دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > البحوث التفسيرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25 صفر 1436هـ/17-12-2014م, 08:03 PM
الصورة الرمزية محمد بدر الدين سيفي
محمد بدر الدين سيفي محمد بدر الدين سيفي غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
الدولة: الجزائر(صانها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين)
المشاركات: 1,159
Arrow .: البحث التفسيري :. حول تفسير سورة البقرة [ من الآية (17) إلى الآية (18) ]

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث التفسيري
حول تفسير سورة البقرة
[من الآية (17) إلى الآية (18)) ]

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

عناصر البحث التفسيري:

§ مسائل علوم الآية:

§ المسائل التفسيرية:

§ المسائل اللغوية:

§ الأحاديث النبوية والآثار السلفية:

§ ملخص المسائل التفسيرية:
أسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق،،،،،،،،


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25 صفر 1436هـ/17-12-2014م, 08:19 PM
الصورة الرمزية محمد بدر الدين سيفي
محمد بدر الدين سيفي محمد بدر الدين سيفي غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
الدولة: الجزائر(صانها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين)
المشاركات: 1,159
افتراضي

§ مسائل علوم الآية:
-سبب نزول الآية:
سبب نزول قول الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قال أحمدُ بنُ عَلِيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} قال الواحدي: قال السدي: دخل النبي المدينة فأسلم ناس ثم نافقوا فكانوا كمثل رجل في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له فأبصر ما يتقيه إذ طفئت ناره في حيرة أخرجه الطبري). [العجاب في بيان الأسباب: 1/239]

-القراءات والوقف:
قَالَ أبو بكر محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بشَّار ابن الأَنباريِّ (ت:328هـ): (والوقف على: (يبصرون) حسن. وقوله: (صم بكم عمي) مرفوعون على الذم بإضمار: «هم صم بكم عمي».
وفي قراءة عبد الله: (صما بكما عميا) فيجوز النصب على الذم كما قال: {ملعونين أين ما ثقفوا أخذوا} [الأحزاب: 61] وكما قال: {وامرأته حمالة الحطب} [المسد: 4] وكما قال الشاعر:
سقوني الخمر ثم تكنفوني = عداة الله من كذب وزر ، فنصب «عداة الله» على الذم. والوقف على (يبصرون)، على هذا المذهب، صواب حسن.
والوقف على «الظلمات» غير تام لأن (لا يبصرون) في موضع نصب على الحال كأنه قال: «غير مبصرين». والوجه الآخر أن تنصب «صما» بـ«تركهم»، كأنه قال: «وتركهم صمًا بكم عميًا» فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على (يبصرون).
والوقف على: (يرجعون) حسن وليس بتام لأن قوله: (أو كصيب من السماء) نسق على قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) أو «كمثل صيب».).[إيضاح الوقف والابتداء: 1/499-502]

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 25 صفر 1436هـ/17-12-2014م, 08:58 PM
الصورة الرمزية محمد بدر الدين سيفي
محمد بدر الدين سيفي محمد بدر الدين سيفي غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
الدولة: الجزائر(صانها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين)
المشاركات: 1,159
افتراضي

§ المسائل التفسيرية:
- مسائل معاني الآيات:

في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
«
المثل والمثل والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان، وقد يكون مثل الشيء جرما مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلا له، فقوله تعالى: {مثلهم كمثل}معناه: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى: {مثل الجنّة} [الرعد: 35، محمد: 15] وفي تفسير قوله تعالى: {ليسكمثله شيءٌ} [الشورى: 11]؛ لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل: {وللّه المثل الأعلى} [النحل: 6]. وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية.
وقوله: مثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط .......كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالا عليه، وجوز الأخفش حذف الفاعل، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفا ووحد الذي لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد، والّذي أيضا ليس بإشارة إلى واحد ولا بد، بل إلى هذا الفعل: وقع من واحد أو من جماعة.
قال النحويون: الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع. واستوقد قيل معناه أوقد، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى.
قال أبو علي: وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي]:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى .......فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وأخلف لأهل واستخلف إذا جلب لهم الماء، ومنه قول الشاعر:
ومستخلفات من بلاد تنوفة .......لمصفرة الأشداق حمر الحواصل
ومنه قول الآخر:
... ... ... ... ....... سقاها فروّاها من الماء مخلف
ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل، وذلك يقتضي حاجته إلى النار، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له. واختلف في أضاءت فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت ال ....... أرض وضاءت بنورك الطرق
وعلى هذا، ف (ما) في قوله: ما حوله مفعولة، وقيل (أضاءت) لا تتعدى، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى، ف (ما) زائدة، وحوله ظرف. واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل (الذي استوقد نارا).
فقالت طائفة:هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات».
وقالت فرقة:إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.
وقالت فرقة:إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.
وقالت فرقة منهم قتادة:نطقهم بــ «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.
قال جمهور النحاة: جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على (الذي)، ويصح شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب بن رميلة]:
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم .......هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما» مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى: {فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ} [الحديد: 13].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلمات» بفتح اللام.
قال أبو الفتح: في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات). [المحرر الوجيز: 1/ 132-136]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18) }
[
يقال: مثلٌ ومثلٌ ومثيلٌ -أيضًا-والجمع أمثالٌ، قال اللّه تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
وتقدير هذا المثل:أنّ اللّه سبحانه، شبّههم في اشترائهم الضّلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التّبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلمّا أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلامٍ شديدٍ، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصمّ لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضّلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرّشد. وفي هذا المثل دلالةٌ على أنّهم آمنوا ثمّ كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، واللّه أعلم.
وقد حكى هذا الّذي قلناه فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره عن السّدّيّ ثمّ قال: والتّشبيه هاهنا في غاية الصّحّة؛ لأنّهم بإيمانهم اكتسبوا أوّلًا نورًا ثمّ بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النّور فوقعوا في حيرةٍ عظيمةٍ فإنّه لا حيرة أعظم من حيرة الدّين.
وزعم ابن جريرٍ أنّ المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقتٍ من الأوقات، واحتجّ بقوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].
والصّواب: أنّ هذا إخبارٌ عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنّه كان حصل لهم إيمانٌ قبل ذلك، ثمّ سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جريرٍ، رحمه اللّه، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3]؛ فلهذا وجّه [ابن جريرٍ] هذا المثل بأنّهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدّنيا، ثمّ أعقبهم ظلماتٌ يوم القيامة.
قال: وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الّذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ} [لقمان: 28] وقال تعالى: {مثل الّذين حمّلواالتّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة: 5]، وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصّتهم كقصّة الّذي استوقد نارًا. وقال بعضهم: المستوقد واحدٌ لجماعةٍ معه. وقال آخرون: الّذي هاهنا بمعنى الّذين كما قال الشّاعر:
وإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم .......هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون * صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النّظام، وقوله تعالى: {ذهب اللّه بنورهم}أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النّور، وأبقى لهم ما يضرّهم، وهو الإحراق والدّخان {وتركهم في ظلماتٍ}وهو ما هم فيه من الشّكّ والكفر والنّفاق، {لا يبصرون}لا يهتدون إلى سبل خيرٍ ولا يعرفونها، وهم مع ذلك {صمٌّ}لا يسمعون خيرًا {بكمٌ}لا يتكلّمون بما ينفعهم {عميٌ}في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} [الحجّ: 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية الّتي باعوها بالضّلالة.
ذكر أقوال المفسّرين من السّلف بنحو ما ذكرناه:
قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله}زعم أنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذى، فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشّرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و [عرف] الخير والشّرّ، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ.
وقال مجاهدٌ: {فلمّا أضاءت ما حوله} « أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى».
وقال عطاء الخرساني في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: «هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثمّ يدركه عمى القلب».
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن عكرمة، والحسن والسّدّيّ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}إلى آخر الآية، قال: «هذه صفة المنافقين». كانوا قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين استوقدوا ثمّ كفروا فذهب اللّه بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النّار فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، في هذه الآية، قال: « أمّا النّور: فهو إيمانهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وأمّا الظّلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وهم قومٌ كانوا على هدًى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك».
وأمّا قول ابن جريرٍ فيشبه ما رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: « هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ، كما سلب صاحب النّار ضوءه».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}«فإنّما ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلّا اللّه، أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
وقال الضّحّاك [في قوله] {ذهب اللّه بنورهم}«أمّا نورهم فهو إيمانهم الّذي تكلّموا به».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}«فهي لا إله إلّا اللّه؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا، ونكحوا النّساء، وحقنوا دماءهم، حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
وقال سعيدٌ، عن قتادة في هذه الآية: «إنّ المعنى: أنّ المنافق تكلّم بلا إله إلّا اللّه فأضاءت له الدّنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه، ولا حقيقةٌ في عمله».
{وتركهم في ظلماتٍ}قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ}يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} « أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم اللّه في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدًى، ولا يستقيمون على حقٍّ».
وقال السّدّيّ في تفسيره بسنده: {وتركهم في ظلماتٍ}فكانت الظّلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصريّ: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملًا من خير عملٍ به يصدّق به قول: لا إله إلّا اللّه». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 186 -189]
في تأويل قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك، وإما على إضمار هم.
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما. «صما، بكما، عميا» بالنصب، ونصبه على الحال من الضمير في مهتدين، وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من جعل الضمير في «نورهم» للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في تركهم.
قال بعض المفسرين قوله تعالى: {فهم لا يرجعون}إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره: معناه فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه). [المحرر الوجيز: 1/ 136]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({صمٌّ بكمٌ عميٌ}قال السّدّيّ بسنده: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}فهم خرسٌ عميٌ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}يقول: «لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه»، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن دعامة.
{فهم لا يرجعون}قال ابن عبّاسٍ: «أي لا يرجعون إلى هدًى»، وكذلك قال الرّبيع بن أنسٍ.
وقال السّدّيّ بسنده: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}إلى الإسلام.
وقال قتادة: {فهم لا يرجعون} «أي لا يتوبون ولا هم يذكرون». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 189]


- المسائل العقدية:
1.تنبيه المؤمنين لكشف حال المنافقين:
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (...واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل (الذي استوقد نارا).
فقالت طائفة:هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات».
وقالت فرقة:إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.
وقالت فرقة:إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.
وقالت فرقة منهم قتادة:نطقهم بــ «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.
قال جمهور النحاة: جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على (الذي)، ويصح شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب بن رميلة]:
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم .......هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما» مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى: {فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ} [الحديد: 13].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلمات» بفتح اللام.
قال أبو الفتح: في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات). [المحرر الوجيز: 1/ 132-136]

2.إزالة إشكال عقدي في لفظ"المماثلة" عند قوله تعالى (مثلهم كمثل):
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
«المثل والمثل والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان، وقد يكون مثل الشيء جرما مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلا له، فقوله تعالى: {مثلهم كمثل}معناه: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى: {مثل الجنّة} [الرعد: 35، محمد: 15] وفي تفسير قوله تعالى: {ليسكمثله شيءٌ} [الشورى: 11]؛ لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل: {وللّه المثل الأعلى} [النحل: 6]. وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية...). ). [المحرر الوجيز: 1/ 132-136]

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 25 صفر 1436هـ/17-12-2014م, 09:08 PM
الصورة الرمزية محمد بدر الدين سيفي
محمد بدر الدين سيفي محمد بدر الدين سيفي غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
الدولة: الجزائر(صانها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين)
المشاركات: 1,159
افتراضي


§ المسائل اللغوية:

- في تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً...} فإنما ضرب المثل - والله أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مثل للنفاق؛ فقال: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً}ولم يقل: "الذين استوقدوا"، وهو كما قال الله {تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت}وقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدةٍ}فالمعنى - والله أعلم -: إلا كبعث نفس واحدة.
ولو كان التشبيه للرجال؛ لكان مجموعاً كما قال: {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ}أراد: القيم والأجسام، وقال: {كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ}فكان مجموعاً إذا أراد تشبيه أعيان الرجال؛ فأجر الكلام على هذا، وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّداً في شعر فأجزه، وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعاً في شعر فهو أيضاً يراد به الفعل فأجزه؛ كقولك: ما فعلك إلا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلا كفعل الذّئب؛ فابن على هذا، ثم تلقي الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحمير وكالذّئب.
وإنما قال الله عزّ وجلّ: {ذهب اللّه بنورهم}؛ لأن المعنى ذهب إلى المنافقين، فجمع لذلك، ولو وحّد لكان صواباً كقوله: {إنّ شجرة الزّقّوم * طعام الأثيم * كالمهل تغلي في البطون}و"يغلي"؛ فمن أنّث: ذهب إلى الشجرة، ومن ذكّر: ذهب إلى المهل، ومثله قوله عز وجل: {أمنةً نعاساً تغشى طائفةً منكم} للأمنة، "ويغشى": للنعاس). [معاني القرآن: 1/ 15-16]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون}ثم انقطع النصب، وجاء الاستئناف: {صمّ بكمٌ}،
قال النابغة:
توهّمـت آيـاتٍ لهـا فعرفهـالستّة أعوامٍ وذا العام سابع

ثم استأنف فرفع، فقال:
رمـــادٌ كـكـحـل الـعـيــن لأيــــا أبـيـنــهونؤىٌ كجذم الحوض أثلم خاشع


).
[مجاز القرآن: 1/32-33]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}
قوله: {كمثل الّذي استوقد ناراً}فهو في معنى "أوقد"، مثل قوله: "فلم يستجبه" أي: "فلم يجبه"، وقال الشاعر:
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى فـلــم يستـجـبـه عـنــد ذاك مـجـيـب

أي: "فلم يجبه".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون}فجعل "الذي" جميعاً، فقال: {وتركهم}؛ لأن "الذي" في معنى الجميع، كما يكون "الإنسان" في معنى "الناس".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}فرفع على قوله: "هم صمٌّ بكمٌ عميٌ" رفعه على الابتداء، ولو كان على أول الكلام كان النصب فيه حسناً.
وأما {حوله}فانتصب على الظرف، وذلك أن الظرف منصوب، والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر:
هذا النهار بدا لها من همّهامــا بالـهـا باللـيـل زال زوالـهــا

نصب "النهار" على الظرف، وإن شاء رفعه وأضمر فيه وأما "زوالها"، فإنه كأنه قال: "أزال اللّه الليل زوالها"). [معاني القرآن: 1/ 38-39]
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (
ودويـــــــة لا يــهــتـــدى لــفــلاتــهــا بعرفان أعلام ولا ضوء كوكب
...
يقول: لا يهتدى فيها بضوء الكواكب لعمائها. ويقال: هو الضَّوْء والضُّوْء، وقد أضاء الشيء يُضِيء إضَاءَة.
وضَاء يضوء ضَوْءا وضُوْءا). [شرح ديوان امرئ القيس: 372-373]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و{الّذي استوقد ناراً}أي: أوقدها). [تفسير غريب القرآن: 42]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)}
هذا المثل ضربه اللّه - جلّ وعزّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الإسلام، وحقنهم دماءهم بما أظهروا، فمثل ما تجملوا به من الإسلام كمثل النار التي يستضيء بها المستوقد، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم}معناه -واللّه أعلم-: إطلاع اللّه المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله عزّ وجلّ من كفرهم.
ويجوز أن يكون: ذهب الله بنورهم في الآخرة، أي: عذّبهم فلا نور لهم؛ لأن اللّه جلّ وعزّ قد جعل للمؤمنين نوراً في الآخرة، وسلب الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك قوله: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً}). [معاني القرآن: 1/ 93]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال ابن كيسان: {استوقد} بمعنى: أوقد، ويجوز أن يكون استوقدها من غيره، أي: طلبها من غيره.
قال الأخفش: هو سعيد الذي في معنى جمع.
قال ابن كيسان: لو كان كذلك؛ لأعاد عليه ضمير الجمع كما قال الشاعر:
وإن الذي حانت يفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يـا أم خالـد

قال : ولكنه واحد شبه به جماعة؛ لأن القصد كان إلى الفعل ولم يكن إلى تشبيه العين بالعين، فصار مثل قوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة}فالمعنى إلا كبعث نفس واحدة، وكإيقاد الذي استوقد ناراً). [معاني القرآن: 1/ 101-102]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم}
ويجوز أن يكون "ما" بمعنى "الذي"، وأن تكون زائدة، وأن تكون نكرة، والمعنى: أضاءت له فأبصر الذي حوله). [معاني القرآن: 1/ 102-103]

- في تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون...} رفعن، وأسماؤهن في أوّل الكلام منصوبة؛ لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثمّ استؤنفت {صمٌّ بكمٌ عميٌ}في آية أخرى، فكان أقوى للاستئناف، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز -أيضاً- الاستئناف؛ قال الله تبارك تعالى: {جزاءً من ربّك عطاءً حساباً * ربّ السّموات والأرض وما بينهما الرّحمن}،"الرحمن" يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية.
فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفاً فكثير؛ من ذلك قول الله: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم}إلى قوله: {وذلك هو الفوز العظيم}ثم قال -جل وجهه- : {التّائبون العابدون الحامدون}بالرفع في قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود: (التائبين العابدين الحامدين)، وقال: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربّكم}يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك، وفي قراءة عبد الله: (صمّاً بكماً عمياً) بالنصب، ونصبه على جهتين:
إن شئت على معنى:تركهم صمّاً بكماً عمياً، وإن شئت:اكتفيت بأن توقع الترك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف (صمّاً) بالذمّ لهم، والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح؛ لأن فيه معنى الأسماء مثل معنى قولهم: ويلاً له، وثواباً له، وبعداً، وسقياً، ورعياً). [معاني القرآن: 1/ 16]
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (
مصالـق بالمقالـة غيـر بكـم إذا أحزى المخيل مقدمينا
(بُكْم) خُرْس). [شرح أشعار الهذليين: 2/543]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقولها: "وصم لا يسمعن"، طريف من كلام العرب، وذلك أنه يقال لكل صحيح البصر ولا يعمل بصره: أعمى، وإنما يراد به أنه قد حل محل من لا يبصر البتة، إذا لم يعمل بصره، وكذلك يقال للسميع الذي لا يقبل: أصم، قال الله جلَّ ذكرهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}كما قال جل ثناؤه: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}وكذلك: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}وقوله عز وجل: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء} ). [الكامل: 2/ 684]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} رفع على خبر الابتداء، كأنه قيل: هؤلاء الذين قصتهم هذه القصة {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)}ويجوز في الكلام (صماً بكماً عمياً) على: وتركهم صمّاً بكماً عمياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تروى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بكم): أنه بمنزلة من ولد أخرس، ويقال: الأبكم: المسلوب الفؤاد.
و"صم" و"بكم" واحدهم: أصم وأبكم، ويجوز أن يقع جمع "أصم": صمّان، وكذلك "أفعل" كله يجوز فيه "فعلان"، نحو: "أَسْود" و"سُودَان"، ومعنى "سود" و"سودان" واحد، كذلك "صمّ" و"صمّان"، و"عُرج" و"عرجان"، و"بكم" و"بكمان"). [معاني القرآن: 1/94]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 25 صفر 1436هـ/17-12-2014م, 09:45 PM
الصورة الرمزية محمد بدر الدين سيفي
محمد بدر الدين سيفي محمد بدر الدين سيفي غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
الدولة: الجزائر(صانها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين)
المشاركات: 1,159
افتراضي




§ الأحاديث النبوية والآثار السَّلفية:
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله} «هي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركوا في ظلمات لا يبصرون».). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 39]
قال أبو جعفر الطبري:( اختلفت أهل التّأويل في تأويل ذلك، فروي عن ابن عبّاسٍ فيه أقوالٌ.
أحدها ما حدّثنا به، محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «ضرب اللّه للمنافقين مثلاً فقال:{مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لايبصرون}أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدًى ولا يستقيمون على حقٍّ».
والآخر ما حدّثنا به المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {مثلهم كمثلالّذي استوقد نارًا}إلى آخر الآية «هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ كما سلب صاحب النّار ضوءه {وتركهم في ظلماتٍ}، يقول: في عذابٍ».
والثّالث ما حدّثني به، موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حولهذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « زعم أنّ أناسًا دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجلٍ كان في ظلمةٍ فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قذًى أو أذًى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذًى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشّرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشّرّ. فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ. وأمّا النّور فالإيمان بما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، وكانت الظّلمة نفاقهم».
والآخر ما حدّثني به، محمّد بن سعيدٍ قال: حدّثني أبي سعيد بن محمّدٍ، قال: حدّثني عمّي، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {مثلهم كمثلالّذي استوقد نارًا}إلى: {فهم لا يرجعون}«ضربه اللّه مثلاً للمنافق»، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم}قال: «أمّا النّور فهو إيمانهم الّذي يتكلّمون به. وأمّا الظّلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الذى يتكلّمون به وهم قومٌ كانوا على هدًى ثمّ نزع منهم فعتوا بعد ذلك».
وقال آخرون بما؛ حدّثني به، بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم فيظلماتٍ لا يبصرون} « وإنّ المنافق تكلّم بلا إله إلاّ اللّه فأضاءت له في الدّنيا فناكح بها المسلمين وعاد بها المسلمين ووارث بها المسلمين وحقن بها دمه وماله. فلمّا كان عند الموت سلبها المنافق لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه ولا حقيقةٌ في علمه».
-
حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}«
هي لا إله إلاّ اللّه أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا ونكحوا النّساء وحقنوا دماءهم حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
-
حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ، قوله: {كمثل الّذي استوقدنارًا فلمّا أضاءت ما حوله}قال: «أمّا النّور فهو إيمانهم الّذي يتكلّمون به؛ وأمّا الظّلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم».
وقال آخرون بما حدّثني به، محمّد بن عمرٍو الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ، قال: حدّثنا ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}قال: « أمّا إضاءة النّار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى؛ وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضّلالة».
-
وحدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو حذيفة، عن شبلٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}«أمّا إضاءة النّار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى؛ وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضّلالة».
-
حدّثني القاسم، قال: حدّثني الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
-
وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، عن عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: «ضرب مثل أهل النّفاق فقال:{مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: إنّما ضوء النّار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
-
وحدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن زيدٍ، في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا}إلى آخر الآية. قال: « هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين استوقدوا ثمّ كفروا، فذهب اللّه بنورهم، فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النّار فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
وأولى التّأويلات بالآية ما قاله قتادة والضّحّاك، وما رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ؛ وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه إنّما ضرب هذا المثل للمنافقين الّذين وصف صفتهم وقصّ قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}لا المعلنين بالكفر المجاهدين بالشّرك، ولو كان المثل لمن آمن إيمانًا صحيحًا ثمّ أعلن بالكفر إعلانًا صحيحًا على ما ظنّ المتأوّل قول اللّه جلّ ثناؤه: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون}أنّ ضوء النّار مثلٌ لإيمانهم الّذي كان منهم عنده على صحّةٍ، وأنّ ذهاب نوره مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحّةٍ؛ لم يكن هنالك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ، وأنّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممّن لم يبد لك قولاً ولا فعلاً إلاّ ما أوجب لك العلم بحاله الّتي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه الّتي هو مقيمٌ عليها؟
إنّ هذا لغير شكٍّ من النّفاق بعيدٌ ومن الخداع بريءٌ، وإن كان القوم لم تكن لهم إلاّ حالتان: حال إيمانٍ ظاهرٍ وحال كفرٍ ظاهرٍ، فقد سقط عن القوم اسم النّفاق؛ لأنّهم في حال إيمانهم الصّحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصّحيح كانوا كافرين، ولا حالة هناك ثالثةٌ كانوا بها منافقين، وفي وصف اللّه جلّ ثناؤه إيّاهم بصفة النّفاق ما ينبئ عن أنّ القول غير القول الّذي زعمه من زعم أنّ القوم كانوا مؤمنين ثمّ ارتدّوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلاّ أن يكون قائل ذلك أراد أنّهم انتقلوا من إيمانهم الّذي كانوا عليه إلى الكفر الّذي هو نفاقٌ، وذلك قولٌ إن قاله لم تدرك صحّته إلاّ بخبرٍ مستفيضٍ أو ببعض المعاني الموجبة صحّته، فأمّا في ظاهر الكتاب، فلا دلالة على صحّته لاحتماله من التّأويل ما هو أولى به منه.
فإذ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنّا باللّه وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتّى حكم لهم بذلك في عاجل الدّنيا بحكم المسلمين في حقن الدّماء والأموال والأمن على الذّرّيّة من السّباء، وفي المناكحة والموارثة؛ كمثل استضاءة الموقد النّار بالنّار، حتّى ارتفق بضيائها وأبصر به ما حوله مستضيئًا بنوره من الظّلمة، خمدت النّار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد المستضيء به في ظلمةٍ وحيرةٍ.
وذلك أنّ المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الّذي دافع عنه في حياته القتل والسّباء مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه، تخيّل إليه بذلك نفسه أنّه باللّه ورسوله والمؤمنين مستهزئٌ مخادعٌ، حتّى سوّلت له نفسه، إذ ورد على ربّه في الآخرة، أنّه ناجٍ منه بمثل الّذي نجا به في الدّنيا من الكذب والنّفاق.
أوما تسمع اللّه جلّ ثناؤه يقول إذ نعتهم ثمّ أخبرخبرهم عند ورودهم عليه: {يوم يبعثهم اللّه جميعًا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنّهم على شيءٍ ألا إنّهم هم الكاذبون} ظنًّا من القوم أنّ نجاءهم من عذاب اللّه في الآخرة في مثل الّذي كان به نجاؤهم من القتل والسّباء وسلب المال في الدّنيا من الكذب والإفك وأنّ خداعهم نافعهم هنالك نفعه إيّاهم في الدّنيا، حتّى عاينوا من أمر اللّه ما أيقنوا به أنّهم كانوا من ظنونهم في غرورٍ وضلالٍ، واستهزاءٍ بأنفسهم وخداعٍ، إذ أطفأ اللّه نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوا سعيرًا، فذلك حين ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقد النّار بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمه حيران تائهًا؛ يقول اللّه جلّ ثناؤه: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرّحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنّكم فتنتم أنفسكم وتربّصتم وارتبتم وغرّتكم الأمانيّ حتّى جاء أمر اللّه وغرّكم باللّه الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فديةٌ ولا من الّذين كفروا مأواكم النّار هي مولاكم وبئس المصير}.
فإن قال لنا قائلٌ:إنّك ذكرت أنّ معنى قول اللّه تعالى ذكره: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}خمدت وانطفأت، وليس ذلك بموجودٍ في القرآن، فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل:قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فيما نطقت به الدّلالة الكافية على ما حذفت وتركت، كما قال أبو ذؤيبٍ الهذليّ:
عصيت إليها القلب إنّي لأمرها .......سميعٌ فما أدري أرشدٌ طلابها

يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طلابها أم غيٌّ، فحذف ذكر أم غيٌّ، إذ كان فيما نطق به الدّلالة عليها. وكما قال ذو الرّمّة في نعت حمير:
فلمّا لبسن اللّيل أو حين نصّبت .......له من خذا آذانها وهو جانح

يعني: أو حين أقبل اللّيل، في نظائر لذلك كثيرةٍ كرهنا إطالة الكتاب بذكرها، فكذلك قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}لمّا كان فيه وفيما بعده من قوله: {ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون}دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره اختصر الكلام طلب الإيجاز.
وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده، نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النّار؛ لأنّ معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون بعد الضّياء الّذي كانوا فيه في الدّنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون، كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد بانطفاء ناره وخمودها فبقي في ظلمةٍ لا يبصر.
والهاء والميم في قوله: {ذهب اللّه بنورهم}عائدةٌ على الهاء والميم في قوله: {مثلهم}). [جامع البيان: 1/ 332 - 345]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17)}
قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}
-
حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: «هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يتعزون بالإسلام فينا المسلمين ويقاسمونهم الفيء فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ كما سلب صاحب النّار ضوءه».
-
حدّثنا عصام بن الرّوّاد، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}« فإنّما ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص- بلا إله إلا اللّه- أضاء له فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
-
حدّثنا عصام بن الرّوّاد، ثنا آدم، ثنا أبو شيبة- يعني شعيب- بن رزيقٍ عن عطاءٍ الخراسانيّ، في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: «هذا مثل المنافق يبصر أحيانًا ثمّ يدركه عمى القلب»، وروي عن عكرمة والحسن والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ نحو قول عطاءٍ الخراسانيّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 50 - 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله}
-
حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {فلمّا أضاءت ما حوله}«أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى».
-
حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فلمّا أضاءت ما حوله}زعم أنّ أناسًا دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- المدينة ثمّ إنّهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ فأوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله من قذًى أو أذًى فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منها فبينما هو كذلك إذ أطفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذًى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشّرك فأسلم فعرف الحلال والحرام، والخير من الشّرّ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشّرّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ذهب اللّه بنورهم}
[الوجه الأول]
-
حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {ذهب اللّه بنورهم}«وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكفّار والضّلالة».
والوجه الثّاني:
-
حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنبأ عبد الرّزّاق، أنا معمرٌ عن قتادة: «حتّى إذا ماتوا- يعني- المنافقين، ذهب بنورهم.».
الوجه الثّالث:
-
أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النّيسابوريّ فيما كتب إليّ، ثنا وهيب ابن جريرٍ، ثنا أبي، عن عليّ بن الحكم، عن الضّحّاك، في قوله: {ذهب اللّه بنورهم}«فهو إيمانهم الذي تكلموا به». ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وتركهم في ظلمات}
[الوجه الأول]
-
ذكر أبو زرعة، ثنا سعيد بن محمّدٍ الجرميّ، ثنا يحيى بن واضحٍ أبو تميلة، ثنا أبو الحارث عبيد بن سليمان عن الضّحّاك بن مزاحمٍ: {وتركهمفي ظلماتٍ}قال: «هم أهل النّار».
-
حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ{وتركهم في ظلماتٍ}يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
الوجه الثّاني:
-
حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ محمّد بن عمرٍو ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: «وتركهم في ظلماتٍ حتّى خرجوا به من ظلمة الكفر بكفرهم ونفقاتهم فيه فتركهم اللّه في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدًى ولا يستقيمون على حقٍّ».
-
أخبرنا أبو الأزهر فيما كتب إليّ ثنا وهب بن جريرٍ ثنا أبي عن عليّ ابن الحكم عن الضّحّاك في قوله: «أمّا الظّلمة فهي ضلالتهم وكفرهم».
-
حدّثنا الحسن بن أحمد أبو فاطمة ثنا، إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ الواسطيّ ثنا سرور بن المغيرة بن زاذان بن أخي منصور بن زاذان عن عبّاد بن منصورٍ عن الحسن في قوله: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون}«فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملا من خيرٍ عمل به يصدّق به قول لا إله إلا هو». ). [تفسير القرآن العظيم: 1/52]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لا يبصرون}
-
حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: {لا يبصرون}«أي لا يبصرون الحقّ يقولون».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 52]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {اشتروا الضلالة بالهدى}يقول: « آمنوا ثم كفروا فلما أضاءت ما حوله قال أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين وإلى الهدي وأما ذهاب نورهم فإقبالهم إلى الكافرين وإلى الضلالة». ). [تفسير مجاهد: 70] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}الآية، قال: « هذا ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثوهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه {وتركهم في ظلمات}يقول: في عذاب{صم بكم عمي}لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه{أو كصيب}هو المطر، ضرب مثله في القرآن{فيه ظلمات}يقول: ابتلاء{ورعد وبرق}تخويف{يكاد البرق يخطف أبصارهم}يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين{كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول:كلما أصاب المنافقون من الإسلام اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله:{ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج الآية 11] الآية».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}الآية، قال: إن ناس دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقدا نارا {أضاءت ما حوله}من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقى، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر بينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم {صم بكم}فهم الخرس {فهم لايرجعون}إلى الإسلام، وفي قوله {أو كصيب}الآية، قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا، قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمد فنضع أيدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكر بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما{كلماأضاء لهم مشوا فيه}فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة وفتحا {مشوا فيه}وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق: واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق {وإذا أظلم عليهم قاموا}فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد وارتدوا كفارا كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {كمثل الذي استوقد}
قال: «ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله {ذهب الله بنورهم}أما{النور}فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم، وفيقوله{أو كصيب}الآية، قال: الصيب المطر، وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك وأما{الظلمات}فالضلالة وأما{البرق}فالإيمان، وهم أهل الكتاب{وإذا أظلم عليهم}فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مثلهم}الآية، قال: «ضرب الله مثلا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق{صم بكمعمي}عن الخير{فهم لا يرجعون}إلى هدى ولا إلى خير، وفي قوله: {أو كصيب}الآية، يقول: هم من ظلمات ما هم فيه من الكفروالحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم على مثل ما وصف من الذي هم في ظلمة الصيب فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق{حذر الموت والله محيط بالكافرين}منزل ذلك بهم من النقمة{يكاد البرق يخطف أبصارهم}أي لشدة ضوء الحق{كلما أضاء لهم مشوا فيه}أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر{قاموا}أي متحيرين{ولو شاء الله لذهب بسمعهم}أي لما سمعوا تركوا من الحق بعد معرفته».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال: «أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة وإضاءة البرق على نحو المثل{والله محيطبالكافرين}قال: جامعهم في جهنم».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافقين، إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين ووارث بها المسلمين وغازى بها المسلمين وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله فسلبها المنافق عند الموت فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها، كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه {فهم لا يرجعون}عن ضلالتهم ولا يتوبون ولا يتذكرون{أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم فيآذانهم من الصواعق حذر الموت}قال: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجنبه لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى{يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون الآية 4] {يكاد البرق يخطف أبصارهم}الآية، قال: {البرق}هو الإسلام والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش{قالوا إنا معكم}ومنكم وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى وهو كما هو نعته الله». ). [الدر المنثور: 1/ 170 - 176]
حدّثنا محمد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}«عن الخير».
-
حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّبكمٌ عميٌ}يقول: «لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه».
-
وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {بكمٌ}«هم الخرس».
-
حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، قوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}«صمٌّ عن الحقّ فلا يسمعونه، عميٌ عنالحقّ فلا يبصرونه، بكمٌ عن الحقّ فلا ينطقون به». ). [جامع البيان: 1/ 345 - 348]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى:{فهم لا يرجعون}.
قال أبو جعفرٍ: وقوله: {فهم لا يرجعون}إخبارٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الّذين نعتهم اللّه باشترائهم الضّلالة بالهدى، وصممهم عن سماع الخير والحقّ، وبكمهم عن القيل بهما، وعماهم عن إبصارهما؛ أنّهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يثوبون إلى الإنابة من نفاقهم، فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدًا، ويقولوا حقًّا، أو يسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفّار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم الّذين وصفهم بأنّه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشّى على أبصارهم.
وبمثل الّذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
-
حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة: {فهم لا يرجعون}«أي لا يتوبون ولا يذكرون».
-
وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {فهم لا يرجعون} « إلى الإسلام».
وقد روي عن ابن عبّاسٍ قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر.
وهو ما حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فهم لا يرجعون}«أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خيرٍ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه.».
وهذا تأويلٌ ظاهر التّلاوة بخلافه، وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبر عن القوم أنّهم لا يرجعون عن اشترائهم الضّلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحقّ من غير حصرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقتٍ دون وقتٍ وحالٍ دون حالٍ. وهذا الخبر الّذي ذكرناه عن ابن عبّاسٍ ينبئ عن أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقتٍ وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأنّ لهم السّبيل إلى الرّجوع عنه. وذلك من التّأويل دعوى باطلةٌ لا دلالة عليها من ظاهرٍ ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجّة فيسلّم لها). [جامع البيان: 1/ 348 - 350]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
قوله تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}
-
حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ {صمٌّ بكمٌ عميٌ}يقول: «لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه».
-
حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ {صمٌّ بكمٌ}قال: «فهم الخرس عميٌ».
-
حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة: « صمٌّ عن الحقّ فهم لا يسمعونه، بكمٌ عنه فهم لا ينطقون به، عميٌ عنه فهم لا يبصرونه».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 52 - 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {بكمٌ}
-
حدّثنا موسى بن أبي موسى الأنصاريّ، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ، عن أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، قوله: {بكمٌ}«يعني خرسًا عن الكلام بالإيمان فلا يستطيعون الكلام. {صمٌّ}يعني صمّ الآذان».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {عميٌ}
-
حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، قوله: {عميٌ}قال: «عميٌ عن الحقّ فهم لا يبصرونه».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فهم لا يرجعون}
[الوجه الأول]
-
حدّثنا محمّد بن يحيى ثنا أبو غسّان، ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق، فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}«أي لا يرجعون إلى هدًى». وكذلك فسّره الرّبيع بن أنسٍ.
-
حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}«إلى الإسلام».
الوجه الثّاني:
-
حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ عن قتادة يقول اللّه: {فهم لا يرجعون}«أي لا يتوبون ولايذّكّرون».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}الآية، قال: «هذا ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثوهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النارضوءه{وتركهم في ظلمات}يقول: في عذاب{صم بكم عمي}لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه{أو كصيب}هو المطر، ضربمثله في القرآن{فيه ظلمات}يقول:ابتلاء{ورعد وبرق}تخويف{يكاد البرق يخطف أبصارهم}يقول: يكاد محكم القرآن يدل علىعورات المنافقين{كلما أضاء لهم مشوا فيه}يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج الآية 11] الآية».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}الآية، قال: إن ناس دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقدا نارا {أضاءت ما حوله}من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقى، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر بينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم {صم بكم}فهم الخرس {فهم لايرجعون}إلى الإسلام، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا، قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمد فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكر بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما {كلماأضاء لهم مشوا فيه}فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة وفتحا {مشوا فيه}وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق: واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق {وإذا أظلم عليهم قاموا}فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد وارتدوا كفارا كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله {كمثل الذي استوقد}
قال: «ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله:{ذهب الله بنورهم}أما{النور}فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم»، وفي قوله {أو كصيب}الآية، قال: «الصيب المطر، وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك وأما{الظلمات}فالضلالة وأما{البرق}فالإيمان، وهم أهل الكتاب{وإذا أظلم عليهم}فهورجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مثلهم}الآية، قال: «ضرب الله مثلا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق{صم بكمعمي}عن الخير{فهم لا يرجعون}إلى هدى ولا إلى خير»، وفي قوله: {أو كصيب}الآية، يقول: «هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم على مثل ما وصف من الذي هم في ظلمة الصيب فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق{حذر الموت والله محيط بالكافرين}منزل ذلك بهم من النقمة{يكاد البرق يخطف أبصارهم}أي لشدة ضوء الحق{كلما أضاء لهم مشوا فيه}أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر{قاموا}أي متحيرين{ولو شاء الله لذهب بسمعهم}أي لما سمعوا تركوا من الحق بعد معرفته.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال: «أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة وإضاءة البرق على نحو المثل{والله محيط بالكافرين}قال: جامعهم في جهنم.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافقين، إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين ووارث بها المسلمين وغازى بها المسلمين وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله فسلبها المنافق عند الموت فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها، كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه {فهم لا يرجعون}عن ضلالتهم ولا يتوبون ولا يتذكرون»،{أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم فيآذانهم من الصواعق حذر الموت}قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافق لجنبه لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى{يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون الآية 4] »، {يكادالبرق يخطف أبصارهم}الآية، قال:«{البرق}هو الإسلام والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش{قالوا إنا معكم}ومنكم وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى وهو كما هو نعته الله». ). [الدر المنثور: 1/ 170 - 176] (م)
تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18) }
[
يقال: مثلٌ ومثلٌ ومثيلٌ -أيضًا-والجمع أمثالٌ، قال اللّه تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
وتقدير هذا المثل:أنّ اللّه سبحانه، شبّههم في اشترائهم الضّلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التّبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلمّا أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلامٍ شديدٍ، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصمّ لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضّلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرّشد. وفي هذا المثل دلالةٌ على أنّهم آمنوا ثمّ كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، واللّه أعلم.
وقد حكى هذا الّذي قلناه فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره عن السّدّيّ ثمّ قال: والتّشبيه هاهنا في غاية الصّحّة؛ لأنّهم بإيمانهم اكتسبوا أوّلًا نورًا ثمّ بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النّور فوقعوا في حيرةٍ عظيمةٍ فإنّه لا حيرة أعظم من حيرة الدّين.
وزعم ابن جريرٍ أنّ المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقتٍ من الأوقات، واحتجّ بقوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].
والصّواب: أنّ هذا إخبارٌ عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنّه كان حصل لهم إيمانٌ قبل ذلك، ثمّ سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جريرٍ، رحمه اللّه، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3]؛ فلهذا وجّه [ابن جريرٍ] هذا المثل بأنّهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدّنيا، ثمّ أعقبهم ظلماتٌ يوم القيامة.
قال: وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الّذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ} [لقمان: 28] وقال تعالى: {مثل الّذين حمّلواالتّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة: 5]، وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصّتهم كقصّة الّذي استوقد نارًا. وقال بعضهم: المستوقد واحدٌ لجماعةٍ معه. وقال آخرون: الّذي هاهنا بمعنى الّذين كما قال الشّاعر:
وإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم .......هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون * صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النّظام، وقوله تعالى: {ذهب اللّه بنورهم}أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النّور، وأبقى لهم ما يضرّهم، وهو الإحراق والدّخان {وتركهم في ظلماتٍ}وهو ما هم فيه من الشّكّ والكفر والنّفاق، {لا يبصرون}لا يهتدون إلى سبل خيرٍ ولا يعرفونها، وهم مع ذلك {صمٌّ}لا يسمعون خيرًا {بكمٌ}لا يتكلّمون بما ينفعهم {عميٌ}في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} [الحجّ: 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية الّتي باعوها بالضّلالة.
ذكر أقوال المفسّرين من السّلف بنحو ما ذكرناه:
قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله}زعم أنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذى، فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشّرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و [عرف] الخير والشّرّ، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ.
وقال مجاهدٌ: {فلمّا أضاءت ما حوله} « أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى».
وقال عطاء الخرساني في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: «هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثمّ يدركه عمى القلب».
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن عكرمة، والحسن والسّدّيّ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}إلى آخر الآية، قال: «هذه صفة المنافقين». كانوا قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين استوقدوا ثمّ كفروا فذهب اللّه بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النّار فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، في هذه الآية، قال: « أمّا النّور: فهو إيمانهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وأمّا الظّلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وهم قومٌ كانوا على هدًى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك».
وأمّا قول ابن جريرٍ فيشبه ما رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: « هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ، كما سلب صاحب النّار ضوءه».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}«فإنّما ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلّا اللّه، أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
وقال الضّحّاك [في قوله] {ذهب اللّه بنورهم}«أمّا نورهم فهو إيمانهم الّذي تكلّموا به».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}«فهي لا إله إلّا اللّه؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا، ونكحوا النّساء، وحقنوا دماءهم، حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
وقال سعيدٌ، عن قتادة في هذه الآية: «إنّ المعنى: أنّ المنافق تكلّم بلا إله إلّا اللّه فأضاءت له الدّنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه، ولا حقيقةٌ في عمله».
{وتركهم في ظلماتٍ}قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ}يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} « أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم اللّه في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدًى، ولا يستقيمون على حقٍّ».
وقال السّدّيّ في تفسيره بسنده: {وتركهم في ظلماتٍ}فكانت الظّلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصريّ: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملًا من خير عملٍ به يصدّق به قول: لا إله إلّا اللّه». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 186 -189]

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 25 صفر 1436هـ/17-12-2014م, 10:03 PM
الصورة الرمزية محمد بدر الدين سيفي
محمد بدر الدين سيفي محمد بدر الدين سيفي غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
الدولة: الجزائر(صانها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين)
المشاركات: 1,159
افتراضي

تنبيه لهيئة الإشراف:
بعد المراجعة لتطبيقات البحث التفسيري للزملاء -من الطلبة النجباء- ومدى استيعابهم لشرح شيخنا عبد العزيز الداخل المطيري نفع الله به على طريقة البحث التفسيري؛ فإن ما تقدم من بحث أعتبره مجرد محاولة أولى -أو مسودّة على الصحيح- وستليها إن شاء الله تعديلات في صميم التطبيق ومحتواه، بحيث يعدل فيه العناصر الرئيسية وتذكر تحته عناصر فرعية ، واختصارات للمكرر من النقولات كما في الآثار السلفية، وضبط وحصر المسائل تحت كل صنف بما يناسبه، أسأل الله الإعانة والسداد...

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
البيت, التفسيري


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:41 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir