دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27 ربيع الأول 1438هـ/26-12-2016م, 09:49 PM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي تطبيقات على درس الأسلوب المقاصدي

تطبيقات على درس الأسلوب المقاصدي
الدرس (هنا)

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 3 ربيع الثاني 1438هـ/1-01-2017م, 04:51 AM
هناء محمد علي هناء محمد علي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 439
افتراضي

رسالة في قوله تعالى :

{ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (12) يونس


مس : أي أصاب ... والتعبير بالمس ليشمل أدق وأقل أنواع الضر والإصابة ، فهذا الوصف ينطبق على صاحبه مهما بلغ حجم الضر الذي أصابه قل أو كثر ...
والإنسان جنس الإنسان ؛ وقيل أن التعريف للعهد وقيل للاستغراق العرفي أي للكافر لانطباق الوصف عليه مطلقا ، ولكنه يقع على بعض المؤمنين ممن كان هلوعا لم يهذب نفسه ويمسك زمامها بالتقوى وحسن التوكل على الله ... فكل مسلم كان فيه من هذه الآية شيء أخذ من حكمها وناله من ذمها بمقدار ما فيه من هذه الخصلة .
والضر جنس الضرر من مرض أو فقر أو غيرها مما يصيب الإنسان مما يكره ...

في سورة من السور المكية ... المحشودة بالدلائل على القدرة الإلهية ... والدعوات لتوحيده سبحانه وإبطال كل ما يعبد سواه ، وإظهار الضعف البشري وافتقاره وحاجته إلى الحي القيوم ... وأن غيره تعالى مما يدعونه ويعبدونه لا يغني عنهم شيئا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ... تأتي هذه الآية لتضع الإنسان في مكانه الصحيح في عبوديته لله تعالى ... فيستقيم له في أحواله كلها ... فإنه لو ترك نفسه دون أن يروضها فستكون كمن وصفهم ( إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين )المعارج ( 19-22)
فتراه دائم الهلع ... لا يضبط انفعالات نفسه ولا يكبح جماحها ... فيبطر عند الخير والفرح ، ويمنع ويجزع عند الضر والكرب ....
وقد قالوا : والنفس كالطفل إن تتركه شب على ...... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم ...
وهي كذلك إن تركت على سجيتها ...

وقد جاءت هذه الآية ( وإذا مس الإنسان الضر ) بعد قوله تعالى ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) (11) كما ذكر بعدها آيات صورة مماثلة ( ... وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) ( 22،23 ) يونس
فهي إذن صورة متجددة ... يتجلى فيها الضعف البشري ... والتوجه الفطري للنفس البشرية حين يزول عنها كل ما ران عليها وقطع عليها الطريق من حجب وصوارف وقواطع ... فتعلم في قرارة نفسها أن لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه ... ولا قاضي للحاجات إلا هو ، فتخلع كل ما كانت تعبد سواه ... ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) الإسراء 67... فتتضرع وتخشع وتتوسل وترجو وتدعو دعاء الخائف الذليل ... لكن الإنسان مع ذلك جهول ... يجهل ما ينفعه وما يضره فيدعو بما قد يكون إجابته مضرة عليه ... ثم إنه إذا أجيبت دعوته عاد إلى ما كان عليه من إعراض ولهو وغفلة ...

وإن من هذا حاله لعلى خطر عظيم ... فهو ذاهل عن ربه ... معرض عما خلق له في حالاته كلها ... فهو في السراء لاه معرض ... وفي الضراء هلع جزع متوجه إلى الله جزعا على ما فقد وأسفا عليه ... لا عودة إلى ربه وإيمانا به ... وإلا لاستقام على حاله لو صح منه التوجه ... ولكنه علم في قرارة نفسه أن لا عودة لمفقوده إلا بالتوجه لمن بيده الأمور كلها ... فلما حصل مفقوده استغنى ( إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى ) العلق 6 ، 7... فظن غرورا وزهوا وفخرا أنه ما عاد بحاجة ربه وأن عنده ما أراد... فضل وضل سعيه ...
بل هو في ضرائه لا يشغله حاله عن الدعاء والتضرع فيدعو ربه ( لجنبه ) أي مضطجعا على جنبه إما لعدم اقتداره على الجلوس أو القيام أو إظهارا لتمكنه من حالة الراحة بها ... ( أو قاعدا أو قائما ) فلا تراه في حال من أحواله حتى مع أشدها راحة وسكونا إلا داعيا متضرعا لا يذهله شيء عن الدعاء ... بل إنه كما وصفه تعالى ( وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) 51 فصلت ... دعاء كثير مستمر دائم بإلحاح وإخلاص ، لا يدعو معه غيره لأنه يعلم أنه لا يملك النفع والضر إلا هو ... وقال تعالى ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ) الزمر 8 منيبا مخلصا له مستغيثا به مقبلا عليه ...
فإذا كشف الله عنه ما به من ضر ( مر ) هكذا ... مرور الكرام ... بسرعة كأن شيئا لم يكن ( كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) ...
و( نسي ما كان يدعو إليه من قبل ) نسي ربه الذي كان يدعوه في شدته وبلائه ... بل نسي ابتلاءه أصلا ... وأنه ما رفع عنه إلا بلجوئه إلى خالقه ...
فهذا المفرط في حق نفسه وفي حق ربه قد أساء الظن بربه وأساء في حقه الأدب ... فهو لم يعرف ربه إلا عندما انقطعت به السبل وأعيته الحيل ... ولم يعرف التوكل عليه إلا لدفع مضرة عنه أو جلب منفعة ... فإذا زال الضر عنه عاد لاهيا ساهيا ... ألهته الدنيا بمباهجها ... وأنساه النعيم والرخاء ما كان فيه من الضراء ... ونسي أن الذي من عليه بالرخاء قادر على سلبه وقادر على إصابته بالضر ... بل انطلق في دنياه لا يلوي على شيء ولا يلتفت للوراء ، وإن ذكره أحد بما كان من حاله أنكر ورفض أن يتذكر ... لا يريد أن يجعل لأحد منة عليه ، يظن أنه قد أوتيه على علم عنده .. فحال هذا كحال أولئك النفر الثلاثة من بني إسرائيل ( الأقرع والأعمى والأبرص ) إذ دعوا الله في ضرائهم ، فلما كُشف عنهم بلاؤهم تنكر اثنان منهما وأنكرا أنه أصابهما ضر ...
أما الثالث فإنه نجا ؛ نجا لشكره الله تعالى على معافاته ... ولتذكره ما كان من كرم ربه وعطائه وتوفيقه ...

وذلك حال المؤمن ( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) رواه مسلم
فهذا حال المؤمن الذي أحسن الظن بربه وأحسن التوكل عليه ... علم أن أمره كله بيده سبحانه ... فاستعان به في رخائه وشدته وفوض إليه أمره كله فلم يلتفت في ذلك لغيره سبحانه ، وانخلع عن كل ما سواه ، وعمر ذلك قلبه فاستكان بين يدي مولاه ، وغمرته السكينة ... وفاض عليه الرضا بكل أقدار الله تعالى ...والاستسلام له وحده ... وظهر هذا الفيض على جوارحه فلسانه ذاكر لله شاكر في نعمائه صابر عند بلوائه ... وجوارحه عاملة فيما خلقت له وما أمرت به ... علم مراد ربه ... وأدرك أنه عند الرخاء مبتلى أيشكر أم يكفر ( قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ) النمل 40، ... ودفعه حسن ظنه بربه ويقينه بصدق وعده ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) لمزيد من الشكر ... بالحمد والثناء ... والعمل والبر والصلة ... فتراه حامدا لله على النعماء متذكرا مستبصرا ... مستعينا به على حسن الشكر وحسن الأداء وحسن العمل ... فإن ابتلي بالغنى أنفق من أحب ماله ... وإن رزق بدنا صحيحا أبلاه في طاعة ربه ... وإن وهب ذرية أمضاها في سبيل الله تعالى وأحسن تنشئتها ... وهو كذلك في أحواله كلها ... يتقلب في نعم الله فلا تزيده النعم إلا شكرا ... ولا يزيده العطاء إلا عطاء ، فتراه لا يرد سائلا إلا أعطاه ، ولا يترك مظلوما إلا أنصفه إن استطاع ، ولا يدع معروفا إلا سارع إليه ، ولا منكرا إلا سعى لإزالته ... ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) مريم 76 ، فهو بذلك على هدى ونور ...
فإن قدر الله عليه الابتلاء بالضراء ، دفعه إيمانه وحسن ظنه بربه إلى التسليم والرضا ، والصبر على قدر الله بقلب ملؤه اليقين بلا تسخط ولا تذمر ولا شكوى ... لأنه يعلم أن الذي ابتلاه بالسراء هو الذي ابتلاه بالضراء ، وأن الذي جلب له النفع هو وحده القادر على دفع الضر عنه ... فينطلق لسانه حمدا لله على ما قدر ، وذكرا له في أحواله كلها ، فلا يكاد الناظر إليه ممن يجهل حاله يميز أفي سراء هو أم في ضراء ... فلسانه على الحالين ذاكر ، وقلبه على الحالين شاكر ، وجوارحه في الحالين طائعة لربها عاملة بأمره ...
ومن كان هذا حاله في سرائه وضرائه كانت إجابة دعائه أرجى ... فهذا نبي الله يونس عليه السلام لما التقمه الحوت فدعا ربه فنجاه قال تعالى ( فلولا أنه كان من المسبحين ، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون )الصافات 144، فكان هذا حاله في سرائه ... مسبحا واستمر عليه في ضرائه فنجاه الله مما هو فيه ، وها هو زكريا عليه السلام يقف بين يدي ربه سائلا الذرية فيجيبه تعالى ويهب له يحيى ثم يعقب الله على ذلك ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ) الأنبياء 90 ... هذا كان حالهم صلوات الله وسلامه عليهم ... مسارعة في الخيرات أنى وجدت ... دعاء لله في السراء والضراء ، رغبة ورهبة ... وخشوع وإنابة وتبتل بين يديه سبحانه ... فاستحقوا أن يجابوا فور دعائهم ، ولذلك كانت إجابتهم مبتدئة بفاء المسارعة ( فاستجبنا له ) لسرعة الاستجابة ...

عرفوا الله في الرخاء فرفع عنهم البلاء ... ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :: ( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء )
وعن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) رواه أحمد والحاكم والبيهقي ...
وورد في زيادة ابن وهب على حديث احفظ الله يحفظك بلفظ ( تقرب إلى الله في الرخاء )
وجاء في الحديث الموقوف الذي رواه الإمام احمد عن سلمان قال : إذا كان الرجل دعاء في السراء ثم نزلت به ضراء فدعا قالت الملائكة : صوت معروف ؛ استغفروا له ، وإذا كان الرجل ليس بدعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا قالت الملائكة : صوت ليس بمعروف ؛ ولا يشفعون له ) ...

فحال هذا العارف بربه الذاكر له على الدوام خير حال ، فهو في نفسه مطمئن ... تغشاه السكينة لاعتماده على الله وحده واستناده إليه فهو كما قال ابن القيم ( حاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به فرأى حصنا مفتوحا فأدخله ربه إليه وأغلق عليه باب الحصن فهو يشاهد عدوه خارج الحصن ،فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه في هذه الحال لا معنى له ) ...
ولذلك فإن الإمام الشاطبي صاحب حرز الأماني لما مرض مرض وفاته كان يسأل عن حاله فلا يزيد على قوله أنه في عافية ...

وأما المسرف على نفسه والمفرط في حق ربه فإنه مضطرب قلق ... تراه في حال رخائه ترهقه دنياه من خوفه عليها وعلى فقدان شيء مما حصله وجمعه ... خائف دائما من الزوال والنقصان ... وفي حال ضرائه وجل جزع فزع ...
ولا شيء أدل على ذلك من تأمل حال المؤمن وغيره وقت المصائب ... لترى الرسوخ والثبات حال الأول ... والاضطراب والجزع حال الثاني ... ( كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) فهذا القلق الدائم وهذا الخذلان لهم وتركهم لأنفسهم ولما هم فيه بين البطر وكفران النعمة والخوف والدعاء إنما هو بسبب ما أسرفوا على أنفسهم ... فزين لهم الشيطان أعمالهم ... دعاهم فاستجابوا له ... وأنعم الله عليهم استدراجا فاستمروا في طغيانهم يعمهون ...


المراجع والمصادر :
- جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري ( 310 هـ )
- النكت والعيون للماوردي ( 450 هـ)
- الكشاف للزمخشري ( 538 هـ )
- المحرر الوجيز لابن عطية ( 541 هـ )
- زاد المسير في علوم التفسير لابن الجوزي ( 597 هـ)
- "تهذيب " مدارج السالكين لابن القيم ( 751 هـ)
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ )
- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ( 885 هـ )
- روح المعاني للألوسي ( 1270 هـ )
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ( 1376 هـ)
- في ظلال القرآن لسيد قطب ( 1386 هـ )
- التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور ( 1393 هـ )
- الجامع الوجيز في تفسير آي الكتاب العزيز لأيمن فاتح العامر

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 3 ربيع الثاني 1438هـ/1-01-2017م, 05:06 AM
منى محمد مدني منى محمد مدني غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السادس
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 344
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة في المثل المضروب في سورة الرعد

قال تعالى :(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) سورة الرعد

المقصد من ضرب المثل وبيان اتفاقه مع مقصد السورة :
المقصد من ضرب هذا المثل( بيان قوة الحق المأخوذ من القرآن وثباته واستقراره وبركته على قلوب المؤمنين حيث انتفعوا به انتفاعاَ عظيماً ونفعوا غيرهم ,وفيه بيان ضعف الباطل وذهابه واضمحلاله )
وهذا المقصد من المثل هو المقصد من سورة الرعد فهذه السورة بدأت بقوله تعالى: (المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) فعلم من هذه الآية أن الله أنزل الكتاب بالحق ثم ذكرت السورة جانباً من أفعال الله الدالة على عظمته وبدأت بمناقشة أقوال الكافرين الباطلة من إنكار البعث واستعجال العذاب وطلب إنزال الآيات التي يقترحونها على وجه التعنت وجاء الرد عليهم بذكر جملة من أوصاف الله وأفعاله العظيمة وأن له دعوة الحق والرد على باطلهم وإشراكهم بالله في العبادة ثم ضرب الله لهم مثلاً يوضح لهم به قوة الحق الذي جاء في القرآن وضعف الباطل وذهابه ، ثم بين حال الناس في استجابتهم للحق وجزائهم وأعقب ذلك بذكر صفات المستجيبين للقرآن وذكر أوصافهم وذكر صفات المتبعين للباطل ، ثم رجع لحكاية أقوال الكافرين الباطلة وأعقبه بذكر عظمة هذا الكتاب وعظمة منزله وتهددهم بالعقوبة وذكر حال أهل الكتاب الذين يفرحون بما أنزل الله وفي مقابلهم من يكفر به وختمت السورة بتهديد الكافرين .
ومما يؤيد اتفاق مقصد المثل المضروب بمقصد السورة تكرر ذكرالكتاب و إنزاله في السورة :
قال تعالى :( المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
قال تعالى :(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
قال تعالى :( كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ ۚ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
قال تعالى :(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قال تعالى :(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
قال تعالى :(وَكَذَٰلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
ويظهر للمتأمل في هذه الآيات وفي السورة أن القرآن نزل من عند الله وجاء بالحق وفيه مجادلة أهل الباطل ثم جاء المثل المضروب مناسباً لجو السورة فذكر إنزال الماء من السماء وبقاء الخير وذهاب الزبد .
بيان معنى المثل المضروب في السورة :
شبه الله تعالى إنزال القرآن الذي فيه الحق من السماء لحياة القلوب والأرواح بالماء الذي أنزل لحياة الأرض والأبدان ، وشبه القلوب بالأرض التي ينزل عليها المطر فمنها تلال وجبال لايستقر فيها الماء ومنها أودية كبيرة تسع ماء كثيراً وأودية صغيرة تسع ماء قليلاً فكذلك القلوب منها مايقبل القرآن والحق ويحمل علماً كثيرا ومنها مايحمل علماً قليلاً وقلوب لاتحمل من العلم شئيا بل ترده بسبب استقرار الباطل فيها وتجادل في الحق ، وشبه الله مايكون في القلوب من الشهوات والشبهات الباطلة بالزبد الذي يعلو سطح الماء وهذا الزبد وهو الباطل سرعان ما يذهب ولا يستقر ويتلاشى تماماً مثل الزبد وهو الرغوة التي تتكون على سطح الماء وتنتفش وتنتفخ وهذا الزبد لاثبات له ولا استقرار فسرعان مايذهب في جانبي الوادي ويعلق بالأشجار وتنسفه الريح وكذلك الباطل وان ظهر في زمان فإنه ذاهب مضمحل هذا المثل المائي، ثم ضرب الله المثل الناري بالمعادن التي تذاب على النار كالذهب والفضة ليصاغ منها الحلية وكالحديد والرصاص ليصنع منها الآلات النافعة فإذا أوقد عليها النار فإن الخبث يطفو فيذهب ويبقى المعدن الصافي ينتفع به كذلك الباطل وإن انتفش فإنه يذهب ويبقى الحق ، ثم قال الله تعالى بعد ضرب المثلين (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)فمن رحمة الله ورأفته أن ضرب الأمثال في كتابه ليتبين الحق من الباطل ثم ذكر الله في الآية بعدها أن الناس انقسموا إلى قسمين :
1- قسم استجاب لما أنزل الله من القرآن والحق وانتفع به فهؤلاء لهم الجزاء الحسن
2- قسم أعرض عن الحق وأقبل على الباطل وجادل في الحق فهؤلاء لهم العقاب العظيم في جهنم وبئس المهاد
ثم قال الله تعالى:( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
فلا يستوى في ميزان الله من علم أن ما أنزل الله هو الحق فأمن به وانتفع وعمل ومن هو أعمى عن الحق مقبل على الباطل ولايتذكر في هذين الفريقين وما بينهما من الفرق إلا أولوا الألباب
وبهذا يظهر اتصال السياق من ضرب المثل بالماء النازل إلى ذكر إنزال الكتاب بالحق ويتضح من السياق المقصد من ضرب المثل وهو بيان قوة الحق المنزل من عند الله وضعف الباطل وهذا المقصد منة السورة هو من المقاصد القرآن العظيمة والمتأمل في القرآن يجد أن القرآن نزل لبيان الحق في العقائد من الإيمان بوحدانية الله والمعاد والنبوة وبيان الحق والعدل فيما يتعلق بالتشريعات والمعاملات فبيان الحق في المجالات المختلفة من مقاصد القرآن .
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً يشبه المثل المضروب في القرآن ويزيده وضوحاً وبياناً فقد جاء في الصحيحين من حديث ـ أبي موسى رضى الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا ،وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) رواه البخاري ومسلم
وعلى ضوء الآية والحديث يمكن تقسيم الناس في استقبالهم للقرآن ومافيه من الحق إلى ثلاثة أقسام تبين أحوالهم :
1- صنف من الناس استبشر بنزول القرآن وفرح به وتلقاه بالقبول وصدق أخباره وعمل بما فيه من الأوامر والنواهي وأقبل بقلبه على كتاب الله وأنكب عليه فبذل أوقاته وأنفاسه في تعلم كتاب ربه واستعمل ماوهبه الله من السمع والبصر والفؤاد لفهم القرآن وتدبره وجالس العلماء الراسخين في العلم لكي يتعلم منهم وانتفع بكتب أهل العلم وضبط قواعد التفسير وعلوم القرآن ففتح الله عليه أبواب الخيرات والبركات ورزقه علماَ وفهماً واستنباطاَ لمعاني كتابه فجمع قلبه من العلم حظاَ ونصيباً وأفراً فظهرت بركات هذا الكتاب في عبادته وفي تعامله مع الناس وفي سائر شؤونه ومن كانت هذه حاله يكرمه الله بفتح باب الدعوة إليه فيهدي الله على يديه الناس وينتفعون به انتفاعا عظيماَ ، فهذا مثله كمثل الأرض التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير فحفظ كتاب الله في صدره وأنبت الفهم والمعرفة والاستنباط وذكر ابن القيم أن هذه منزلة أهل الرواية والدراية وهي أعلى المنازل لأنهم جمعوا بين الحفظ والفهم
2- صنف من الناس حفظ القرآن في صدره وأقبل عليه ضبطاً ونقلاً لغيره ولم يرزق فيه فهماً وليس عنده اجتهاد في الطاعة والعمل ولكنه يبلغه لطلاب العلم فهذا مثله كمثل الأرض الأجادب التي تمسك الماء فينتفع بها الناس في الشرب والرعي والسقي والزراعة فهؤلاء حفظوا كتاب الله ونفعوا به
3- صنف من الناس أعرض عن الكتاب فلم يؤمن به ولم ينتفع به فلا حظ له منه لا حفظاً ولافهماً ومصيرهم في الآخرة إلى النار ، أما في الدنيا فمن القواعد المتقررة أن من ترك ماينفعه مع الإمكان ابتلي بما يضره وحرم الأمر الأول فهؤلاء لما أعرضوا عن القرآن ومافيه من الحق تراهم مقبلين على الباطل من المعتقدات الفاسدة والأخلاق الرذيلة ولا يزالون يتخبطون حتى يغرقوا في بحور الجهل والهوى فيكونوا كالأنعام بل أضل لايهتدون إلى الحق .

فصل :
في ذكر الآثار والثمار التي يجنيها العبد من فهمه لهذا المثل
من فهم هذا المثل ووعاه بقلبه وعقله أقبل على القرآن فهماً وتلاوة وحفظاً وتدبراً وفتح الله له أبواب الأجور العظيمة فكل حرف بحسنة والحسنة تضاعف بعشرة أمثالها فلا يزال يتزود بالحسنات كلما تلا القرآن ثم إن فهمه للقرآن وتدبره له يثمر العمل فيتقرب إلى الله بالصلاة والقيام والذكر والحج والصدقة وفي باب المعاملات يوفق في تعامله لما يحب الله ويرضى وفي باب الأخلاق تجده متخلقاً بكل خلق عظيم ولا يزال يترقى في سلم الأخلاق حتى يصل لأعلى المنازل في الجنان فيكون من أقرب الناس مجلساَ من النبي صلى الله عليه وسلم وأبواب الأجور يصعب حصرها ثم هو مع هذا يعلم القرآن فينتفع الناس ويعملون وكل ذلك في ميزان حسناته ثم يموت وتظل الأجور جارية عليه ويأتيه القرآن شفيعاَ ومؤنساً له في قبره ويظله ولا يزال به حتى يرفعه إلى أعلى الدرجات في الجنة فيقرأ ويرتل وتكون منزلنه عند آخر آية يقرؤها
وأما من أعرض عن القرآن فإنه يعيش حياته شقياً مقبلاً على الدنيا متخبطاً بعيداً عن ربه فيظل في ضيق ونك\ لبعده عن عبودية ربه ويظل يتخبط في عبادة غير الله ثم تراه مقبلاً على الشهوات والملذات كالزنا والسرقة والظلم وشرب الخمر وجمع الأموال من كل طريق وباب والحرص الشديد على الدنيا هذا مع إتصافه برذيل الأخلاق في التعامل مع الناس فلا يزال في شقاء وضيق حتى يموت وينتقل إلى ضيق القبر ثم يكون مصير إلى النار
فهذه جملة من الآثار المترتية على فهم المثل السابق ، اما الثمار التي يجنيها العبد من فهمه لهذا المثل فهي كثيرة جداً :
منها :ضرورة الإقبال على كتاب الله حفظاً وفهما وتلاوة وتدبراً والتسابق لنيل هذا العلم النافع
ومنها: أن من فهم أن القلوب أودية تحمل القرآن والعلم بقدرها حرص أن يملأ وأديه وهو قلبه بالقرآن والعلم
ومنها :أن يحرص أن لا يترك قلبه فارغاً من القرآن لأنه متى ما فرغ القلب منه تشرب الباطل ومن الشهوات والشبهات والشكوك
ومنها:أن يحرص المسلم أن يكون بأعلى المنازل فيحفظ القرآن ويفهمه ويتدبره ويتقن القواعد والأصول المعينة على الاستنباط
ومنها :ضرورة فهم القرآن بالنسبة لمعلمي القرآن فلا يقتص دوره على التحفيظ والتلقين وضبط الأداء بل يتعداه إلى التربية والتعليم وذكر معاني القرآن للطلاب
ومنها :ان خير علاج لمن يعاني من الشهوات والشبهات هو القرآن فمن ابتلي بذلك فعليه أن يقبل على القرآن فيجد فيه العلاج والشفاء وما أحوجنا في هذا الزمان الذي فتحت فيه أبواب الباطل عبروسائل الإعلام والتواصل أن نقبل على كتاب ربنا ونعتصم به من الفتن
ومنها :استقاء المفاهيم من القرآن فما قرر القرآن أنه الحق فهو الحق وماقرر أنه الباطل فهو الباطل فالربا باطل ذاهب مضمحل وكذلك كل باطل وهذا أمر هام في زماننا الذي اختلطت فيه المفاهيم وتم ترويج الباطل فيه وصبغه بصبغة تظهر أنه الحق
ومنها : أن لايضعف المؤمن بسبب ظهور أهل الباطل في زمن من الأزمان لأن الباطل وإن انتفش فهو ذاهب لامحالة فيجاهد المسلم على التمسك بالحق
ومنها :ضرورة تربية الناشئة على القرآن ومافيه من الحق وبيان الباطل حتى تتكون عندهم قاعدة قوية يرفضون بها كل باطل يعرض عليهم
ومنها :أن يذكر الإنسان نفسه بما أعده الله من الثواب الحسن لمن اتبع القرآن وما أعده من النارلمن أتبع الباطل ويكرر على نفسه هذا المعنى وهو سائر في طريقه إلى الله حتى لايخطفه الباطل بزخرفه وزينته ، ومن وضع نصب عينيه الجزاء تمسك بالحق ورد الباطل مهما كانت المغريات أمامه

مما سبق تبين أن حاجة الناس للقرآن والسنة والعلم شديدة .....

قال الأمام أحمد :الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب ،لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.

المراجع :

الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
الكتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج
المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ)
الكتاب: الأمثال في القرآن
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
الكتاب: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
الكتاب: تفسير القرآن العظيم
المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)
الكتاب: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)
الكتاب: في ظلال القرآن
المؤلف: سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (المتوفى: 1385هـ)
الكتاب :التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 3 ربيع الثاني 1438هـ/1-01-2017م, 06:35 PM
عقيلة زيان عقيلة زيان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 700
افتراضي

سورة الماعون
بسم الله الرحمن الرحيم
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
السورة مكية على قول الجمهور؛ وقيل هي مدينة وهو قول قتادة ابن عباس
وقال هبة الله المفسر: نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق..ذكره ابن الجوزي
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْمَاعُونِ» لِوُرُودِ لَفْظِ الْمَاعُونِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا.

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ }
والرؤية في قوله أَرَأَيْتَ يحتمل أن تكون بصرية، فتتعدى لواحد هو الاسم الموصول، والمعنى : أأبصرت أسوأ وأعجب من هذا المكذب بيوم الدين.
ويحتمل أن تكون علمية، فتتعدى لاثنين، أولهما: الاسم الموصول والثاني: محذوف، والتقدير: أعرفت الذي يكذب بالدين من هو؟
واستِخدام المضارع (يكذب) يُوحِي بأنَّ ذلك دَيْدَنُه وسُلوكُه، فشأنه التكذيب، ينتقلُ من تكذيبٍ إلى تكذيبٍ، ومن صَدٍّ إلى صَدٍّ،
والدين هو الجزاء والمراد به الحساب والعقاب و الجزاء يوم القيام
أو هو المراد بالدين هو دين الإسلام.
والاستفهام لقصد التعجيب من حال (الذي يكذب بالدين)؛ ...أجاءك مَن كذَّب الدِّين؟ وهل عرفت سُلوكيَّاته؟ هل أدرَكت صِفاته وأوْصافه؟
في هذا بيان لمقصد عظيم من مقاصد إرسال الأنبياء و بعثة الرسل: وهو ترسيخ عقيدة الإيمان باليوم الآخر وذم شديد وتوعد عظيم لمن كذب به.
قال البقاعي: مقصودها التنبيه على أن التكذيب بالبعث لأجل الجزاء أبو الخبائث. اهـ
وفيه أيضا التحذير من الكفر..

{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)}
" فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ " ؛ وهذا من أعجب الأجوبة... المتوقع أن تكون صفات المكذب الدين صفات متعلقة بعقيدته؛ كالكافر الذي لا يؤمن بوجود الله أو الذي لا يؤمن بالرسول ؛ أو تكون صفاته متعلقة بأركان الدين ...لا يُصلِّي، ولا يصومُ، ولا يُزكِّي، ولا يحجُّ،أو تكون ممن يستهزأ بشعائر الدين..لكن لم يكن الجواب كذلك...بل كان جاء الجوابُ مفاجئًا بأنه الذي يرتب آثاما اجتماعية .. من دع اليتيم ....و الدع هو الدفع بشدة وقوة وعنف كما قال تعالى :{يوم يدعون إلى نار جهنم دعا} } وفي ذلك كناية عن قسوة القلب وانعدام الرأفة ..وصيغة المضارع في "يدع" توضع أن ذلك صار شأنا له ؛و عملا دائما له ....واليتيم : من مات أبوه ولم يبلغ الحلم..وفيه إشارة إلى خسة نفس هذا المكذب و..وانطواءه على الكبر لأن هذا اليتيم لا يوجد من يدافع عنه و يسترد حقوق
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ : والحض هو الحث لكنه أبلغ منه..وهو كنايةٌ عن صفة، هي البُخل الشديد حتى في الكلمة؛ فإن كان لا يحظ غيره على طعام المسكين من باب أولى أنه هو لا يطعم المسكين؛ لأنه إذا لم يحض غيره بخلا ؛ فلأن يتركه فعلا أولى و أحرى .
من مقاصد الآتين



فيه إشارة إلى مقصد من مقاصد الشريعة وهو الحث على التكافل الاجتماعي ؛ والتعاون الناس فيما بينهم؛ و نشر الخير وتعميمه في المجتمع ؛ومساعدة الضعفاء والمحتاجين والسعي على قضاء حوائجهم .
قال تعالى { وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}[ المائدة2 ]
و جاء في الحديث
عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {" إنَّ الْمُؤْمِنَ للمُؤْمِنِ كَالْبُنيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً " وَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.} رواه البخاري
و الحديث : عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وأشار بالسبَّابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا؛ أخرجه البخاري.

و فيه أيضا ذم الشح والبخل....وقد نبذت الشريعة البخل و بينت أنه لا يوقه إلا المفلح.. . قال تعالى :{ من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } و سعت الشريعة لمحاربة هدا الخلق الدميم بطرق شتى ..بيان عظم أجر المنفقين..... أن الله هو الذي يخلف على من أنفق .....أن المالك الحقيقي لمال هو الله والعبد ما هو إلا مستخلف عليه.
وفيه أيضا بيان علاج للأمراض والأمراض الاجتماعيَّة الساقطة الدَّنيئة.

وفيه أيضا بيان : أن إنكار البعث هو أعظم ما ينشأ منه سوء الخلق والكبر و الطغيان ؛ والمخالفة الصريحة للدين ...بمعنى أن الإيمان بالبعث والجزاء و الحساب هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة
قال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } (24 إبراهيم) ؛ فالشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان التي فروعها وهى الأعمال الصالحة تصعد إلى السماء
وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ تَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاقْتِرَابِ مِنْ إِحْدَى هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ.

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)}
ثم توعد الله المصلين الذين يتهاونون في صلاتهم بحيث لا يؤدونها على وقتها أو لا يقيمونها على الوجه الصحيح ؛أو يخرجونها عن وقتها ؛ وهم المنافقون الذين يرقبون رؤية الناس في كل أعمالهم.. ومن كان لغيرهم نصيب من هذه الرؤية كان له حظ من الرياء.

ومن مقاصد هذه الآيات

-ذم النفاق وأهله..وتحذير المؤمنين أن يتصفوا بصفات المنافقين فيكون لهم حظ من النفاق
-الحث على مراعاة الصلاة و المحافظة عليها و القيام بها على النحو الصحيح..و الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام ؛وهو عمود الدين و هو من مقاصد هذه الشريعة السمحة
-الحث على الإخلاص في جميع الأعمال. وهو المقصد الأسمى لبعثة الرسل وهو إفراد الله بالعبادة.. و الإسلام يركز على النية في تقويم الأعمال . لذلك ورد عن رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم )قال : «إنّما الأعمال بالنيات ، ولكل امرىء ما نوى)

{ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}
والماعون الشيء القليل من المعْن، وهو القلَّة، تقول العرب: "ما له مَعنَة، ولا سَعنَة"؛ أي: ما له قليلٌ ولا كثيرٌ من المال، قال المبرِّد والزجاج: "الماعون كلُّ ما فيه مَنفعَةٌ؛ كالفَأس والقِدر والدَّلو، وغير ذلك ممَّا يَنتفِعُ به الناس" ...المراد أنهم يمنعون ما يجد فيه الإنسان عونا على ما يلمّ به من حاجة وعوز....وفيه كناية عن صفة راسخة فيهم وهى بخلهم وانحصار خيرهم ومنع الناس منافع ما عندهم
و من مقاصد الآية
الحث على التعاون مع الناس و فعل المعروف ببذل الأموال الخفيفة كالعارية و الإناء و الدلو الكتاب..وغيرها فإن البخل بها هو نهاية البخل و هو مخل بالمروءة...
ومن المقاصد الحث على التعاون مع الناس
في السورة أيضا توجيه رباني للمؤمن...يعلمه فيه..أن الإيمان له حقيقة إذا رسخت في القلب لا بد أن تظهر على الجوارح من الأعمال الصالحة و الإحسان في عبادته لربه والإحسان للخلق و بالعطاء و البذل.....أما من ادعى الإيمان وهو مقارف لبعض هذه الصفات المذمومة .فحري به أن يراجع إيمانه..
لأن فقدان العمل والإحسان في العبادة للرب العالمين والإحسان إلى خلق مؤشر خطير على ضعف نور الإيمان في قلب العبد...وقد يزداد ضعفا حتى ينعدم
المراجع :
-
جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري ( 310 هـ )
-
النكت والعيون للماوردي ( 450 هـ)
- -
المحرر الوجيز لابن عطية ( 541 هـ )
-
زاد المسير في علوم التفسير لابن الجوزي ( 597 هـ)
-
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ )
-
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ( 885 هـ )
-
روح المعاني للألوسي ( 1270 هـ )
-
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ( 1376 هـ)
-
في ظلال القرآن لسيد قطب ( 1386 هـ)
-
التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور ( 1393 هـ )
-: صفوة التفاسير محمد علي الصابوني

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 4 ربيع الثاني 1438هـ/2-01-2017م, 12:02 AM
رضوى محمود رضوى محمود غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 237
افتراضي

قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ. ألا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}
يقول الله تعالى ممتنا على رسوله صلى الله عليه وسلم بإنزال الكتاب إليه بالحق { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} والمراد بالكتاب القرآن الكريم الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق رسوله الملكي جبريل عليه السلام .
وجاء التأكيد بإنا للإهتمام بالخبر .
ومعنى أن الله أنزله بالحق أن القرآن نزل ملتبسا بالحق وهو الصدق الثابت والعدل فالقرآن يحوي فيه أدلة إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف وهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل به ، ومع ما فيه من الحق والصدق جاء أيضا بالدليل على أنه من عند الله وأنه حق وهذا الدليل هو عجز الفصحاء من العرب عن معارضته ، وهذا يوجب قبوله والإيمان به والعمل بكل مافيه.
ولما كان من الحق والعدل إخلاص العبادة لله وحده جاء الأمر في قوله تعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} والفاء للربط وفيه تنبيه على أن إنزال الكتاب نعمة كبيرة تستوجب شكر المنعم بإفراده بالعبادة وأن المشركين بالله غيره في العبادة كفروا نعمته التي أنعم بها.
والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
ومعنى مخلصا أي ممحضا له الدين أي العبادة والطاعة من الشرك والرياء وكل ما يفسده ،فلا تقصد بطاعتك وعبادتك غيره.
{ألا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص في العامل لله وحده لا شريك له.
وفي الآية أمر بتوحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له وحده ،ونجد أن الآية الكريمة هي الآية الثانية من سورة الزمر وهي سورة مكية تحدثت بإسهاب عن عقيدة التوحيد فكان مقصد الآية التي نحن بصددها متوافق مع مقصد السورة وهو تقرير عقيدة التوحيد ونبذ الشرك.
والإخلاص أساس أعمال القلوب وهو أن يريد العبد بطاعته التقرب الى الله عز وجل دون أي شيء آخر قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وفي الحديث الذي رواه النسائي عن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا شيء له) فأعادها ثلاث مرات، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لاشيء له) ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغى به وجهه.
فلابد لكل عمل كي يكون مقبولا أن يكون خالصا لوجه الله وأن يكون موافقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أما الرياء فيبطل العمل كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال:فما عملت فيها؟قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه،وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته،وقرأت فيك القرآن،قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارىء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.ورجل وسع الله عليه،وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلاَّ أنفقت فيها لك،قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال:هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم القي في النار) رواه مسلم .

المحرر الوجيز لابن عطية
التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور
تفسير القرآن العظيم لابن كثير
معالم التنزيل (تفسير البغوي)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي
تفسير الكريم الرحمن للسعدي
تفسير الألوسي.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 4 ربيع الثاني 1438هـ/2-01-2017م, 08:55 PM
رشا نصر زيدان رشا نصر زيدان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الخامس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
الدولة: الدوحة قطر
المشاركات: 359
افتراضي الأسلوب المقاصدي

وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (المؤمنون:33)

في قولُه { وقال الملأ من قومه الذين كفروا } { الذين كفروا } نعت ثان ل { الملأ } فيكون على وزان قوله في قصة نوح { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } [ المؤمنون : 24 ] . وإنما أخر النعت هنا ليتصل به الصفتان المعطوفتان من قوله : { وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم } .
واللقاء : والمراد لقاء الله تعالى للحساب ؛كقوله تعالى : { واعلموا أنكم ملاقوه } في سورة البقرة ( 223 ).
والإتراف : جعلهم أصحاب ترف . والترف : النعمة الواسعة.

و من يتصف بهاتين الصفتين؛ التكذيب بلقاء الله في الآخرة،لأن تكذيبهم ينبع بعدم يقينهم بالسؤال بعد الموت، و النعم و الثروات أصابتهم بالكبر والصلف إذ أنهم ألفوا النعمة و الحياة الدنيا فركنوا إليها. هذا حال الكفار،طول الأمل و عدم اليقين بالموت ولقاء الله.

فماذا عن الموحدين المسلمين الذين يشهدون بوحدانية الله و نبوة رسوله صل الله عليه وسلم؟! إن الناظر في أحوال المسلمين اليوم يرع العجب منهم، حيث انشغل أكثرهم بالشهوات و الملذات التي قد تصل إلى فعل المنكرات،و أعرضوا عن التحاكم إلى القرآن،وسنة الرسول صل الله عليه و سلم. فماذا عن باعث هؤلاء المسلمين إلى هذا السلوك؟ طول الأمل أو الأمد؛ قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (الحديد:16).

قال عبد الله بن مبارك ومسلم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) [ الآية ] إلا أربع سنين. هذا حال و عتاب الله تعالى لصحابة الرسول صل الله عليه و سلم ، فماذا عنا؟
طول الأمل يورث الغفلة ثم التسويف ثم قسوة القلب؛لأنه لا يوجد زاجر من داخل المسلم فيضيع الوقت الذي هو سيف و رصيد حياته،فإن المسلم ما هو إلا يوم و ساعات و دقائق. نحن أمة لها هدف في حياتها،عبادة الله ثم الاستخلاف في الأرض و عماراتها لنصل إلى التمكين في الأرض.

وصدق الحسن البصري-رحمه الله - حيث قال:
"ما أطال عبدٌ الأملَ إلا ساء العمل"؛ الزهد للحسن البصري (ص 82)، (قِصَر الأمل: 82).
وصدَق الحسن البصري؛ فطول الأمل سببٌ لقلة الطاعة، والتكاسل عن العبادة، وقسوة القلب، وتأخيرِ التوبة، واتباع الهوى، وكثرة المعصية،و ربما يصل إلى الموت على معصية و هذا هو الهلاك بعينه.

و يقول مالك بن دينار - رحمه الله -:
"أربع من الشقاء: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا.

و لذلك يقول الفضيل بن عياض-رحمه الله-:
وإن من النعيم قِصَر الأمل"، وقصر الأمل: هو الاستعداد للرحيل في أي وقتٍ وحين، فلا ترى صاحبَه إلا متأهِّبًا؛ لعلمه بقُرْب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب؛ فإنه يبعث على انتهاز فرصة الحياة التي تمر مرَّ السحاب.

و لذلك على المؤمن الكيس الفطن ألا يضيع يومه و لا حياته، و يستثمرها في كل عمل صالح،و ينظر إلى كل عمل صالح أنها خطوة تقربه إلى الله تعالى و إلى جنة عرضها كعرض السموات و الأرض ؛أعدت لأصحاب الهمم العالية،الذين كانوا في الحياة الدنيا كالصياد الماهر الذي يقتنص الفريسة.
وإذا عقدنا المقارنة بين من يطيل الأمل، فيقعد عن العمل، والآخر المتأهب الذي على أهبة الاستعداد، كمثل الطالب المجتهد الذي علم بموعد اختباره و تيقن بحصوله فخطط و اجتهد و شمر عن ساعده؛فإذا جاء موعد الاختبار،و هو موعد الموت و الدخول إلى لقاء الله تعالى،ما كان له أن يزيد عن شئ.وأما من هو متكاسل بليد،كل يوم يقول غداً،فلا خطة له و لا يقين في قلبه، ثم إذا جاء موعد الاختبار، قال:"رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت"؛ فلقد ذهب وقت الحرث و الزرع و أتى وقت الحصاد و الحساب. الله المستعان
فالناظر إلى أحوال الناس وجد المجتهد، ووجد من يخلط بين العمل و الدعة،و هذا يخاف عليه لأنه على أي حال سوف يقبض،و أما الثالث فهو معرض متكبر منغمس في نعيم الدنيا و لا يعطي نفسه الوقت للتفكر و التدبر و التأمل.

فما هي أسباب طول الأمل، قد بين الله تعالى في القرآن الكريم أنّ طول الأمل من وساوس الشياطين؛ قال تعالى:﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 255]، قال الحسن البصري - رحمه الله -: "أي زيَّن لهم الشيطانُ الخطايا، ومدَّ لهم في الأمل"؛ الجامع لأحكام القرآن: 16/249.
فالشيطان يُغرِّر الإنسان، ويَعِده ويُمنِّيه الخُلْد، ويشجِّعه على الانغماس في الشهوات، والوقوع في المحرَّمات، واللهث وراء الملذات؛ كما قال تعالى عن الشيطان: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [النساء: 120].
و لذلك تجد من كانت هذه صفاته، تجد همه و غايته الأكل و المشرب، و معلوم أن من أكثر الكلام على شئ إنما هو إسقاط على ما في نفسه من إهتمامات، و لذلك كان قول الملأ (السادة)، أنه بشر مثلنا يأكل و يشرب و يتناسل،فهذا دليل على أن غايتهم في هذه الدنيا غاية بهيمية؛ قال تعالى: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 33] قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "فتح الباري": "هذا تنبيه على أن إيثار التلذُّذ والتنعُّم، وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين". و لذلك ذم الله تعالى اليهود و النصارى بأنهم أحرص الناس على الحياة الدنيا؛ يود أحدهم لو أنه يعمر ألف سنة؛لماذا؟! لأنه ليس لديه يقين بلقاء الله و المؤاخذة بعد الموت.

و لقد حذر الرسول صل الله عليه وسلم من طول الأمل؛ قال صل الله عليه و سلم: أخرج البيهقي في "الزهد الكبير" عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يهرَمُ ابن آدم ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل))؛ قال الحافظ العراقي: "رواه ابن أبي الدنيا في قِصَر الأمل بإسناد صحيح.
وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله– رضي الله عنه- : أن رسول الله صل الله عليه وسلم- كان إذا خطب فذكر الساعة، رفع صوته واحمرت وجنتاه،كأنه منذر جيش يقول:" ((صُبِّحتم مُسِّيتم))، ثم يقول: بُعِثتُ أنا والسَّاعَة كهاتين، يفرِّق بين أُصبعيه السبابة والتي تليها، ((صَبَّحتْكُم السَّاعَةُ ومسَّتْكم)).

لقد خدع هذا الداء العضال الكفار و جر عليهم الحسرة و الندامة، بعد أن جعلهم يعتقدوا أن هذه الدار هي الباقية و ليست الفانية، فمنعهم من تصديق الرسل و اتباعهم للوصول إلى دار الخلد. قال ابن جوزي- رحمه الله- "يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً،ولا يغترر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان". صيد الخاطر (ص 63).
اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا و لا مبلغ علمنا...

المراجع:

تفسير القرآن العظيم لابن الكثير (ت 774 ه).
فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (ت 852ه)
تفسير روح المعاني للألوسي (ت 1270ه
تفسير التحرير و التنوير لابن عاشور (ت 1993ه)

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 9 ربيع الثاني 1438هـ/7-01-2017م, 04:33 AM
مريم أحمد أحمد حجازي مريم أحمد أحمد حجازي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2014
المشاركات: 308
افتراضي

*بسم الله الرحمن الرحيم *
} يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28){
بسم الله الرحمن الرحيم ، و الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على المبعوث رحمتًا للعالمين ، نبينا محمد و على آله و صحبه و من اتبع هديه إلى يوم الدين أما بعد ...............................
قال ابن عباس –رضي الله عنه- ثماني آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس و غربت ، و منهن قوله تعالى :
*} يريد الله ليبيّن لكم { *} والله يريد أن يتوب عليكم{ *} يريد الله أن يخفف عنكم{
- فما الذي تضمنته هذه الآيات من مقاصد و معاني حتى قال عنها حبر الأمة و ترجمان القرآن هذا القول ؟؟
}يريد الله { سنلاحظ في هذه الآيات أن الله تعالى يريد أن :
* يبين لنا ، وأن يهدينا ، وأن يتوب علينا ، و أن يخفف عنا ، و أن ييسر علينا
و أن يطهرنا، وأن يتم نعمه علينا ،ويريد أن يحق الحق ..}إن ربّك فعّال لما يريد {
إن في هذه الآيات تذييل يقصد به استئناس المؤمنين و استنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدمة من أول السورة ، و غيرها من الأحكام ، فإنها أحكام كثيرة من الأمر بالتقوى و الحث عليها ، و بيان الفرائض و أمر الزناة ، و ما يحل و ما يحرم من النساء ، و التحري في الأموال ، و الإحسان إلى الناس ، و خاصة الأيتام و الوالدين ، و الانقياد للأحكام ، و تحريم القتل ، و الأمر بالعدل في الشهادة و غيرها
فهي أحكام جمة و أوامر و نواهي تفضي إلى خلع ما ألفوا ،وصرفهم عن شهوات استباحوها و اعتادوا عليها .
إن الله تعالى يريد بعباده كل ما فيه مصلحتهم و سعادتهم في حياتهم و بعد مماتهم . و هذا من رحمة الله بخلقه أنه خلقهم و لم يتركهم هملاً لا يعرفون منهجًا يسيرون عليه و لا أحكامًا يعيشون وفقها تصلح معاشهم و جميع أمور حياتهم و علاقاتهم
بل أخبرهم أنه } يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم و الله علي حكيم {
فبين لهم سبحانه و تعالى شرائع الدين و مصالحهم و ما رضيه لهم ، و عبر بصيغة المضارع للدلالة على تجدد البيان و استمراره ، فهذ التشريعات دائمة مستمرة يكون فيها البيان للمخاطبين و لمن جاء بعدهم ، و قوله } و يهديكم سنن الذين من قبلكم{ يقصد به إلحاق هذه الأمة بمزايا الأمم التي قبلها ، من دلالتها على الطاعة كما دلّ الأمم التي قبلها ، فيدل هذه الأمة على أصول ما صلح به حال من سبقها من الأمم ، من كتاب و شرائع ،و مقاصد . قال الفخر الرازي : (فإن الشرائع و التكاليف و إن كانت مختلفة في نفسها ، إلا أنها متفقة في باب المصالح )ا.هـ
قال صاحب الظلال: فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعًا ، و هو منهج ثابتٌ في أصوله ، موحّدٌ في مبادئه ، مطّردٌ في غاياته و أهدافه .....هو منهج العصبة المؤمنة من قبل و من بعد ، و منهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون ا.هـ
فعُلِمَ بذلك أنه تعالى لم يختصهم بهذه التكاليف ، بل هو صراط من كان قبلهم من الذين أنعم الله عليهم ليكون أدعى لهم إلى القبول و أعون على الامتثال .
و لما كان دين الإسلام هو خاتم الأديان ، و القرآن العظيم هو خاتم الكتب و الناسخ لها ، تبين أن هنا إشارة إلى أن هذه الشريعة أهدى مما قبلها ، و أن الله جمع فيها أفضل ما في الشرائع التي سبقتها ....
فالله تعالى يبين لنا و يهدينا سنن الذين من قبلنا ليرحمنا و يأخذ بيدنا إلى التوبة من الزلل و التوبة من المعصية ؛} و يتوب عليكم { فيمهد لنا الطريق الذي ينبغي علينا أن نسلكه ، و يعيننا عليه ، فيقبل التوبة الكاملة باتباع الإسلام ، فلا تنقضوا ذلك بفعل المحرمات و المعاصي . ففي الآية تحريض على التوبة بطريق الكناية ،لأن الوهد بقبولها يستلزم التحريض عليها ؛ كما في الحديث الصحيح عن نزول الله عزّو جلّ كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : (هل من مستغفر فأغفر له، هل من داعٍ فأستجيب له ، هل من سائلٍ فأعطيه)
و ما أجمل ما ختمت به الآية : }و الله عليم حكيم { فلقد ناسب البيان أنه عن علم كامل و حكمة كاملة تصدر جميع التشريعات و جميع التوجيهات . فالله تعالى عليم بمصالح العباد ، حكيم فيما يدبر من أمورهم .
و لما قرر سبحانه إرادته لصلاحهم ، و رغب في اتباع الهدى بعلمه و حكمته ،عطف على ذلك قوله :} و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا{
إن تكرار إرادة الله التوبة على عباده في هذه الآية ، ليرتب عليه قوله : (و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا)
قال أبو السعود: فقوله : } والله يريد أن يتوب عليكم { جملة مبتدأةٌ مسوقة لبيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى و كمال مضرّة ما يريده الفجرة ، لا لبيان إرادته تعالى لتوبته عليهم حتى يكون من باب التكرير للتقرير ، و لذلك غيّر الأسلوب إلى الجملة الإسمية دلالةً على دوام الإرادة و لم يفعل ذلك في قوله تعالى : } ويريد الذين يتبعون الشهوات { للإشارة إلى الحدوث و للإيماء إلى كمال المباينة بين مضموني الجملتين .اهـ
فهو للإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، و ليس المقصد التأكيد اللفظي كما في الجزاء و الصفة و نحوها . فقدمت إرادة الله سبحانه توطئة و إظهار لفساد إرادة متبعي الشهوات ، و قدم المسند إليه ( الله ) على الخبر الفعلي (يريد أن يتوب عليكم) ليدل على التخصيص الإضافي ، فالله تعالى وحده هو من يريد أن يتوب عليكم ، ففيه تحريض على التوبة و ترك المعاصي ، (ويريدا لذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا) أي يريدون أن يصرفوكم عن الحق ، و أن تميلوا ميلاً عظيمًا عن المنهج الرشيد و الطريق المستقيم ، و هي رغبة لا تخلوا عن السعي منهم لحصول مرادهم ، فأشبهت رغبتهم إرادة المريد للفعل ، و هي نظير قوله تعالى : } يشترون الضلالة و يريدون أن تضلوا السبيل { (النساء:26) ، و حذف متعلق } تميلوا{ لظهوره من قرينة المقام . و أكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة ،لم يكتف حتى وصفه بالعظم . و ذلك لأن الميول قد تختلف ، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو مرض أو غيره ، و تتفاوت طرق معالجة هذه الأشياء بحسبها ، فبعضها أسهل من بعض ، فوصف مثل هؤلاء بالعظم لأنه أبعد الميول معالجة و هو الكفر . كما قال تعالى : } ودّوا لو تكفرون { } و يريدون أن تضلوا السبيل {
*فالمقصد من ذكر إرادة الذين يتبعون الشهوات تنبيه المسلمين إلى دخائل أعدائهم ، ليعلموا الفرق بين مراد الله من الخلق ، و مراد الذين يتبعون الشهوات .
فشتانَ بين الثرى و الثريا شتان ، شتان بين مراد الملك العظيم من إنزال الأحكام على مقتضى كمال العلم و الحكمة ، و بين مراد أعوان الشياطين المبنية إما على هوى متبع ، أو شهوة تطاع ، أو انحراف و فسوق و ضلال ...........
و قد قيل في المراد بمتبعي الشهوات عدة أقوال :
- قيل هم الزناة قاله مجاهد
- و قيل هم اليهود و النصارى قاله السدي
- و قيل هم اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب
- و قيل أنه على العموم في كل متبع شهوة قاله ابن زيد و رجحه الطبري و قال :
فأولى المعاني بالآية ما دل عليه ظاهرها دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل أو قياس . و إذ كان ذلك كذلك كان داخلا في الذين يتبعون الشهوات اليهود و النصارى و الزناة و كل متبع باطلا ، لأن كل متبع ما نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه .
إن هذه الآية القصيرة تكشف للناس حقيقة ما يريده الله للناس من منهجه و طريقه ، و حقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات ، و يتركون منهج الله ، و إن كل من يحيد عن منهج الله فهو متبع للشهوات ، و لو تأملنا ماذا يريد هؤلاء على مرّ العصور و خاصة ما نراه في وقتنا الحالي من الذين يسمون أنفسهم دعاة الحرية و الحضارة و التطور و غير ذلك ‘ هي أسماء و شعارات لإطلاق الشهوات و النزوات و الميل بالناس إلى إطلاق الغرائز من جميع الضوابط و الحدود الدينية أو الأخلاقية أو الاجتماعية ، و ردهم إلى الجاهلية في هذا الجانب الأخلاقي ، الذي ترقوا به و تميزوا عن غيرهم بالمنهج الإلهي النقي الطاهر ، فهم يتقلبون في شهواتهم البهيمية من غير تحاشٍ عنها ، فهم بانهماكهم فيها كأنهم امتثلوا أمرها و اتّبعوها ، فمالوا عن الحقّ ، و أرادوا منكم أن تميلوا مثلهم و تعودوا لما كنتم عليه من الشرك و الضلال ، لتكونوا مثلهم و لا تتميزوا عنهم فتنصرف الناس إليكم و تزدري فعلهم و تستقبحه .
فالله تعالى قال هذه الهداية التي أريدها ، و هذه الهداية التي يحاول أن يبطلها الغاوون و الفاسقون ، فقد أبلغ سبحانه ما يحمل على الهداية للمنعم المتفضل الذي لا تلحقه شائبة و لا نقص ، و مخالفة العدو الحاسد الجاهل المنحطّ من سموّ العقل إلى حضيض طباع البهائم .
و لما كان الميل عن الهوى و الشهوات و دعاوى الغاوين و المزينين متعبًا لمرتكبه أخبرهم أن علة بيانه للهداية و إرادته التوبة الرفق بهم فقال : } يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفًا{ يبين الله تعالى رفقه بهذه الأمة و إرادته اليسر بها دون العسر ، للإشارة بأن هذا الدين يحفظ المصالح و يدرأ المفاسد ، بأيسر الطرق و أرفقها ، معترفًا بدوافع الفطرة و منظمًا لاحتياجاتها و تصريف طاقاتها في جانبٍ آمنٍ طيبٍ مثمر في بيئة طاهرة راقية نظيفة ، من غير تكلف و لا مشقة و لا عنت
فالآية و إن كان المقصد الظاهر منها تخفيف الله تعالى بإباحة نكاح الإماء على غير ذي الطول ، كما تقدم ، فيه إشارة إلى أن جميع التكاليف سمحة سهلة و الآيات الدالة على هذا المعنى بلغت مبلغ القطع كقوله : الآيات الدالة على هذا المعنى بلغت مبلغ القطع كقوله :} و ما جعل عليكم في الدين من حرج { (الحج:78)
و قوله : } يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر { (البقرة:1859)
و قوله :} و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم { (الأعراف:157)
و في الحديث الصحيح : ( إن هذا الدين يسر و لن يشاد الّين أحدٌ إلا غلبه)
و كذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر أصحابه الذين يرسلهم إلى تبليغ الدين و نشره فقال لمعاذ و أبي موسى : ( يسرا و لا تعسرا ) ، و قال : ( إنما بعثتم مبشرين لا منفرين ) و قال لمعاذ لما شكا بعض المصلين خلفه تطويله في الصلاة : ( أفتان أنت ) فكان التيسير من أصول الشريعة الإسلامية . و دلّ على علة التخفيف بقوله : }و خلق الإنسان ضعيفًا { لأنكم خلقتم ضعفاء ، و المراد بالضعف فيه ثلاث أقوال : - الضعف في أصل الخلقة ، قال الحسن : هو أنه خلق من ماء مهين
- قلة الصبر عن النساء قاله طاوس و مقاتل
- ضعف العزم عن قصر الهوى قاله الزجاج و ابن كيسان
و الإنسان ضعيف في جميع أحواله فناسبه التخفيف لذلك .
فبعد تأمل ما سبق بيانه علمنا لماذا قال حبر الأمة و ترجمان القرآن عن هذه الآيات بأنها خير مما طلعت عليه الشمس و غربت ؛ لما فيها من بيان كمال رحمة الله تعالى بعباده بأنه أرسل إليهم الرسل و أنزل إليهم الكتب ليبين لهم طريق السعادة و النجاة الموصل إلى رضاه و جناته ، ثم بين أنه طريق مبني على مقتضى الكمال الإلهي من كمال العلم و الحكمة و الرحمة و القدرة و سائر الكمالات الإلهية
بما يوافق مصالح العباد و خلقتهم التي خلقوا عليها ، فكان الدين واضح سهلا ميسرًا
و مراعيًا لضعف العبد و جميع أحواله ، فالحمد لله على كمال رحمته و حكمته
له الحمد و الشكر ، هذا و الله أعلم و الصلاة و السلام على رسول الله .

*المراجع :
*جامع البيان في تأويل القرآن للطبري ت(310 هـ)
*المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ت(542هـ)
*التحرير و التنوير لابن عاشور ت ( هـ13903)
*معاني القرآن و إعجازه للزجاج ت (311 هـ)
*تفسير القرآن العظيم لابن كثير ت(774 هـ)
*فتح القدير للشوكاني ت (1250هـ)
*فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق بن حسن القنوجي البخاري
*زاد المسير لابن الجوزي
*محاسن التأويل للقاسمي ت (1332هـ)
*الجواهر في تفسير القرآن الكريم ل طنطاوي جوهري (جزء 24طبعة 1351هـ
*المقتطف من عيون التفاسير ل مصطفى الحصن المنصوري (مجلد 5)
*تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن السعدي
*التفسير الموضوعي
* تفسير البغوي
* روح المعاني للألوسي
* تفسير ابن عرفة
*تفسير أبو السعود
* نظم الدرر في تناسب الآي و السور
*في ظلال القرآن
*الكشاف للزمخشري

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10 ربيع الثاني 1438هـ/8-01-2017م, 01:09 AM
سناء بنت عثمان سناء بنت عثمان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: May 2015
المشاركات: 286
افتراضي

تطبيق على درس أسلوب التفسير المقاصدي.
قال تعالى:(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون). سورة البقرة.

نزلت في حجة الوداع يوم عرفة، وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم، فقد جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت:(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله). ذكره ابن كثير.

وفي حديث آخر رواه النسائي من حديث يزيد النحوي عن عكرمة عن عبد الله بن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن:(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله). ذكره ابن كثير.

وبنزول هذه الآية كان ختام القرآن وختام التشريع، وبيان للإنسان بأنه مسؤول عن هذا التشريع محاسب به مجزي عليه.
قال تعالى:(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).

_إن المتأمل في هذه الآية لا يخفى عليه محور حديثها ومقصدها؛ إذ تضمنت هذه الآية أعظم وعظ وتذكير وتخويف، وهو التذكير باليوم الآخر يوم يرجعون فيه إلى الله للجزاء والحساب فيَقضي بينهم بالعدل وإن كان مثقال حبة من خير أو شر يُجازي به.

قال تعالى:(واتقوا) الواو عاطفة، و(اتقوا) خطاب للناس جميعا، أي: خافوا واحذروا ومن ذلك استعدوا وتأهبوا للقائه، وأصل االتقوى: أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقاية، وذلك بأن يسعى في مرضاة الله سبحانه وتعالى: فيفعل ما أمره الله به، ويجتهد في البعد عن كل ما من شأنه أن يسخط الله وذلك بالابتعاد عما نهى الله عنه وزجر. والتقوى هي أصل الفلاح لكل من أراد النجاة في ذلك اليوم العظيم. وهو خير زاد يلاقي به العبد ربه.

(يوما) المقصود به يوم القيامة، وجاء منكرا للتفخيم من شأنه، وهو اليوم الذي يبعث فيه الناس للجزاء والحساب. وأضيف للاتقاء: للمبالغة والتهويل وذلك لما فيه من الأهوال العظام التي حكى عنها القرآن في آيات كثيرة.
_والحديث عن يوم القيامة هو من المقاصد التي جاء بها هذا القرآن العظيم، وهو من الغيبيات التي أخبر بها الشارع الحكيم على لسان نبيه الكريم، وهو ركن من أركان الإيمان الستة.
_وقد وصف الله يوم القيامة بأنه يوم عظيم أهواله شديدة أحداثه جاء وصفه في عدد من سور القرآن الكريم، فقد روي في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبوبكر رضي الله عنه: يارسول الله قد شبت! قال:(شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)..
_وفي حديث آخر للترمذي وفيه: عن أبي جحيفة قال: قالوا: يارسول الله نراك قد شبت! قال:(شيبتني هود وأخواتها). كتاب الجامع لأحكام القرآن
_وأخوات هود هي السور التي جاء فيها ذكر القيامة وأهوالها، مثل: الحاقة والواقعة والتكوير والانشقاق).
والعاقل ليتفكر ويستعد لهذا اليوم العظيم فيعمل بما أمر به هذا الدين العظيم وينتهي عما نهى عنه الشارع الحكيم حتى يحسن لقائه برب العاملين.

_ (ترجعون فيه إلى الله) يرجع الخلق جميعا إلى الله ويصيرون إليه للحساب والجزاء، واختلف في هذا الرجوع إلى قولان:
1/ أنه خروج الإنسان من الدنيا.
2/ هو يوم القيامة يبعث الله الناس من قبورهم للحساب والجزاء.
والقولان صحيحان ولا خلاف في ذلك فإن من مات فقد قامت قيامته، وأفضى إلى ربه وهو في انتظار الساعة.

_ (ثم توفى كل نفس) أي: تعطى عطاءا وافيا كاملا لا ينقص منها شيئا، وهي في حق المكلف، وذكر برهان الدين البقاعي تعليقا جميلا قال: ولما كان إيقاف الإنسان على كل ما عمل من سر أو علن في غاية الكراهة إليه فضلا عن جزائه على كل شيء _منه_ لا بالنسبة إلى موقف معين بنى للمفعول، فقال:(توفى) أي: تعطى على سبيل الوفاء.

_ (ما كسبت) اختلف في الكسب المراد به في يوم القيامة:
قيل: أن الجملة فيها محذوف تقديره: جزاء ما كسبت، فيكون المعنى: أن الله يوفي كل نفس عطاءها تاما كافيا جزاء بما كسبت، فالعطاء على جزائها من خير أو شر.
وقيل: ليس في الجملة حذف بل عطاء الله لها بما كسبت من خير أو شر.
ذكره ابن عادل ورجح القول الثاني. كتاب اللباب في علوم الكتاب.

_ (وهم لا يظلمون) فلا يخاف المحسن في ذلك اليوم نقصا، وكيف يخاف نقصا وقد أكرمه ربه وأفاض عليه من فضله، فجعل الحسنة بعشر أمثالها ثم يضاعفها إلى ما يشاء سبحانه. ولا يخشى المسيء زيادة فقد سبق علمه سبحانه وأحاط بكل شيء، وأحصى أعمالهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ويجازي بالسيئة مثلها. فيالهناء المحسنين، ويالخسارة المسيئين.

المراجع:

· جامع البيان عن تأويل آي القرآن. ابن جرير الطبري.
· تفسير القرآن العظيم. الحافظ بن كثير.
· الجامع لأحكام القرآن. شمس الدين القرطبي.
· محاسن التأويل. محمد جمال الدين القاسمي.
· نظم الدرر في تناسب الآيات والسور. برهان الدين البقاعي.
· الجواهر الحسان في تفسير القرآن. عبد الرحمن الثعالبي.
· مفاتيح الغيب. فخر الدين الرازي.
· روح المعاني في تفسير القرآن العظيم. محمود شهاب الدين الألوسي.
· التحرير والتنوير. محمد الطاهر بن عاشور.
· اللباب في علوم الكتاب. ابن عادل.

مراجع أخرى.
· علم مقاصد السور وأثره في تدبر القرآن. عبد المحسن بن زبن المطيري.
· علم مقاصد السور. للدكتور محمد بن عبد الله الربيعة.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10 ربيع الثاني 1438هـ/8-01-2017م, 05:13 AM
حنان بدوي حنان بدوي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
الدولة: إسكندرية - مصر
المشاركات: 392
افتراضي

تفسير قوله تعالى:

﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
...القصص " 83 "

من مقاصد الشريعة الغراء ؛ النهي عن التكبر والتجبر والتعالي على الخلق ورؤية النفس ، حيث أن هذا الفعل أول ذنب عصي الله به على الإطلاق ؛ حيث عصي إبليس ربه تبارك وتعالى في أمره له بالسجود لآدم عليه السلام فأبى إبليس ذلك تكبراً منه وترفعاً وتعظماً على أبينا آدم ، كما قال تعالى : }وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ { .
وجاءت سورة القصص لبيان مزيداً من النماذج التي عرف عنها التكبر على الحق وغمطه ، وإرادة الظهور والعلو والتميز ونشرالفساد ، ومثالها : فرعون الذي عماه طغيان السلطة حتى بلغ منه أنه قال } ماعلمت لكم من إله غيري { ، وهامان الذي عاون على الفساد وتنفيذ الباطل ، وقارون الذي طغى بالمال والعز حتى نسب كل نعمة من الله لنفسه حتى قال } إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي {، ثم أتت على عاقبة كل منهم وبيان سؤ خاتمتهم وأخذ الله لهم ، وعلى الجهة الأخرى وقفنا من خلال السورة الكريمة على نماذج من أهل الحق ؛ تمثلت بشكل مباشر في موسي عليه السلام ومن معه ، وفي أهل العلم على عهد قارون .

ثم جاء قوله ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ إجمالاً لما ذكر ، وترغيباً فيما أعده الله لمن جانب ما كان عليه هؤلاء من عبادة الدنيا وإيثارها ،والتكبر والتجبر فيها ، وحب الظهور ، والتعالي على الخلق واحتقارهم واستصغارهم ، وبيان جزاءهم ومآلهم ومقامهم ، وترهيباً من عاقبة من امتثل هذه الأفعال المشينة التي تثير غضب الرب تبارك وتعالى.
وقد أورد ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه، فيدخل في هذه الآية { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً }.وذكره السيوطي في الدر المنثور .
}تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا {وجاءت الإشارة للبعيد تعظيماً لشأن الدار المذكورة وتفخيماً لوصفها وتشويقاً للحصول عليها ، وكأنها معلومة الذكر واضحة الوصف لدى السامع ، حاضرة في القلب ، عالية في المرتبة ، وذكرت "الدار " لبيان أنها للمأوى والسكنى والقرار والاستقرار، وتذكيراً ما وقع بدار قارون من الخسف و" الآخرة " الدائمة الخالدة التي لا دار بعدها ، فأي دار من دور الدنيا دار مؤقتة مهما مكث بها أصحابها فحتما سيزولون عنها أو ستزول عنهم ؛ والمراد بــــ " الدار الآخرة " الجنة ، وهي النعيم المقيم الذي لا حول عنه ، الخالي من أي مكدر أو منغص ، ففيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
" نجعلها " أي بجلالنا وعظمتنا نجعلها ونعدها لأجلهم ، بنعيمها ومتعتها ، ليس لهم غيرها ، والفعل في المضارعة يدل على الاستمرارية والديمومة .
ومطلع الآية يبرز لنا وصف المآل والثمرة وعظمة المتكفل بإيصالهما للموصوفين في الآية ؛ قبل بيان الفعل المؤدي لتلك النتيجة المبهرة ؛ تحفيزاً على المراد ، وتشويقاً لمعرفته ، وحثاً على الإتيان به ، وأخذاً بلب السامع ؛ وصولا لتلهفه إلى الظفر به .
وكأن السامع بمجرد سماعها يقول : لمن أعددت كل هذا يارب ؟؟؟.
فتأتي الإجابة :
} لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا{: والحصر في الموصوللبيان أنها لهم دون غيرهم ، " لا يريدون " ولم يقل ( لا يستعلون ولا يفسدون ) إنما قال "لا يريدون " فعلق الحكم على نفي مجرد إرادة العلو والفساد منهم ، وفي النهي عن مجرد الإرادة مزيد تحذير من الإتيان بالفعل ، وإعلاماً بأن النفوس ميالة إلى مثل هذه الأفعال نزاعة لها فمهما رتعت قريباً منها اقتحمتها لا محالة كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : }إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حَمى حِمًى، وإنَّ حِمى اللَّهِ ما حرَّمَ ، وإنَّهُ مَن يَرعَ حولَ الحِمى يوشِكْ أن يخالِطَ الحمى{صححه الألباني،

كما أن الإرادة محلها القلب وفساد القلب يؤدي حتماً لفساد الجوارح وأدائها وصلاح القلب وطهارته يتبعه ولابد طهارة الظاهر ونقاؤه ، وصلاح القلب وطهارته من أهم مقاصد الشريعة ، كما قال صلى الله عليه وسلم } إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب " {رواه البخاري ، فمجرد إرادة العلو والفساد تجعل العبد على خطر عظيم ، يشرف به أن يفعل ما فعل غيره من المتعالين المتجبرين المتكبرين ؛ الذين قصمهم الله فخسف بمن خسف منهم وأغرق من أغرق وأهلك من أهلك .
و" العلو " في حق العبد يدخل تحته : الشرك والظلم ، والاستكبار عن الإيمان وعن امتثال أمر الله والانصياع له ، والبغي والعز ، وحيازة الدنيا والسلطة والغلبة ، والترفع على الخلق وازدراءهم ، فقد يتعالى العبد بعلمه ، فيستشعر في نفسه كمال علمه وجهل الآخرين ومن ثم تتعاظم نفسه أمامه ومن ثم يستصغرهم ، وحينها يكون ذلك العلم وبالا عليه ، لأن حجة الله على أهل العلم آكدة ، فقد يغتفر للجاهل ما لا يغتفر ولا يقبل من العالم ، وقد يكون التعالي والتكبر بالحسب والنسب الشريف ؛ فيترفع صاحبه ويرى نفسه أعظم ممن هو أرفع منه علماً وعملاً ، وقد يكون التعالي بالمال وذلك ملاحظ ومشاهد بين بعض الأغنياء وبين الفقراء ، وقد يكون بالسلطة والسلطان وقد غفل أولئك عن كون الدنيا لا تدوم وسبحان الملك الذي يغير ولا يتغير . وقد قال تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تشاء ....{، وكيف يتعالى العبد الناقص الفقير الضعيف على طاعة ربه ، وعلى الخلق الذين هم متساوون معه في النقص على تفاوت بينهم ، كيف يتكبر وهو أصلاً مخلوق من ماء مهين .
وقد نهى الشارع الحكيم عن التعالي والتكبر وذمّه في غير موضع :
فقال :} سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..... {
}......كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {
}.....إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {
وروى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال}لا يدخلُ الجنَّةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ{رواه مسلم .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال} لا ينظرُ اللهُ يوم القيامةِ إلى من جرَّ إزارَه بطرًا {رواه البخاري .
والحق تبارك وتعالى لا يقبل من عباده الكبر بل ويعذب عليه ، فالمتكبر مبغوضا ممقوتا من ربه، لأنه تعالى وحده هو العلي : علو القدر والشأن ، وعلو القهر ، وعلو الذات والصفات ، فهو سبحانه وحده الكامل في أسمائه وصفاته وأفعاله ، هو وحده الكبير المتعال .
كما أنه تعالى هو الجبار المتكبر ، الذي لا يرضى من عباده الكبر ولا الجبروت حيث قال في الحديث القدسي عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله عز وجل : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار ) رواه الألباني في صحيح الترغيب .
فأهل الحق والإيمان يتواضعون لربهم ، مهما بلغوا ما بلغوا من المنازل والمراتب والمناصب ، فالمؤمن يرى نفسه مقهورا خاضعا ذليلا صغيرا بين يدي ربه ومولاه ، محبا له ومعظما لأوامره معتقدا تفرده بالكمال المطلق ،مخلصاً له قصده ، متوجهاً له بإراداته ، فيرى ربه عز وجل أنه هو العلي الكبير ، ويتواضع لعباده المؤمنين فلا يرى نفسه فوقهم ولا أعلاهم منزلة فقد قال تعالى : " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ "
وعن عياض بن حمار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم }إنَّ اللهَ أوْحَى إِلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حتى لا يَفْخَرَ أحدٌ على أَحَدٍ ، و لا يَبْغِي أحدٌ على أَحَدٍ {صححة الألباني.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين خير الهدي في ذلك ،
فأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: " لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض فقال: أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً فأسلم ".ذكره السيوطي في الدر المنثور .
وعنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبقال والبيع فيفتح عليه القرآن، ويقرأ { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً } ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع، في الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وذكر العلوّ والفساد بصيغة التنكير في حيز النفي للدلالة على شمولهما لكلّ ما يطلق عليه أنه علوّ وأنه فساد ،
ولكن يحسن هنا التفريق بين إرادة العلو والرفعة وبين إرادة التجمل ، فقد حثنا الشرع على التجمل والتنظف كما ورد عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - }لا يدخلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ . قال رجلٌ : إنَّ الرَّجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً . قال : إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ . الكِبرُ بَطرُ الحقِّ وغمطُ النَّاسِ { رواه مسلم .
كما يخرج من الكبر والعلو أيضا إرادة العلو في الحق ورفعة الدين على أن يكون خالصاً لله متجرداً عن حظوظ النفس .
والفساد : يدخل فيه الظلم والعدوان ، و أخذ المال بغير الحق ، والعمل بالمعاصي ، وقتل الأنبياء والمؤمنين ، والصد عن سبيل الله ، و سؤ السيرة والسلوك ، فهو عام في وجوه الشر جميعا .
وقد ورد النفي لإرادة العلو كما ورد لإرادة الفساد ، حتى يتبين أن كل منهما مراد بالحكم وليس أن الحكم مترتب على اجتماعهما ، فحتى ينال العبد ويظفر بالمنزلة المرادة يجب عليه التخلي عن كل منهما ، فإن أتى ولو بإحداهما امتنعت عنه النتيجة المرصدة ، فليس له في الآخرة ولا منها نصيب .
ثم جاءت لنا خاتمة الآية تذييلا وتأكيداً لما ذكر فقال : }وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {" فالعاقبة " هي وصف لحالة الفلاح والفوز الدائم المستقر والمآل الحميد الحسن الأخير- والمراد بها الجنة - ، وهو الذي يبقى لمن اتقى سخط الله وغضبه ،بامتثال ما أمر به والانزجار عن ما نهى عنه أما من حاز نجاحا أو ظهورا حدثت له به راحة أو سعادة أو انتشاءاً ؛ فكل ذلك ولا شك بمثابة الحالة الوقتية التي سرعان ما تزول بزوال أصحابها أو تبدل حالهم إن قُدّر لهم العيش بعد زوال سلطانهم وزهوتهم .
ومن خلال هذه الآية يمكن لكل من عباد الله أن يقيس ميزانه ، فإن لم يعمل لعرض الدنيا ،غير مبال بها ، زاهدا في مطامعها ومطامحها ، منشغلا بالآخرة ؛ فليحمد ربه وإن ابتلي فيها ولم يمَكّن ، وإلا فهو من أهل الدنيا .

اللهم إنا نتوسل إليه بعظمتك وكبريائك أن تنجنا من الدنيا وغرورها وأن تخلصنا من حظوظ أنفسنا ، وأن تجعلنا من الخلص إليك ، وأن تصلحنا لجوارك ، وأن تجعلنا من أهل دار مقامك ، فأنت ولي ذلك والقادر عليه .
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي .

المراجع :
جامع البيان في تأويل القرآن .لمحمد بن جرير أبو جعفر الطبري (310هـ)
النكت والعيون للمواردي ( 450 هـ)
الكشاف للزمخشري ( 538 هـ)
المحرر الوجيز لابن عطية ( 546 هـ)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 774 هـ )
تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي ( 885ه)
تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
تفسير تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ)
التحرير والتنوير لابن عاشور (1393هـ)

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 19 ربيع الثاني 1438هـ/17-01-2017م, 05:32 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

أحسنتم جميعاً بارك الله فيكم ونفع بكم.


التقويم :
1: هناء محمد علي أ+
- أحسنت بارك الله فيك، أسلوبك التفسيري فيه تمكّن وقوّة.
- فاتك بيان مناسبة خاتمة الآية لمقصدها وأثر ذلك في فهم معنى الآية واستجلاء هداياتها، والحكمة من التعبير بلفظ "زُيّن"
- واصلي التمرّن على كتابة الرسائل التفسيرية.

2: منى مدني أ+
- أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- أسلوبك المقاصدي ممتاز وقدرتك على التعبير حسنة ؛ فواصلي كتابة الرسائل التفسيرية.

3: عقيلة زيان ب
- أحسنت بارك الله فيك.
- فاتك عدد من العناصر المهمّة في التفسير المقاصدي مما سبق شرحه في الدرس والأمثلة.

4: رضوى محمود ب
- أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- فاتك عدد من العناصر المهمّة في التفسير المقاصدي مما سبق شرحه في الدرس والأمثلة.

5: رشا نصر زيدان: ب
- أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- فاتك بيان التناسب بين الأعمال المذكورة في الآية واختلاف مواقف الناس من الرسالة.
- أحسنت بالتحذير من طول الأمل والاغترار برغد العيش وأنّ هذا من الأعمال التي ذمّ الله الكفّار عليها فعلى المؤمن أن يتجنب الاتصاف بشيء من ذلك.
- طول الأمد من أسباب طول الأمل ؛ فيفرّق بينهما.
- فاتك عدد من العناصر المهمّة في التفسير المقاصدي مما سبق شرحه في الدرس والأمثلة.

6: مريم أحمد حجازي: أ
- أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- أسلوبك المقاصدي حسن، واصلي التدرب عليه.


7: سناء عثمان: ج+
- أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- ينبغي تجلية مقصد الآية وبيان أهميته وحاجة الناس إليه.
- فاتك عدد من العناصر المهمّة في التفسير المقاصدي مما سبق شرحه في الدرس والأمثلة.


8: حنان علي محمود أ+
- أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- أسلوبك المقاصدي ممتاز، واصلي التدرب عليه.

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 12 جمادى الأولى 1438هـ/8-02-2017م, 05:43 AM
ندى علي ندى علي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السادس
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 311
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) سورة الإسراء

قال -سبحانه- (وإن من قرية) إن بمعنى ما النافية أي ما من قرية ولا مدينة إلا نحن مهلكوها أو معذبوها ومن لبيان الجنس وتفيد العموم أي سواء كانت صالحة أو ظالمة، وقيل: المراد الخصوص أي ما من قرية ظالمة وتدل على ذلك أدلة أخرى منها قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) سُورَةِ الْقَصَصِ [59] ، فعلق – سبحانه- الإهلاك بالقرى الظالمة، وحذف الصفة جائز في اللغة كقوله تعالى (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أي كل سفينة صالحة بقرينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الْكَهْف: 79] ، ثم أتى بمن الزائدة بعد النفي مبالغة في الدلالة على الاستغراق وتأكيده أي جميع القرى الظالمة لكيلا يظن أهل مكة عدم شمولهم وهذا ما رجحه ابن عاشور-رحمه الله-.

وجاء بالضمير المنفصل (نحن) ليدل على عظمته وقدرته –سبحانه – أي مهلكوها ومعذبوها بعظمتنا وقدرتنا وهذا زيادة ومبالغة في الزجر والوعيد.

(مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا) أي مبيدوها بالموت والفناء إن كانت قرى صالحة والضمير يعود على القرية ويتضمن أهلها، أو معذبوها بالاستئصال أو بالبلاء، والضمير على حذف مضاف أي معذبو أهلها لأن العذاب لا يقع إلا على الأهل هذا قول من قال بأن مِن يراد بها العموم وبيان الجنس، وأما من قال بخصوص القرى الظالمة فسر الإهلاك بالاستئصال مرة واحدة ثم قال – سبحانه- (قبل يوم القيامة) مبالغة في الوعيد والتخويف ، والعذاب الشديد بما هو دون الاستئصال من البلاء من الانتقام بالسيف والأسر والذل والخوف والجوع وغيرها من أنواع العذاب.

(كان ذلك في الكتاب مسطورا) أي هذا الخبر المتقدم وهذا القضاء بإهلاك القرى قبل يوم القيامة في اللوح المحفوظ مكتوبا لا تبديل لكلمات الله.

والمتأمل في هذه الآية العظيمة وتفسيرها يجد أنها تحدثت عن أصل عظيم تعضده كثير من الآيات، وهو أن الله – سبحانه- لا يهلك الأمم بعذاب أو استئصال إلا بظلم منها وجرم، ذلك أن الله لا يظلم أحدا أبدا كما قال ربنا – سبحانه – (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) القصص وقال: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59) الكهف

فأخبر أن العذاب لم يكن ليقع لولا ظلمهم أنفسهم، وأن الله لا يأخذهم عن جهل وغفلة بأمر الله (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131) الأنعام إنما يقيم الحجة عليهم بالإنذار أولا ويبلغهم كما قال- سبحانه-: (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208)) الشعراء وقال: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134) طه وقال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، فعلم منه أن الله رحيم بعباده رؤوف بهم يريد لهم الخير ويرشدهم إلى سبيل الرشاد ولكنهم هم من يعرض ويتكبر.

ونفى في مواضع أخرى وقوع العذاب مع وجود الاستغفار أو الإصلاح كما في قوله تعالى (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33) الأنفال (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117) هود، وإذا ثبت ذلك علمت بمفهومه أنما يوقع العذاب الظلم والإصرار على الذنب وعدم الإنكار فإذا وجد الاستغفار والإصلاح انتفى العذاب.

والعاقل يعتبر بما أخبر الله به عن الأمم السابقة وما حل بها من أصناف العذاب والذل والهوان ، فتأمل ما حل بقوم نوح لما ظلموا أنفسهم وكذبوا رسول الله أغرقهم الله بالطوفان ونجى المؤمنين من بينهم (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) ،وقوم فرعون لما عتوا وتجبروا واستعلوا أهانهم الله وأغرقهم (وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين) وغيرهم من الأمم الظالمة كلّ حل به من أنواع العذاب ما الله أعلم بشدته، وما كان ذلك إلا لظلمهم أنفسهم كما قال ربنا : (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].


هذا والله تعالى أعلم


المراجع:
جامع البيان للطبري 310هـ
المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي 542هـ
زاد المسير لابن الجوزي 597هـ
مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي 606هـ
الجامع لأحكام القران للقرطبي 671هـ
تفسير القران العظيم لابن كثير 774هـ
نظم الدرر للبقاعي 885هـ
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393هـ

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 16 رمضان 1438هـ/10-06-2017م, 11:23 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ندى علي مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) سورة الإسراء

قال -سبحانه- (وإن من قرية) إن بمعنى ما النافية أي ما من قرية ولا مدينة إلا نحن مهلكوها أو معذبوها ومن لبيان الجنس وتفيد العموم أي سواء كانت صالحة أو ظالمة، وقيل: المراد الخصوص أي ما من قرية ظالمة وتدل على ذلك أدلة أخرى منها قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) سُورَةِ الْقَصَصِ [59] ، فعلق – سبحانه- الإهلاك بالقرى الظالمة، وحذف الصفة جائز في اللغة كقوله تعالى (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أي كل سفينة صالحة بقرينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الْكَهْف: 79] ، ثم أتى بمن الزائدة بعد النفي مبالغة في الدلالة على الاستغراق وتأكيده أي جميع القرى الظالمة لكيلا يظن أهل مكة عدم شمولهم وهذا ما رجحه ابن عاشور-رحمه الله-.

وجاء بالضمير المنفصل (نحن) ليدل على عظمته وقدرته –سبحانه – أي مهلكوها ومعذبوها بعظمتنا وقدرتنا وهذا زيادة ومبالغة في الزجر والوعيد.

(مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا) أي مبيدوها بالموت والفناء إن كانت قرى صالحة والضمير يعود على القرية ويتضمن أهلها، أو معذبوها بالاستئصال أو بالبلاء، والضمير على حذف مضاف أي معذبو أهلها لأن العذاب لا يقع إلا على الأهل هذا قول من قال بأن مِن يراد بها العموم وبيان الجنس، وأما من قال بخصوص القرى الظالمة فسر الإهلاك بالاستئصال مرة واحدة ثم قال – سبحانه- (قبل يوم القيامة) مبالغة في الوعيد والتخويف ، والعذاب الشديد بما هو دون الاستئصال من البلاء من الانتقام بالسيف والأسر والذل والخوف والجوع وغيرها من أنواع العذاب.

(كان ذلك في الكتاب مسطورا) أي هذا الخبر المتقدم وهذا القضاء بإهلاك القرى قبل يوم القيامة في اللوح المحفوظ مكتوبا لا تبديل لكلمات الله.

والمتأمل في هذه الآية العظيمة وتفسيرها يجد أنها تحدثت عن أصل عظيم تعضده كثير من الآيات، وهو أن الله – سبحانه- لا يهلك الأمم بعذاب أو استئصال إلا بظلم منها وجرم، ذلك أن الله لا يظلم أحدا أبدا كما قال ربنا – سبحانه – (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) القصص وقال: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59) الكهف

فأخبر أن العذاب لم يكن ليقع لولا ظلمهم أنفسهم، وأن الله لا يأخذهم عن جهل وغفلة بأمر الله (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131) الأنعام إنما يقيم الحجة عليهم بالإنذار أولا ويبلغهم كما قال- سبحانه-: (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208)) الشعراء وقال: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134) طه وقال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، فعلم منه أن الله رحيم بعباده رؤوف بهم يريد لهم الخير ويرشدهم إلى سبيل الرشاد ولكنهم هم من يعرض ويتكبر.

ونفى في مواضع أخرى وقوع العذاب مع وجود الاستغفار أو الإصلاح كما في قوله تعالى (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33) الأنفال (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117) هود، وإذا ثبت ذلك علمت بمفهومه أنما يوقع العذاب الظلم والإصرار على الذنب وعدم الإنكار فإذا وجد الاستغفار والإصلاح انتفى العذاب.

والعاقل يعتبر بما أخبر الله به عن الأمم السابقة وما حل بها من أصناف العذاب والذل والهوان ، فتأمل ما حل بقوم نوح لما ظلموا أنفسهم وكذبوا رسول الله أغرقهم الله بالطوفان ونجى المؤمنين من بينهم (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) ،وقوم فرعون لما عتوا وتجبروا واستعلوا أهانهم الله وأغرقهم (وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين) وغيرهم من الأمم الظالمة كلّ حل به من أنواع العذاب ما الله أعلم بشدته، وما كان ذلك إلا لظلمهم أنفسهم كما قال ربنا : (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].


هذا والله تعالى أعلم


المراجع:
جامع البيان للطبري 310هـ
المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي 542هـ
زاد المسير لابن الجوزي 597هـ
مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي 606هـ
الجامع لأحكام القران للقرطبي 671هـ
تفسير القران العظيم لابن كثير 774هـ
نظم الدرر للبقاعي 885هـ
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393هـ
التقويم: أ+
أحسنت بارك الله فيك وأحسن إليك.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تطبيقات, على

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:23 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir