دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دورات برنامج إعداد المفسّر > تفسير سورة الفاتحة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13 ذو القعدة 1437هـ/16-08-2016م, 07:52 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تفسير قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم }

تفسير قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم }

قال الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين }
هذه الآيات الثلاث حمدٌ لله تعالى وثناء عليه وتمجيد له، كما في صحيح مسلم وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي...). الحديث.
فهذه الآيات الثلاث من القسم الذي جعله الله تعالى له من صلاة العبد لربّه بفاتحة الكتاب.
فهو حمدٌ لله تعالى بما حمد به نفسه، وثناء عليه بتكرير ذكر أسمائه وصفاته، وتمجيد له بتكرير الثناء عليه بما وصف به نفسه من الصفات الجامعة لمعاني المجد والعظمة.

تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
معنى {الحمد لله}
الحمد هو ذكر محاسن المحمود عن رضا ومحبة.
والتعريف في الحمد له معنيان:
المعنى الأول: استغراق الجنس، أي كلّ حمد فالله هو المستحقّ له، فكلّ ما في الكون مما يستحقّ الحمد؛ فإنما الحمد فيه لله تعالى حقيقة لأنه إنما كان منه وبه.
والمعنى الثاني: التمام والكمال، أي الحمد التامّ الكامل من كلّ وجه وبكلّ اعتبار لله تعالى وحده؛ فهو المختصّ به؛ فالله تعالى لا يكون إلا محموداً على كلّ حال، وفي كلّ وقت، ومن كلّ وجه، وبكلّ اعتبار.
- فهو تعالى محمود على كلّ ما اتّصف به من صفات الكمال والجلال والجمال.
- وهو محمود في جميع أمره.
- وهو محمود على كلّ ما خلق وقضى وقدّر.
فملأ حمدُه تعالى كلَّ شيء؛ {وإن من شيء إلا يُسبّح بحمده}.
والله تعالى له الحمد بالمعنيين كليهما.
والفرق بين معنَيَيِ التعريف في الحمد: أن المعنى الأول يشتمل على أنواع كثيرة؛ فمنها ما يختص بالله تعالى، ومنها ما يقع اسم الحمد فيه على بعض ما يُحمد به بعض خلقه، ومن ذلك ما يُحمد به بعضهم على ما جبَلَهم الله عليه من صفات حسنة، وعلى ما وفَّقهم إليه من أعمال خير وإحسان، فحَمْدُهم إنما هو بسبب حمده تعالى، وهو أثر من آثاره، وهذا نظير ما يتّصف به بعض المخلوقين من العلم والرحمة والحكمة وغير ذلك؛ فكلّ ما اتصفوا به من هذه الصفات فهو من آثار علم الله ورحمته وحكمته، ويقال في سائر المعاني التي تطلق ألفاظها على الربّ تعالى وعلى بعض خلقه مثل ذلك.
وقد سمَّى الله تعالى نبيّه محمَّداً صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم، لكثرة الصفات التي يُحمد عليها، فاتّصاف بعض المخلوقين بكونهم محمودين على بعض صفاتهم وأفعالهم هو كمثل اتّصافهم بالرحمة والعلم ونحوهما؛ يكون للمخلوقين من ذلك ما يُناسبهم، لكن نسبة حمدهم إلى حمده جلَّ وعلا كنسبة علمهم إلى علمه، ورحمتهم إلى رحمته.
فعلى المعنى الأول كلّ حمدٍ حقيقته أنه لله تعالى لأنه هو المانّ به، وهو من آثار حمده، فما أَعْطَى أحدٌ من خلقهِ شيئاً يُحمدُ عليه إلا مما أعطاه الله، ولا اتّصف أحدٌ من خلق الله بصفة يُحمد عليها إلا لأنَّ الله تعالى هو الذي جبله عليها وخلقه على تلك الصفة، ووفّقه لما اتصف به من السجايا والأخلاق الحميدة.
وأمّا الحمد على المعنى الثاني فهو مختصٌّ بالله تعالى لا يُطلق على غيره؛ لأنَّ معناه الحمد التامّ المطلق الذي لا يشوبه نقص ولا انقطاع، ولا تخلو منه ذرَّة من ذرَّات الكون؛ وقد قال الله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبّح بحمده}، واقتران التسبيح بالحمد؛ لإفادة معنى التعظيم والتنزيه مع الحمد المشتمل على الحبّ والرضا.

فائدة: في أنواع التعريف بـ(ال).
ومما ينبغي لطالب علم التفسير معرفته أن التعريف بـ(ال) يرد لمعانٍ متعددة:
1.
منها استغراق الجنس كما في قول الله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} أي: كلّ إنسان.
2. ومنها: الكمال والتمام كما في قول الله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وقوله: {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون}.
3. ومنها: الأولوية، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمو الموت» ، وقوله: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به، فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس».
4. ومنها: العهد، والمراد به ما يعهده المخاطَب ويعرفه، وهو على ثلاثة أنواع:
أ: عهد حضوري، نحو: {ولا تقربا هذه الشجرة} فهي شجرة يعهدها آدم ويعرفها بمقتضى الإشارة إليها.
ب: وعهد ذِكْري: نحو: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً . فعصى فرعون الرسول} أي الرسول الذي ذُكر في الآية التي قبلها.
ج: وعهد ذهني: وهو ما يعهده المخاطب في ذهنه لظهور العلم به نحو: {إن الذين جاؤوا بالإفك} المراد به القصة التي عرفوها فهي معهودة لهم في أذهانهم.
ومعرفة هذه الأنواع من مهمّات ما يحتاجه طالب علم التفسير، وكثيرا ما يكون مرجع الاختلاف بين أقوال المفسرين لاختلافهم في معنى التعريف.
ويقع بين هذه المعاني شيء من التداخل في بعض الأمثلة، ولها تفاصيل وأحكام تُبحث في علم أصول التفسير، وعلم معاني الحروف.


معنى اللام في قوله تعالى: {لله}
اللام هنا للاختصاص على الراجح من أقوال أهل العلم؛ لأنَّ الحمدَ معنىً أُسند إلى ذاتٍ؛ لكن مما تحسن معرفته أن الاختصاص يقع على معنيين:
أحدهما: ما يقتضي الحصر، كما تقول: "الجنة للمؤمنين" أي لا يدخلها غيرهم.
والآخر: ما يقع على معنى الأولوية والأحقية، كما يقال: الفضل للمتقدّم، أي هو أولى به وأحقّ.
إذا تبيّن لك الفرق بين هذين المعنيين؛ فاعلم أنهما يتواردان على المعنيين المذكورين للحمد آنفاً؛ فإذا أريد المعنى الأول للحمد؛ فالاختصاص يفيد معنى الأولوية والأحقية.
وإذا أريد المعنى الثاني للحمد فالاختصاص يفيد معنى الحصر.

الفرق بين الحمد والشكر
مبحث الفرق بين الحمد والشكر من المباحث الاستطرادية، فالحمد هنا المراد به الذكر؛ أي: ما يحمد به العبد ربَّه، وهو أخص من المراد بالحمد في تفسير الآية.
لكن لمّا بحث المفسّرون هذه المسائل أحببت ذكر خلاصتها للفائدة.
فالفرق بين الحمد والشكر أنّ الحمد أعمّ من وجه، والشكر أعمّ من وجه آخر.
- فالحمد أعمّ؛ باعتبار أنه يكون على ما أحسن به المحمود، وعلى ما اتّصف به من صفات حسنة يُحمد عليها، والشكر أخصّ لأنه في مجازاة مقابل النعمة والإحسان.
- والشكر أعمّ من الحمد باعتبار أنّ الحمد يكون بالقلب واللسان، والشكر يكون بالقلب واللسان والعمل؛ كما قال الله تعالى: {اعملوا آل داوود شكرا}.
وقد قال بهذا التفريق شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في مواضع من كتبهما، ومن أجمع العبارات في ذلك قول ابن القيّم رحمه الله في مدارج السالكين: (والفرق بينهما: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته. والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب.
ومعنى هذا: أن الشكر يكون بالقلب خضوعا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافا، وبالجوارح طاعة وانقيادا. ومتعلقه: النعم، دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه. وهو المحمود عليها. كما هو محمود على إحسانه وعدله، والشكر يكون على الإحسان والنعم.
فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس. فإن الشكر يقع بالجوارح. والحمد يقع بالقلب واللسان)ا.هـ.
وقد ذهب ابن جرير الطبري والمبرّد وجماعة من أهل العلم إلى أن الحمد يطلق في موضع الشكر، والشكر يطلق في موضع الحمد، وأنه لا فرق بينهما في ذلك.
وهذا القول إنما يصحّ فيما يشترك فيه الحمد والشكر؛ وهو ما يكون بالقلب واللسان في مقابل الإحسان؛ فليُتنبَّه إلى ذلك.

الفرق بين الحمد والمدح
وبين الحمد والمدح عموم وخصوص أيضاً:
- فالمدح أعمّ من الحمد؛ باعتبار أن الحمد إنما يكون عن رضا ومحبة، والمدح لا يقتضي أن يكون كذلك؛ بل قد يمدح المرء من لا يحبّه طمعاً في نوال خيره أو كفّ شرّه.
وباعتبار آخر: وهو أن الحمد لا يكون إلا على اعتقاد حسن صفات المحمود أو إحسانه، والمدح قد يكون مدحاً على ما ليس بحسن؛ كما يمدح أهل الباطل بعض المفسدين بإفسادهم مع أن أمرهم غير محمود.
- والحمد أعمّ من المدح باعتبار أن المدح إنما يكون باللسان، والحمد يكون بالقلب واللسان.
فهذه خلاصة ما قيل في التفريق بين المدح والحمد، وقد قيل في هذه المسألة أقوال أخرى فيها نظر، بل بعضها خطأ محض فأعرضت عنها.

الفرق بين الحمد والثناء
والفرق بين الحمد والثناء من وجهين:
الأول: أن الثناء هو تكرير الحمد وتثنيته، ولذلك جاء في الحديث المتقدّم: (فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي..).
والتمجيد هو كثرة ذكر صفات المحمود على جهة التعظيم.
ولذلك قال في الحديث: (وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي).
والوجه الثاني: أن الحمد لا يكون إلا على الحُسْن والإحسان، والثناء يكون على الخير وعلى الشر، كما في الصحيحين من حديث عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: مروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت» ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: «وجبت».
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟
قال: «هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض».

معنى (الرَّبّ)
(الرَّبُّ) هو الجامع لجميع معاني الربوبية من الخلق والرزق والملك والتدبير والإصلاح والرعاية، فلفظ الربّ يطلق على هذه المعاني في لسان العرب إطلاقاً صحيحاً، وشواهد هذه المعاني مبثوثة في معاجم اللغة، ودلائل النصوص عليها ظاهرة بيّنة.

أنواع الربوبية:
وربوبية الله تعالى لخلقه على نوعين:
النوع الأول: ربوبية عامة بالخلق والملك والإنعام والتدبير، وهذه عامة لكل المخلوقات.
والنوع الثاني: ربوبية خاصة لأوليائه جل وعلا بالتربية الخاصة والهداية والإصلاح والنصرة والتوفيق والتسديد والحفظ.
والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها.

معنى (العالمين):
العالمون جمع عالَم، وهو اسم جمعٍ لا واحد له من لفظه، يشمل أفراداً كثيرة يجمعها صِنْفٌ واحد.
فالإنس عالَم، والجنّ عالَم، وكلّ صنف من الحيوانات عالَم، وكلّ صنف من النباتات عالم، إلى غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى من عوالم الأفلاك والملائكة والجبال والرياح والسحاب والمياه، وغيرها من العوالم الكثيرة والعجيبة.
وقال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
فكلُّ أمَّة من هذه الأمم عالَم.

قال ابن جرير: (والعالمون جمع عالمٍ، والعالم جمعٌ لا واحد له من لفظه، كالأنام والرّهط والجيش ونحو ذلك من الأسماء الّتي هي موضوعاتٌ على جماعٍ لا واحد له من لفظه)ا.هـ.

ثمَّ كلُّ صنفٍ من هذه العوالم ينقسم إلى عوالَم في كلّ قرن؛ فأهل كلّ قرن من ذلك الصنف عالَم كما قال الله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}
قال ابن كثير: (والعالم جمعٌ لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السّماوات والأرض في البرّ والبحر، وكلّ قرنٍ منها وجيلٍ يسمّى عالمًا أيضًا)ا.هـ.

معنى {ربّ العالمين}
وربوبيّة الله تعالى للعالمين ربوبيّة عامّة على ما تقدّم بيانه من معاني الربوبية.
- فهو تعالى {ربّ العالمين} الذي خلق العوالم كلَّها كبيرها وصغيرها على كثرتها وتنوعها وتعاقب أجيالها.
وفي هذه العوالم أممٌ لا يحصيها إلا من خلقها، وفي كل مخلوق من هذه المخلوقات دقائق وعجائب في تفاصيل خلقه تبهر العقول، أنشأها {ربّ العالمين} من العدم على غير مثال سابق؛ فيستدل المتفكّر في شأنها بما تبيَّن له من تلك العجائب على حكمة خالقها جل وعلا وسعة علمه، وعظيم قدرته، فتبارك الله رب العالمين.
- وهو ربُّ العالمين المالك لكلِّ تلك العوالم فلا يخرج شيء منها عن ملكه، وهو الذي يملك بقاءها وفناءها، وحركاتها وسكناتها، فيبقيها متى شاء، ويفنيها إذا شاء، ويعيدها إذا شاء.
- وهو ربّ العالمين الذي دبَّر أمرها، وسيّر نظامها، وقدّر أقدارها، وساق أرزاقها، وأعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.
- وهو ربّ العالمين الذي له الملك المطلق والتصرّف التامّ، فما يقضيه فيها نافذ لا مردّ له، وما يريد به أحدا من خلقه من نفع أو ضرّ فلا حائل بينه وبينه، بل لا تملك جميع المخلوقات لنفسها نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه جل وعلا.
- وهو ربّ العالمين الذي لا غنى للعالمين عنه، ولا صلاح لشؤونهم إلا به، كلّ نعمة ينعمون بها فإنما هي من فضله وعطائه، وكلّ سلامة من شرّ وضرٍّ فإنما هي بحفظه ورعايته وإذنه، فهم الفقراء إليه فقراً دائماً متّصلاً، وهو الغنّي الحميد.
- وهو ربّ العالمين الذي دلّت ربوبيّته للعالمين على كثير من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فلا يرتاب الموفَّق في بديع خلقه، وعجائب حكمته، وسَعَة مُلْكه، وشدّة قوّته، وتمام غناه، وعظمة مجده، وإحاطته بكل شيء، وقدرته على كلّ شيء، إلى غير ذلك من الصفات التي يدلّ عليها التفكّر في خلق الله تعالى وربوبيّته للعالمين.
- وهو تعالى {ربّ العالمين} المستحقّ لأن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا معه إلهاً آخر، كما أنهم لم يكن لهم ربٌّ سواه، ولهذا قال تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}؛ فاحتجّ على توحيد العبادة باسم الربوبية.

والمقصود أنّ تأمُّلَ معاني الربوبية والتفكر في آثارها في الخلق والأمر يورث اليقين بوجوب التوحيد، وأنَّ العالم لا صلاح له إلا بأن يكون ربه واحدا، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.

أقوال العلماء في المراد بالعالمين:
كان ما تقدّم من التفسير مبناه على اعتماد القول الراجح، إلا أنه ينبغي لطالب علم التفسير أن يكون على معرفة بأقوال العلماء في هذه المسألة، وأن يعرف سبب الاختلاف، ومآخذ الأقوال وحججها وأحكامها.
ومن ذلك أن المفسّرين اختلفوا في المراد بالعالمين في هذه الآية على أقوال كثيرة أشهرها قولان صحيحان:
القول الأول: المراد جميع العالَمين، على ما تقدّم شرحه، وهو قول أبي العالية الرياحي، وقتادة، وتبيع الحميري، وقال به جمهور المفسّرين.
والقول الثاني: المراد بالعالمين في هذه الآية: الإنس والجنّ، وهذا القول مشتهر عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وروي أيضاً عن ابن جريج.
وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من طرق عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عزّ وجلّ: {ربّ العالمين} قال: (ربّ الجنّ والإنس).
وقيس بن الربيع الأسدي مختلف فيه، كان شعبة يُثني عليه، وقال عفّان: ثقة، وليَّنه الإمام أحمد، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك.
وقد كان محمودَ الأمر لكنّه تولّى منصباً فساء حفظه ووقع في حديثه ما يُنكر.
قال محمد بن عبيد: (لم يكن قيس عندنا بدون سفيان، ولكنه استُعمل، فأقام على رجل الحدّ فمات، فطفى أمره).
والأقرب فيمن كان في مثل حاله أنه لا يقبل تفرّده، لكن هذا القول تعددت رواياته عن أصحاب ابن عباس؛ فروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة بأسانيد لا تخلو من مقال ، لكن تعدد الروايات وتظافرها على هذا القول مع اختلاف مخارجها دليل على أنَّ هذا القول محفوظ عن أصحاب ابن عباس.
وقد استُدلّ له بقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} ، والمراد بهم هنا المكلّفون من الإنس والجن.

وهذا القول صحيح المعنى والدلالة، وبيان ذلك بالجمع بين أمرين:
أحدهما: أن يكون التعريف في (العالمين) للعهد الذهني، وليس للجنس؛ فيكون هذا اللفظ من العامّ الذي أريد به الخصوص.
والآخر: أن يكون لفظ (ربّ) بمعنى (إله) ؛ كما في حديث سؤال العبد في قبره: من ربّك؟ أي: من إلهك الذي تعبده؟
فلفظ (الربّ) من معانيه (الإله المعبود) ، والله تعالى هو (الربّ) وهو (الإله) ، وما عبد من دون الله فليس بإلهٍ على الحقيقة، وليس برب على الحقيقة، وإنما اتُّخِذَ رباً، واتُّخِذَ إلها، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
قال عدي بن حاتم: (يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم)... الحديث، ففهم عَديٌّ رضي الله عنه من هذا اللفظ معنى العبادة، لأن اتخاذ الشيء رباً معناه عبادته، إذ الربوبية تستلزم العبادة.
وقال شاعر جاهليّ كان يعبد صنماً فرأى ثعلباً يبول على رأس صنمه؛ فقال:
أرَبٌّ يبول الثُّعلبانُ برأسه .. لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالبُ
والثعلبان: ذكر الثعالب.
فتبيَّن أن هذا القول المروي عن ابن عباس وأصحابه صحيح في نفسه، ولعلّ الصارف لهم إلى هذا المعنى اعتبار الخطاب للمكلّفين الذين هم الإنس والجنّ، كما قال تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون}؛ فهم أولى من يراد بلفظ العالمين؛ لأنهم المكلفون بالعبادة.
فهذا توجيه هذا القول، لكن القول الأوّل أعمّ منه، وله دلالة صحيحة ظاهرة، وهو قول جمهور المفسّرين.
والاختلاف في بعض أوجه التفسير الصحيحة كالاختلاف في القراءات الصحيحة؛ فيجوز أن يستحضر القارئ أحد المعاني عند قراءته إذا لم يمكن الجمع بينها.
وفي هذه المسألة قول ثالث: وهو أن المراد بالعالمين "أصناف الخلق الرّوحانيّين، وهم الإنس والجن والملائكة، كلّ صنف منهم عالم"، وهذا قول ابن قتيبة الدينوري ونصّ عبارته في كتابه "تفسير غريب القرآن".
وهذا القول نسبه الثعلبي إلى أبي عمرو بن العلاء من غير إسناد، وعلى معنى آخر.
قال الثعلبي: (وقال أبو عمرو بن العلاء: هم الروحانيون، وهو معنى قول ابن عباس: كل ذي روح دبّ على وجه الأرض)ا.هـ.
ولا يصحّ هذا القول عن أبي عمرو بن العلاء، ولا ما ذكره الثعلبي عن ابن عباس.

وابن قتيبة قد اضطرب قوله في هذه المسألة في كتبه، ودعوى تخصيص المراد من غير حُجَّة معتبرة يُستند إليها دعوى باطلة.
وقد ذكر الثعلبي في هذه المسألة أقوالاً أخرى ضعيفة، وتبعه على ذكرها بعض المفسّرين، وقد أعرضت عنها لضعفها.

قال شيخ مشايخنا محمد الأمين الشنقيطي(ت:1393هـ) رحمه الله في تفسير سورة الفاتحة: (قوله تعالى: {رب العالمين} لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله: {قال فرعون وما رب العالمين . قال رب السماوات والأرض وما بينهما}).
وهذا من أحسن ما يُستدلّ به على ترجيح القول الأول.


تفسير قول الله تعالى: {الرحمن الرحيم}
تقدّم بيان معنى الاسمين الجليلين، وتضمّنهما صفة الرحمة، وبيان التناسب بين الاسمين، والحكمة من اقترانهما، وبيان أنواع الرحمة.

الحكمة من تكرار ذكر {الرحمن الرحيم} بعد ذكرهما في البسملة:
تكلّم في هذه المسألة بعض المفسّرين، وقد اختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: أنه لا تكرارَ هنا لأن البسملة ليست آية من الفاتحة، وهذا قول ابن جرير.
وهذا القول يعترض عليه من وجهين:
أحدهما: أنّ اختيار المفسّر لأحد المذاهب في العدّ لا يقتضي بطلان المذاهب الأخرى، كما أنّ اختياره لإحدى القراءتين لا يقتضي بطلان الأخرى.
والوجه الآخر: أنَّ المسألة باقية على حالها حتى على اختياره؛ إذ لا إنكار على من قرأ البسملة قبل الفاتحة ولو لم يعدَّها آية من الفاتحة.
والقول الثاني: التكرار لأجل التأكيد، وهذا القول ذكره الرازي في تفسيره، قال: (التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن، وتأكيد كون الله تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات).
والقول الثالث: التكرار لأجل التنبيه على علّة استحقاق الحمد، وهذا القول ذكره البيضاوي.
وهذان القولان مستندهما الاجتهاد بالنظر في التماس الحكمة من التكرار، ولا أعلم عن السلف قولاً في هذه المسألة، وهذا مشعرٌ بأن المسألة لم تكن مشكلة عند السلف؛ لكن لمَّا أثير السؤال كان لا بدَّ من الجواب عليه.
وهذا النوع من الأسئلة يرتّب الجواب فيه على مراتب:
المرتبة الأولى: النظر في الأقوال المأثورة إن وجدت؛ فإن لم يجد المفسّر قولاً مأثوراً صحيحاً في هذه المسألة انتقل إلى المرتبة الثانية: وهي النظر في سياق الكلام، وهو أصلٌ مهمّ في الجواب عن مثل هذه الأسئلة؛ فإن أعياه ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة: وهي النظر في مقاصد الآيات.
فإن لم يتبيّن له الجواب توقَّف، ووكل الأمر إلى عالمه.
وفي هذه المسألة يكشف السياق عن مقصد تكرار ذكر الاسمين في هذين الموضعين.
فالموضع الأول: البسملة، وغرضها الاستعانة بالله تعالى والتبرّك بذكر اسمه واستصحابه على تلاوة القرآن وتدبّره وتفهّمه والاهتداء به؛ فيكون لذكر هذين الاسمين في هذا الموضع ما لا يخفى من المناسبة، وأن التوفيق لتحقيق هذه المقاصد إنما يكون برحمة الله تعالى، والتعبّد لله تعالى بذكر هذين الاسمين مما يفيض على قلب القارئ من الإيمان والتوكّل ما يعظم به رجاؤه لرحمة ربّه، وإعانته على تحقيق مقاصده من التلاوة.
والموضع الثاني: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم} جاء فيه ذكر هذين الاسمين بعد ذكر حمد الله تعالى وربوبيّته العامّة للعالمين؛ فيكون لذكر الاسمين في هذا الموضع ما يناسب من معاني رحمة الله تعالى وسعتها لجميع العالمين، وأنَّ رحمته وسعت كلّ شيء، وأنه تعالى عظيم الرحمة كثير الرحمة فيكون ذكر هذين الاسمين من باب الثناء على الله تعالى تقدمة بين يدي مسألته التي سيسألها في هذه السورة.
وإذا ظهر الفرق بين مقصد ذكر هذين الاسمين في البسملة، وبين ذكرهما بعد الحمد ؛ ظهر للمتأمّل معنى جليل من حكمة ترتيب الآيات على هذا الترتيب البديع المحكَم.
وقد أساء من حَمَل على من يعدّ البسملة آية من الفاتحة ؛ بأنه لو كانت الآية من الفاتحة لكان تكرار هذين الاسمين لغوا لا معنى له، وهذه زلَّة لا ينبغي أن تصدر من مؤمن، واختيار المرء قراءة من القراءات أو مذهباً من مذاهب العدّ لا يسوّغ له الطعن في غيره مما صحّ عند أهل ذلك العلم، بل تُعتقد صحّة الجميع، والاختيار فيه سعة ورحمة، ويدخله الاجتهاد.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, قول

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:10 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir