ليس بظالم؛ لأنه ليس بقادر أصلا كما قال الشاعر في وصف قوم يذمهم:
قبيلة لا يغدرون بذمة = ولا يظلمون الناس حبة خردل
لأنهم لا يستطيعون أصلا أن يظلموا أو أن يعتدوا؛ لعجزهم عن ذلك، لأن العرب كانت تفتخر بأن من لم يظلم يظلم كقول الشاعر وهو زهير (ومن لا يظلم الناس يظلمِ) فتقرر أن النفي المحض ليس بكمال.
ولذلك نقرر القاعدة: أن النفي في الكتاب والسنة، إنما هو للإثبات كمال الضد، وأخذنا ذلك من قوله جل وعلا في هذه الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} فصار النفي، نفي العجز عنه سبحانه فيه إثبات كمال علمه، وقدرته، وهذا خذه مطردا في مثل قوله جل وعلا: {وَلا يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا}، وفي قوله جل وعلا في أول آية الكرسي: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}؛ لكمال حياته، وكمال قيوميته سبحانه، {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} فيه إثبات كمال قدرته جل وعلا، وكمال قوته، ولقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} لكمال عدله سبحانه، وفي قوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}؛ وذلك لكمال اتصافه بصفاته في قوله:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} لكمال استغنائه سبحانه.
ففي كل نفي جاء في الكتاب والسنة تأخذ إثبات الصفة التي هي بضد ذلك النفي، ولهذا تثبت بعض الصفات، وتثبت بعض الأسماء عند طائفة من أهل العلم بألفاظ لم ترد صراحة، وأخذوها من النفي الذي جاء في الكتاب والسنة.
المسألة الثالثة: أن قوله: "ولا شيء يعجزه" كما ذكرت لك من أفراد توحيد الربوبية، والتمثيل عن العام ببعض أفراده في التوحيد صحيح؛ لأن دلالة الخاص على العام مؤكدة واضحة، لا يمكن أن تخرج دلالة الخاص عن الأمر الكلي العام، ولهذا يجيء الإثبات مفصلا كما ذكرنا لأجل أن الإثبات العام لله جل وعلا في جميع الصفات حق، فيثبت في كل موضع بحسبه، فمن مثل في موضع ببعض أفراد الربوبية، فإن تمثيله لذلك حق، وإن لم يمثل بجميع أفراد الربوبية، بخلاف الأسماء والصفات؛ فإن الأسماء والصفات تمثل عليها بأنواعها أهل السنة، إذا ذكروا الأسماء والصفات تمثيلا في هذا المقام فإنهم يذكرون تلك الأسماء والصفات والأفعال التي تدل على أنواع الصفات، فيذكرون مثالا للصفات الذاتية، ومثلا للصفات الاختيارية، ومثالا للصفات الفعلية؛ حتى يكون ذلك عاما لأجل ألا يشترك أهل السنة مع أهل البدع في التعبير.
فإذا أتى مثلا في إثبات الصفات لا يقولون: إننا نثبت صفات الرب جل وعلا كالحياة والقدرة والعلم، والسمع والبصر، والإرادة والكلام، ويسكتون؛ لأن هذه السبع هي التي أثبتها الكلابية والأشاعرة، وطائفة، ولا يقولون: نثبت الحياة والكلام لله، والسمع والبصر، ويسكتون، ولكن يذكرون هذا وهذا، فإذا ذكروا هذه السبع يقولون أيضا معها: فهو سبحانه سميع بصير، أو موصوف بالسمع والبصر، والقدرة والكلام، والإرادة والحياة، والاستواء والنزول، والرحمة والغضب والرضا، فيجمعون.. والوجه واليدان... إلى آخره.
فيجمعون في ذكر الصفات ما جرى عليه الاتفاق، وما لم يجر عليه الاتفاق، يعني بينهم وبين أهل البدع تميزا لقول أهل السنة عن غيرهم، وأما في الربوبية لأجل أنه لم يجر فيها الخلاف فإنه يسوغ أن يمثل لها ببعض أفرادها.
المسألة الرابعة: على قوله: "ولا شيء يعجزه"، أن العجز هنا كما في الآية جاء نفيه متعلقا بالأشياء، ودلالة الآية على النفي أبلغ وأعظم من قول المصنف: "ولا شيء يعجزه"؛ لأنه جاء في الآية زيادة (من) التي تنقل العموم من ظهوره إلى النصية فيه، فقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}، فقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ} لو قال: وما كان الله ليعجزه شيء، لصح النفي، وصار ظاهرا في العموم، وأما لما قال: {مِن شَيْءٍ} جاءت زيادة من هذه لتنقل العموم المستفاد من مجيء النكرة في سياق النفي من ظهوره إلى النصية فيه.
ومعنى الظهور في العموم أنه قد يتخلف بعض الأفراد على سبيل الندرة، وأما النصية في العموم فإنه لا يتخلف عن العموم شيء، فلما نفى بمجيء النكرة في سياق النفي، وجاء بزيادة (من) التي دلت على انتقال هذه النكرة المنفية من ظهورها في العموم إلى كونها نصا صريحا في العموم.
إذا تقرر هذا فالمنفي أن يعجزه سبحانه وتعالى هو الأشياء، والأشياء جمع شيء، والشيء الذي جاء في الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ}، وفي قوله هنا: "ولا شيء يعجزه" وكذلك في قوله: "قبل ولا شيء مثله" تعريف شيء عندنا: أنه ما يصح أن يعلم، أو يؤول إلى العلم، سواء كان من الأعيان والذوات، أو كان من الصفات والأحوال، فكلمة شيء في النصوص تفسر عند المحققين من أهل السنة بأنها ما يصح أن يعلم أو يؤول إلى العلم.
قولنا: يصح أن يعلم مما هو موجود أمامك، أو يؤول إلى العلم لعدم وجوده ذاتا، ولكنه موجود في القدر، كقوله الله جل وعلا: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} فقد كان شيئا، لكن لا يذكره الناس؛ لأنهم لم يروه ولكنه شيء يعلم، وسيؤول إلى العلم يعلم في حق الله جل وعلا، وسيؤول إلى العلم في حق المخلوق، والذكر.
ولهذا في قوله: "ولا شيء يعجزه"، وقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} راجع هنا إلى ما هو موجود، وإلى ما ليس بموجود من الذوات والصفات والأحوال؛ لأنها جميعا إما أن تكون معلومة، أو تكون آيلة إلى العلم.
قال بعدها رحمه اللهُ: "ولا إله غيره". فقوله: "ولا إله غيره" هذا منتزع من قول الله جل وعلا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، هذه جاءت بها الرسل جميعا؛ جاء بها نوح، وجاء بها هود، وجاء بها صالح، وجاءت بها الأنبياء والرسل جميعا، وهذا في المعنى كقوله جل وعلا:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ* أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ}، وكقوله جل وعلا:{أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وكقوله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
وفي قوله: "ولا إله غيره" مسائل:
الأولى: أن هذه الكلمة هي معنى كلمة، أو هي مطابقة لكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وكلمة التوحيد: لا إله إلا الله معناها لا إله غيره، والإله في كلمة التوحيد، وفي قوله: "لا إله غيره" هذا دخل عليه النفي، فالمنفي جنس الآلهة التي تستحق العبادة، والله جل وعلا ليس داخلا في هذا النفي كما سيأتي بيانه في إعراب كلمة التوحيد.
وكلمة إلا الله موافقة لغيره؛ لأن الغيرية ربما كانت غيرية في الذوات، كقولك: خرج، أو كقولك: ما دخل رجل غير زيد، فهنا ذات الرجال غير ذات زيد. أو في الصفات كقولهم: جاءكم بوجه غير الذي ذهب به، الوجه من حيث هو واحد، لكن من حيث الصفة اختلف.
فإذن الغيرية قد ترجع إلى غيرية الذات، وقد ترجع إلى غيرية الصفات، وفي النفي لا إله إلا الله هنا الإله المنفي هو جنس الآلهة التي تستحق العبادة، وإلا الله ليس هذا مخرجا من الآلهة؛ لأنه لم يدخل أصلا فيها حتى يخرج منها؛ لأن النفي راجع إلى الآلهة الباطلة.
المسألة الثانية: أن قوله: "لا إله غيره" مشتمل على كلمة (إله)، وكلمة الإله هذه اختلف الناس في تفسيرها، فالتفسير الأول لها: أن الإله هو الرب، وهو القادر على الاختراع، أو هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، وهذا قول أهل الكلام في أن الإله هو الرب، يعني هو الذي يقدر على الخلق والاختراع والإبداع، وهو الذي يستغني عما سواه، وكل شيء يفتقر إليه كما ذكرنا لكم مرارا عبارة صاحب السنوسية وعبارة علماء.. أو عبارة أهل الكلام في ذلك.
وهذا التفسير لكون الإله هو القادر على الاختراع، وهو الرب لأهل الكلام من أجله صار الافتراق العظيم في فهم معنى كلمة التوحيد، وتوحيد العبادة، وفي فهم الصفات، وفي تحديد أول واجب على العباد.
والتفسير الثاني: يأتي للجملة هذه... سقط... وأن الإله إله فعال، بمعنى مفعول يعني مألوه، سمي إلها؛ لأنه مألوه, والمألوه مفعول من المصدر، وهو الإله، والإله مصدر أله يأله إلهة، وألوهة، إذا عبد مع الحب والذل والرضا.
فإذن صارت كلمة الإله هي المعبود والإلهة، والألوهية هي العبودية إذا كانت مع المحبة والرضا، فصار معنى الإله إذن هو الذي يعبد مع المحبة والرضا والذل، وهذا التفسير هو الذي تقتضيه اللغة؛ وذلك لأن كلمة إلى هذه لها اشتقاقها الراجع إلى الفعل، أو الراجع إلى المصدر إلهة، الذي جاء في قراءة ابن عباس في سورة الأعراف: { وَيَذَرَكَ وإلهك}، يعني: ويذرك وعبادتك.
وأما مجيئها في اللغة فهو كقول الشاعر كما ذكرنا لكم مرارا:
لله در الغانيات المده = سبحن واسترجعن من تأله
يعني: من عبادتي.
فالإله هو المعبود، ولا يصح أن يفسر الإله بمعنى الرب مطلقا؛ لأن الخصومة وقعت بين الأنبياء وأقوامهم، بين المرسلين وأقوامهم في العبودية لا في الربوبية، فالمشركون أثبتوا آلهة وعبدوهم كما قال جل وعلا: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}، وكقوله:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً}، يعني: أجعل المعبودات معبودا واحدا، وهذا يدلك على أن هذا النفي في قوله: "ولا إله غيره" راجع إلى نفي العبادة.
وهذا القول الثاني هو قول أهل السنة، وقول أهل اللغة، وقول أهل العلم من غير أهل البدع جميعا، وهو المنعقد عليه الإجماع قبل خروج أهل البدع في تفسير معنى الإله، وهذا هو معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله، يعني: لا معبود بحق إلا الله جل جلاله.
المسألة الثالثة: راجعة إلى كلمة التوحيد؛ لا إله إلا الله ما معناها؟ معناها لا معبود حق إلا الله جل وعلا، وكما هو معلوم الخبر في قوله خبر لا النافية للجنس محذوف لا إله، ثم قال: إلا الله وحذف الخبر؛ خبر لا النافية للجنس، شائع كثير في لغة العرب، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، ولا نوء ولا غول)) الخبر كله محذوف، وخبر لا النافية للجنس يحذف كثيرا، وبشيوع، إذا كان معلوما لدى السامع كما قال ابن مالك في الألفية في البيت المشهور، (شاع في ذا اللباب) يعني: لا النافية للجنس
وشاع في ذا اللباب إسقاط الخبر = إذا المراد مع سقوطه ظهر
فإذا ظهر المراد مع السقوط جاز الإسقاط، وسبب الإسقاط إسقاط كلمة (حق) لا إله حق إلا الله، أن المشركين لم ينازعوا في وجود إله مع الله جل وعلا، وإنما نازعوا في أحقية الله جل وعلا بالعبادة دون غيره، وأن غيره لا يستحق العبادة، فالنزاع لما كان في الثاني دون الأول يعني لما كان في الاستحقاق دون الوجود جاء هذا النفي بحذف الخبر؛ لأن المراد مع سقوطه ظاهر، وهو نفي الأحقية كما قال جل وعلا (اللهم صل على محمد) في لا إله صار الخبر راجعا، أو صار الخبر تقديره حق، نعم كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}، وفي الآية الأخرى قال جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}.
فلما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} قرن بين أحقية الله للعبادة وبطلان عبادة ما سواه، دل على أن المراد في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله هو نفي استحقاق العبادة لأحد غير الله جل وعلا، فإذن صار تقدير الخبر بكلمة حق صوابا من جهتين:
الجهة الأولى: أن النزاع بين المشركين وبين الرسل كان في استحقاق العبادة لهذه الآلهة، ولم يكن في وجود الآلهة.
والثاني: أن الآية، بل الآيات دلت على بطلان عبادة غير الله، وعلى أحقية الله جل وعلا بالعبادة دونما سواه.
إذا تقرر ذلك فكما ذكرت لك الخبر مقدر بكلمة حق، لا إله حق، ولا نافية للجنس، فنفت جنس استحقاق الآلهة للعبادة، نفت جنس المعبودات الحقة، فلا يوجد على الأرض، ولا في السماء معبود عبده المشركون حق، ولكن المعبود الحق هو الله جل وعلا وحده، وهو الذي عبده أهل التوحيد، وتقدير الخبر بحق كما ذكرنا لك هو المتعين خلافا لما عليه أهل الكلام المذموم؛ حيث قدروا الخبر بموجود، أو في شبه الجملة بقولهم في الوجود: لا إله في الوجود، أو لا إله موجود، وهذا منهم ليس من جهة الغلط النحوي، ولكن من جهة عدم فهمهم لمعنى الإله؛ لأنهم فهموا من معنى الإله الرب، فنفوا وجود رب مع الله جل وعلا، وجعلوا آية الأنبياء دليلا على ذلك، وهي قوله جل وعلا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وكقوله في آية الإسراء: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} ففسروا آية الأنبياء وآية الإسراء بالأرباب الرب، ولكن هي في الآلهة كما هو ظاهر لفظها.
إذا تقرر ذلك فنقول: إن عبادة غير الله جل وعلا إنما هي بالبغي والظلم والعدوان والتعدي لا بالأحقية.
المسألة الرابعة: في إعراب كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، إن: لا نافية للجنس، وإله هو اسمها مبني على الفتح، ولا النافية للجنس مع اسمها في محل رفع مبتدأ، وحق هو الخبر، وحق المحذوف هو خبر، والعامل فيه هو الابتداء، أو العامل فيه لا النافية للجنس على الاختلاف بين النحويين في العمل. وإلا الله، إلا استثناء، إلا أداة استثناء، والله مرفوع وهو بدل من الخبر لا من المبتدأ؛ لأنه لم يدخل في الآلهة حتى يخرج منها؛ لأن المنفي هي الآلهة الباطلة، فلا يدخل فيها كما يقوله من لم يفهم حتى يكون بدلا من اسم لا النافية للجنس، بل هو بدل من الخبر، وكون الخبر مرفوعا، والاسم هذا مرفوعا يبين ذلك؛ لأن التابع مع المتبوع في الإعراب والنفي والإثبات واحد، وهنا تنتبه إلى أن الخبر لما قدر بحق صار المثبت هو استحقاق الله جل وعلا للعبادة.
ومعلوم أن الإثبات بعد النفي أعظم دلالة في الإثبات من إثبات مجرد بلا نفي، ولهذا صار قوله:لا إله إلا الله، وقول: لا إله غير الله هذا أبلغ في الإثبات من قول: الله إله واحد؛ لأن هذا قد ينفي التقسيم، ولكن لا ينفي استحقاق غيره للعبادة، ولهذا صار قوله جل وعلا: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، وقول القائل: لا إله إلا الله، بل قوله تعالى: {إِنّهُمْ كَانُوَاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلَـَهَ إِلاّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} جمعت بين النفي والإثبات، وهذا يسمى الحصر والقصر، ففي الآية حصر وقصر.
وبعض أهل العلم يعبر عنها بالاستثناء المكرر وهذا ليس بجيد بل الصواب فيها أن يقال: هذا حصر وقصر، فجاءت لا نافية وجاءت إلا مثبتة؛ ليكون ثم حصر وقصر في استحقاق العبادة في الله جل وعلا، حصر وقصر لاستحقاق العبادة في الله جل وعلا دون غيره، وهذا عند علماء المعاني في البلاغة يفيد الحصر والقصر والتخصيص، يعني أنه فيه لا في غيره، وهذا أعظم دلالة فيما اشتمل عليه النفي والإثبات ومعنى كلمة التوحيد وتفصيل الكلام عليها ترجعون إليه في موضعه من كلام أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى.
المسألة الأخيرة: على قوله: "ولا إله غيره"، أن هذه الكلمة فيها إثبات توحيد العبادة لله جل وعلا كما ذكرنا، وتوحيد العبادة لله جل وعلا لا يستقيم إلا بشيئين كما ذكرنا؛ بنفي وبإثبات، فالنفي وحده لا يكون به المرء موحدا، والإثبات وحده لا يكون به المرء موحدا حتى يجمع ما بين النفي والإثبات، نفي استحقاق العبادة لأحد من هذه الآلهة الباطلة، وإثبات استحقاق العبادة الحقة لله جل وعلا وحده دونما سواه.
وهذا هو معنى الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، فلا يستقيم توحيد أحد حتى يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله، ومن كان إيمانه بالله صحيحا كان كفره بالطاغوت صحيحا؛ إذ ثَم ملازمة ما بين هذا وهذا، وإثبات توحيد الإلهية على هذا المعنى بين النفي والإثبات يتضمن إثبات توحيد الربوبية؛ لأن كل موحد لله في الإلهية موحد لله جل وعلا في الربوبية، وكذلك مستلزم لإثبات صفات الكمال لله جل وعلا؛ لأنه لا يعبد إلا من كان متصفا بصفات الكمال.
هذا خلاصة ما يشتمل عليه قوله: "ولا إله غيره" في هذا القدر كفاية. وأسأل الله جل وعلا لي ولكم النور في الدنيا وفي الآخرة، والاهتداء التام والأمن التام، إنه كريم جواد سميع الدعاء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
نجيب على ثلاث أسئلة فقط.

سؤال: الكلام على مسألة التشبيه من حيث الكيفية والمعنى والأصل أن توضحه وتمثل؟
جواب: هذه المسألة كما هو معلوم بسطها أهل السنة، وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه، وكذلك هو في شروح الواسطية المطولة، تذكر هذه المسألة التشبيه من حيث الكيفية هو التمثيل كقول المجسمة: إن الله جسم كأجسامنا، ويده كأيدينا، وقدمه كأقدامنا، واستواؤه كاستوائنا في كيفية الاستواء مماثل لنا ومشابه لنا، فهذا تشبيه من حيث الكيفية، وتشبيه من حيث تمام المعنى بأن يقول: معنى استواء الله هو معنى استوائنا تماما المعنى في هذا هو هذا، معنى سمع الله هو معنى سمعنا تماما، لا فرق بين هذا وهذا، وهذا أيضا تشبيه مذموم باطل.
ولكن المشابهة التي لا تنفى هي ما كان من جهة الاشتراك في أصل المعنى؛ لأن المعنى كما هو معلوم يوجد كليا في الأذهان، وأما في الخارج فيكون مختلفا بحسب الإضافة والتخصيص، فإذا كان المعنى الكلي هذا له جهتان؛ جهة مطلق المعنى أقل درجات المعنى فهذه هي، أو هذا هو القدر المشترك بين كل من اتصف بالصفة، فمثلا في السمع البعوضة لها سمع, والذباب له سمع، والضأن له سمع، والنمل له سمع، والإنسان له سمع، هؤلاء اشتركوا في أصل معنى السمع، لكنهم يتفاوتون فيه بقدر ما هم عليه بقدر ما يناسب ذواتهم، بقدر ما يناسب أبدانهم، بقدر ما يناسب استعداداتهم التي جعلها الله جل وعلا لهم، فسمع البعوض ليس هو كسمع الإنسان، وسمع النمل ليس كسمع الإنسان، ولكن أصل معنى السمع مشترك بين هذه المخلوقات.
فكذلك جنس المخلوقات التي لها سمع نثبت لها أصل السمع كما هي عليه، ولكن سمع الله جل وعلا يناسب ذاته، فكما أن ما بين الإنسان وما بين النمل في السمع قدر مشترك في هذا المعنى معنى السمع، ومعنى البصر، فما بين المخلوق وبين الله جل وعلا هو قدر مشترك في أصل المعنى.
أما في تمام المعنى فكل له ما يناسبه، فالله جل وعلا يناسب ذاته العلية العظيمة الجليلة، الاتصاف بالصفات الكاملة المطلقة الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص يوجه من الوجوه، والمخلوق له ما يناسب ذاته من نقص وحال، فهذا معنى الكيفية تمام المعنى أصل الاتصاف بالصفة.
ردا على سؤال غير مسموع: لا، وهو التخصيص والخارج تمام المعنى كلي في الذات نعم.
ـ.....................
ـ تمام المعنى غير مضاف كلي والكيفية تمثيل، فإذا قلت السمع هو كالسمع صار هذا تجسيما، صار هذا تمثيلا، وإذا قلت: سمعه جل وعلا أو بصره في كيفية الاتصاف هو ككيفية اتصاف المخلوق بالسمع والبصر صار هذا تكييفا، فإذا قلت: السمع، والسمع صار هذا تمثيلا، تمثيلا في المعنى، وإذا قلت: اتصف بالسمع بكيفية اتصافنا بالسمع، واتصف بالبصر بكيفية اتصافنا بالبصر صار هذا تجسيما أو صار هذا من جهة الكيفية؛ لأن السمع إدراك المسموعات، أنت تدرك المسموعات بواسطة أذن وطلبلة... إلى آخره، والله جل وعلا إدراكه للمسموعات ليس بكيفية إدراك المخلوق للمسموعات، كذلك البصر و عين الله جل وعلا ليست كعين المخلوق في الكيفية و نثبت لله عينا كما يليق بجلاله وعظمته لكن لا نقول: عينه سبحانه كعين الإنسان في الكيفية فيها سواد بياض، أو لها حدقة، شبكية... إلى آخره.
فإثبات المعنى هذا كمال المعنى لله جل وعلا، والكيفية التمثيل فيها هذا تجسيم وهو من المكفرات؛ لأنه تمثيل للمخلوق بالخالق.


سؤال: ما رأيك في كتاب (المنحة الإلهية في تهذيب شرح الطحاوية)؟
جواب: ما (شفت) الكتاب هذا.


سؤال: قولك: المنفي جنس الآلهة التي تستحق العبادة؟
جواب: المقصود بقول: تستحق العبادة يعني في ظن العابدين.... وإلا يعني لا إله حق فنفت كلمة التوحيد أحقية الآلهة بالعبادة المقصود بحسب ظنهم، أو نقول: المنفي جنس استحقاق الآلهة بالعبادة.


سؤال: هذا الكلام.. أقول: سؤال في الأصول ومتعلق بكلمة الكاف في كمثله، والجواب عليها تقسيم الألفاظ إلى شرعي ووضعي وعرفي، ونقص زيادة، ونقل واستعارة كنقص (غير مسموع) وكازدياد الكاف في كمثله.
جواب: هذا أقول: البحث فيه معروف لكن هذا يحتاج إلى بسط آخر.


سؤال: هذا السؤال، طيب يقول: قال أهل السنة كما ذكرتم قاعدة أهل السنة: أن النفي محمل، والإثبات مفصل، وأن أهل البدع عكس لأهل السنة، فما القول عندما يقول أحد من أهل البدع: املأ الكون نفيا ولا تقل بإثبات، فيكون النفي عندهم والإثبات مجملا؟
جواب: أنا ما أفهم الكلام هذا، املأ الكون نفيا، يعني: انف (زي) ما تريد ولا تقل بإثبات يعني: لا تفصل، هذا موافق لقولهم: إن النفي مفصل والقول.. والإثبات مجمل.
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (كلام غير مسموع) نعم.

سؤال: هل لفظ يقولون عند الإعراب لفظ الجلالة هل هذا (غير مسموع) و(اللي) يقولون الله في موضع كذا عند الإعراب؟
جواب: والله هذا من باب الأدب ما يقولون: الله؛ لأن الله الله دال على الذات الإعراب للألفاظ نقول: لفظ الجلالة مبتدأ أما نقول: الله (غير مسموع) أو الله خبر نقول لفظ لأن الإعراب متعلق بإيش؟ بالألفاظ. نعم.


  #6  
قديم 4 ربيع الأول 1430هـ/28-02-2009م, 08:02 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ)

منزلة توحيد الألوهية عند المتكلمين

قال المصنف رحمه الله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره] . قوله: (إن الله واحد لا شريك له) ابتدأ الطحاوي رسالته بذكر مسألة التوحيد، ولكنه ذكرها مجملة، والجمل التي بعد الجملة الأولى تتعلق بتوحيد الربوبية، وأما توحيد الألوهية فإنه ذكره مجملاً. وهذا يرتبط بمسألة: وهي أن كثيراً من المتأخرين -ولا سيما المتكلمين ومن تأثر بهم- إذا قرروا مسألة الاعتقاد وأصول الدين فإنهم يبتدئون بذكر توحيد الربوبية؛ لأنهم يعتبرون أن القول في الصفات يكون فرعاً عن هذا التقرير، وهذا الاعتبار من حيث الأصل لا إشكال فيه، لكن الغلط الذي وقع فيه المتكلمون هو من جهة أنهم لم يحققوا توحيد الربوبية إثباتاً إلا بنوع من الأدلة التي تستلزم تعطيل الصفات -كما هو مذهب المعتزلة- أو ما هو منها. وعليه: فإن نفي الصفات عند المعتزلة، أو نفي بعض الصفات -كما هو مذهب الأشاعرة والماتريدية- جاء نتيجة لتقرير مسألة الربوبية بأدلة تستلزم إما تعطيل الصفات، كما هو مذهب المعتزلة، أو تعطيل بعضها وهي الصفات الفعلية، كما هو عند الأشاعرة والماتريدية. مع أن مسألة توحيد الربوبية تعتبر أصلاً مقرراً في الأدلة الشرعية التي هي أدلة فطرية، وأدلة عقلية، وهناك مقاصد من الشريعة تدل على توحيد الربوبية الذي لم يكن محل خلاف بين المسلمين، ولا بين جمهور الأمم؛ فإن جمهور بني آدم يقرون بأصل الربوبية. وإنما الأصل الذي بُعِثَ الرسل عليهم الصلاة والسلام بتقريره وتفصيله، وكان الغلط فيه شائعاً في بني آدم، هو توحيد الألوهية، لكننا لا نجد هذا التوحيد مذكوراً في كتب المتكلمين كثيراً، ليس لأن المتكلمين يرون جواز الشرك في الألوهية، وإنما لأنهم يعتبرون أن مسائل الصفات وما يتعلق بها من المسائل يرتبط تقريره بمسألة الربوبية، فلابد من تقرير توحيد الربوبية، ثم بعد ذلك تقرير مسائل الصفات والأفعال وغير ذلك. وأما توحيد الألوهية فيرون أنه مسألة منفكة، وليس لها اتصال بهذا التقرير الذي اعتبروه، وهذا من أوجه غلطهم في هذا التوحيد. ......

السبب في إفراد توحيد الأسماء والصفات
وقول الطحاوي رحمه الله: (إن الله واحد لا شريك الله)، هذا من أثر السنة على الطحاوي رحمه الله، فإنه ذكر توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. وقد كان الشائع في كلام المتقدمين من أهل العلم أن التوحيد على النوعين: توحيد علمي وتوحيد إرادي، أو: توحيد المعرفة وتوحيد الطلب والقصد، ويذكرون أن توحيد المعرفة أو التوحيد العلمي هو توحيد الربوبية، ويدخل في توحيد الربوبية مسألة الأسماء والصفات، ويكون التوحيد الطلبي أو الإرادي هو توحيد العبادة، الذي هو: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة الظاهرة والباطنة. ولكن لما حصل التعطيل في الأسماء والصفات المخالف للتوحيد فيها؛ صار طائفةٌ من أهل السنة والجماعة يخصون الأسماء والصفات باسم مختص، فصاروا يقولون: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وهذه التقاسيم من باب الاختلاف اللفظي الذي ليس تحته اختلاف تضاد. ......
تفسير: (واحد لا شريك له) عند السلف وعند المتكلمين
وقوله: (إن الله واحد لا شريك له)، أي: إن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته.. هذا هو تفسير هذه الجملة على معتقد أهل السنة، وهذه الجملة شائعة في كلام المتكلمين، ولكنهم يقولون: إن الله وحده لا شريك له في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، وذلك حسب تفسيرهم للصفات والأفعال. ويكون الغلط على هذا التقرير من جهتين:
الجهة الأولى: أنهم لم يذكروا توحيد الألوهية، بل قالوا: واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، وهذه كلها تدخل تحت توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
الجهة الثانية: أنهم حين يقولون: واحد في أفعاله، وواحد في صفاته، يقصدون مذهبهم المقرر في الصفات والأفعال المخالف للسلف. ......

التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي
وقوله: (ولا شيء مثله). هذا معتبر بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهذا من النفي المجمل في القرآن، والله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يتعلق بأسمائه وصفاته ذكرها مفصلةً مثبتة، وذكر النفي مجملاً إلا في مواضع، كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وكقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. ومن قواعد أهل السنة والجماعة في الصفات: أنهم يقولون: إن الله موصوف بالإثبات والنفي؛ والإثبات يقع مفصلاً ويقع مجملاً، ولكن الأصل فيه في القرآن هو التفصيل. والنفي يقع مفصلاً ومجملاً، ولكن الأصل فيه الإجمال.
أما الإثبات المفصل: فهو ما ذكر في القرآن من ذكر أسماء الله سبحانه وتعالى؛ كقوله تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ}[الحشر:23] .. الآيات، وكذلك ما ذكر من الصفات، كقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] .. إلى غير ذلك. ويقع الإثبات مجملاً، وهو في الأسماء في مثل قوله تعالى: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ، وفي الصفات في مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ، وعند هذه الآية قرر أهل السنة والجماعة -ولا سيما من تأخر كـشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو الكمال المطلق؛ فإن الخالق أولى به. وإنما تكلم المتأخرون بهذا التفصيل -كـشيخ الإسلام - مع أنك إذا تتبعت هذه الأحرف قد لا تجدها في كلام السلف، لأن مصطلح القياس من حيث اللغة العربية يقتضي نوعاً من التشابه أو التماثل، وإلحاق شيء بشيء، فلم يكن معتبراً في مسائل الصفات، ولكن لما تكلم أهل الاصطلاح بمصطلح القياس على معنى قياس الشمول، وقياس التمثيل، وقياس الأولى، إلى غير ذلك؛ صار كثير من أهل الكلام يعتبرون مذهبهم بنوع هو عند التحقيق من قياس الشمول أو قياس التمثيل، مع أنهم لا يسلمون بذلك، لكن هذا هو حقيقة المذهب، فلما وردت مسائل في القياس، وهل يستعمل القياس في حق الله وصفاته؛ قال من قال من المتأخرين من أهل السنة والجماعة: إنه يستعمل في حقه سبحانه وتعالى قياس الأولى، وهو أن كل كمال مطلق لا نقص فيه بوجه من الوجوه، فإن الخالق أولى به. ومأخذهم في هذا القياس هو قوله تعالى: {ولله الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ، مع أن تسميته (مثلاً) أصح، وينبغي ألاَّ يسمى قياساً إلا إذا قُصد بذلك البيان للمخاطب، أو إذا قيل: أيصح استعمال قياس الأولى في حق الله سبحانه؟ فيقال: نعم، ولكن يسمى (مثلاً أعلى) ولا يسمى قياساً اقتداءً بحرف القرآن؛ ولأن القياس لفظ حصل فيه اشتراك وإجمال، وجميع صور القياس لا تليق بالله سبحانه وتعالى، وإنما يستخدم في حقه قياس الأولى.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية: (ويتحقق هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين)، ثم ذكر الروح ونعيم الجنة، فالمثلان المضروبان هنا هما من باب قياس الأولى، لكن سماهما (مثلاً) اقتداءً بحرف القرآن. وأما النفي المجمل في القرآن فهو المذكور في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، وأما النفي المفصل فهو المذكور في مثل قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] .. إلى غير ذلك. والنفي المجمل هو الأصل، وأما النفي المفصل فهو فرع عن الإثبات، بمعنى: أنه ليس في القرآن نفي مفصل يراد به النفي المحض، أي: النفي الذي لا يتضمن أمراً ثبوتياً، ومن هنا قيل: إن النفي المفصل في القرآن فرع عن الإثبات، فمثلاً: قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] أي: لكمال عدله، فتضمن النفي إثبات العدل، وهكذات.. وعليه: فكل نفي مفصل في القرآن فلابد من أن يتضمن أمراً ثبوتياً. ......

السبب في عدم تفصيل النفي في القرآن
فإن قيل: فلِمَ لَمْ يفصل النفي في القرآن؟ أي: لِم لم تنف صفات النقص بالتفصيل كالجهل والعجز وغير ذلك؟ فيقال: لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه الإثبات مفصلاً، ومعلوم أن المتقابلين تقابل التضاد أو التناقض يمتنع عند ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، بمعنى: أن الله لما وصف نفسه بأنه سميع وبصير، وأنه موصوف بالكلام والقدرة: إلى غير ذلك؛ عُلم بضرورة العقل أنه منزه عن ضد ذلك؛ لأن الجمع بين الضدين ممتنع. وعليه: فإن كل نقص يُعلم أنه منفي بضرورة العقل وضرورة الشرع. أما ضرورة العقل: فلأن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال منزه عن النقص، وهذا معروف بدلائل عقلية. وأما ضرورة الشرع: فلأن الله ذكر في كتابه الإثبات مفصلاً، فكل ما ضاد هذا الإثبات يُعلم بضرورة الشرع أنه منفي.

طريقة المتكلمين في النفي والإثبات
وطريقة المتكلمين هي التفصيل في النفي والإجمال في الإثبات، وهي طريقة مخالفة للقرآن وللعقل؛ أما مخالفتها للعقل: فلأن النفي الذي يستعملونه هو النفي المحض، الذي لا يدل على الكمال، ولا يتضمن أمراً ثبوتياً، فهو نوع من التعطيل؛ ولهذا فإن من فقه السلف رحمهم الله أنهم سموا أصحاب هذا المذهب بالمعطلة؛ لأن من استعمل النفي المحض فإنه ينتهي إلى التعطيل؛ لأن الأشياء المعدومة والممتنعة تشترك في هذا النفي، ومن أخص القواعد الشرعية والعقلية: أن كل موجود لابد أن يكون له صفات تليق به، والله سبحانه وتعالى هو الخالق البارئ، الذي خلق الخلق وأبدع الكائنات، فلابد أن يكون له من الصفات ما يحصل بها هذا الكمال.

نفي التمثيل عن الله تعالى من جميع الوجوه
وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: ليس كمثله شيء قائم في الوجود، وليس كمثله شيء متصور الوجود، فإن الله سبحانه لا يحاط به علماً؛ وعليه: فإن كل مُتَخيَل يتخيله الذهن أو العقل، وكل موجود علم وجوده أو لم يعلم وجوده، أي: اطلع المكلفون على ماهية وجوده أو لم يطلعوا؛ فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن مماثلته. ولذلك فإن عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو معتقد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أن الله سبحانه وتعالى يُعلم بما أخبر في الكتب المنزلة على أنبيائه ورسله، ويُعلم بما فطر الخلق عليه من صفاته وأفعاله، ولكن لا يحاط به علماً، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، فإذا كان هذا في صفة من صفاته ففيما يتعلق بتمام ذاته من باب أولى.

الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، الذي لا يعجزه شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

عموم قدرة الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله: [ولا شيء يعجزه؛ ولا إله معه]. قوله رحمه الله: (ولا شيء يعجزه). هذه الجملة من الجمل المجمع عليها بين المسلمين، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا شيء يعجزه. ومن الملاحظ أن الجمل التي يذكرها الطحاوي رحمه الله تارةً تكون جملاً يحصل بها تخصيص لمعتقد أهل السنة والجماعة عن معتقد مخالفيهم من المتكلمين أو غيرهم من الطوائف، وتارةً يذكر جملاً لا يحصل بها التخصيص؛ حيث تكون الجملة من معاقد الاتفاق بين سائر طوائف المسلمين، فقوله: (ولا شيء يعجزه) هذه جملة مجمع عليها، فليس هناك طائفة من الطوائف تخالف هذه الجملة. ......

معنى شهادة أن لا إله إلا الله
وقوله: (ولا إله غيره). أي: لا معبود غيره، وتفسير توحيد الألوهية هو: أنه لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. ......
حكم إطلاق لفظ (القديم) على الله تعالى.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
هو, قوله

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:18 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir