(38 -52) {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.
أَقْسَمَ تعالى بما يُبْصِرُ الخَلْقُ مِن جَميعِ الأشياءِ، وما لا يُبْصِرُونَه، فدَخَلَ في ذلكَ كلُّ الخَلْقِ، بل يَدخُلُ في ذلكَ نفْسُه الْمُقَدَّسَةُ على صِدْقِ الرسولِ بما جاءَ به مِن هذا القرآنِ الكريمِ، وأنَّ الرسولَ الكريمَ بلَّغَه عن اللَّهِ تعالى، ونَزَّهَ اللَّهُ رَسولَه عمَّا رَماهُ به أَعداؤُه مِن أنَّه شاعرٌ أو ساحِرٌ، وأنَّ الذي حَمَلَهم على ذلكَ عدَمُ إِيمانِهم وتَذَكُّرِهم.
فلو آمَنُوا وتَذَكَّرُوا لعَلِموا ما يَنفَعُهم ويَضُرُّهم، ومِن ذلكَ أنْ يَنظُروا في حالِ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، ويَرْمُقوا أَوصافَه وأخلاقَه, لَرَأَوْا أمراً مِثلَ الشمْسِ، يَدُلُّهم على أنَّه رَسولُ اللَّهِ حَقًّا، وأَنَّ ما جاءَ به تَنْزيلُ رَبِّ العالَمِينَ، لا يَلِيقُ أنْ يَكُونَ قولَ البشَرِ، بل هو كلامٌ دالٌّ على عَظمةِ مَن تَكَلَّمَ به وجَلالةِ أَوصافِه، وكمالِ تَربِيَتِه لعِبادِه، وعُلُوِّه فوقَ عِبادِه.
وأيضاً فإنَّ هذا ظَنٌّ منه بما لا يَلِيقُ باللَّهِ وحِكمتِه؛ فإنَّه لو تَقَوَّلَ عليه وافْتَرَى {بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} الكاذبةِ {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}: وهو عِرْقٌ مُتَّصِلٌ بالقلْبِ إذا انقَطَعَ ماتَ منه الإنسانُ.
فلو قُدِّرَ أنَّ الرسولَ - حَاشَا وكلاَّ - تَقَوَّلَ على اللَّهِ لعَاجَلَه بالعُقوبةِ، وأَخَذَه أخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِرٍ؛ لأنَّه حكيمٌ، على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
فحِكمتُه تَقْتَضِي أنْ لا يُهْمِلَ الكاذبَ عليه، الذي يَزعُمُ أنَّ اللَّهَ أباحَ له دِماءَ مَن خالَفَه وأموالَهم، وأنَّه هو وأَتباعُه لهم النَّجاةُ، ومَن خالَفَه فله الهَلاَكُ.
فإذَا كانَ اللَّهُ قد أَيَّدَ رسولَه بالْمُعْجِزاتِ وبَرْهَنَ على صِدْقِ ما جاءَ به بالآياتِ البَيِّنَاتِ، ونَصَرَه على أعدائِه ومَكَّنَه مِن نَوَاصِيهِم فهو أَكْبَرُ شَهَادَةٍ منه على رِسالتِه.
وقولُه: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}؛ أي: لو أَهْلَكَه ما امْتَنَعَ هو بنفْسِه، ولا قَدَرَ أحَدٌ أنْ يَمْنَعَه مِن عذابِ اللَّهِ.
{وَإِنَّهُ}؛ أي: القرآنَ الكريمَ، {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} يَتذَكَّرُونَ به مَصالِحَ دِينِهم ودُنياهم، فيَعْرِفُونها ويَعْمَلُونَ عليها، يُذَكِّرُهم العقائدَ الدينيَّةَ والأخلاقَ الْمَرْضِيَّةَ، والأحكامَ الشرعيَّةَ فيَكُونونَ مِن العُلماءِ الرَّبَّانِيِّينَ والعُبَّادِ العارفِينَ والأئمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ.
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} به، وهذا فيه تَهديدٌ ووَعِيدٌ للمُكَذِّبِينَ، فإِنَّه سيُعَاقِبُهم على تَكذيبِهم بالعُقوبةِ البَليغةِ.
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ فإنَّهم لَمَّا كَفَروا به ورَأَوْا ما وَعَدَهم به، تَحَسَّروا؛ إذ لم يَهْتَدُوا به ولم يَنقادُوا لأَمْرِه، ففَاتَهم الثوابُ وحَصَلُوا على أشَدِّ العذابِ، وتَقطَّعَتْ بهم الأسبابُ.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}؛ أي: أعلَى مَراتِبِ العِلْمِ؛ فإنَّ أَعلى مَراتِبِ العلْمِ اليَقينُ، وهو العلْمُ الثابتُ، الذي لا يَتَزَلْزَلُ ولا يَزولُ.
واليَقِينُ مَراتِبُه ثلاثةٌ، كلُّ واحدةٍ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَها:
أوَّلُها: عِلْمُ اليَقينِ، وهو العلْمُ الْمُستفادُ مِن الخَبَرِ، ثم عَيْنُ اليَقينِ، وهو العلْمُ المُدْرَكُ بحاسَّةِ البصَرِ، ثم حَقُّ اليَقِينِ، وهو العِلْمُ الْمُدْرَكُ بحاسَّةِ الذَّوْقِ والْمُباشَرَةِ.
وهذا القرآنُ الكريمُ بهذا الوَصْفِ، فإنَّ ما فيه مِن العلومِ الْمُؤَيَّدَةِ بالبراهينِ القَطعيَّةِ، وما فيه مِن الحقائقِ والمعارِفِ الإيمانيَّةِ يَحْصُلُ به -لِمَن ذَاقَه- حَقُّ اليَقينِ.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}؛ أي: نَزِّهْهُ عمَّا لا يَلِيقُ بجَلالِه, وقَدِّسْهُ بذِكْرِ أوصافِ جَلالِه وجَمالِه وكَمالِه.
تَمَّ تَفسيرُ سُورةِ الحاقَّةِ، والحمدُ للهِ أوَّلاً وآخِراً، وظاهِراً وبَاطِناً على كَمالِه وأَفضالِه وعَدْلِه.