دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > لمعة الاعتقاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 ذو القعدة 1429هـ/1-11-2008م, 12:15 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي القرآن العظيم من كلام الله تعالى

ومِنْ كَلاَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ القُرْآنُ العَظِيمُ ، وَهُوَ كِتَابُ اللهِ المُبينُ وَحَبْلُهُ المَتِينُ ، وَصِرَاطُهُ المُسْتقيمُ وَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ المُرْسَلينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ ، مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخْلُوقٍ ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
وَهُوَ سُوَرٌ مُحْكَمَاتٌ ، وَآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ، وَحُرُوفٌ وَكَلِمَاتٌ ، مَنْ قَرأَهُ فَأَعْرَبَهُ ، فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، لَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ ، وَأَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ ، مَتْلُوٌّ بِالأَلْسِنَةِ ، مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ ، مَسْمُوعٌ بِالآذَانِ ، مَكْتُوبٌ فِي المَصَاحِفِ ، فِيهِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ ، وَنَاسِخٌ ومَنْسُوخٌ ، وخَاصٌّ وَعَامٌّ، وَأمْرٌ وَنَهْيٌ {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] وَقَوْله تَعَالَى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88].
وَهَذَا وهُوَ هذا الكِتَابُ العَرَبِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ الَّذِينَ كَفَرُوا: {لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ: 31].
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 2]، فَقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26].
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ شِعْرٌ ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}[يس: 69]، فَلَمَّا نَفَى اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ شِعْرٌ وأَثْبَتَهُ قُرْآناً لَم تَبْقَ شُبْهَةٌ لِذِي لُبٍّ في أَنَّ القُرْآنَ هُوَ هَذَا الكِتابُ العَرَبيُّ الَّذِي هُوَ كَلِمَاتٌ وَحُرُوفٌ وَآيَاتٌ ، لأَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ لاَ يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّهُ شِعْرٌ.
وَقَالَ الله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْناَ عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِالإتْيانِ بِمِثْلِ مَا لاَ يُدْرَى مَا هُوَ وَلاَ يُعْقَلُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى علَيْهِم آيَاتُنا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَو بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَائِ نَفْسِي} [يونس: 15] فأَثْبَتَ أَنَّ القُرْآنَ هُوَ الآياتُ الَّتِي تُتْلَى عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الله تَعَالَى: {بَل هُوَ آيَاتٌ بَيـِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} [العنكبوت: 49].
وَقَالَ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79] بَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الله تَعَالَى: {كَهيعص} [مريم: 1] و{حـَم (1) عـسـق}[الشورى: 1] وَافْتَتَحَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سُورَةً بِالحُروفِ المُقَطَّعةِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَناتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرفٍ حَسَنَةٌ)) ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((اقْرَؤُوا القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إقَامَةَ السَّهمِ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَتَعَجَّلُونَ أَجْرَهُ وَلاَ يَتأَجَّلُونَهُ)).
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (إِعْرَابُ القُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ).
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ).
وَاتَّفَقَ المسْلِمُونَ عَلَى عَدِّ سُوَرِ القُرْآنِ وَآياتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ المُسْلِمينَ في أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنَ القُرْآنِ سُورَةً أَوْ آيَةً أَوْ كَلِمَةً أَوْ حَرْفاً مُتَّفَقاً عَلَيْهِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَفي هَذَا حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ حُرُوفٌ.


  #2  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:37 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(1) القَوْلُ في القُرْآنِ:

القُرْآنُ الكَرِيمُ مِنْ كَلامِ اللهِ تَعَالَى ، مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ، مِنْهُ بَدَأَ وإليهِ يَعُودُ ، فهوَ كلامُ اللهِ حروفُهُ ومَعَانِيهِ.
دَلِيلُ أَنَّهُ مِنْ كلامِ اللهِ : قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} [التوبة: 6] يَعْنِي: القرآنَ.

ودليلُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ: قولُهُ تَعالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفُرْقَان: 1].

ودليلُ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ:


قولُهُ تعالَى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأَعْرَاف: 54] ، فجَعَلَ الأَمْرَ غَيْرَ الخَلْقِ ، والقُرْآنُ مِن الأَمْرِ لِقَوْلِهِ تعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشُّورَى: 52] {ذَلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنزَلَهُ إِلَيكُم} [الطلاق: 5] ؛ ولأنَّ كلامَ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وصِفاتُهُ غيرُ مَخْلُوقَةٍ.

ودليلُ أَنَّهُ مِنه بَدَأَ: أنَّ اللهَ أَضَافَهُ إِليهِ ، ولا يُضَافُ الكَلاَمُ إِلاَّ إلى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا .
ودليلُ أَنَّهُ إليهِ يَعُودُ: أَنَّهُ وَرَدَ في بَعْضِ الآثَارِ أَنَّهُ يُرْفَعُ مِن المَصَاحِفِ والصُّدُورِ في آخِرِ الزَّمَانِ.
(2) القُرْآنُ حُرُوفٌ وكَلِمَاتٌ: القُرْآنُ حُروفٌ وكَلِمَاتٌ، وقَدْ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ - لذلِكَ أَدِلَّةً ثَمَانِيَةً:

1 - أَنَّ الكُفَّارَ قَالُوا: إِنَّهُ شِعْرٌ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بذلكَ إِلاَّ مَا هوَ حُروفٌ وكَلِمَاتٌ.

2 - أَنَّ اللهَ تَحَدَّى المُكَذِّبِينَ بِهِ أَنْ يأْتوا بمِثْلِهِ ، ولوْ لم يَكُنْ حُرُوفًا وكَلِمَاتٍ لكَانَ التَّحَدِّي غَيْرَ مَقْبُولٍ ؛ إذْ لاَ يُمْكِنُ التَّحَدِّي إلاَّ بشَيءٍ مَعْلُومٍ يُدْرَى مَا هُوَ.

3 - أَنَّ اللهَ أَخْبَرَ بأنَّ القرآنَ يُتْلَى عليهم : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يُونُس: 15] ، ولا يُتْلَى إِلاَّ مَا هوَ حروفٌ وكَلِمَاتٌ.

4 - أَنَّ اللهَ أَخْبَرَ بأَنَّهُ مَحْفُوظٌ في صُدُورِ أَهْلِ العِلْمِ ومَكْتُوبٌ في اللَّوْحِ المحفُوظِ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العَنْكَبُوت: 49] {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقِعَة: 77 - 79] ، ولاَ يُحْفَظُ ويُكْتَبُ إلاَّ ما هوَ حروفٌ وكَلِمَاتٌ.

5 - قولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بكلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ)) ، صَحَّحَهُ الْمُؤَلِّفُ ولَمْ يَعْزُهُ، وَلَم أَجِدْ مَنْ خَرَّجَهُ(1).

6 - قولُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: (إعرابُ القرآنِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ)(2).

7 - قولُ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: (مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنه فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ)(3).

8 - إِجْمَاعُ المسلِمِينَ - كمَا نَقَلَهُ المُؤَلِّفُ - عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهُ سُورَةً أَو آيَةً أَو كَلِمَةً أَو حَرْفًا مُتَّفَقًا عليهِ فهوَ كَافِرٌ.

وعَدَدُ سُوَرِ القُرْآنِ (114)، مِنْها (29) افْتُتِحَتْ بالحُروفِ المُقَطَّعَةِ.
أَوْصَافُ القرآنِ : وَصَفَ اللهُ القرآنَ الكريمَ بأَوْصَافٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ ، ذَكَرَ المُؤَلِّفُ مِنها مَا يلِي:
ا - أَنَّهُ كِتَابُ اللهِ المُبِينُ، أَي : المُفْصِحُ عمَّا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَحْكَامٍ وَأَخْبَارٍ.

2 -أنَّهُ حَبْلُ اللهِ المَتينُ ، أَي: العَهْدُ القَوِيُّ الذي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا للوصولِ إليهِ والفَوْزِ بكَرَامَتِهِ.

3 -أنَّهُ سُوَرٌ مُحْكَمَاتٌ ، أَي: مُفَصَّلُ السُّوَرِ ، كُلُّ سُورَةٍ مُنْفَرِدَةٌ عن الأُخْرَى ، والمُحْكَمَاتُ: المُتْقَنَاتُ المَحْفُوظَاتُ مِن الخَلَلِ والتَّنَاقُضِ.

4 - أنَّهُ آياتٌ بَيِّنَاتٌ ، أيْ: علاماتٌ ظاهِرَاتٌ على تَوْحِيدِ اللهِ ، وكَمَالِ صِفَاتِهِ ، وحُسْنِ تَشْرِيعَاتِهِ.

5 -أنَّ فيهِ مُحْكَمًا ومُتَشَابِهًا.

فالمُحْكَمُ: مَا كانَ مَعْنَاهُ وَاضِحًا.
والمُتَشَابِهُ: مَا كانَ معناهُ خَفِيًّا.

ولا يُعَارِضُ هذا مَا سَبَقَ برقمِ(3) ؛ لأنَّ الإِحْكَامَ هُناكَ بمَعْنَى الإِتْقَانِ والحِفْظِ مِن الخَلَلِ والتَّنَاقُضِ، وهنا بمَعْنَى وُضُوحِ المَعْنَى (4) ، وإذَا رَدَدْنَا المُتَشَابِهَ هُنا إلى المُحْكَمِ صَارَ الجَمِيعُ مُحْكَمًا.

6 - أنَّهُ حَقٌّ لا يُمْكِنُ أَنْ يَأَتِيَهُ الباطِلُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَت: 42].

7 - أَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا وَصَفَهُ بِهِ المُكَذِّبُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِم : إنَّهُ شِعْرٌ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرَآنٌ مُبِينٌ} [يَس: 69] ، وقولِ بعْضِهِم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المُدَثِّر: 24] ، {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المُدَثِّر: 25]، فقالَ اللهُ مُتَوَعِّدًا هذا القائِلَ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المُدَثِّر: 26].

8 -أنَّهُ مُعْجِزٌ لا يُمْكِنُ لأَحَدٍ أَنْ يأَتِيَ بمثْلِهِ وإِنْ عَاوَنَهُ غَيْرُهُ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإِسْرَاء: 88].



حاشية الشيخ صالح العصيمي حفظه الله :
(1) لم أقف عليه بهذا اللفظ ، ويقرب منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أعربوا القرآن ، فإن من قرأ القرآن فأعربه ، فله عشر حسنات ، وكفارة عشر سيئات ، ورفع عشر درجات) أخرجه الطبراني في الأوسط ، وفي إسناده نهشل بن سعيد أحد المتروكين.

انظر: (مجمع الزوائد) (7/163). (2) أخرجه ابن الأنباري في (الوقف والابتداء) (1/20) وإسناده ضعيف جداً (3) لم أقف عليه من قول علي رضي الله عنه، وروى ابن أبي شيبة (10/513 - 514) وابن جرير، (56) عن إبراهيم النخعي أنه قال: وفيه قصة -: (أرى صاحبك قد سمع أن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله) وإسناده صحيح. (4) فصار لإحكام القرآن معنيان:

الأول: إتقانه وصيانته من الخلل والنقص.

الثاني: وضوح معانيه وعدم اشتباهها.


  #3  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:38 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن جبرين

(1) وَلَمَّا تَكَلَّمَ على أنَّ اللهَ مُتَكَلِّمٌ وَيَتَكَلَّمُ ، كانَ ولا بُدَّ منْ أنْ يَذْكُرَ أَمْثِلَةً منْ كَلاَمِهِ الَّذي وَصَلَ إلى البشرِ ، وَبِلاَ شَكٍّ أنَّ مِنْ أَقْرَبِ ذلكَ هذا القرآنَ الَّذي بَيْنَ أَيْدِينَا ؛ الَّذي هوَ أَعْظَمُ وأَشْرَفُ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ على الأنبياءِ ، ولا شَكَّ أنَّهُ كلامُ اللهِ.
ومعلومٌ أنَّ اللهَ أَنْزَلَ على الأنبياءِ كُتُبًا، أَنْزَلَ على مُوسَى التَّوراةَ ، وَأَنْزَلَ على عِيسَى الإنجيلَ، وَأَنْزَلَ على دَاوُدَ الزَّبُورَ، وَأَنْزَلَ على إبراهيمَ صُحُفًا، كما في قولِهِ: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] ، ولا شَكَّ أنَّ ذلكَ كُلَّهُ منْ كلامِ اللهِ الَّذي تَكَلَّمَ بهِ وَضَمَّنَهُ شَرِيعَتَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.
وكانَ مِنْ آخِرِ الكُتُبِ هذا الكتابُ المُبِينُ ، وهذا الذِّكْرُ الحكيمُ ؛ الَّذي وَصَفَهُ اللهُ بذلكَ ، وَصَفَهُ بأنَّهُ الذِّكرُ الحكيمُ ؛ يَعْنِي: المُحْكَمُ .
وبأنَّهُ القرآنُ المُبِينُ ؛ يَعْنِي: البَيِّنُ ، وَوَصَفَهُ بالهُدَى ، وبالبَيَانِ ، وبالشِّفاءِ ، وبالمَوْعِظَةِ ، وبِصِفَاتٍ تَدُلُّ على عَظَمَتِهِ ، وعلى عِظَمِ مَكَانَتِهِ.
وأَخْبَرَ بأنَّهُ مُنَزَّلٌ من اللهِ بقولِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشُّعراء: 192 - 195]، أَنْزَلَهُ اللهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ حتَّى يَفْهَمَهُ المُرْسَلُ إليهم، قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].
فَجَعَلَ هذا القرآنَ بِلِسَانِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أيْ: بِلِسَانِ العربِ ، كما أنَّ الكُتُبَ المُنَزَّلَةَ قَبْلَهُ أَنْزَلَهَا سبحانَهُ بِأَلْسِنَةِ الَّذينَ نَزَلَتْ عَلَيْهِم؛ بالسُّرْيَانِيَّةِ وبها نَزَلَ الإنجيلُ ، وبالعِبْرَانِيَّةِ الَّتي هيَ لسانُ اليهودِ.
أمَّا القرآنُ فإنَّهُ بهذهِ اللُّغةِ الفصيحةِ بلسانِ العربِ، هذا هوَ قولُ أهلِ السُّنَّةِ: إنَّ القرآنَ مُنَزَّلٌ غيرُ مَخْلُوقٍ؛ رَدًّا على الَّذينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ.
(مِنْهُ بَدَأَ): يَعْنِي: تَكَلَّمَ بهِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.
(وَإِلَيْهِ يَعُودُ): وذلكَ إذا لَمْ يُعْمَلْ بهِ في آخرِ الزَّمانِ ، يُرْفَعُ من الصُّدورِ ، وَيُرْفَعُ من الأَسْطُرِ ومِن الكُتُبِ ، ولا يَبْقَى منهُ شيءٌ ، هذا مَعْنَى قولِهِ: (وَإِلَيْهِ يَعُودُ) ، كَمَا فَسَّرَ ذلكَ شيخُ الإسلامِ في بَعْضِ كُتُبِهِ.

فعندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ:
أنَّ القرآنَ كَلاَمُ اللهِ تَعَالَى ، وأنَّهُ كلامٌ مسموعٌ.
أمَّا الأشاعرةُ:

فَذَهَبُوا إلى أنَّ الكلامَ مَعْنًى قائمٌ بالنَّفسِ ، قالُوا: إنْ عُبِّرَ عنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فهوَ قُرْآنٌ ، وإنْ عُبِّرَ عنهُ بالعِبْرِيَّةِ فهوَ تَوْرَاةٌ ، وإنْ عُبِّرَ عنهُ بالسُّرْيَانِيَّةِ فهوَ إِنْجِيلٌ ، هكذا يَقُولُونَ.
وَأَنْكَرُوا أنْ يكونَ هذا الكلامُ الَّذي بِهَذِهِ الحروفِ هوَ نفسَ كلامِ اللهِ ، وقالُوا: إنَّ كلامَ اللهِ هوَ المعنَى ليسَ هوَ اللَّفْظَ ، وهذهِ الحروفُ الَّتي في هذهِ المصاحفِ لَيْسَتْ هيَ كلامَ اللهِ ، وَأَرَادُوا بذلكَ التَّسَتُّرَ حتَّى لا يَقُولُوا: إنَّ القرآنَ مَخْلُوقٌ ، وإلاَّ فَقَوْلُهُم قريبٌ منْ قولِ المُعْتَزِلَةِ الَّذينَ يَقُولُونَ: إنَّ القرآنَ مَخْلُوقٌ ، وهؤلاءِ قَالُوا: إنَّهُ كلامُ اللهِ ، ولكنَّ كلامَ اللهِ المَعْنَى دونَ اللَّفظِ.
وكَثِيرًا ما يَسْتَدِلُّونَ بالبيتِ المشهورِ في كُتُبِهِم ؛ يقولونَ: إنَّ الشاعرَ العربيَّ يقولُ:
إِنَّ الـْكـَلاَمَ لــَفـِي الــْفُؤَادِ وَإِنَّمـَا = جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاَ
فيقولونَ:

إنَّ كلامَ اللهِ هوَ المَعْنَى دونَ اللَّفظِ ، وإنَّ الكلامَ في الحقيقةِ إنَّما هوَ ما يَقُومُ بالنَّفسِ ، وأمَّا ما يُنْطَقُ باللِّسانِ فلا يُسَمَّى كلامًا ، وإنَّما يُسَمَّى عبارةً أوْ حِكَايَةً ، فَيَقُولُونَ: إنَّ القرآنَ عِبَارَةٌ أوْ حكايَةٌ عنْ كلامِ اللهِ ، وليسَ هوَ عَيْنَ كلامِ اللهِ ، هذهِ عَقِيدَتُهُم ، فكيفَ نَرُدُّ عليهم؟
العربُ لا يَنْسِبُونَ للسَّاكتِ كَلاَمًا ، ولوْ كانَ يَدُورُ في نَفْسِهِ ، إنَّما يُسَمَّى كَلاَمًا بعْدَمَا يَنْطِقُ بهِ ، فَأَمَّا قَبْلَ أنْ يَنْطِقَ بهِ فلا يُسَمَّى كَلاَمًا.



وأمَّا البيتُ الَّذي اسْتَدَلُّوا بهِ فَيَنْسِبُونَهُ إلى الأخْطَلِ ، وليسَ بصحيحٍ ؛ فَلَمْ يُوجَدْ في دِيوَانِهِ ، وَأَكْثَرُ الشُّعراءِ وعلماءِ الأدبِ يُنْكِرُونَ هذا البيتَ ويقولونَ : إنَّهُ مُخْتَلَقٌ لا أَصْلَ لهُ.
ثمَّ رَوَاهُ بَعْضُهُم قَائِلاً:


إِنَّ الـْبـَيـَانَ لــَفـِي الــْفـُؤَادِ وَإِنَّمَا = جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاَ
ثمَّ لوْ قَدَّرْنَا أنَّهُ صحيحٌ، وأنَّهُ منْ قولِ الأخطلِ ، لمْ نَقْبَلْهُ ؛ وذلكَ لأنَّ الأخطلَ نَصْرَانِيٌّ مَشْهُورٌ بِتَمَسُّكِهِ بالنَّصْرَانيَّةِ ، وَيَفْتَخِرُ بها ، وَيَمْتَنِعُ أنْ يَفْعَلَ ما يَفْعَلُهُ المسلمونَ ، وقد اشْتُهِرَ منْ شِعْرِهِ قولُهُ:



وَلـَسـْتُ بـِقـَائِمٍ كـَالــْعِيرِ يَدْعُو = قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ

وَلـَسـْتُ بـِقَائِدٍ عِيسـًا بُكُورًا = إِلـَى بـَطـْحـَاءِ مـَكـَّةَ لــِلـنَّجَاحِ
وَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانَ طَوْعًا = وَلـَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الأَضَاحِي
وَلـَكـِنِّي سـَأَشـْرَبـُهـَا شــَمُولاً = وَأَسـْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ


لا شَكَّ أنَّ هذا يَدُلُّ على كُفْرٍ صريحٍ ، وإذا كانَ يَفْتَخِرُ بأنَّهُ نَصْرَانِيٌّ ، فَكَيْفَ يُسْتَشْهَدُ بكلامِهِ في أمْرٍ يَتَعَلَّقُ بالعقيدةِ ؟ ثمَّ أَيْضًا هوَ يُسَمَّى (الأَخْطَلَ) ، والخَطَلُ هوَ عَيْبٌ في الكلامِ.
ثمَّ أيضًا هوَ نَصْرَانِيٌّ ؛ والنَّصارَى قدْ ضَلُّوا في مُسَمَّى (الكلامِ) ؛ حَيْثُ جَعَلُوا (عِيسَى) نَفْسَ (الكلمةِ) ، فإذا كانَ كذلكَ ، فكيفَ يُسْتَشْهَدُ بكلامِ هذا الأخطلِ النَّصرانيِّ على أَمْرٍ منْ أمورِ العقيدةِ؟!

وقدْ قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في (نُونِيَّتِهِ):
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَاكَ بَيْتٌ قَالَهُ = فِيمَا يُقَالُ الأَخْطَلُ النَّصْرَانِي
وكذلكَ البيتُ المنسوبُ إلى شيخِ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ في (العقيدةِ اللاَّمِيَّةِ) الَّتي أَوَّلُهَا:

يا سَائِلِي عَنْ مَذْهَبِي وَعَقِيدَتِي = رُزِقَ الـْهـُدَى مـَنْ لـِلـْهـِدَايَةِ يَسْأَلُ

اســْمـَعْ كـَلاَمَ مــُحـَقـِّقٍ فـِي قــَوْلِهِ = لاَ يــَنــْثــَنـــِي عـَنــــْهُ وَلاَ يـــَتَبَدَّلُ
حـُبُّ الصَّحـابةِ كُلِّهم لي مَذْهَبٌ = وَمــَوَدَّةُالــْقــُرْبــَى بــــِهــَا أَتـَوَسَّلُ
وَلــِكـُلـــِّهـِمْ قـَدْرٌ وَفـَضـْلٌ سَاطِعٌ = لـَكـِنَّمـَا الــصِّدِّيـقُ مــِنــْهُمْ أَفْضَلُ

إلى قَوْلِهِ:
قـُبـْحٌ لـِمـَنْ نـَبـَذَ الـْكِتَابَ وَرَاءَهُ = وَإِذَا اسْتَدَلَّ يَقُولُ: قَالَ الأَخْطَلُ


قُبْحٌ لهُ كيفَ يَنْبِذُ الكتابَ وَيَسْتَدِلُّ بقولِ الأخطلِ ، فَعَلَى هذا كيفَ يكونُ كلامُ الأخطلِ دَلِيلاً على مسألةِ الكلامِ ، وأنَّ الكلامَ هوَ المعنَى دونَ اللَّفظِ ؟ فَالْعَرَبُ لا تَنْسِبُ للسَّاكتِ كَلاَمًا ولوْ كانَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ ، والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ)).

ولمَّا قالَ لهُ بعضُ الصَّحابةِ : إِنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ لأََنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ)).
(2) هذا الوصفُ مُشَاهَدٌ في مصاحفِ المسلمِينَ ، أنَّهُ مِائَةٌ وأربعَ عَشْرَةَ سُورَةً ، وأنَّ كلَّ سورةٍ فيها عِدَّةُ آياتٍ ، وَأَطْوَلُهَا سورةُ البقرةِ ؛ مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً ، وَأَقْصَرُهَا سُورَةُ الكَوْثَرِ ثلاثُ آياتٍ ، وسورةُ العصرِ ثلاثُ آياتٍ ، وسورةُ النَّصْرِ ثلاثُ آياتٍ ، ومنها ما هوَ فَوْقَ المِائَتَيْنِ كالأعرافِ والشُّعراءِ.
الحاصلُ أنَّهُ سورٌ وآياتٌ ، وأنَّ الصَّحابةَ جَزَّءُوهُ إلى ثلاثِينَ جُزْءًا ، يَعْنِي : قَسَّمُوهُ تَقَاسِيمَ مُتَقَارِبَةً ، وَجَعَلُوهُ ثَلاَثِينَ جُزْءًا ، وَجَعَلُوهُ أَحْزَابًا ؛ كُلُّ جُزْءٍ جَعَلُوهُ حِزْبَيْنِ ، وَمَعْرُوفٌ أيضًا أنَّ بعضَ العلماءِ اشْتَغَلُوا بِعَدِّ آياتِهِ ، فَذَكَرُوا أنَّ آياتِ القرآنِ أَكْثَرُ منْ سِتَّةِ آلافِ آيَةٍ ، وَاشْتَغَلَ بَعْضُهُم بِعَدِّ كَلِمَاتِهِ ، والكلمةُ هيَ القولُ المُفْرَدُ ، واشْتَغَلَ بَعْضُهُم بِعَدِّ حُرُوفِهِ ، أنَّ هذهِ السُّورةَ كذا وكذا حَرْفًا ، وهذهِ الآيَةَ كذا وكذا حَرْفًا ، وهذا دَلِيلٌ على أنَّهُ سُوَرٌ ، وَبِكُلِّ سورةٍ آياتٌ وأجزاءٌ وحروفٌ وكلماتٌ.
(لهُ أَوَّلٌ وآخِرٌ): بِمَعْنَى أنَّ الصَّحابةَ اتَّفَقُوا على أنَّ أوَّلَهُ سُورَةُ الفاتحةِ، وَسَمَّوْهَا فَاتحةَ الكتابِ، وهيَ السَّبعُ المَثانِي.
وكذلكَ كُلُّ سورةٍ جُعِلَ لها اسْمٌ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عليهِ.
كذلكَ أَيْضًا لهُ آخِرٌ ، فآخِرُهُ سُورَةُ النَّاسِ ، وَتَرْتِيبُهُ هذا الَّذي في المصاحفِ تَرْتِيبٌ من الصَّحابةِ ، والأكثرُ من العلماءِ قالَ: إنَّهُ تَوْقِيفٌ ، وإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَفَهُم على هذا التَّرتيبِ ، وقالَ: ((اجْعَلُوا هَذِهِ السُّورَةَ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ)) ، أوْ نحوَ ذلكَ.
ومِن العلماءِ مَنْ يقولُ: تَرْتِيبُ السُّوَرِ باجتهادٍ من الصَّحابةِ ، قَدَّمُوا السَّبعَ الطُّوَالَ ، ثمَّ أَتْبَعُوهَا الْمِئِينَ ، ثمَّ أَتْبَعُوهَا بالمَثَانِي ، ثمَّ أَتْبَعُوهَا بالحَوَامِيمِ ، ثمَّ خَتَمُوهَا بالمُفَصَّلِ ، وذلكَ اجْتِهَادٌ منهم.


وقالُوا: إنَّ مصاحفَ الصَّحابةِ اخْتَلَفَ فيها التَّرتيبُ ، ولكنْ قدْ عُرِفَ أنَّهُ كانَ يُقْرَأُ على زمنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَتَّبًا ، فَيَدُلُّ على أنَّهُ كانَ يُقْرَأُ كُلُّهُ ، وهذا لا يُنَافِي كونَهُ كلامَ اللهِ.
(3) هذا وصفٌ للقرآنِ (مَتْلُوٌّ بِالأَلْسُنِ) ؛ أيْ: نَقْرَأُهُ بِأَلْسِنَتِنَا ، ونَسْمَعُهُ بِآذَانِنَا ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204].
(مَكْتُوبٌ في المصاحفِ): أيْ: نَكْتُبُهُ بِأَيْدِينَا في المصاحفِ ، وَيُسَطَّرُ فيها أَسْطُرًا مُتَتَابِعَةً ، فهوَ بهذهِ الصِّفاتِ لا يَخْرُجُ عنْ كَوْنِهِ كَلاَمَ اللهِ ، إذا قَرَأَهُ القارئُ فإنَّهُ كلامُ اللهِ ، يُقَالُ: هذا يَتَكَلَّمُ بكلامِ اللهِ ، ولوْ كانَ بَعْضُهُ حِكَايَةً لِغَيْرِهِ ، فإذا قُلْنَا مَثَلاً: قولُهُ تَعَالَى:

{فَحَشَرَ فَنَادَى {23} فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النَّازعات: 23- 24]. قُلْنَا: هذا كلامُ اللهِ عنْ فرعونَ.
وإذا قَرَأْنَا قولَهُ: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]. قُلْنَا: هذا كلامُ اللهِ عنْ إِبْلِيسَ.
فالحاصلُ أنَّهُ إذا كُتِبَ لمْ يَخْرُجُ عنْ كَوْنِهِ كلامَ اللهِ ، وإذا قُرِئَ، وإذا نُسِخَ - بِمَعْنَى كُتِبَ وَنُقِلَ - منْ مُصْحَفٍ في مُصْحَفٍ ، فَكُلُّهُ كَلاَمُ اللهِ.
وقد اشْتَمَلَ القرآنُ على مُحْكَمٍ ومُتَشَابِهٍ في قولِهِ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].


وقدْ فُسِّرَ المُحْكَمُ بأنَّهُ: الَّذي لَيْسَ فيهِ نَسْخٌ ولا تَغْيِيرٌ ، وبأنَّهُ الَّذي يَفْهَمُهُ مَنْ يَسْمَعُهُ ؛ هذا هوَ المُحْكَمُ ، فآياتُ الأحكامِ مُحْكَمَةٌ ظاهرةُ الإحكامِ.
وأمَّا المُتَشَابِهُ: فهوَ الَّذي يَشْتَبِهُ على بعضِ النَّاسِ.


وقدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ الرِّسالةِ ذِكْرُ الَّذينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منهُ ، وهمْ أَهْلُ الزَّيْغِ ، وَذَكَرْنَا أَمْثِلَةً مِمَّا يَتَشَبَّثُونَ بهِ.
وفيهِ - أي: القرآنِ - (أَمْرٌ وَنَهْيٌ):
الأمرُ: مثلُ قولِهِ تَعَالَى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [البقرة: 21].


والنهيُ: مثلُ قولِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النِّساء: 36].


وفيهِ (نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ) ، يَعْنِي: آياتٌ مَنْسُوخٌ لَفْظُهَا ، أوْ مَنْسُوخٌ مَعْنَاهَا.
وكذلكَ أيضًا فِيهِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ ؛ المُطْلَقُ: الَّذي يَحْتَاجُ إلى تَقْيِيدٍ ، مثلُ قولِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النِّساء: 92].
يَعْنِي: فيهِ هذهِ الكلماتُ الَّتي يَشْتَمِلُ عليها ، وَكُلُّهُ لا يَخْرُجُ عنْ كونِهِ كَلاَمَ اللهِ ، وَصَفَهُ اللهُ بقولِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَت: 41 - 42].
العزيزُ: يَعْنِي الجليلُ ، عزيزٌ: يَعْنِي ذُو عِزَّةٍ ، وذُو قُوَّةٍ ، وذُو بَلاَغَةٍ ، وذُو أُسْلُوبٍ قَوِيٍّ.


{ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} ، معناهُ: لا يَتَطَرَّقُ إليهِ الخَطَأُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ، مِنْ أيَّةِ جهةٍ؛ لأنَّهُ كلامُ اللهِ، قالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.


وكذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ، لو اجْتَمَعَ أوَّلُهُم وآخِرُهُم على أنْ يُعَارِضُوهُ وَيَأْتُوا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ لَعَجَزُوا عنْ ذلكَ.
فَهَذا تَحَدٍّ من اللهِ وَإِخْبَارٌ بأنَّهم عَاجِزُونَ ، وقدْ وَقَعَ كما أَخْبَرَ ، فَدَلَّ ذلكَ على أنَّهُ كلامُ اللهِ.
(4) يُشِيرُ إلى أنَّ القرآنَ الَّذي هوَ كلامُ اللهِ ، هوَ هذا الموجودُ الَّذي في المصاحفِ ؛ فإنَّهُ كلامٌ عَرَبِيٌّ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَت: 44] ، كيفَ يُرْسَلُ إلى قومٍ عَرَبٍ ويكونُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا؟! وقالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحل: 103]، وَصَفَهُ بأنَّهُ لسانٌ عَرَبِيٌّ.
ثمَّ حَكَى اللهُ عن المشركينَ الَّذينَ عَارَضُوا هذهِ الحكاياتِ ، فَحَكَى عنهم قَوْلَهُم: إنَّهُ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ، لَمَّا سَمِعُوا فيهِ هذهِ القصصَ قالُوا: إنَّهُ أَكَاذِيبُ الأَوَّلِينَ ، قالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] ، كيفَ تُمْلَى عليهِ وهُوَ أُمِّيٌّ لا يَكْتُبُ ولا يَقْرَأُ؟! يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
كذلكَ حَكَى اللهُ عنهم أنَّهم قَالُوا: إنَّهُ شِعْرٌ، إنَّهُ كَهَانَةٌ ، والشِّعرُ معروفٌ أنَّهُ لهُ أَوْزَانٌ ، ولهُ قَوَافٍ ، والقرآنُ ليسَ كذلكَ ، ومعلومٌ أنَّ الكَهَنَةَ يَسْتَعْمِلُونَ في كَلِمَاتِهِم سَجَعَاتٍ مُتَتَالِيَةً ، وليسَ كذلكَ القرآنُ ؛ ولهذا رَدَّ اللهُ عليهم بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقَّة: 41 - 42].
وَلَمَّا أَوْرَدُوا هذهِ الإِيرَادَاتِ على بعضِ كُفَّارِ قريشٍ ، وهُوَ الوليدُ بنُ المُغِيرَةِ ، لمْ يَقْنَعْ بها، فَقَالُوا: فماذا نقولُ؟ قالَ: نقولُ إنَّهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، يَعْنِي: يُنْقَلُ مِمَّنْ قَبْلَهُ ؛ فقالَ اللهُ تَعَالَى حَاكِيًا عنهُ: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المُدَّثِر: 24 - 26].
كيفَ يَكُونُ سِحْرًا يُؤْثَرُ؟! مِنْ أينَ أُثِرَ، ومِنْ أينَ جَاءَ؟!
فَتَبَيَّنَ أنَّ هذا دليلٌ على أنَّهُم يُشِيرُونَ إلى القرآنِ الَّذي يُتْلَى عليهم ؛ لأنَّهُ لوْ كانَ مَعْنَوِيًّا لمْ يُوصَفْ بأنَّهُ شِعْرٌ ، ولا أنَّهُ سِحْرٌ ، ولا أنَّهُ كَهَانَةٌ ، ولا أنَّهُ أساطيرُ الأَوَّلِينَ ، ولا أنَّهُ افْتَرَاهُ ، كما في قولِهِم: (افْتَرَاهُ) ، يَعْنِي: كَذَبَهُ وَاخْتَلَقَهُ ، فَدَلَّ على أنَّهم يُشِيرُونَ إلى هذا القرآنِ.
(5) يُشِيرُ إلى أنَّ المِثْلَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا مَشْهُورًا مُشَاهَدًا ، فقولُهُ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ، في سورةِ البقرةِ.
وفي سورةِ يُونُسَ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونُس: 38].


لَوْ كانَ المرادُ المَعْنَى الَّذي تَزْعُمُ الأشاعرةُ أنَّهُ (مَعْنًى) ، لم يُعْرَف المِثْلُ ؛ لأنَّهُم يقولونَ: إنَّ القرآنَ إنَّما هوَ (المَعْنَى) ، وأمَّا اللَّفظُ فهوَ تَعْبِيرٌ منْ مُحَمَّدٍ أوْ تعبيرٌ منْ جبريلَ ، وهذا خَطَأٌ ، وإلاَّ لِمَ قالَ اللهُ تَعَالَى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} ؟
(6) هذا دليلٌ على أنَّهُ هوَ هذا القرآنُ ؛ فإنَّ قولَهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونُس: 15]، إشارةٌ إلى هذا الَّذي يَسْمَعُونَهُ.
قالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، أَخْبَرَ بأنَّهم يُشِيرُونَ إلى شيءٍ ، {بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15].
فَدَلَّ على أنَّ هذا هوَ الَّذي سَمِعُوهُ، وهُوَ الَّذي قَرَأَهُ عَلَيْهِم.
وكذلكَ آيَةُ سورةِ العنكبوتِ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، يَعْنِي: محفوظٌ في الصُّدورِ ، في صُدُورِ الَّذينَ أُوتُوا العلمَ.
فَدَلَّ على أنَّهم يَسْمَعُونَ ويَفْهَمُونَ هذهِ الآياتِ الَّتي اشْتَمَلَتْ عليها هذهِ السُّورُ ، فَدَلَّ على أنَّهُ كلامٌ مسموعٌ لهُ أوَّلٌ وآخِرٌ ، وأنَّهُ كلماتٌ وحروفٌ.
وكذلكَ لَمَّا أَقْسَمَ اللهُ بقولِهِ تَعَالَى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 75 - 78]؛ يَعْنِي: مَكْتُوبٌ أَصْلُهُ في اللَّوْحِ المحفوظِ. {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 79 - 80].
هذهِ الصِّفاتُ صِفَاتُ القرآنِ: قُرْآنٌ كريمٌ ، في كتابٍ مَكْنُونٍ ، تَنْزِيلٌ مِنْ ربِّ العالمِينَ ، لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ ، لا شَكَّ أنَّ هذهِ كلَّها صِفَةٌ للقرآنِ الَّذي بَيْنَ أَيْدِينَا ، فكيفَ تَكُونُ للمعنَى؟! لاَ شَكَّ أنَّهُ أَرَادَ هذا الكلامَ المحفوظَ المسموعَ.


وأمَّا قولُهُ: (افْتَتَحَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سُورَةً بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ): يَعْنِي مِثْلَ {الم} [البقرة: 1]، وفي آلِ عِمْرَانَ ، والعنكبوتِ ، والسُّورِ الَّتي بَعْدَهَا. وكذلكَ {الر} في يونسَ والسُّورِ الَّتي بعدَهَا، وَ{المص} [الأعراف: 1]، وكذلكَ في السُّورِ المُتَفَرِّقَةِ، مثلِ {طه} [طه: 1]، {كهيعص} [مريم: 1].
وَمَجْمُوعُهَا تِسْعٌ وعشرونَ سورةً افْتَتَحَهَا بالحروفِ المُقَطَّعَةِ.
هذهِ الحروفُ لا شَكَّ أنَّها حُرُوفٌ؛ لأِنَّها تُنْطَقُ بنفسِ الكلمةِ ، يَعْنِي: هوَ يُكْتَبُ حَرْفًا ، ولكنَّهُ يُنْطَقُ بِكَلِمَةٍ ، فإنَّ قَوْلَكَ مثلاً: (ك) ، لا يُكْتَبُ فيهِ (أَلِفٌ) وَ(فَاءٌ) ، بلْ يُكْتَبُ: (ك). وكذلكَ (ع) ، ما يُكْتَبُ الياءُ والنونُ ، إنَّمَا تُكْتَبُ (ع) ، فهكذا رُوِيَتْ وَنَطَقَ بها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(7) هذهِ الأدِلَّةُ أدلَّةٌ واضحةٌ على أنَّ القرآنَ فيهِ كلماتٌ وحروفٌ وآياتٌ، ونحْوُهَا.
وقدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ))، أَخْبَرَ بأنَّهُ يُثَابُ على هذهِ الحروفِ، فَدَلَّ على أنَّ القرآنَ هوَ هذهِ الحروفُ.
وكذلكَ: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ)) ، ((مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَلَحَنَ فِيهِ)) ، ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ)).
ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا)).
وَيَحُثُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ بقولِهِ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)).
ويُخْبِرُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ فَضْلِ منْ يَحْمِلُهُ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ؛ طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ)) ؛ يَعْنِي: أنَّهُ يَقْرَأُ القرآنَ، وأنَّ القرآنَ قَد امْتَلأََ بهِ قَلْبُهُ وَضَمِيرُهُ.
وكذلكَ ذَكَرَ كلامَ الصَّحابةِ في تفضيلِ إعرابِ القرآنِ ؛ يَعْنِي تَجْوِيدِهِ ، وَتَحْقِيقِ كَلِمَاتِهِ على كثرةِ التِّلاوةِ ، كلُّ ذلكَ دليلٌ على أنَّهُم فَهِمُوا أنَّ القرآنَ هوَ هذا المكتوبُ في المصاحفِ الَّذي هوَ كلماتٌ وحروفٌ.
وكذلكَ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ ، وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الأُمَّةِ ، على أنَّهُ يَجُوزُ أنْ تُعَدَّ كَلِمَاتُهُ ، وأنْ تُعَدَّ حُرُوفُهُ ، وأنْ تُعَدَّ آيَاتُهُ ، وفي ذلكَ دليلٌ على أنَّ كلامَ اللهِ هوَ هذا القرآنُ الَّذي فيهِ حروفٌ.


فالإمامُ المُوَفَّقُ رَحِمَهُ اللهُ في ذلكَ يُشِيرُ إلى أنَّ قولَ المُعْتَزِلَةِ أنَّهُ مخلوقٌ قولٌ باطلٌ.
وكذلكَ قولُ الأشاعرةِ: إنَّ اللهَ لا يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وصَوْتٍ ، قولٌ باطلٌ ؛ فإنَّهم يُرِيدُونَ بذلكَ إبطالَ كونِ القرآنِ كلامَ اللهِ ؛ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ ، فإنَّ كلامَ اللهِ هوَ القرآنُ ؛ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، ليسَ كلامُ اللهِ الحروفَ دونَ المعانِي ، ولا المعانيَ دونَ الحروفِ.


ولمَّا اشْتُهِرَ عنْ شيخِ الإسلامِ رَحِمَهُ اللهُ أنَّهُ يُثْبِتُ أنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بكلامٍ مسموعٍ ، أَنْكَرَ عليهِ الأشاعرةُ ، وَلَمَّا أَحْضَرُوهُ في مصرَ لِمُجَادَلَتِهِ انْتَصَبَ لهُ أحدُ علماءِ الشافعيَّةِ ، ووَقَفَ خَصْمًا لهُ؛ إذْ رئيسُ القُضَاةِ في ذلكَ الوقتِ من الحنفيَّةِ، فقالَ لهُ: ادُّعِيَ على هذا الفقيهِ أنَّهُ يقولُ: إنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وصَوْتٍ، هكذا نَقَمُوا عليهِ قولَهُ: (إنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وصوتٍ)، كأنَّ هذهِ كبيرةٌ عندَهُم ، وكأنَّ هذا أكبرُ الذُّنوبِ ، وأكبرُ الكبائرِ ، وأنَّهُ كُفْرٌ.
فلمْ يَكُنْ منْ شيخِ الإسلامِ إلاَّ أنَّهُ ذَكَرَ لهم الأدلَّةَ ، وَطَلَبَ منهم أنْ يُفَسِّرُوهَا، فَعَجَزُوا عنْ ذلكَ.
فَلِبَيَانِ بُطْلاَنِ قولِ الأشاعرةِ اجْتَهَدَ الشَّيخُ في هذا البابِ في أنْ يُورِدَ كثرةَ الأدلَّةِ الَّتي تُثْبِتُ أنَّ كلامَ اللهِ هوَ هذا القرآنُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ.


  #4  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:38 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ صالح آل الشيخ

القارئ:

(ومِنْ كَلاَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ القُرْآنُ العَظِيمُ ، وَهُوَ كِتَابُ اللهِ المُبينُ ، وَحَبْلُهُ المَتِينُ ، وَصِرَاطُهُ المُسْتقيمُ ، وَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ المُرْسَلينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ ، مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخْلُوقٍ ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
وَهُوَ سُوَرٌ مُحْكَمَاتٌ ، وَآيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ، وَحُرُوفٌ وَكَلِمَاتٌ ، مَنْ قَرأَهُ فَأَعْرَبَهُ ، فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، لَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ ، وَأَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ ، مَتْلُوٌّ بِالأَلْسِنَةِ ، مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مَسْمُوعٌ بِالآذَانِ ، مَكْتُوبٌ فِي المَصَاحِفِ ، فِيهِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ ، وَنَاسِخٌ ومَنْسُوخٌ ، وخَاصٌّ وَعَامٌّ ، وَأمْرٌ وَنَهْيٌ {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
وَقَوْله تَعَالَى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88].
وَهَذَا وهُوَ هذا الكِتَابُ العَرَبِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ الَّذِينَ كَفَرُوا: {لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ: 31].
وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

{إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 2] فَقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26].
وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

هُوَ شِعْرٌ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} [يس: 69].
فَلَمَّا نَفَى اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ شِعْرٌ وأَثْبَتَهُ قُرْآناً لَم تَبْقَ شُبْهَةٌ لِذِي لُبٍّ في أَنَّ القُرْآنَ هُوَ هَذَا الكِتابُ العَرَبيُّ الَّذِي هُوَ كَلِمَاتٌ وَحُرُوفٌ وَآيَاتٌ ، لأَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ لاَ يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّهُ شِعْرٌ.
وَقَالَ الله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْناَ عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِالإتْيانِ بِمِثْلِ مَا لاَ يُدْرَى مَا هُوَ وَلاَ يُعْقَلُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى علَيْهِم آيَاتُنا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَو بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَائِ نَفْسِي} [يونس: 15] ، فأَثْبَتَ أَنَّ القُرْآنَ هُوَ الآياتُ الَّتِي تُتْلَى عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الله تَعَالَى: {بَل هُوَ آيَاتٌ بَيـِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} [العنكبوت: 49].
وَقَالَ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79] بَعْدَ أَنْ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الله تَعَالَى: {كَهيعص} [مريم: 1] و{حـَم (1) عـسـق} [الشورى: 1] وَافْتَتَحَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سُورَةً بِالحُروفِ المُقَطَّعةِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَناتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرفٍ حَسَنَةٌ)) ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((اقْرَؤُوا القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إقَامَةَ السَّهمِ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَتَعَجَّلُونَ أَجْرَهُ وَلاَ يَتأَجَّلُونَهُ)).
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (إِعْرَابُ القُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ).
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ).
وَاتَّفَقَ المسْلِمُونَ عَلَى عَدِّ سُوَرِ القُرْآنِ وَآياتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ المُسْلِمينَ في أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنَ القُرْآنِ سُورَةً، أَوْ آيَةً، أَوْ كَلِمَةً، أَوْ حَرْفاً مُتَّفَقاً عَلَيْهِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَفي هَذَا حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ حُرُوفٌ).
الشيخ:

الكلامُ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ أخصُّ من الكلامِ على صفةِ الكلامِ ، فإنَّ كلامِ اللهِ -جلَّ وعلا- وأنَّهُ قديمٌ عند بعضِ الطَّوائفِ هذا أعمُّ من أن يُقالَ: إنَّ القرآنَ النَّازلَ هذا هو كلامُ اللهِ جلّ وعلا.
ولهذا فإنَّنَا نقولُ: إنَّ أهلَ السّنَّةِ والجماعةِ اعتنوا بإثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ -جلّ وعلا- في كلامهم على أن القرآن كلام الله جلَّ وعلا ، إذْ إذا ثبت هذا الأخصُّ الَّذي نُوزِعَ فيه ، فإنَّ إثباتَ صفةِ الكلامِ وأنَّ كلامَهُ -جلّ وعلا- بحروفٍ وأصواتٍ ، وأنَّهُ كلماتٌ وحروفٌ وجملٌ، فإنَّ هذا يثبتُ بظهورٍ، فإذا أَُثبتَ الأخصُّ أُثبتَ الأعمُّ في هذا البابِ؛ من بابِ الأوضحِ والأظهرِ.


فكلامُ اللهِ -جلَّ وعلا- الَّذي ألقاه إلى جبريلَ؛ فسمعه جبريلُ منه، وأمرَهُ بتبليغِهِ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وسمَّى ذلك الكلامَ قرآناً، فنزلَ به جبريلُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، هذا هو القرآنُ.
فالقرآنُ كلامُ اللهِ، والقرآنُ بعضُ كلامِ اللهِ جلّ وعلا، فكلامُ اللهِ -جلَّ وعلا- منه ما هو قرآنٌ، ومنه ما ليسَ بقرآنٍ، فاللَّهُ -جلَّ وعلا- من كلامِهِ الكلماتُ الكونيَّةُ الَّتي قال اللهُ -جلّ وعلا- فيها: {قلْ لو كانَ البحرُ مداداً لكلماتِ ربِّي لنفِدَ البحرُ قبلَ أن تنفَدَ كلماتُ ربِّي ولو جئنا بمثلِهِ مدداً}.
ومعنى الكلماتِ هنا: الكلماتُ الكونيَّةُ.


والقرآنُ كلامُ اللهِ -جلّ وعلا- الَّذي ألقاه إلى جبريلَ، فبلَّغَهُ جبريلُ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كما سمعَ.
فإذاً: القرآنُ كلماتُهُ، وآياتُهُ، وحروفُهُ، وسوَرُهُ، هو مسموعٌ لجبريلَ من تكلُّمِ اللهِ -جلّ وعلا- به بحرفٍ وصوتٍ، فهو حروفٌ؛ كما قالَ جلَّ وعلا: {الم}، {حم (1) عسق} إلى آخرِ الآياتِ الَّتي فيها الأحرفُ المقطَّعَةُ.


وهذا يدلُّ علىأنَّ جبريلَ سمعَهُ على هذا النَّحوِ، سمعه حروفاً، وإذا كان سمعه حروفاً فثبَتَ أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- تكلَّمَ بحروفٍ، إذ جبريلُ عليه السَّلامُ يقالُ:


-إمَّا أن يكونَ سمع كلاماً عامّاً ففصَّلَه بحروفٍ، وهذا فيه نفيٌ لصفةِ الكلامِ على النَّحوِ الَّذي أسلفْنَا إثباتَه.


-وأمَّا أن يُقالَ إنَّ جبريلَ -عليه السَّلامُ- سمعه هكذا على هذا النَّحوِ بالحروفِ، فيثبتُ ما يُرادُ إثباتُهُ من أنَّ الله -جلَّ وعلا- يَتكلَّمُ بكلامٍ هو جملٌ، وكلماتٌ، وحروفٌ، ويُسمعُ منه بصوتٍ.


فإذاً: القرآنُ العظيمُ له مراتبُ:
المرتبةُ الأولى: مرتبةُ الكتابةِ ، وهذا ظاهرٌ في قولِهِ -جلّ وعلا-: {إنَّهُ لقرآنٌ كريمٌ (77) في كتابٍ مكنونٍ} فاللهُ -جلّ وعلا- قبل أن يتكلَّمَ بهذا القرآنِ في الأزلِ -يعني حين خلقَ اللوحَ المحفوظَ- وأودعَهُ ما سيكونُ ، جعلَ فيه القرآنَ مكتوباً، وهذه مرتبةُ الكتابةِ قبلَ مرتبةِ التّكلُّمِ به، فهو -جلَّ وعلا- جعله مكتوباً في اللوحِ المحفوظِ، وذلك لسعةِ علمِهِ جلَّ وعلا، فهو يعلمُ ما سيوحيه إلى عبده محمَّدٍ عليه الصلاةُ والسَّلامُ، فحفظه مكتوباً في اللوحِ المحفوظِ.


ثمَّ بعدَ أن بعثَ نبيَّهُ -عليه الصلاةُ والسَّلامُ- جَعلَ القرآنَ جميعاً في مرحلةِ الكتابةِ، أو في رتبةِ الكتابةِ، جعله -جلَّ وعلا- في بيتِ العزَّةِ في سَماءِ الدُّنيا؛ كما رُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنه: (أنَّ اللهَ أنزلَ القرآنَ وجعلَهُ في بيتِ العزَّةِ في السَّماءِ الدُّنيا).
قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (ثمَّ أُنزلَ منجَّماً على ثلاثٍ وعشرين سنةً).
والمرتبةُ الثَّالثةُ: مرتبةُ الكلامِ والتَّكلُّمِ به، وهذه هي الَّتي يُخصُّ بها وصفُ القرآنِ ؛ لأنَّ اللهَ -جلّ وعلا- تكلَّمَ بهذا القرآنِ، وسمعَهُ منه جبريلُ، فَبلَّغه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتكلُّمُ اللهِ -جلّ وعلا- بهذا القرآنِ، إنَّمَا كان بعدَ بعْثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال جلَّ وعلا: {قد سمعَ اللهُ قولَ الَّتِي تجادِلُكَ في زوجِهَا} فتكلُّم اللهِ -جلَّ وعلا- بقولِهِ: {قد سمعَ اللهُ قولَ الَّتي تجادِلُكَ في زوجِهَا} إنَّما كانَ بعد أن كانتِ المجادلةُ، وبعدَ أن حصلَ من المرأةِ وزوجِهَا ما حصَلَ.
فقولُهُ جلَّ وعلا: {قَدْ سَمِعَ} هذا حادثٌ، بمعنى جديدٍ ليس بقديمٍ، وهذا كما وصفَ اللهُ -جلَّ وعلا- كتابَهُ بقولِهِ: {ما يأتيهِمْ من ذكرٍ من ربِّهِمْ محدَثٍ}.
(محدَثٍ): أي: محدَثٌ تنزيلُهُ، محدَثٌ التَّكلُّمِ به، فليس تكلُّمُ اللهِ -جلّ وعلا- بالقرآنِ قديماً كما يزعُمُه أهلُ البدعِ، لا، بل إنَّمَا تكلُّمُ اللهِ -جلَّ وعلا- به بمشيئتِهِ -جلّ وعلا- وإرادتِهِ، واختيارِهِ، حسبَ ما يوافقُ حكمتَهُ جلّ وعلا، فيسمعُهُ جبريلُ؛ فيبلِّغه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
فهذا فيه نفيُ أقوالٍ:
الأوَّلِ: أنَّه معنىً نفسيٌّ.


الثَّاني: أنَّه مخلوقٌ منفصل كما تزعمُهُ المعتزلةُ، وحصل في ذلك الافتتانُ العظيمُ للإمامِ أحمدَ ولأهلِ السّنَّةِ في فتنةِ خلقِ القرآنِ.


والثَّالثِ: من يزعمُ أنَّ جبريلَ أخذَ القرآنَ في مرتبةِ الكتابةِ من اللوحِ المحفوظِ وأنزلَهُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما زعمه السيوطي -وجمع أيضاً ممن قبله- في كتابه (الإتقان) حيث زعم أن جبريل - عليه السلام - أخذ القرآن في مرتبة الكتابة؛ أخذَهُ مِن اللوح المحفوظ فأنزله على النبي صلى الله عليه وسلم، يريدون بذلك نفي أن يكون الله -جلَّ وعلا- تكلَّم بالقرآن، أو أنَّ جبريل سمع منه هذه الآيات وهذه الأحرف.


إذاً: فالأدلَّةُ الَّتي أقامَهَا المؤلِّفُ -رحمَهُ اللهُ تعالى- ظاهرةٌ في أنَّ القرآنَ آياتٌ، وحروفٌ، وكلماتٌ، وسورٌ، واللهُ -جلَّ وعلا- تكلَّمَ به على هذا النَّحوِ، والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: {قلْ ما يكونُ لي أن أبدِّلَهُ من تلقاءِ نفسِي إنْ أتَّبعُ إلا ما يُوْحى إليَّ}.
وهذا يدلُّ على أنَّهُ - عليه الصلاةُ والسَّلام - إنَّما هو مبلِّغٌ ، ولهذا قالَ جلَّ وعلا: {إنَّهُ لقولُ رسولٍ كريمٍ} في آيتين في سورةِ التَّكويرِ، وفي سورةِ الحاقَّةِ، وهذا ليسَ معنى أَنَّهُ كلامُ الرسولِ، فإِنَّهُ في سورةِ الحاقةِ يُعنى به من؟ وفي سورةِ التكويرِ يُعنى به منْ؟


قالَ جلَّ وعلا: {إنَّهُ لقولُ رسولٍ كريمٍ (19) ذي قوَّةٍ عند ذي العرشِ مكينٌ} وكذلك في سورةِ الحاقَّةِ {إنَّهُ لقولُ رسولٍ كريمٍ (40) وما هو بقولِ شاعرٍ}.
ففي سورةِ الحاقَّةِ: الرَّسولُ الَّذي نُسِبَ إليه القولُ - يعني: القرآن - هو نبيُّنَا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.


وفي سورةِ التَّكويرِ: الرَّسولُ الكريمُ الَّذي نُسِبَ إليه هذا القرآنُ هو جبريلُ عليه السَّلامُ، فقال: {إنَّهُ لقولُ رسولٍ كريمٍ} يعني: جبريلَ عليه السَّلامُ، فهو قولُهُ، لكنَّ الكلامَ كلامُ الباري جلّ وعلا، والقائلُ له مبلّغاً عمَّن تكلَّمَ به إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ هو جبريل.


فإذاً: نسبَةُ القرآنِ إلى جبريلَ وأنه قولَهُ هذه نسبةُ تبليغٍ، فإنَّكَ إذا سمعْتَ منِّي كلاماً أنقلُهُ عن أحدِ أهلِ العلمِ فإنَّهُ يكونُ القولُ قولي، ولكنّ الكلامَ كلامُ من أنقلُ كلامهُ، ففرقٌ بينَ القولِ وبين الكلامِ، وهذا لم يتفطَّنْ له كثيرٌ ممَّنْ زعم أنَّ في هاتين الآيتين نسبةَ القرآنِ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أو إلى جبريلَ، يعني: أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- لم يتكلَّمْ به، وأنَّهُ ليس هو قولَ اللهِ جلّ وعلا.


وكذلك النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- هو الَّذي بلّغَ القرآنَ ، فالقرآنُ لمَّا تكلَّمَ به النَّبيُّ -عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ- صار قولاً له ، لكنَّهُ هوَ يبلِّغُهُ عن اللهِ جلّ وعلا، فهو يبلّغ كلاماً، وهذا الكلامُ هو كلامُ اللهِ جلّ وعلا، وهذا به يظهرُ بعضُ ما يتعلَّقُ بالكلامِ عن مسألةِ كلامِ اللهِ جلّ وعلا، وهي من أوائلِ المسائلِ الَّتي اختُلِفَ فيها في صفاتِ اللهِ جلَّ وعلا، ولذلك سَمَّى بعضُ النَّاسِ ما يتعلَّقُ بالكلامِ على العقيدةِ؛ سمَّاهُ (علمَ الكلامِ) لأنَّهُ من أوائلِ المسائلِ الحادثةِ الَّتي تكلَّمَ النَّاسُ فيها واختلفوا فيها.


فتلخَّصَ من ذلك:

أنَّ معتقدَ أهلِ السّنَّةِ والجماعةِ أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- يتكلَّمُ ، وأنَّ كلامَهُ قديمُ النَّوعِ حادثُ الآحادِ، وأنَّه -جلّ وعلا- يتكلَّمُ بصوتٍ يُسمَعُ، وأنَّ كلامَهُ حروفٌ سمعها منه موسى عليه السَّلامُ، ويسمعُهَا منه جبريلُ -عليه السَّلامُ- والملائكةُ، ويسمعُ منه النَّاسُ يومَ القيامةِ.
وأنَّ كلامَهُ -جلَّ وعلا- ليس ككلامِ غيرِهِ، بل ينفذُ في الخلائقِ يومَ القيامةِ، يسمعُهُ من بَعُد كما يسمعُه من قرُبَ، وأنَّ كلامَهُ لا يأتي من جهةٍ؛ وإنَّما هوَ يأتي من أمامٍ، ومن خلفٍ، وعن يمينٍ، وعن شمالٍ، بدونِ أن يكونَ من جهةٍ واحدةٍ، وهذا من عظيمِ اتِّصافِ اللهِ -جلَّ وعلا- بهذا الوصفِ.


وأنَّ القرآنَ هو كلامُ اللهِ، منزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، إذا حُفِظَ في الصُّدورِ فهو كلامُ اللهِ، وإذا كُتِبَ في الأوراقِ فهو كلامُ اللهِ، وإذا تُليَ على الألسنةِ فهو كلامُ اللهِ جلَّ وعلا، فإذا تُلِيَ نقولُ: الكلام كلامُ الباري، والصَّوتُ صوتُ القارئ، فهذه مراتبُ مختلفةٌ، وكلُّها لا تخرُجُ عن كونِ هذا المُتكلَّم به، أو المكتوبِ، أو المحفوظِ، أنَّهُ جميعاً كلامُ اللهِ -جلَّ وعلا- وتعالى، وتقدَّسَ، وتعظَّمَ.


  #5  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:39 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ:صالح الفوزان .حفظه الله (مفرغ)

المتن:
(فصل: ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم).


الشرح:
لما ذكر المؤلف رحمه الله ,أن من صفات الله جل وعلا الكلام , وهو صفة فعلية يتكلم سبحانه وتعالى متى شاء,وبما شاء ,بكلام يسمع ,سمعه جبريل وبلغه للنبي صلى الله عليه وسلم ,وسمعه موسى عليه الصلاة والسلام بدون واسطة ,وقد ذكر المؤلف رحمه الله هذا مبسوطاً ,وذكر الآيات الدالة على ذلك من كتاب الله سبحانه وتعالى.
فهو يتكلم جل وعلا بكلام حقيقي ,يسمع , وبحرف وصوت ,يسمع ويتلى ويقرأ ويكتب , ويتكلم إذا شاء سبحانه وتعالى ,وكلامه قديم النوع حادث الآحاد ,فلا يجوز إطلاق القول بأن كلام الله قديم ,بل يقال: كلام الله قديم النوع ,ولكنه حادث الآحاد ,بمعنى أنه يتعلق بالمشيئة ,فهو يتكلم إذا شاء سبحانه وتعالى ,وبما شاء ,ومن ذلك القرآن , فهو من أفراد كلام الله جل وعلا ,وإلا كلام الله جل وعلا لا يحصيه إلا هو , يخلق ويرزق ويدبر بالكلام: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }.
فلا يحصي كلامه إلا هو سبحانه وتعالى: { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } , { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم }.
فهو جل وعلا يتكلم بما يشاء,يخلق ويزرق ,ويحيي ويميت , ويدبر بلا بداية ولا نهاية ,سبحانه وتعالى ,ولا يعلم ويحصي كلامه جل وعلا إلا هو.
ومن كلامه العظيم القرآن ,الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ,كما قال الله سبحانه وتعالى: { نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين } .
{ نزل به الروح } ,جبريل عليه السلام هو الروح .
{ الأمين } ,وصفه بالأمانة في أنه عليه الصلاة والسلام أمين على وحي الله لا يزيد فيه ولا ينقص ,بل يبلغه كما أمره الله جل وعلا ,وصفه الله بالأمانة , وهذا توثيق لسند القرآن ,أنه من رواية جبريل الأمين عن ربه سبحانه وتعالى ,بلغه لمحمد صلى الله عليه وسلم ,وبلغه محمد لأمته ,وروته أمته عنه كما في الآية الأخرى: { إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين، ولو تقول علينا } يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين } يعني: بالقوة ,وأهلكناه ,{ ثم لقطعنا منه الوتين } وهو عرق الحياة، لانتقم الله جل وعلا منه أشد الانتقام ,لو تقوَّل على الله جل وعلا , فهو عليه الصلاة والسلام أمين ,{ إنه لقول رسول كريم، ذي قوة } يعني: جبريل عليه السلام ,{ عند ذي العرش مكين، مطاع ثم } في الملأ الأعلى , تطيعه الملائكة , { أمين } وصف له بالأمانة.
ثم قال: { وما صاحبكم } يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم , { وما صاحبكم بمجنون } كما تقولون ,بل هو أعقل البشر ,وأكمل البشر ,عليه الصلاة والسلام.
فهذا توثيق لسند القرآن ,أنه من رواية محمد صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله سبحانه وتعالى: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }.
فهو كلام الله ,منه بدأ , أي: تكلم الله به سبحانه ,فهو بدأ منه ,لا من اللوح المحفوظ ,كما تقوله الجهمية ,بل من الله جل وعلا ,منه بدأ ,وإليه يعود في آخر الزمان ,حينُ يهجر العمل بالقرآن يرفع من المصاحف ,ومن صدور الرجال ,فلا يوجد منه شيء في الأرض ,وذلك إذا عُطل العمل به في آخر الزمان عند قيام الساعة ,فهو كلام الله جل وعلا ,لا كلام غيره , حروفه ومعانيه.


المتن:
(ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم ,وهو كتاب الله المبين).


الشرح:
هو كتاب الله ,وهو كلام الله ,وهو القرآن , أسماء كثيرة له ,فهو كتاب الله؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ,ومكتوب في المصاحف ,وهو كلام الله ؛لأن الله تكلم به جل وعلا ,لا كلام غيره ,وهو القرآن ,وهو الفرقان ,وهو,الذكر الحكيم ,وهو الهدى والبيان إلى آخر أسماء القرآن العظيم ,مما يدل على عظمته؛لأن الشيء إذا كثرت أسماؤه وصفاته دل على عظمته.


المتن:
(وهو كتاب الله المبين).


الشرح:
المبين , كتاب الله المبين , الذي بين فيه سبحانه وتعالى ما يحتاجه العباد ,فهو مبين ,بمعنى بين واضح فصيح ,وهو مبين, بمعنى مبين لما يحتاجه الناس من أمور دينهم ودنياهم , فهو كتاب عظيم ,شامل جامع ,لا تفنى عجائبه ,ولا تنفد علومه.


المتن:
(وهو حبله المتين).


الشرح:
" وهو حبله المتين "، الحبل معروف ,وهو ما يتعلق به للنجاة والسلامة من الخطر ,فالقرآن حبل الله ،قال الله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ,حبل الله هو القرآن ,أو هو الإسلام , وفي الحديث: (هو حبل الله المتين ,الذي طرفه بيد الله ,وطرفه بأيدينا) بمعنى: من سار على نهجه وصل إلى الله جل وعلا ونجا.


المتن:
(وحبله المتين ,وصراطه المستقيم).


الشرح:
وهو الصراط المستقيم ,قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } ,وقوله تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيماً } ,فالصراط هو الطريق في اللغة .
والمراد به هنا قيل: القرآن ,وقيل: الرسول ,وقيل: الإسلام ,والكل حق ؛فالقرآن صراط الله ,والإسلام صراط الله ,والرسول صلى الله عليه وسلم صراط الله ,أي: الطريق الموصل إليه سبحانه وتعالى.


المتن:
(وتنزيل رب العالمين).


الشرح:
" تنزيل رب العالمين " ,قال جل وعلا: { وإنه } أي: القرآن ,{ لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين } ,هذه أوصاف القرآن، { تنزيل رب العالمين } نزل من عند الله { تنزيل من حكيم حميد } ,{ تنزيل الكتاب من الله } فهو منزل من الله ,غير مخلوق ,كما تقول الجهمية ,قبحهم الله ,منزل من الله ,تكلم الله به ,وأنزله على رسوله بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام.


المتن:
(نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان).


الشرح:
{ على قلبك } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ,{ لتكون من المنذرين } لتنذر الناس بهذا القرآن العظيم ,القرآن حجة الله جل وعلا على عباده ,{ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } فهو حجة الله على عباده ,فمن بلغه القرآن قامت عليه الحجة ,ولا عذر له.


المتن:
(بلسان عربي مبين).

الشرح:
بلغة العرب ,التي هي أفصح اللغات ,بل بلغة قريش التي هي أفصح لغات العرب ,فهو فصيح، فلا أفصح من القرآن العظيم في ألفاظه وكلماته ومعانيه.


المتن:
(منزل غير مخلوق).

الشرح:
منزل من الله جل وعلا ,من الله ,لا من اللوح المحفوظ ,بل من الله جل وعلا؛لأن الله ذكر هذا في آيات كثيرة: { تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } ,{ تنزيل من حكيم حميد } ,{ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم }.
منه بدأ وإليه يعود في آخر الزمان كما سمعت.


المتن:
(وهو سور محكمات).

الشرح:
القرآن سور وآيات ,وكلمات وحروف , والسور جمع سورة ,وهي القطعة من القرآن المبتدأة ببسم الله الرحمن الرحيم ,وبسم الله نزلت للفصل بين كل سورتين ,ما عدا براءة والأنفال ,أول هذه السور فاتحة الكتاب ,وهي الفاتحة: { الحمد لله رب العالمين } ,وآخرها سورة الناس ,وهو مائة وأربع عشرة سورة ,منها الطويل ,ومنها المتوسط ,ومنها القصير ,هذه هي السور ,والسورة في الأصل الشيء المحمي الرفيع كما يقول النابغة في مدح النعمان بن المنذر:

ألم تر أن الله أعطاك سورة ***** ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذب

والسورة المنزلة الرفيعة ,ومنه سميت سور القرآن؛لرفعتها ولأنها منيعة , لا أحد يرومها بزيادة أو نقص أو تحريف ,فالقرآن محفوظ كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ,لم يبدل ,ولم يغير منه شيء؛لأن الله تكفل بحفظه ,قال جل وعلا: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ,فلا أحد -على كثرة الأعداء والحاقدين-تجرأ على أن يغير في كلام الله أو يزيد أو ينقص ,هذا من آيات الله سبحانه وتعالى ,حفظ الله كتابه من العبث ,وسيحفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ,لا يتطاول عليه أحد ,مع كثرة خصومه وكثرة أعدائه ,ولو حاول أحد شيئاً من ذلك لفضحه الله سبحانه وتعالى وأخزاه ,كما حصل لمسيلمة الكذاب ,الذي زعم أنه ينزل عليه قرآن ,ففضحه الله وأخزاه.
وكذلك كل من حاول أن يحاكي القرآن؛فإن الله جل وعلا يفضحه ويخزيه ,بل ويهلكه كما حصل لمسيلمة وغيره.


المتن:
(وهو سور محكمات).

الشرح:
عرفنا معنى السور ,محكمات: يعني: متقنات من الإحكام ,وهو االإتقان ,فالقرآن كله محكم ,بمعنى: أنه متقن ,{ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } ,وكله متشابه ,بمعنى: أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والصدق وحلاوة اللفظ وفي الإتقان والإحكام والبلاغة والفصاحة ,كما قال الله تعالى: { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً }.
ومنه محكم ومنه متشابه ,والمراد بالإحكام الجزئي والتشابه الجزئي ,المحكم كما عرفنا سابقاً هو الذي لا يحتاج في تفسيره إلى غيره ,فهو واضح في نفسه.والمتشابه هو اللفظ المجمل ,الذي يحتاج في تفسيره إلى غيره:{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } ,فعرفنا إذاً أن القرآن يطلق عليه كله أنه محكم ,ويطلق عليه كله أنه متشابه ,ويطلق على بعضه أنه محكم ,وعلى بعضه أنه متشابه ,وهذا ما يسمى بالإحكام والتشابه العام ,والإحكام والتشابه الخاص ,ولكل منهما معنى خاص به.


المتن:
(وآيات بينات).

الشرح:
{ بل هو آيات بينات } , آيات جمع آية ,والآية في اللغة العلامة ,سميت آية القرآن آية؛ لأنها دلالة وعلامة على عظمة الله سبحانه وتعالى ,الآية في اللغة الدلالة والعلامة ,وهي على نوعين: آية متلوة وآية مخلوقة.
الآية المتلوة آيات القرآن ,والآيات المخلوقة مثل الشمس والقمر والليل والنهار والشجر والبشر والبحار والأنهار , هذه آياتسميت آيات؛لأنها دلالات وعلامات على قدرة الله جل وعلا ,آيات مخلوقة كونية.
وأما الآيات المتلوة فهي الوحي المنزل من عند الله جل وعلا ,وسُمي الجميع آية؛لأنه يدل على عظمة الله جل وعلا ,وعلى أحكامه وتشريعاته سبحانه وتعالى.


المتن:
(وآيات بينات وحروف وكلمات).

الشرح:
هو حروف وكلمات وآيات , الحروف حروف الهجاء المعروفة: ألف ,باء ,تاء... إلى آخر حروف الهجاء الثمانية والعشرين ,وهذه الحروف سميت حروفاً من الحرف ,وهو الطرف؛لأنها قِطَعٌ ,وهي لا تدل على معنى في نفسها ,إلا إذا ركبت مع غيرها ,فإذا تركبت الحروف تكونت الكلمة ,وإذا تكونت الكلمة مع الكلمة ,تكونت الجملة اسمية كانت أو فعلية ,فهو حروف وكلمات وآيات.
فالقرآن متكون من هذه الحروف العربية ,تكونت من هذه الحروف كلمات القرآن ,وتكونت من كلمات القرآن آيات القرآن ,وتكونت من آيات القرآن سور القرآن ,فتكون من هذه السور القرآن العظيم ,والكتاب المبين ,فهو حروف وكلمات وآيات وسور.


المتن:
(من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات).

الشرح:
" من قرأه فأعربه ". يعني: قرأه قراءة صحيحة ليس فيها لحن ,فالإعراب معناه السلامة من اللحن ,فمن قرأ القرآن قراءة سليمة من اللحنفله بكل حرف عشر حسنات؛لأن الحسنة بعشر أمثالها ,ومن قرأه ولم يعربه؛ لعجزه عن ذلك , فله أجر ,لكنه دون أجر من يتقن القراءة.
لهذا جاء في الحديث: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ,والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) فجعل صلى الله عليه وسلم الذي يتقن القراءة ,ويقيمها من اللحن والخطأ مع السفرة الكرام البررة ,أعظم من الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه ويشق عليه.


المتن:
(له أول وآخر).


الشرح:
القرآن له أول وآخر ,يعني: له بداية ونهاية ,أوله سورة الفاتحة , وآخره سورة الناس.


المتن:
(وأجزاء وأبعاض).


الشرح:

القرآن أجزاء كما هو معروف ثلاثون جزءاً ,كل جزء عشر ورقات ,وهو أيضاً أحزاب ,والأحزاب معناها مايقرأه القارئ في صلاة الليل ,الصحابة كانوا يحزبون القرآن في صلاة الليل.

المتن:
(متلو بالألسنة).

الشرح:
متلو بالألسنة , ومحفوظ في الصدور ,ومكتوب في المصاحف ,وهو كلام الله جل وعلا لأي اعتبار ,سواء كان متلواً , أو كان مكتوباً في المصاحف ,أو كان محفوظاً في الصدور , فالقارئ إذا قرأ إنما يقرأ كلام الله جل وعلا ,الصوت صوت القارئ ,ولكن المقروء والمتلو هو كلام الله جل وعلا ,والمكتوب هو كلام الله ,حروفه ومعانيه ,لكن الورق والحبر والكتابة هذه من عمل البشر , فهي مخلوقة ,وصوت الذي يقرأ القرآن ,الصوت مخلوق ,لكن المقروء والمتلو هو كلام الله جل وعلا.
ولهذا يقولون: الصوت صوت القارئ ,والكلام كلام الباري سبحانه وتعالى ,فهو كلام الله لأي اعتبار ,مكتوباً في الألواح ,أو في الأوراق والمصاحف ,أو مكتوباً فيما هو أعلى من ذلك ,وهو اللوح المحفوظ؛لأن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } ,وأم الكتاب هي اللوح المحفوظ { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } , يعني: اللوح المحفوظ ,الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق.

المتن:
(متلو بالألسنة ,محفوظ في الصدور ,مسموع بالآذان ,مكتوب في المصاحف).

الشرح:
في أي اعتبار هو كلام الله , المقروء والمسموع ,الذي تسمعه الآذان ,والمكتوب في المصاحف ,والمحفوظ في صدور أهل العلم ,هو كلام الله { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } ,لأن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئاً ,لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً ,فليس هو كلام جبريل ,ولا كلام محمد صلى الله عليه وسلم ,ولا كلام القارئ ,وإنما هو كلام الله جل وعلا ,وإنما هذه وسائل أداء فقط ,والمؤدى والمبلغ هو كلام الله.


المتن:
(فيه محكم ومتشابه).

الشرح:
سبق هذا ,قلنا: القرآن يطلق عليه كله أنه محكم ,ويطلق عليه كله أنه متشابه ,ويطلق على بعضه أنه محكم وبعضه متشابه ,ولكل قسم معنى خاص.

المتن:
(وناسخ ومنسوخ).

الشرح:
فيه ناسخ ومنسوخ ,في هذا رد على الذين ينكرون النسخ كاليهود ومن شابههم , فالقرآن فيه ناسخ ومنسوخ؛وذلك لحكمة الله جل وعلا؛فإن الله يشرع شيئاً في وقتٍ لمصالح العباد في ذلك الوقت ,ثم تتغير حالهم وتنتهي حاجتهم إلى ذلك ,فينسخ الله ما سبق بحكم جديد ,والنسخ عند الأصوليين هو: رفع حكم ثابت بدليل بحكم آخر بدليل متراخ عنه ,فالنسخ ثابت في القرآن؛وذلك من رحمة الله بعباده ولطفه بهم ,وإحسانه إليهم ,أنه يشرع لهم في كل وقت ما يناسبهم.
وذلك كما في قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } ,كانت عدة الوفاة في الأول سنة كاملة ,ثم نسخ الله ذلك بقوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ,فنسخ الحول بأربعة أشهر وعشرة أيام ,هذا ناسخ ومنسوخ في القرآن.
قال الله تعالى: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } الله جل وعلا ينسخ ما يشاء من كلامه وأحكامه وتشريعاته؛لمصالح العباد ,وحاجة العباد إلى ذلك ,فهو يشرع في كل وقت ما يناسبه ,فإذا انتهت الحاجة إلى ذلك التشريع أبدله الله بتشريع آخر يليق بحاجة الناس.
والنسخ في القرآن واقع كما في القبلة , كانوا يصلون في أول الإسلام إلى بيت المقدس ,ثم نسخ ذلك إلى استقبال الكعبة المشرفة , هذا من النسخ في القرآن العظيم.
وهذا معنى قوله: منه ناسخ ومنسوخ.ولا ينكر النسخ في القرآن أو الأحكام الشرعية إلا أهل الضلال.


المتن:
(وخاص وعام).

الشرح:
في القرآن خاص وعام ,العام: هو اللفظ الشامل لكل الأفراد ,والخاص: هو اللفظ الخاص بطائفة ,مثال ذلك قوله تعالى: { إن الإنسان لفي خسر } هذا لفظ عام لجميع الإنسان - جميع البشر - { إلا الذين آمنوا } هذا خاص؛لأن المخصصات أنواع: منها مخصصات متصلة ,ومنها مخصصات منفصلة ,كما هو معلوم في كتب الأصول ,فخصص أول الآية بآخرها , { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }.القرآن منه عام ومنه خاص ,والعام يحمل على الخاص.


المتن:
(وأمر ونهي).

الشرح:
فيه أمر ,والأمر طلب الفعل , مثل: { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ,طلب للصلاة ,وطلب للزكاة ,والنهي طلب الكف ,مثل: { ولا تقربوا الزنى } هذا نهي عن وسائل الزنى؛ من النظر ,وكشف العورة ,والخلوة بالأجنبية ,وسفر المرأة بدون محرم ,كل هذه من وسائل الزنى ,ومن الأمور الموصلة إليه ,فنهى عنه الشارع ,قال: { ولا تقربوا الزنى } ,لم يقل: ولا تزنوا ,فقط ,بل قال: لا تقربوا إذن نهى عن الشيء وعن أسبابه ,فهو أبلغ مما لو نهى عن الشيء نفسه فقط , { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } هذا نهي , { لا تأكلوا أموالكم } أي: أموال بعضكم البعض.
{ بالباطل } يعني: بغير طريق شرعي ,وبغير إذن صاحب المال المالك.
{ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي التي في القرآن ,الأمر بكل خير والنهي عن كل شر، أوامر ونواهي.


المتن:
({ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }).

الشرح:
{ إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز } كتاب عزيز يعني: منيع الجانب ,لا أحد يصل إليه ,{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } ليس قبله شيء يكذبه ولا بعده شيء يكذبه , { لا يأتيه الباطل } أي: التكذيب , { من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } ,وهو الله جل وعلا.


المتن:
(وقوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } ).

الشرح:
الله تعالى لما أنزل القرآن تكلم الأعداء والكفرة ,قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين ,اكتتبها ,يعني: أخبار الأمم الماضية كتبها محمد , وصار يقرؤها عليكم ,ما نزل عليه شيء من الله , وإنما هي أساطير وهي الأكاذيب السابقة والتي يسمونها أساطير.
وبعضهم قال: هذا القرآن شعر ,وبعضهم قال: إن هذا القرآن سحر ,وقالوا وقالوا , وبعضهم قالوا: لو شئت لأنزلت مثل ما أنزل الله ,وقالوا: إن القرآن هذا ليس هو من عند الله بل من عند محمد ,ووصفوه بهذه الأوصاف: { إن هو إلا قول البشر } أي: قول محمد , { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلماً وزورا، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا }.
الله جل وعلا تحداهم , فقال: ما دمتم تقولون: إن هذا القرآن من عند محمد ,وأنه من كلام البشر ,ومحمد بشر مثلكم ,وهذا القرآن مكون من حروف , ومن كلمات ,ومن آيات ,من لغتكم التي تتخاطبون بها ,فما دمتم تقولون: إن هذا القرآن من كلام البشر ,فأنتم بشر ,بل أنتم أفصح البشر في وقتكم ,هاتوا مثل هذا القرآن ,تحداهم الله أن يأتوا بمثله فلم يستطيعوا , { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } هذه الآية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مكة قبل الهجرة ,قبل أن تكون له شوكة ,ولا دولة ولا قوة ,ومع هذا يتحداهم هذا التحدي ,مع شدة عداوتهم له ,وما استطاعوا.
ثم تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور: { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله } استعينوا بمن تشاؤون من الجن والإنس ,وهاتوا عشر سور مثل هذا القرآن ,فلم لم يستطيعوا ,تحداهم الله بأن يأتوا بسورة واحدة ,بل بأقصر سورة كسورة { إنا أعطيناك الكوثر } , أو{ إذا جاء نصر الله } تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن { وإن كنتم في ريب ممن نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين } استعينوا بمن شئتم ,وهاتوا من يشهد إن هذه السورة التي جئتم بها مثل القرآن ,فلم يستطيعوا.
فعند ذلك تبين وثبت أن القرآن كلام الله جل وعلا؛لأنه لو كان من كلام البشر لاستطاعوا أن يأتوا بمثله ,فدل على أنه ليس من كلام البشر ,وإنما هو من كلام الخالق جل وعلا , هذه آية عظيمة ومعجزة من معجزات الرسول.
ولهذا القرآن هو أعظم معجزة لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ,وهو معجزة باقية على مر الدهور ,التحدي لا يزال قائماً لكل أحد إلى أن تقوم الساعة ,ما أحد استطاع ,ولن يستطيع , { فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } هذا إخبار عن المستقبل إلى أن تقوم الساعة ,تحدي ,{ ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين }.
فالقرآن قائم يتحدى العالم ,البشر كلهم؛ الجن والإنس على أن يأتوا بمثل أقصر سورة من سور القرآن ,فهذا برهان واضح على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد ,وأنه كلام الله جل وعلا؛لأن أحداً يستطيع أن يأتي بمثل كلام الله جل وعلا.

المتن:
(وهذا هو الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: { لن نؤمن بهذا القرآن } ).

الشرح:
هذا من جملة مقالاتهم ,قالوا: { لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } لن نؤمن ,هذا من باب العناد - والعياذ بالله – والمكابرة.

المتن:
(وقال بعضهم: { إن هذا إلا قول البشر } ,فقال الله سبحانه: { سأصليه سقر }).

الشرح:
قال بعضهم وهو الوليد بن المغيرة المخزومي من أشد خصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ,هو الذي قال { إن هذا إلا قول البشر } ,قال الله جل وعلا متوعداً له: { سأصليه سقر } ,وهي جهنم , { وما أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر } ,لأنه قال هذه المقالة وهو يعلم أن هذا القرآن ليس من كلام البشر ,وإنما هو من كلام الله ,اعترف بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من كلام البشر ,لكن لما رأى تغير قومه عليه , وإنكارهم عليه؛فإنه تظاهر أمامهم فقال: { إن هذا إلا قول البشر }.
{ إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر } ,يعني: القرآن ,{ إن هذا إلا قول البشر }.
هذا هو الوليد بن المغيرة المخزومي ,فضحه الله سبحانه وتعالى وأخزاه ,وبين كذبه وتناقضه في نفسه.



المتن:
(وقال بعضهم: هو شعر ,فقال الله تعالى: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } ).

الشرح:
بعضهم قال: هذا القرآن شعر ,والله جل وعلا نفى ذلك فقال: { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } , وقال: { وما علمناه الشعر } الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر ولا عُرف عنه ,أنه يقول الشعر ,فكيف يكون هذا القرآن شعراً , والرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر؟! هذا من الكذب الواضح.


المتن:
فلما نفي الله عنه أنه شعر ,وأثبته قرآناً ,لم يبق شبهة لذي لب بأن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات.


الشرح:
" لم يبق شبهة لذي لب " ,يعني: لذي عقل ,فاللب معناه العقل ,أن هذا القرآن هو كلام الله جل وعلا , لا كلام غيره ,وأما جبريل ومحمد عليهم الصلاة والسلام ,وأما الأمة حينما تتلوا القرآن أو تكتبه أو تحفظه فإنما هو كلام الله جل وعلا ,يحفظونه ويكتبونه ويقرؤونه.


المتن:
أن القرآن هو هذا الكتاب العربي ,الذي هو كلمات وحروف وآيات؛لأن ما ليس كذلك لا نقول أبداً إنه شعر ,وقال الله عز وجل: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله } ).

الشرح:
{ وإن كنتم في ريب } إن كنتم أيها الكفار في ريب ,يعني: في شك { مما نزلنا على عبدنا } ,وهو محمد صلى الله عليه وسلم , { فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله } ,استعينوا بمن شئتم ليشهدوا معكم يعينوكم, { إن كنتم صادقين } ,أنه من كلام البشر , { فإن لم تفعلوا } ,أي: لم تقدروا على الإتيان بسورة { ولن تفعلوا } في المستقبل إلى أن تقوم الساعة ,فاعلموا أنه كلام الله جل وعلا ,وأنكم كذبتم على الله وعلى رسوله { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } لأن هذا جزاء من عاند وكابر وجحد بآيات الله سبحانه وتعالى وجادل فيها.


المتن:
(ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل مالا يدري ما هو ولا يعقل).

الشرح:
الله ما تحداهم إلا بشيء من جنس كلامهم ,حروف وكلمات وجمل من جنس كلامهم ,يعرفون معانيه ويعرفون تراكيبه بحكم أنهم عرب فصحاء , فهو تحداهم أن يأتوا بشيء يشبه هذا القرآن العظيم ,مما هو من كلامهم , لم يتحداهم بشيء لا يقدرون على حروفه أو شيء لا يعلمون معناه ,هو كلام عربي فصيح ,تراكيب من حروف وكلمات وجمل ,ومعانيه معروفة لديهم؛لأنه بلغتهم وبلسانهم الذي يتخاطبون به فيما بينهم.
قال الله سبحانه وتعالى: { ولو نزلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } , { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي } ,كيف ينزل قرآناً أعجمياً على نبي عربي ,فالله جل وعلا من حكمته أنه أنزل القرآن بلغة النبي صلى الله عليه وسلم ,وبلغة المرسَل إليهم ,والمبعوث فيهم , { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } الرسول ,يكون بلسان قومه وبلغتهم ,يخاطبهم بما يعرفون ,ومن ذلك أنه خاطبهم بهذا القرآن المكون من الحروف والكلمات والجمل والتراكيب التي هي موجودة في لغتهم ,فما الذي منعهم أن يأتوا بمثله؟
الذي منعهم هو أن هذا القرآن معجز؛لأنه كلام الله ,ولا يمكن لأحد أن يأتي بكلام يشبه كلام الله؛لأن كلام الله من صفاته جل وعلا ,وصفاته لا يشبهها صفات خلقه ,كما قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ,ولا يمكن أن يأتي كلام يشبه كلام الله؛لأن صفات المخلوقين لا تشبه صفات الخالق سبحانه ,كلام المخلوقين لا يشبه كلام الخالق سبحانه وتعالى ,فدل على أن هذا القرآن منزل من عند الله ,وأن الرسول إنما هومبلغ عن الله جل وعلا.


المتن:
(وقال الله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } ,فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم).

الشرح:
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } , { آياتنا } يعني: القرآن , { بينات } : واضحات الألفاظ والمعاني والدلالات، ليس فيها لبس ولا غموض , { قال الذين لا يرجون لقاءنا } يعني: لا يؤمنون بالبعث والنشور والحساب , للرسول صلى الله عليه وسلم ,{ ائت بقرآن غير هذا أو بدله } يقولون: نريد غير هذا القرآن ونسلم ونؤمن ,إذا أحضرت لنا غير هذا القرآن نحن على استعداد أننا نسلم؛لأنهم يظنون أن هذا القرآن ,أو أنهم يلبسون إنه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم , { أو بدله } ,قال الله جل وعلا لنبيه: { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } ,أنا مبلغ فقط ,أما الذي يبدله وينسخه وينسخ منه ما يشاء فهو الله جل وعلا الذي تكلم به.
{ إن أتبع إلا ما يوحى إلي } أنا مجرد مبلغ ,متبع , واسطة بينكم وبين الله سبحانه وتعالى في تبليغ رسالته ,{ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحي إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }.
لو تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن , وبدل منه شيئاً ,لعذبه الله سبحانه وتعالى: { ولو تقَّول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين } , فالرسول لا يتصرف في القرآن ,وإنما يبلغه كما جاء من عند الله عز وجل ,هذه الأمانة.
ثم قال: { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون } الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة أربعين سنة قبل البعثة , يعيش معهم ويعرفونه ,ولا يعرفون أنه تعلم ولا أنه حتى سافر إلى بلاد أخرى ,بل كان موجوداً معهم في مكة - عليه الصلاة والسلام -يعرفون أمانته , ويعرفون أخلاقه- عليه الصلاة والسلام - { لبثت فيكم عمراً } أربعين سنة ,وما تحدثت إليكم بشيء من هذا القرآن ,ما تحدثت إليكم خلال أربعين سنة كاملة بشيء منه.
ولما أراد الله سبحانه وتعالى أن يبعثه وأن يرسله أنزل عليه هذا القرآن ,فبلغه كما جاء { فقد لبثت فيكم عمراً من قبل أفلا تعقلون } ما الذي جعلني أربعين سنة ما تكلمت بشيء من هذا , وبعد الأربعين تكلمت بهذا؟إلا أنه الله جل وعلا { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون }.


المتن:
(وقال تعالى: { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } ).

الشرح:
{ بل هو } أي: القرآن { وما كنت تتلو من قبله من كتاب } الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب , { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون } كان أمياً عليه الصلاة والسلام ,وأنزل الله عليه هذا القرآن العظيم الذي أعجز الخلق؛الجن والإنس ,فهو أمي عليه الصلاة والسلام ,ما تعلم ولا قرأ ولا اطلع على أخبار الأولين , { وما كنت تتلو من قبله من كتاب } ما قرأ في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور , { ولا تخطه بيمينك } ما كان يكتب عليه الصلاة والسلام حتى يقال: إنه كتب هذا القرآن من أخبار الناس , { إذًا لارتاب المبطلون }.
ثم قال جل وعلا: { بل هو آيات بينات } دلالات واضحة على أنه من عند الله جل وعلا , { في صدور الذين أوتوا العلم } يحفظونه في صدورهم , ويتلونه من صدورهم ,فحفظه وسهولة حفظه وتلاوته كلها دلالات على أنه من عند الله سبحانه وتعالى.



الشريط السادس



المتن:
(وقال تعالى: { إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون } ) بعد أن أقسم على ذلك.

الشرح:
{ فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } يقسم بمواقع النجوم، قيل: المراد نجوم السماء، وكانوا في الجاهلية يعتقدون فيها أنها تنزل المطر ,أو أنها تؤثر في نزول المطر ,من اعتقاد الجاهلية، الاستسقاء بالنجوم، ونسبة المطر إلى طلوع النجم أو غروبه ,الله جل وعلا أقسم بمواقع النجوم؛لأن هذه النجوم ليس لها تصرف ,وإنما هي من مخلوقاته سبحانه وتعالى , { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } وقيل: المراد بمواقع النجوم: نجوم القرآن؛ لأن القرآن نزل منجماًعلى الرسول صلى الله عليه وسلم حسب الوقائع والحوادث، من حين بعثته صلى الله عليه وسلم ,إلى أن توفاه الله ,والقرآن ينزل عليه مجزءاً حسب الوقائع والحوادث ,خلال ثلاث وعشرين سنة، هذا وقت نزول القرآن ,ومنه المكي ومنه المدني.
{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } هذا من جملة اعتراضاتهم الباطلة، فإنهم إنما أمروا باتباع القرآن، ولم يؤمروا بالتنقيب عن طرائق نزوله، { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } ,هذه هي الحكمة في تنجيم القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم ,ولأن هذا أسهل على الأمة أيضاً، التكاليف والأوامر والنواهي، لو نزلت الأوامر والنواهي جملة واحدة لشق ذلك على الأمة، فالله جل وعلا نزَّل هذا الشرع شيئاً فشيئاً؛لأن هذا أرفق بالأمة.
{ لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } ,وهنا يقول جل وعلا: { فلا أقسم بمواقع النجوم } .أي: نجوم القرآن , { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن } هذا جواب القسم { إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون } وهو اللوح المحفوظ , { لا يمسه إلا المطهرون }وهم الملائكة الكرام ,عليهم الصلاة والسلام ,{ تنزيل من رب العالمين } أي: هذا القرآن تنزيل من الله جل وعلا ,لا من اللوح المحفوظ ,ولا من جبريل ولا من محمد، وإنما هو منزل من الله جل وعلا.


المتن:
(وقال الله تعالى: { كهيعص } ,وقال تعالى: { حم.عسق } وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة).

الشرح:
القرآن جاءت فيه حروف مقطعة في أوائل السور ,مثل: { الم } , ومثل: { الر } ,مثل: { المص } ,{ المر } ,ومثل: { طه } , { يس } , { ص } , { ق } , { ن }، { حم.عسق } ,تارة تكون حرفاً واحداً ,وتارة تكون حرفين ,وتارة تكون ثلاثة حروف وأكثر ,وهي من القرآن بلا شك , ومن كلام الله سبحانه وتعالى.
فكلام الله يتكون من حروف ومن كلمات ومن آيات؛لأنه بلسان عربي , والعربية تتكون من حروف، ومع هذا أعجز الفصحاء أن يأتوا بمثله ,مع أنه من هذه الحروف التي يتكلمون بها , ويتخاطبون بها، وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان ,ومع هذا عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثل القرآن ,مع أنهم الخطباء، يتكلم الخطيب منهم , فيجزل الكلام , ويطيل الخطب ,مثل سحبان بن وائل، ومثل إياس أو مثل قس بن ساعدة وغيرهم من خطباء العرب المشهورين.
فإذا كانوا عجزوا عن أن يأتوا بسورة قصيرة مثل القرآن، فهذا دليل على أن القرآن ليس من كلام البشر ,ولا هو من كلام الملائكة ,ولا من كلام الخلق ,وإنما هو كلام الخالق سبحانه وتعالى.
والحروف المقطعة من العلماء من يقول: الله أعلم بمراده بها ,فلا يتكلمون فيها ,ومنهم من يقول: إن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور إشارة إلى الإعجاز ,أي: أن القرآن مركب من مثل هذه الحروف ,وأنتم عجزتم أن تأتوا بأقصر سورة من سور القرآن، قالوا: ولذلك الغالب أن الحروف المقطعة يأتي بعدها ذكر القرآن في الغالب , مثل: { الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه } , فأشار إلى القرآن الكريم , وأنه لا ريب فيه { هدى للمتقين } ,ومثل: { ص.والقرآن ذي الذكر } ,{ ق.والقرآن المجيد } ,{ حم.عسق.كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } , { الر.كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } ,{ الر.تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآناً عربياً } إلى غير ذلك.
فغالباً ما يأتي ذكر الكتاب، وذكر القرآن بعد هذه الحروف المقطعة؛إشارة إلى الإعجاز، هذا الرأي الثاني ,وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم، على أن لها معنى وهو: الإشارة إلى إعجاز هذا القرآن؛بدليل أنه في الغالب ما يأتي ذكر الحروف المقطعة إلا ويأتي بعدها ذكر الكتاب وذكر القرآن وذكر التنزيل: { حم.تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب } وهكذا.
فهذه الحروف إشارة إلى إعجاز القرآن ,وتحدي القرآن ,أنه مركب من مثل هذه الحروف التي تتخاطبون بها، ومع هذا عجزتم أن تأتوا بسورة ولو قصيرة من أقصر السور، فدل هذا على أن هذا القرآن هو كلام الله ,وليس من كلام البشر؛ إذ لو كان من كلام البشر لاستطعتم أن تأتوا بمثله؛لأنهم بشر مثلكم ,تقولون: إن هذا كلام بشر ,{ إن هذا إلا قول البشر }، فلماذا وأنتم بشر لا تأتون بسورة من مثل هذا القرآن؟!.


المتن:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة). حديث صحيح.

الشرح:
(من قرأ القرآن فأعربه) أعربه يعني: أقامه على الوجه العربي من غير لحن فيه، بل يرفع المرفوع وينصب المنصوب ويخفض المخفوض ,كما جاء على الوجه العربي، ويعربه على النحو العربي، فهذا متقن للقرآن ,ودليل على عنايته به ,(فله بكل حرف عشر حسنات)؛لأن الحسنة بعشر أمثالها، فهذا فيه دليل على فضل إتقان قراءة القرآن والسلامة من اللحن فيه.
وأما من قرأه ولم يعربه؛بأن كان لا يحسن العربية ,فقد يرفع المنصوب وينصب المخفوض، فهذا له أجر على قدر استطاعته ,وتكلفه له أجر واحد ,وخطؤه مغفور؛لأن هذا منتهى جهده وطاقته.
وقد جاء في الحديث الآخر: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران). فدل على أنه مطلوب تلاوة القرآن حسب استطاعة المسلم، يتلوه حسب استطاعته، فإن كان يستطيع أن يتعلم وأن يعدل القراءة وجب عليه ذلك ,ولا يبقى جاهلاً بالقراءة ,وإن كان لا يستطيع أن يعدل فإنه يقرأ على حسب استطاعته ,لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلا يترك القرآن وتلاوته، بل يحاول حسب استطاعته ,هذا من ناحية.
والناحية التي ساق المصنف الحديث من أجلها هي أن قارئ القرآن ليس له إلا التلاوة والقراءة ,أما المقروء فهو كلام الله سبحانه وتعالى , والقراءة هذه عمل القارئ، ولذلك يتلوه بصوت حسن وبصوت غير حسن، فاختلاف القراءة بألسنة الناس دليل على أن القراءة من علم الناس، وأما المقروء والمتلو فهو كلام لله سبحانه وتعالى ,فلهذا يقولون: الصوت صوت القارئ والكلام كلام الباري، فالتلاوة عمل الإنسان ,والمتلو هو القرآن ,كلام الله سبحانه، من الناس من يحسنه ويتقنه ,ومنهم من هو دون ذلك.


المتن:
وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرؤوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم ,لا يجاوز تراقيهم ,يتعجلون أجره ولا يتأجلونه).

الشرح:
هذا بعد الحديث الأول الذي فيه فضل من قرأ القرآن فأعربه ,وأقامه على الوجه اللغوي الصحيح الذي نزل به فله عشر حسنات بكل حرف , لكن في هذا الحديث يبين أنه ليس المقصود مجرد التلاوة، وإنما المقصود التلاوة للعمل، بالقرآن ,فالتلاوة وسيلة , والغاية هي العمل بالقرآن الكريم، فلا تحسبن هذا الأجر للتالي على مجرد التلاوة فقط ,وإن لم يعمل بالقرآن ,بل هذا الأجر لمن يتلو القرآن ويعمل به.
ولهذا يقول جل وعلا: { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } ,لم يقتصر على: { يتلون كتاب الله } ,بل قال: { وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية } ,لا بد مع القراءة من العمل بالقرآن الكريم، أما مجرد التلاوة للرياء أو للسمعة أو للمدح ,فهذا لا ينفع صاحبه شيئاً ,أو قراءة القرآن للتأكل به كما يفعل بعض المنتفعين من تأجير أنفسهم للتلاوة في المآتم وفي الحفلات وهم من أبعد الناس عن العمل بالقرآن، بل بعضهم قد لا يصلي، فهو حسن التلاوة وحسن الصوت ,ولكنه لا يعمل بالقرآن ,ولا يصلي ,وإنما اتخذ تلاوة القرآن حرفة يتأكل بها، هذا عليه الوعيد الشديد , (لا يتجاوز القرآن تراقيهم) يعني: لا يصل إلى قلوبهم ,يتلونه بألسنتهم لغرض من الأغراض ,ولا يصل إلى قلوبهم والعياذ بالله.
وأيضاً بعض الناس يتلو القرآن ويتقن التلاوة ,ويقيمه إقامة السهم ,فهو يتقن القراءة جداً، ولكن لا يفهم المعنى ,ولا يتفقه في كتاب الله ,ولا يهتم بالتفسير حتى يعمل، وإنما مجرد يؤدي اللفظ فقط ,فهو لا يعرف المعاني، أو يستدل بالقرآن على غير وجهه ,كما تفعل الخوارج، الخوارج من أكثر الناس تلاوة للقرآن ,ولكنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ لأنهم لا يتفقهون في القرآن ,ولا يتعلمون معاني القرآن على الوجه المطلوب , القرآن لا يتجاوز حناجرهم؛ لأنهم لا يفقهونه ولا يعلمونه.
فلا بد من أمور:
أولاً: التلاوة والعناية بها.
ثانياً: معرفة المعاني والتفسير ,ومعرفة مراد الله جل وعلا بكلامه.
الثالث: وهو الوسيلة هو الغايةالعمل ,أما التلاوة وفهم المعنى فهذه وسائل ,لكن الغاية والمطلوب هو العمل بالقرآن الكريم على ما أراده الله سبحانه وتعالى , واعتقاد ما فيه، فيوجد من يتلو القرآن، ويتقن القراءة ,لكن يعتقد خلاف ما يدل عليه القرآن ,مثل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، يقولون: القرآن ظواهر لفظية، ونحن لا نبني عقيدتنا إلا على القواعد اليقينية المنطقية، فهؤلاء ليسوا من أهل القرآن ,وإن كانوا يتقنونه؛ لأنهم لا يبنون عقيدتهم عليه، وإنما يبنونها على علم الكلام ,فأين هؤلاء من القرآن ,فمجرد التلاوة وتحسين التلاوة ليس هو المطلوب، بل إن هذه التلاوة تكون حجة عليهم يوم القيامة ,كما قال صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) ,حجة لك إن عملت به ,وحجة عليك إن لم تعمل به، لم تعمل به في العقيدة، لم تعمل به في الصلاة والصيام، والحج , لم تعمل به فيما يطلب منك، تجنب المحرمات وفعل الواجبات ,وكل على حسب تقصيره مقل ومستكثر ,كلنا كذلك ,ما منا أحد إلا عنده تقصير ,نستغفر الله.
ولكن يحب الالتفات إلى كتاب الله والعناية به؛ لأنه ليس المقصود التغني بالقرآن وتحسين الأصوات، وجلب المستمعين , المقصود العمل والخشية والخوف من الله عز وجل: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } ,التلاوة إذا سمعها المؤمن زادته إيماناً، التلاوة إذا سمعها المؤمن أبكته من خشية الله سبحانه وتعالى , وأثرت فيه.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن في الصلاة يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ,عليه الصلاة والسلام ,ولما استمع إلى قراءة ابن مسعود من سورة النساء ووصل إلى قوله: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } ,قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك) ,يعني: قف، قال: فالتفت فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام.
هكذا يعمل القرآن في قلوب المؤمنين ,إذا سمعوه أو تلوه أثر فيهم خشيةً وخوفاً وبكاءً , وأثر فيهم عملاً صالحاً وقدوةً صالحة، أما مجرد التلاوة وتحسين التلاوات ومعرفة القراءات السبع والعشر والخمس عشرة،فهذا ليس هو المطلوب ,ولو أن الإنسان يتلوه بسبع القراءات أو عشر القراءات،ليس هذا هو المطلوب، المطلوب العمل بالقرآن، وهذا هو الغاية من القرآن ,وأما تعلم القراءات , وإتقان التلاوة وتحسين التلاوة، فإنما هذه وسائل فقط.


المتن:
وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.

الشرح:
معناه: أن إتقان القراءة وعدم اللحن أحسن من الحفظ الكثير الذي فيه لحن وفيه خطأ، وكونك تحفظ قليلاً من القرآن تتقنه وتعربه على الوجه المطلوب ,أحسن من كونك تقرأ كثيراً لكنك لا تحسن قراءته على الوجه المطلوب.


المتن:
وقال علي رضي الله عنه من كفر بحرف منه.

الشرح:
... أو قال: (ن) ليست من القرآن ,أو (طه) ليست من القرآن , حرف واحد أو حرفين ,يكفر بالله عز وجل؛لأن الله أنزل هذا القرآن هكذا ,وفيه هذه الحروف المقطعة في أوائل السور، فهي من القرآن ,فمن جحد شيئاً منها وقال: إنه ليس قرآناً، فإنه يكفر بذلك؛لأنه أنكر شيئاً من القرآن الكريم، فكيف إذا أنكر آية أو أنكر سورة أو سوراً من القرآن ,فكفره أشد والعياذ بالله ,أو أنكر كلمة من القرآن ,كفره أشد؛لأنه جحد كلام الله سبحانه وتعالى.
وبالمناسبة بعض الناس يظن أن (طه) اسم ,وأنه من أسماء الرسول , و(يس) يظنون أنه من أسماء الرسول، هذا غلط ,(طه) حروف مقطعة: ط ,هـ حرفان، كذلك (يس), (ي) هذا حرف ,و (س) حرف ,وليس هو من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم ,ولذلك يسمون أولادهم (يس) و (طه)؛زعماً منهم أن هذه أسماء، مع أنها حروف مقطعة.


المتن:
واتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه.

الشرح:
لا شك أن القرآن معروف عدد آياته وعدد سوره وعدد حروفه، ومن أراد معرفة ذلك فليراجع كتب علوم القرآن مثل كتاب (الإتقان) للإمام السيوطي وغيره من كتب أصول التفسير , المسماة علوم القرآن الكريم.


المتن:
ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورةأو آية أوكلمة أو حرفاًمتفقاً عليه؛أنه كافر ,وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف.

الشرح:
من أنكر القرآن أوأنكر سورة منه أو آية منه أو حرفاً منه فإنه كافر بإجماع المسلمين، لكن بشرط أن يكون هذا الحرف متفق عليه بين القراء، القرآن ثبت بالتواتر ,فالقراءات المتواترة هي العشر أو السبع هذه متواترة ,وما زاد عليها فهو آحاد.


  #6  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:40 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post تيسير لمعة الاعتقاد للشيخ :عبد الرحمن بن صالح المحمود .حفظه الله ( مفرغ )

ثم إن الشيخ ابن قدامة رحمه الله تعالى انتقل من الحديث عن إثبات كلام الله , وان الله تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء , وان كلامه بحرف وصوت , إلى قضية أخرى متعلقة بكلام الله تعالى , ألا وهي القرآن العظيم الذي أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم , وهو الذي بين أيدينا, حفظه الله تعالى لنا, ونحن نتلوه فقال :

فصل

(( ومن كلامِ الله تعالى : القرآنُ العظيمٍ)) فالله تعالى تكلم بالتوراة , وبالإنجيل , وبالزبور , وكلم أنبياءه, ومن كلامه أيضاً : القرآن العظيم قال : (( وهو كتابُ الله المبين )) ولا شك أنه كتاب الله الذي أبان الله به المحجة , فهو مبين مفصل محكم, كما اخبرنا الله سبحانه وتعالى في آيات كثرة في وصف هذا القرآن العظيم, بأنه هدى, ونور, وفرقان , ولا يكون هدى , ونوراً , وفرقاناً , وضياءً, إلا إذا كان بيِّن الدلالة , واضحاً, مبيناً, يقرؤه الجميع فيتعظون به , ويفهمونه على مختلف مستوياتهم والله تعالى يقول : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر) (القمر:17) .
فالقرآن يقرؤه الجميع؛ العامي والعالم وطالب العلم , ويتأثر الجميع بقراءته , ويفهمونه كل حسب علمه , صحيح أن في القرآن قضايا ومسائل واحكاماً لا يعلمها إلا العلماء الراسخون في العلم , لكن أيضاً فيه مواعظ وتذكير يفهمها الجميع حتى المرأة, والصغير , والعامي , وهذا من نعم الله سبحانه تعالى على عباده .

ثم قال الشيخ رحمه الله : (( وحَبْلُه المتين )) , ولا شك أن من اعتصم به واستمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى , واستمسك بهذا الدين القويم, فهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم وهذا واضح المعنى .

(( وتنزيل رب العالمين )) , كما ورد في آيات كثيرة : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:193) )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ( , (القدر:1) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (الدخان: من الآية3) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) (الكهف:1) إلى آخره .

قال : (( نزل به الروح الأمين )) الروح : هو جبريل والأمين : وصف به لأنه كان أمين وحي الله سبحانه وتعالى, ولا شك أنه أمين حق أمين عليه السلام , فإن الله سبحانه وتعالى استأمنه على هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسله عليهم الصلاة والسلام .

قال: (( على قلب سيد المرسلين )) وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم , كما ورد في الآيات والكريمات الدالة على أن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم مليء بدلائل ذلك وإنما ذكر القلب هنا , لأن القلب هو الذي يعي, وهو موطن العلم والفهم ونزوله على قلبه شامل لجميع أنواع الوحي, وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر عن نفسه يأتيه الوحي فيغشاه منه غشيان عظيم يشبه الغيبوبة, فيفصم عنه, فإذا به عليه الصلاة والسلام قد وعى كل ما أوحى إليه من ربه تبارك وتعالى.

والوحي كما تعلمون جميعاً كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم على صور متعددة (1) , لكن هذا هو الأكثر والأغلب .
وكان الصحابة رضي الله عنهم وارضاهم إذا نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم الوحي يسترونه, فيضعون عليه ساتراً واحياناً يضعون عليه رداءً ؛ لأن الوحي يشتد عليه جداً , ولما نزل قول الله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه) (النساء: من الآية95) , نزلت هذه الآية وفخذه على فخذ زيد بن ثابت, يقول : فجاء ابن أم مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : كيف بنا ؟ لأنها أول ما نزلت (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه) قال : فأنزل الله عليه في الحال والرسول يتلوها (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قال : وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي, فكادت فخذي أن تُرَض(2) , وهذا من شدة ثقل الوحي .
وأحياناً ينزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فتبرك الناقة, واحياناً تضع رقبتها على الأرض وتحكها في التراب حكاً من شدة ثقل الوحي .
والله سماه ثقيلاً فقال : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:5) فكان ثقيلاً حتى في تنزله, وكما نعلم فإن أول مرة نزل فيها الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم غطه فيها الملك غطة شديدة , حتى ظنه النبي صلى الله عليه وسلم الموت من شدة تلك الغطة (3).
فهكذا كان ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم , لكنه بعد أن ينتهي ويفصم عنه يكون صلى الله عليه وسلم قد وعى جميع ما نزل عليه, وقد كان بعض الصحابة يحرص على رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه, فقال بعض الصحابة لعمر بن الخطاب : أريد أن أرى الرسول وهو يوحى إليه , وفي يوم من الأيام كان يوحى إليه , قال فرفع الستار ونظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه وقد اشتد عليه الوحي عليه الصلاة والسلام.
إذا جبريل الروح الأمين نزل به على قلب سيد المرسلين , وهو سيد ولد آم عليه الصلاة والسلام, وسيد الأولين والآخرين (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء:195) .
وهذا واضح جداً كما ذكر الله سبحانه وتعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) . فالله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن العظيم بلسان محمد وقومه الذي هو العربية .

ثم قال رحمه الله : (( منزل غير مخلوق)) هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة, أن القرآن منزل , لأنه كلام الله , وأنه غير مخلوق, لا كما يقول المعتزلة كما بينا سابقاً .

(( منه بدا وإِليه يعود)) أي أن هذا القرآن منه بدأ أي من الله تعالى بدأ ؛ لأن الله هو الذي تكلم به , والشيء ينسب – كما بينا سابقاً – إلى من بدأ به , كما ضربنا على ذلك بمعلقة امرئ القيس , فهذه المعلقة نقلت إلينا منذ عهد الجاهلية , وكثير من الناس يقرؤها ويكتبها ويشرحها , ومع ذلك فلا تنسب إلا إلى امرئ القيس ناظمها الأول, لأن الكلام لمن قاله مبتدئاً .

كذلك أيضاً- ولله المثل الأعلى - هذا القرآن العظيم هو كلام الله؛ لأنه سبحانه هو الذي ابتدأ الكلام, ومن هنا قال السلف رحمهم الله تعالى - كما قال ابن قدامة هنا - (( منه بدأ)) لأنه هو الذي تكلم به .
قال : (( واليه يعود)) أي إلى الله سبحانه وتعالى يعود القرآن ويرجع في آخر الزمان, كما ورد بذلك عدد من الأحاديث والآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم , و عدد من الصحابة؛ منهم عبدالله بن مسعود , وأبو هريرة, وهو مما لا يقال فيه بالرأي, وإنما له حكم الرفع .
فقد ورد ما يدل على أن هذا المصحف أو هذا القرآن يرفع في آخر الزمان, فيأتي يوماً من الأيام يرفع فيه من الأرض, فيرفع من صدور الرجال , ويرفع من الكتب , ويرفع من المصاحف, فيعود إلى ربه سبحانه وتعالى .
ومما ورد في ذلك الحديث الذي رواه الحاكم وصححه, ورواه ابن ماجه في سننه, وهو حديث صحيح يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم , (( يَدْرُسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب)) . ومعنى يدرس : ينقرض , والمعنى : ينقرض الإسلام شيئاً فشيئاً , كما يدرس وشي الثوب, الوشي هي النقوش التي تكون على الثوب, فالثوب إذا كان جديداً كانت هذه النقوش زاهية, أما إذا تقادم عليه الزمن فإن هذا الوشي ينمحي شيئاً فشيئاً , فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم اندراس الإسلام باندراس هذه النقوش التي على الثوب إذا طال به الزمن .

ثم قال صلى الله عليه وسلم ((حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة, وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة, فلا يبقى في الأرض منه آية )).
وهذا هو الشاهد . ومعنى يسرى أنه يأتي يوم على كتاب الله تعالى , فيمحي ويرفع ويزال من صدور الرجال ومن الصحف والكتب حتى لا يبقى منه آية ويرفع إلى السماء . وهذا معنى قول : (( وإليه يعود )) - كما سبق - .
ثم قال صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث : (( وتبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير والعجوز يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله, فنحن نقولها ))(4) هكذا رواه ابن ماجه, وفي رواية الحاكم قال صلة بن زفر لحذيفة :
(( ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, ثم ردَّها عليه ثلاثاً, كل ذلك يعرض عنه حذيفة, ثم أقبل عليه في الثالثة فقال : ياصلة, تنجيهم من النار, تنجيهم من النار, تنجيهم من النار )) قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم , ووافقه الذهبي. وقال البوصيري : إسناده صحيح ورجاله ثقات.(5)
فالشاهد هنا أن هذا القرآن يسرى في آخر الزمان ولا يبقى منه آية في الأرض, وهذا معنى عوده إلى الله سبحانه وتعالى .
هناك جزئية تتعلق بهذا الحديث , وهي وإن كانت خارجة عن موضوع هذا الشرح إلا أنني أحببت أن أذكرها تماماً للفائدة , وهي أن من لا يرى كفر تارك الصلاة يحتج بهذا الحديث, ويقول : إن هؤلاء ما يدرون ما صلاة ولا صيام ولا حج ولا صدقة, وحذيفة يقول : تنفعهم لا إله إلا الله , فدل ذلك على أن من مات وهو يقول : لا إله إلا الله فهو من كأهل الجنة, وأن تارك الصلاة لا يكفر .
والذي يظهر لي والله أعلم أن هذا الحديث ليس فيه حجة لمن قال بذلك؛ لأنه يحكي عن شيء يكون في آخر الزمان , حين تندرس أمور الإسلام وتنمحي شعائره فلا يكاد يعرفها أحد , حتى لا يعرف الناس إلا قول لا إله إلا الله, فإذا كانوا لا يعرفون ما الصلاة وما الصيام وما الحج فلا يحاسبون على ذلك لأنهم معذورون , فحالهم شبيه بمن أسلم وهو حديث العهد بالإسلام , فلا يعرف ما أحكام الصلاة ولا غيرها ثم مات قبل أن يعرف شيئاً من أحكام العبادات, فمثل هذا تنفعه شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, لكن لو أنه علم الصلاة وقامت عليه الحجة بها فعلى القول بأنه يكفر - وهو الصحيح - لاتنفه لا إله إلا الله , بل لا بد أن يؤدي الصلاة ليكون مسلماً .

كذلك أيضاً هؤلاء الذين يأتون في آخر الزمان تندرس عندهم تلك الأمور العظام من أمور الإسلام , فإنهم في حكم غير المكلفين ولذلك تنفعهم كلمة التوحيد ولو قالوها تقليداً, وعلى هذا فلا حجة في هذا الحديث لمن احتج به على عد م كفر تارك الصلاة .
وقد يستغرب بعض الناس أن تندرس أحكام الإسلام حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة , ولا يعرف الناس من الإسلام إلا قول لا إله إلا الله , ولا أرى أن هناك وجهاً للاستغراب , فهذا ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي خير شاهد على ذلك , فقد كان الإسلام منتشراً في كثير من جمهورياته , ولكن بعد أن أحكم الشيوعيون قبضتهم على تلك البلاد وحكموا شعوبها بالحديد والنار , اندرست كثير من شعائر الإسلام حتى أصبح كثيرمن الناس لا يعلمون عن الإسلام شيئاً إلا الاسم .
فهذا دليل على إمكانية اندراس شعائر الإسلام في هذا العصر فكَيف بآخر الزمان ؟
ثم قال ابن قدامة رحمه الله (( وهو سور )) , مفرده سورة , والقرآن مشتمل على سور, ولك سورة مشتملة على آيات, وترتيب الآيات وفي المصحف وقف لم يكن اجتهاداً من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم , وإنما هو بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

اما ترتيب السور في المصحف فقد اختلف العلماء فيه : أهو ترتيب اجتهادي من الصحابة أم أن الأمر موقوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
في ذلك قولان .
والذي يترجح- والعلم عند الله تعالى - أن ترتيبها أيضاً ليس عن اجتهاد من الصحابة وإنما بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم , وان الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يقرءوا القرآن وأن يرتلوه على العرضة الأخيرة التي عرضهاعليه فيها جبريل قبيل انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى .
فإن جبريل في رمضان الأخير الذي انتقل بعده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرتين , فلابد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ اولئك الصحابة تلك العرضة الأخيرة , ومنها ترتيب سور القرآن .

(( وهو سور محكمات )) لأن القرآن كله محكم فهو كتاب أحكمت آياته (( وآياته بينات )) واضحة الدلالات (( وحروف وكلمات )) ولا شك أيضاً أن القرآن حروف وكلمات , ومن قال إن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت فهو مخطئ بل كلام الله بحر ف, والقرآن حروف, وسيأتينا بعد قليل الأدلة الكثيرة التي تدل على أن هذا القرآن العظيم حروف .

أما أولئك الذين قالوا : إن الله يتكلم بغيرحرف ولا صوت , فلم يلتفتوا إلى تلك الأدلة الظاهرة, وإنما أدى بهم إلى مثل هذا القول اعتقادهم الفاسد أن كلام الله سبحانه وتعالى إنما هو الكلام النفسي القائم بذاته, حتى قال بعضهم : إن هذا القرآن العربي ليس كلام الله , وإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله .

والصحيح أن كلام الله تعالى حروف وكلمات, تكلم الله سبحانه وتعالىبه. ثم ذكر الشيخ رحمه الله بعض الأدلة على ذلك فقال : (( من قرأه فأعربه لـه بكل حرف عشر حسنات )) (6) . لم يذكر الشيخ رحمه الله أن هذا حديث مرفوع, وهو حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
عند الطبراني لكنه حديث ضعيف , وسيورد ابن قدامة فيما بعد حديثاً آخر في هذا المعنى .

وقد ورد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أعرب القرآن, فإن من قرأ القرآن فاعربه لـه بكل حرف عشر حسنات , وكفارة عشر سيئات, ورفع عشر درجات )) لكن هذا الحديث أيضاً ضعيف لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح رواه الترمذي, وهو أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة, والحسنة بعشر امثاله , لا اقول ألم حرف, ولكن ألف حرف, ولام حرف, وميم حرف)). (7)
فهذا الحديث الصحيح يغني عن الأول : (( من قرأه فأعربه )) , ومعنى أعربه : تلاه تلاوة صحيحة ولم يلحن فيه .
ثم قال ابن قدامة رحمه الله : (( له أول وآخر )) أي أن القرآن لـه أول وله آخر .
فهو المفتتح بالحمد لله رب العالمين, والمختتم بقوله (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس:6) وأجزاءٌ وأبعاض, متْلُوٌ بالألسنِة, محفوظٌ في الصدور ,
(( وأجزاء وأبعاض )) .
فالقرآن ثلاثون جزءاً, نقول : معك جزء من القرآن , ويقول القائل : معي بعض القرآن, معي سور منه , معي سورة كذا , معي من الآيات كذا وكذا, وهذا كله واضح .

وهو رد على من يزعم أن كلام الله واحد , كالأشعرية الذين يقولون : كلام الله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ.
ويقولون : إن كلام الله هو نفسه القرآن والتوراة والإنجيل , لكن إن عبر عنه بالعربية صار قرآناً, وإن عبر عنه بالعبرية صارتوراة , وإنه عبر عنه بالسريانية صار إنجيلاَ , وهذا خطأ؛ والقول بأن كلام الله واحد لا يتبعض, غير صحيح .
وقد رد عليهم العلماء فقالوا : إذا قلتم إن كلام الله معنى واحد, فحين سمع موسى كلام الله, هل سمع كلام الله كله أو بعضه, فإنه قلتم : بعضه أبطلتم قولكم, وإن قلتم : كله كان قولكم باطلاً لأنه لا يعقل أن يكون موسى سمع كلام الله كله وكلام الله لا يتناهى : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه) (لقمان: من الآية27) ولا يعني العدد الحصر, وإما حتى لو جاء سبعة وسبعة وسبعة ما نفدت كلمات الله, كما ردوا عليهم بالأدلة الدالة على تعدد الكلام كالآيات والأحاديث الدالة على أن لله كلمات , وحديث إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء, فجعل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الاخلاص:1) جزءاً من اجزاء القرآن رواه مسلم , (8) كما ردوا علهم بالأدلة الدالة على أن القرآن بعضه أفضل من بعض وغيرها .
ثم قال رحمه الله (( متلو بالألسنة )) فالمتلو بالألسنة هو كلام الله , لكن الألسنة التي تلت والصوت الذي تُلي به ينسب للمخلوق .
فالكلام كلام الباري, والصوت صوت القاري ؛ ولذا قال : (( محفوظ في الصدور )).
فإذا قيل : فلان حافظ لكتاب الله تعالى فهذا المحفوظ هو كلام الله القرآن , لكن صدره وما في صدره من قلب وغيره مخلوق, لكن هذا المحفوظ في القلب والصدور هو كلام الله تعالى غير مخلوق .
ثم قال رحمه الله : (( مسموع بالآذان )) فإذا سمع الإنسان القارئ يقرأ القرآن, فإنما يسمع كلام الله تعالى (( مكتوب في المصاحف )) فإذا كتب هذا المصحف على الأوراق فهذا المكتوب هو كلام الله . فكلام الله أينما تصرف وكيفما تصرف هو كلام الله, وأما صوت القارئ, وصدر الحافظ , وأذن السامع, والمداد والحبر, والورق المكتوب به فهذه كلها مخلوقة, لكن كلام الله سبحانه وتعالى؛ كيفما تصرف هو كلام الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي تكلم به مبتدئاً كما سبق بيانه .
ثم قال : (( فيه محكم ومتشابه )) كما قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) (آل عمران: من الآية7), وقد سبق أن بينا أن القرآن كله محكم الإحكام العام , وكله متشابه أي يشبه بعضه بعضاً في هذا الإحكام العام , لكن فيه آيات محكمات وأخر متشابهات , والتشابه الخاص أمر نسبي بمعنى أنه قد يشتبه على بعض الناس ولا يشتبه على الآخرين, وقد وضحنا ذلك بأمثلته في بداية هذا الشرح , والحمد لله .
ثم قال رحمه الله : (( وناسخ ومنسوخ )) وهذا هو الصحيح أن القرآن فيه ناسخ ومنسوخ والله تعالى قال : (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (البقرة: من الآية106)
والمنسوخ ثلاثة أقسام :
ما نسخت تلاوته وحكمه,
وما نسخت تلاوته وبقي حكمه,
وما نسخ حكمه وبقيت تلاوته . وتفصيل هذا في كتب علوم القرآن .

ثم قال : (( وخاصٌ وعام )) فهناك آيات خاصة ؛ خاصة بالنبي, أو خاصة ببعض الأحوال , وفيه آيات تأتي للعموم وهذا واضح .
(( وأمرٌ ونهيٌ )) وهذا أيضاً معلوم , وتفصيل ذلك في كتب أصول الفقه .ثم أخذ الشيخ يستدل على عظمة هذا القرآن وإعجازه بالآيات فقال : (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي ليس للبطلان إليه سبيل, لأنه منزل من عند الله , فلا يقر به أحد من شياطين الإنس ولا الجن لا بحذف ولا بإدخال ما ماليس منه, لا بزيادة ولا بنقص, فهو محفوظ في ألفاظه ومعانيه, وهو تنزيل من حكيم في خلقه وأمره, جميد على ماله من صفات الكمال .

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى :(( قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي مظاهراً ومساعداً ومعاوناً, فلا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن, بل ولا يمكن أن يأتوا بسورة منه, ولا بآية وهذا التحدي للإنس والجن جميعاً لا يزال باقياً إلى آخر الزمان, ولن يتسطيعوا ذلك أبداً, هذه قريش مع كون الخلاف بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم شديداً وهم أفصح العرب, وقد حرصوا كل الحرص على معاندته إلا انهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله, وكذا كل المكذبين وأعداء النبي والإسلام مع توافر عداوتهم وحرصهم على رد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلو أن عندهم أدنى تمكن وتأهل لمعارضة القرآن لفعلوا ولكن هيهات .

ثم قال رحمه الله تعالى : (( وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ) )), أي إن هذا المتلو بالأحرف العربية والكلام العربي هو كلام الله وهو يدل على أن الله تعالى تكلم به بحرف وصوت, ولهذا قال الكفار : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ), أي القرآن المعروف عندهم .

ثم قال رحمه الله : (( وقال بعضهم : (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَر))) وقائل ذلك هم المشركون, وورد في بعض الروايات أن الذي قاله هو الوليد بن المغيرة؛ الذي زعم أن هذا القرآن سحر وأنه قول بشر كاذب سحار , ويدخل في هذا كل من زعم أنه قول أحد من البشر, فكذبهم الله سبحانه وتعالى ورد عليهم وتوعدهم الوعيد الشديد بقوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) وهذا لبيان أن دعواه أنه قول البشر كذب , بل هو كلام الله سبحانه وتعالى, فمن العجب أن يأتي بعد ذلك من ينتسب إلى الإسلام فيقول : القرآن مخلوق .
أويقول : القرآن العربي ليس كلام الله بل هو كلام البشر .

وهذه الآيات تدل على أن هذا القرآن كلام الله منزل غير مخلوق, وهي نص صريح على أن الله تكلم به, وأنه كلام الله تعالى ولهذا رد الله على ذلك المشرك الباغي الذي قال : (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) فمن قال : إنه كلام الله, فهو القائل بالحق, ومن قال : إنه قول محمد وعبارته . فهو شبيه بالوليد بالمغيرة الذي قال : (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) . نسأل الله السلامة والعافية .

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : وقال بعضُهم : هو شعر , فقال الله تعالى : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (يّـس:69)؛ أي ما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الشعر, وما ينبغي للرسول ولا يصلح لـه أن يكون شاعراً, وإنما هذا الذي بلغكم إياه كلام الله سبحانه وتعالى ووحيه وهو الذكر المبين .
فتسميتهم لـه بأنه شعر هو من الباطل والبهتان؛ لأن الشعر معروف بأوزانه وقوافيه والقرآن الكريم ليس على نسقه واوزانه, وقد رد الله عليهم تلك الفرية مبيناً أن القرآن ليس شعراً وإنما هو كلام الله حقيقة .
وهذا يدل أيضاًعلى أن العرب كانوا يفهمون من القرآن أنه كلمات وأحرف شبيهة بكلام العرب والشعراء, ولهذا قالوا هو شعر , فرد الله عليهم ببيان أنه ليس بقول شاعر , وأن الرسول لا ينبغي لـه أن يكون شاعراً, فليس هو في طبعه ولا يحسنه ولا يحبه, ولا تقتضيه جبلته عليه الصلاة والسلام, وما ورد في الصحيحين وغيرهما من إنشاده الشعر مثل قوله حين جرحت أصبعه : هل أنت إلا أصبع دميت ... البيت , وإنشاده مع أصحابه أثناء حفر الخندق : اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... الأبيات, فحق ثابت وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن المقصود بالآية أن الرسول لا يقول الشعر أي لا ينظمه, وهذا لم يقع أبداً .
الثاني : وما ورد منه عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما قاله ناقلاً عن غيره من غير قصد الشعر وهو قليل جداً .
والناقل للشعر لا يسمى شاعراً كما هو معلوم .
فيفهم من ذلك أن القرآن كلام الله, وانه كلمات , وحروف, وأن العرب فهموا منه هذا , ولم يعترضوا عليه, وإنما اعترضوا على أن يكون كلاماً لله سبحانه وتعالى, أما أولئك المتكلمون, فإنهم يقرون أنه من الله, لكن ينكرون أن يكون كلام الله , ولا شك أن كلامهم غير صحيح .

ثم قال رحمه الله تعالى : ((فلما نفى عنه أنه شعرٌ وأثبته قرآناً, لم يبق شبهةٌ لذي لبٍ في أن القرآن هو هذا الكتابُ العربيُّ, الذي هو كلمات وحروفٌ وآياتٌ؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحدٌ : إنه شعر )) .

وهذا واضح الدلالة من كلام ابن قدامة رحمه الله تعالى, فهو تعليق جيد يبين أن هذا القرآن الكريم لو لم يكن كلمات وحروفاً فإنه لا يمكن أن يشبه بالشعر أو أن يوصم من يقوله بأنه شاعر, فلما نفى الله عنه أن يكون شعراً دل على أنه مكون من كلمات وحروف وليس بشعر, وهذا واضح الدلالة جداً, فالعرب على فطرتهم- وان كانوا كفاراً - كانوا أفقه في مثل هذه المسائل من أولئك المتكلمين الذين خاضوا فيها بلا علم .

ثم قال رحمه الله تعالى : (( وقال عز وجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) )) (البقرة: من الآية23), أي إن كنتم في شك من هذا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فائتوا بسورة من مثل هذا القرآن, وابتدعوا نبوة وديانة جديدة, وادعوا شهداءكم من دون الله واستعينوا بهم على دعواكم إن كنتم صادقين .

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى معلقاً : ((ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثلِ ما لا يُدْرى ما هو ولا يُعْقَل .)) أي : لا يمكن أن يتحدهم إلا بشيء يفهمونه ويسمعونه وهو من جنس ما يعهدون من الكلام , ولهذا افتتح الله السور بالحروف المقطعة تحدياً للعرب(9) كأنه يقول : (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (البقرة:2,1) . يا ايها العرب هذا القرآن هو من الحروف التي أنتم تتكلمون بها , وكلامكم كله يرجع إلى هذه الحروف , وهذا القرآن أيضاً هو متلو بهذه الحروف, ومع ذلك هو كتاب الله الذي لا ريب فيه, أنزله الله على عبده, وهنا في هذه الآية قال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه) أي من مثل هذا القرآن العربي , وقطعاً لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن ياتوا بمثله .

فالشاهد هنا أنه لو لم يكن هذا القرآن المتلو هو كلام الله سبحانه وتعالى, بكلماته وحروفه لما صح في التحدي أن يقال لهم : ائتوا بسورة من مثله وهذا واضح جداً.
ثم قال : ((وقال تعالى : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ))) , أي إذا تتلى على هؤلاء المكذبين آيات الله القرآنية الواضحة المبينة للحق أعرضوا عنها, وتعنتوا بما حكى الله عنهم : (قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ )(يونس: من الآية15), أي جئنا بقرآن غيره من نمط آخر أو بدله من وضع إلى وضع آخر, فقال الله لنبيه رداً عليهم : (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) (يونس: من الآية15) لأن هذا وحي من الله سبحانه وتعالى وأنا عبد مأمور ورسول مبلغ : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَي) (الأنعام: من الآية50) فهو صلى الله عليه وسلم متبع غير مبتدع كما قال تعالى : (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة:18) .

ثم قال الشيخ معقباً على هذه الآية: (( فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم )) وهذا هو الشهد من إيراده لها, وهو بيان مذهب أهل السنة والجماعة في أن هذا القرآن هو هذه الآيات المشتملة على كلمات وحروف,
ثم قال : ((وقال تعالى : (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) )) والذين أوتوا العلم هم سادة الخلق وهم اولو الألباب وهم الرجال الكاملون, فإذا كان القرآن آيات بينات في صدور هؤلاء كان حجة على غيرهم ممن خالفهم من الجاحدين الظالمين, والشاهد من الآية هنا الدلالة على أن هذا المحفوظ في الصدور هو كلام الله تبارك وتعالى .

(( وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) )) أي محفوظ لا تناله أيدي العابثين بل هو محفوظ من كل تبديل او تحريف او تغيير .

واختلف العلماء في هذا الكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون على قولين :
أحدهما : أن المطهرين هم الملائكة لأن الله طهرهم من الآفات والذنوب والعيوب, والكتاب المكنون هو الكتاب الذي في السماء , وهو اللوح المحفوظ او الكتاب الذي بأيدي الملائكة الذين ينزلهم الله لوحيه ورسالته ,
ومعنى ( مكنون) : أي مستور عن اعين الخلق , محفوظ موقر .
الثاني : أن المقصود المطهرون من الحدث والجنابة, وعليه فالكتاب المكنون هو المصحف , قالوا : ولفظ الآية خبر بمعنى الطلب .
والراجح هو الأول لأنه قول الأكثر, ويدل عليه السياق حيث أخبر أن هذا القرآن في ذلك اللوح المحفوظ , وان ذلك اللوح المحفوظ لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة, لكن على القول الأول أنه المصحف, قد يمسه غير المطهر وقد يمسه المشرك, فهذا يرجح أن المقصود بالآية هو المكتوب في اللوح المحفوظ الذي لا قدرة لأهل الخبث والشياطين عليه ولا على مسه , وهذا فيه إشارة إلى انه لا يجوز أن يمس القرآن إلا طاهر كما ورد في الحديث .

وهذا المكتوب في اللوح المحفوظ بحروفه وكلماته هو كلام الله سبحانه وتعالى .
ثم قال : (( بعد أن أقسم على ذلك )) يشير إلى قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة:78).
حيث اقسم بالنجوم ومساقطها في مغاربها, ثم عظم هذا المقسم به لأن في النجوم والأفلاك آيات وعبرا عظيمة, وكل ذلك لبيان أهمية وعظمة المقسم عليه وهو القرآن وإثباته وأنه لا شك فيه فهو كلام الله حقا, وأنه في كتاب مكنون .
ثم قال : (( وقال تعالى: {كهيعص} )) في سورة مريم .
وقال تعالى : )حم (1) عسق( في سورة الشورى
(( وافتتح تسعاً وعشرين سورةً بالحروف المقطعة )) .
أراد الشيخ رحمه الله بهذا الكلام أمرين :
أحدهما : أن قوله تعالى (كهيعص) حروف ومع ذلك فهي من كلام الله سبحانه وتعالى وداخلة في مسمى القرآن, وكذلك قوله : (حم (1) عسق) وكذلك (الم) وغير ذلك من الحروف المقطعة التي افتتح الله تعالى بها تسعاً وعشرين سورة من سور القرآن العظيم .
وذكر الله سبحانه وتعالى القرآن بعد كل حروف مقطعة بدا بها السورة في معظم المواضع (10) كما قال تعالى :( الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه) (البقرة: من الآية2) ، (ص * وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر) (صّ:1) ،(نْ * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم:1) ،(ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (قّ:1) .

وذكر القرآن العظيم بعد هذه الأحرف المقطعة في غالب السور دليل على أن هذه الحروف هي كلام الله , وعلى أن المقصود - والعلم عند الله تعالى من هذه الحروف- بيان إعجاز القرآن العظيم , وكأن الله تعالى يقول للمشركين : هذه هي نفس الحروف التي تتحدثون بها وتركبون منها كلامكم ومع ذلك فإن هذا القرآن العظيم من عند الله سبحانه وتعالى وانتم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله, فهذا يدل على أن هذا القرآن حروف وكلمات وانه كلام الله تعالى حقيقة منه بداِ وإليه يعود- كما سبق بيانه .

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى وهو يتكلم عن موضوع القرآن : (( وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( من قرأ القرآن فأعربَهُ فله بكلِّ حرفٍ منه عشر حسنات, ومن قرأه ولحن فيه , فله بكلِّ حرفٍ حسنة )) (11) حديث صحيح)) .

نقول : قول ابن قدامة رحمه الله تعالى عن هذا الحديث : إنه حديث صحيح, غير مسلم حسب ما اطلعنا عليه من مصادر السنة , ولعل الشيخ رحمه الله تعالى اختلط عليه هذا الحديث بالحديث الآخر الصحيح الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة , والحسنة بعشر أمثالها , لا أقول آلم حرف , ولكن ألف حرف, ولام حرف, وميم حرف)) وهذا الحديث رواه الترمذي وهو حديث صحيح (12).
أما الحديث الذي أورده الشيخ هنا فقد رواه الطبراني وفي سنده رجال ضعفاء ومن ثم فإن الحديث ضعيف, والشاهد منه أن هذا القرآن حروف وكلمات .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ((وقال عليه السلام : (( اقرؤوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمونَ حروفَةُ إقامةَ السَّهم, لا يجاوزَ تراقيهم , يتعجَّلون أجْرَهُ ولا يتأجَّلونه )) (13)هذا الحديث رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح الإسناد .

ومعنى (( يقيمون حروفه إقامة السهم )) يعني أنها إقامة صحيحة دقيقة فهم يقرأونه ويتلونه تلاوة طيبة جيدة مجودة, لكن هؤلاء لضعف إيمانهم (( لا يجاوز تراقيهم )) والترقوة هي الحلق ؛ أي لا يجاوز حلوقهم لأنهم لا يتلونه لله سبحانه تعالى , وإنما يتلونه ليقال : فلان قارئ , فلان مجود , فلان حسن القراءة , كما هو مشاهد في الأزمنة المتأخرة , حيث صار التنافس على القراءة وعلى تجويدها والمفاخرة في ذلك كبيراً, ومن ثم وقع بعض هؤلاء القراء في أن أصبحوا يتعجلون القرآن ولا يتأجلونه .
ومعنى : ( يتعجلون أجره ) أي : ثوابه في الدنيا إما عن طريق أخذ الأجرة
على تلاوته بحيث كون هذا هو هدفه من القراءة, وإما ليقال عن الواحد منهم في الدنيا : إنه قارئ مجود, ( ولا يتأجلونه ) أي لا يقرأون القرآن يقصدون به وجه الله سبحانه وتعالى, ويطلبون الأجر من الله تبارك وتعالى يوم القيامة؛ ليكون القرآن شفيعاً لهم ومحاجاً عنهم في تلك المواقف العصيبة كما قال صلى الله عليه وسلم : (( اقراوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه )) (14).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة وذكر منهم : ((ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن , فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته , وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم, وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ. فقد قيل , ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) (15) والعياذ بالله .

ثم قال الشيخ رحمه الله : (( وقال ابو بكر وعمر رضي الله عنهما : (( إعرابُ القرآن احبُّ إلينا من حفظِ بعض حروفهِ )) أي أن كون الإنسان يعرب القرآن ويقرؤه ويتلوه تلاوة صحيحة احب إلى احدهم من أن يحفظه على خطأ في الإعراب, فتجده يخطئ اثناء القراءة ويلحن فيها فينصب الفاعل ويرفع المفعول , فالذي يتلوه- ولو من غير حفظ - عن دراية وإتقان أحسن , ومن حفظه كله أو بعضه عن دراية وإتقان فهو الأحسن منهما , وهذا الأثر الوارد عن ابي بكر وعمر رضي الله عنهما رواه ابن الأنباري في كتابه المشهور في الوقف والابتداء , لكن إسناده إلى أبي بكر أو عمر

ثم قال الشيخ : (( وقال عليٌ رضي الله عنه : (( من كفر بحرفٍ منه , فقد كفر به كله )) )) .
هذا الأثر الوارد عن علي بن ابي طالب مروي عنه بسند صحيح رواه عنه ابن ابي شيبة في المصنف, وأيضاً رواه عنه ابن جرير في مقدمة تفسيره , وهو اثر موقوف صحيح , وما دل عليه من الحكم مجمع عليه .
وقد فسره الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك فقال : ((واتفق المسلمون على عدِّ سور القرآنِ وآياته , وكلماتِهِ , وحروفِهِ , ولا خلاف بين المسلمين في أنَّ من جحد من القرآن سورةً , أو آيةً , أو كلمةً , أو حرفاً متفقاً عليه - انه كافر, وفي هذا حجَّةُ قاطعةُ على انه حروفٌ )).
اجمع العلماء على أن من كفر بحرف من القرآن متفقاً عليه , بين العلماء فهو كافر كمن انكر القرآن كله أو سورة من سوره, أو جزءاً من اجزائه, وهذه قضية واضحة جدَّاً شبيهة بقولنا : من كفر برسول ورد ذكره في القرآن مثلاً فقد كفر بجميع الرسل , فلو أن إنساناً آمن بالرسل جميعاً وصدق بهم واتبع محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال : أنا لا أؤمن برسالة نبي الله صالح , أو نبي الله هود, فإنه والحالة هذه يكون كافراً, بل هو كافر بجميع الرسل , لأن السبب الذي من أجله آمن ببقية الرسل موجود في صالح او في هود, فإذا كفر به فكانه كفر بالبقية,
وكذلك هنا : من كفر بحرف من كتاب الله تعالى مجمع عليه فقد كفر بالقرآن كله ؛ لأن السبب الذي من اجله آمن بهذه السورة أو ذلك الجزء من القرآن موجود في هذا الحرف الذي انكره , فإذا انكر هذا الحرف فكأنه أنكر القرآن كله , وهذا بإجماع المسلمن لم يخالف في ذلك أحد .

وقول الشيخ : (( واتفق المسلمون على عد سور القرآن )) حيث يقولون : في القرآن مائة واربع عشرة سورة , ويعددون آياته , ويعددون كلماته ,بل ويعددون حروفه , حتى ذكروا عدد حروف القرآن من أوله إلى آخره , وهذا كله دليل على أن القرآن حروف وكلمات,

وهذه القضية هي التي أراد الشيخ أن يبين مذهب أهل السنة والجماعة فيها وهي : أن القرآن كلام الله , وانه حروف وكلمات, كما أراد به الرد على المبتدعة من الأشعرية والماتريدية وغيرهم ممن سار على طريقتهم .

وقوله : (( وفي هذا حجة قاطعة على انه حروف )) ختم الشيخ كلامه في مسألة القرآن بما اراد أن يقرره من مذهب أهل السنة والجماعة في أن القرآن هو كلام الله تعالى وانه حروف وكلمات , وهذا بإجماع أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى .


وبهذا يكون الشيخ رحمه الله تعالى انهى الكلام في بعض المسائل المتعلقة بأسماء الله وصفاته
حيث ركز على قضيتين كبيرتين :
إحداهما : قضية العلو لله تعالى .
والثانية : قضية إثبات كلام الله تعالى, ومنه الكلام في القرآن .
وبهذا يكون الشيخ قد انهى القضايا المتعلقة بالصفات .






_______________________
(1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2) في بدء الوحي ومسلم رقم (2333) أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول )) قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا

(2) رواه البخاري رقم (4592) في التفسير ( باب لا يستوي القاعدون من المؤمنين)
(3) أخرجه البخاري رقم (3) في بدء الوحي ومسلم رقم (160) كتاب الإيمان
(4) أخرجه ابن ماجه رقم ( 4049) كتاب الفتن والحاكم في المستدرك (4\473,545) وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وصححه كألألباني وهو في السلسلة الصحيحة رقم (87)
(5) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (3\254)
(6) اخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين رقم (3467) وذكره الهيثمي في مجمع الزواائد (7\166) ثم قال :/ رواه الطبراني في الأوسط وفيه نهشل وهو متروك .

(7) اخرجه الترمذي رقم (2910) كتاب فضائل القرآن وقال : حسن صحيح وصححه الألباني في تعليقه على أحاديث المشكاة رقم (2137) هامش رقم (2)
(8) ورقمه 811 مكرر كتاب المسافرين
(9) قال ابن كثير في تفسير (الم) أول سورة البقرة بعد أن ذكر الأقوال في الحروف المقطعة : (( المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور)) فعدد الأقوال ثم قال (( وقال آخرون : بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت بيانا لإعجاز القرآن وان الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة ابو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد ابو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية )) ثم قال ابن كثير بعد كلام : (( وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن امعن النظر والله اعلم )) ( تفسير ابن كثير 1\38)ط الحلبي ومصطفى محمد .فائدة: في طبعة الشعب بمصر وطبعة دار طيبة وقع سقط هنا فيستدرك
(10) هناك مواضع لم يذكر فيها القرآن بعد هذه الحروف كقوله تعالى في سورة مريم {كهيعص (1) ذكر رحمت ربك عبده زكريا} وقوله تعالى في سورة العنكبوت : {الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}وقوله تعالى في سورة الروم : {الم(1) غلبت الروم}
(11) لم أجده بلفظه وقد روى البيهقي في الشعب (5\242) رقم (2097) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: (( من قرأ القرآن فأعرب كله فله بكل حرف أربعون حسنة فإن أعرب بعضه ولحن في بعضه له بكل حرف عشرون حسنة وإن لم يعرب منه شيئا فله بكل حرف عشر حسنات )) واخرجه ابن عدي في الكامل (7\2506) وفيه أبو عصمة : نوح بن أبي مريم المروزي متروك .
وروي ذلك عن عائشة ايضا اخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين رقم (3468) وذكره الهيثمي في (( مجمع الزوائد )) (7\166) وقال :رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبدالرحيم بن زيد العمي وهو متروك

(12) أخرجه الترمذي رقم (2910) كتاب فضائل القرآن وقال : حسن صحيح وصححه الألباني كما تقدم

(13) اخرجه احمد (5\338) وابو داود رقم (831( كتاب الصلاة وابن حبان رقم (1876) والطبراني في الكبير رقم ( 6021,6022) وله شاهد صحيح عن جابر اخرجه احمد وابو داود وهو في السلسلة الصحيحة رقم (259) وصحيح الجامع رقم (1167)
(14) اخرجه مسلم رقم (804) كتاب صلاة المسافرين
(15)اخرجه مسلم رقم (1905) كتابه الإمارة







  #7  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:14 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
افتراضي شرح لمعة الاعتقاد,الشيخ الغفيص


القرآن كلام الله

قال الموفق رحمه الله: [ومن كلام الله سبحانه: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود] .
القرآن كلام الله: وهذا اصطلاح شرعي صريح، كقول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6].
قوله: (مُنَزَّل): وهذا أيضاً لفظ شرعي صحيح، وقد ذكر الله تعالى أن كتابه منزل في غير سورة من القرآن، كما في قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]، وقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]إلى غير ذلك.
قوله: (غير مخلوق) : هذا الحرف ليس في الكتاب ولا السنة، وإنما قاله السلف نفياً لبدعة الجهمية.
قوله: (منه بدأ): هذه الجملة بحرفها ليس لها ذكر في النصوص، وقد وصف بها السلف القرآن وأرادوا بها أنه كلام الله حقيقةً، (منه بدأ)، أي: أنه هو الذي تكلم به حقيقةً بحرف وصوت، وليس كلاماً لجبريل ولا لغيره من الملائكة.
قوله: (وإليه يعود): هذا فسر بأكثر من تفسير، من أخصها: أنه يُرفع من صدور الرجال في آخر الزمان، حين يترك العمل به، فلا تبقى منه آية. ......
***
وصف كلام الله وفضله وبعض أحكامه


قال الموفق رحمه الله: [وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض] .
قوله: [له أول وآخر] : هذا رد على الأشاعرة وأمثالهم الذين قالوا: إن الكلام واحد، وإنه معنىً يقوم في النفس. قوله: [وأجزاء وأبعاض...] إلخ: هذا من التفصيل الذي ليس بلازم؛ فإنه كان يكفي أن يقال: إن له أولاً وآخراً، أو نحو ذلك من التعبيرات التي يكتفى بها.
قال الموفق رحمه الله: [متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، ومسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقوله تعالى: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88]، وهذا هو الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ [سبأ:31]. وقال بعضهم: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، فقال الله سبحانه: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]. وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69]، فلما نفى الله عنه أنه شعر، وأثبته قرآناً، لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف وآيات، لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر. وقال عز وجل: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يُدرى ما هو، ولا يُعقل. وقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [يونس:15]، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم. وقال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، وقال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79]بعد أن أقسم على ذلك . قوله: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] هل الضمير يعود على القرآن أم يعود على الكتاب المكنون وهو اللوح المحفوظ؟ هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم. والصحيح أن الخلاف في مسألة لزوم الطهارة من الحدث في مس المصحف ليس فرعاً عن الخلاف في هذه الآية، فإن كثيراً من السلف جعلوا الضمير في قوله: لا يَمَسُّهُ [الواقعة:79]يعود على الكتاب المكنون؛ وهو اللوح المحفوظ، وهذا هو الصحيح في تفسير الآية، ومع ذلك فإن هؤلاء يذهبون إلى أنه لا يجوز للمحدث أن يمس القرآن.
إذاً.. الخلاف في مسألة مس المحدث للقرآن، ليس فرعاً عن تفسير الآية. وفي الجملة فالذي عليه الجمهور -وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم- أن القرآن لا يجوز مسه للمحدث، بل لا بد له من الطهارة.
وذهب طائفة كابن حزم و الشوكاني إلى جواز مسه للمحدث حدثاً أصغر، ومستند قول الجمهور هو حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً وفيه: (وأن لا يمس القرآن إلا طاهراً) وهذا كتاب محفوظ صحيح، قال الإمام أحمد : لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتبه له، فهو كتاب معروف منضبط، وفيه مسائل كثيرة جرى الفقهاء من الأئمة على العمل بها، وبذلك تثبت صحة مستندهم.


***
معنى الحروف المقطعة في القرآن

قال الموفق رحمه الله: [وقال تعالى: كهيعص [مريم:1]، حم [الشورى:1]* عسق [الشورى:2]،وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة]
قوله: [بالحروف المقطعة] كقوله: الم [البقرة:1] وأمثالها، اختلف في المراد بهذه الحروف والصحيح أن معناها أن يرد أمر العلم والحكمة بها إلى الله؛ لأنه لا يستطاع تفسيرها من جهة مفاد كلمات العرب، وكلمة: (الم) ليس لها مفهوم عند العرب إذا انطقت مقطعة، وإنما يعرفون كلمة مثل: قام، أو جاء، أو ما إلى ذلك، أما (الم) فهذه ليست حروفاً معروفة عند العرب بمعنى، وإنما هي حروف مجتمعة -وإن كانت حروفاً عربية- ابتدأ الله بذكرها في القرآن لحكمة أرادها سبحانه وتعالى ، ولهذا لم يقف عندها الصحابة رضي الله عنهم على هذا الوجه من الإشكال. ......

***
تدبر القرآن وإعرابه
قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولَحَن فيه، فله بكل حرف حسنة) حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه)، وقال أبو بكر و عمر رضي الله عنهما: [إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه] ، وقال علي : [من كفر بحرف منه فقد كفر به كله] واتفق المسلمون على عد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه. ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة، أو آية، أو كلمة، أو حرفاً متفقاً عليه، أنه كافر، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف] .
يُنهي المؤلف رحمه الله هذه المسألة بهذا التقرير، وهو إبانة لكون القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى ، وهذا كما سلف أنه متواتر في الدلائل الشرعية، وفي إجماع السلف الصالح رحمهم الله .


  #8  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:21 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر

العناصر
- وجوب التسليم والقبول لآيات وأحاديث الصفات .
- أهل السنة والجماعة تميزوا بالتسليم لما جاء في الكتاب والسنة .
- أقسام النصوص من حيث الوضوح والخفاء .
- تحرير القول في النصوص من حيث الوضوح والإِشكال .
- طرق الناس في ما أشكل عليهم من النصوص .
- بيان ما يجب على من أشكل عليه شيء من النصوص .
شرح قول المؤلف: (وترك التعرض بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل) .
- معنى رد النصوص .
- حجة النفاة في رد الأدلة الصحيحة .
- معنى التأويل .
- أنواع التأويل .
- حكم التأويل .
- التأويل المذكور في النصوص غير التأويل بالاصطلاح الحادث .
- معنى التمثيل وحكمه .
- الفرق بين التمثيل والتشبيه .
- شرح قول المؤلف: ( وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً .. ) .
- وجه الانتقاد في قول المؤلف :(وما أشكل من ذلك وجب الإيمان به لفظاً وترك التعرض لمعناه) .
- تفسير قول الله تعالى: { فأما الذين في قلوبهم زيغ ..} الآية .
- توجيه القراءتين في قوله تعالى:{وما يعلم تأويله إلا الله } .
- بيان علامة الزيغ .
- أقسام الإحكام والتشابه في نصوص الكتاب والسنة .
- أنواع الإحكام والتشابه المذكور في آيات الكتاب العزيز .

  #9  
قديم 6 محرم 1430هـ/2-01-2009م, 12:22 AM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Question الأسئلة

الأسئلة
س1: اذكر الأدلة على إثبات أن القرآن الكريم من كلام الله تعالى.
س2: اذكر تعريف القرآن الكريم عند أهل السنة. مع شرح موجز له.
س3: اذكر الأدلة على أن القرآن الكريم حروف وكلمات.
س4: اذكر بعض صفات القرآن الكريم.
س5: كم عدد سور القرآن؟
س6: ما هي عقيدة المعتزلة في القرآن؟ وكيف ترد عليهم؟
س7: ما هي عقيدة الأشاعرة في القرآن؟ وكيف ترد عليهم؟
س8: من الذي جزأ القرآن وحزَّبَه أحزاباً؟
س9: ما معنى إعراب القرآن؟
س10: اشرح قول المؤلف: (له أول وآخر).
س11: هل ترتيب سور القرآن توقيفي؟ أم من اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم؟
س12: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى: {وإنه لكتاب عزيز(41) لا يأتيه الباطل} الآية.
س13: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله...} الآية.
س14: ما وجه استدلال المؤلف بقول الله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا...} الآية؟
س15: اذكر مراتب القرآن الكريم.
س16: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث...} الآية.
س17: ما وجه استدلال المؤلف بقول الله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}؟
س18: بين معنى المحكم والمتشابه في قول المؤلف: (فيه محكم ومتشابه).

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
العظيم, القرآن

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:17 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir