تلخيص الباب الثالث من كتاب المرشد الوجيز
من الأحاديث الصحيحة في نزول القرآن على سبعة أحرف :
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقرأني جبريل عليه السلام على حرف واحد فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ) رواه البخاري ومسلم .
- وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ "سورة الفرقان" على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: ((أرسله))، فأرسله عمر فقال لهشام: ((اقرأ يا هشام))، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر))، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه)). واللفظ للبخاري.
- وفي سنن أبي داود عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبي، إني أقرئت القرآن، فقال لي: على حرف؟ فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، قلت: على حرفين، فقيل لي: على حرفين؟ فقال الملك الذي معي: قل على ثلاث، فقلت: على ثلاث، حتى بلغت سبعة أحرف)، ثم قال: (ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب).
وقد تواترت الأحاديث في نزول القرآن على سبعة أحرف إلاّ حديثا يروى عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنزل القرآن على ثلاثة أحرف ) قال أبو عبيد ولا نرى المحفوظ إلا السبعة لأنها المشهورة واختار الإمام أبو شامة المقدسي إما أن يكون معناه أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف ، أو أنزل ابتداء على ثلاثة ثم زيد إلى سبعة .
في المراد بالسبعة أحرف التي نزل القرآن عليها :
اختلفت أقوال العلماء في ذلك :
1- سبع لغات : أ _ من لغات العرب : وهو قول أبوعبيد القاسم بن سلام ، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني .
فبعضه نزل بلغة قريش وبعضه نزل بلغة هوازن وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة أهل اليمن وكذلك سائر اللغات ، ومعانيها في هذا كله واحدة .
دليلهم : قول ابن مسعود رضي الله عنه : ( إني سمعت القرأة فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم ، إنما هو كقول أحدكم هلم وتعال ) .
إنكار هذا القول : وأنكر ابن قتيبة هذا القول واستعظمه فقال : لا يكون في القرآن لغة تخالف لغة قريش لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) ، إلا أن يكون القائل أراد ماوافق من هذه اللغات لغة قريش .
الرد عليه : ورد الإمام أبو شامة المقدسي عليه بتفسير أيوب السختياني لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) أراد العرب كلهم ، وعلى هذا القول لايستقيم اعتراض ابن قتيبة على ذلك التأويل ، وبأنه إنما أبيح أن يقرأ بغير لسان قريش توسعة على العرب فلا ينبغي أن يوسع على قوم دون قوم ، فلا يكلف أحد إلا قدر استطاعته فمن كانت لغته الإمالة أو تخفيف الهمز ، أو الادغام أو ضم ميم الجمع أو صلة هاء الكتابة ، أو نحوذلك فكيف يكلف بغيره ؟
ب- وقال آخرون هذه اللغات إنما تكون في مضر : واحتجوا بقول عثمان : ( نزل القرآن بلسان مضر ) فقالوا : جائز أن يكون منها لقريش ولكنانة ولأسد ولهذيل ولتميم ولضبة ولقيس .
وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر ، وقالوا في مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن عليها ، وفي سنن أبي داود أن عمر كتب إلى ابن مسعود أن يقرئ الناس بلغة قريش ولا يقرئهم بلغة هذيل .
والصحيح أنه يجوز للناس أن يقرءوه على لغاتهم ، ومن أراد من العرب حفظه فالمختار له أن يقرأه على لسان قريش .
د- وروى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس قال : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف في عجز هوازن منها خمسة ) : قال أبو حاتم : عجز هوازن : ثقيف ، وبنوسعد بن بكر ، وبنو جشم ، وبنو نصر بن معاوية .
إنكار بعض أهل العلم أن تكون سبع لغات :
وقد أنكر كثير من العلماء أن يكون المعنى سبع لغات وقالوا : هذا لا معنى له ، لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض في أول الأمر ، لأنه من كانت لغته شيئا قد جبل عليه وفطر به لم ينكر عليه ، وأيضا فإن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي مكي ، وقد اختلفت قراءتهما ومحال أن ينكر عليه عمر لغته ، ومحال أن يقرئ النبي صلى الله عليه واحدا منهما بغير مايعرفه من لغته .
-والقائلون بأنها سبع لغات ذكروا أنه لايشترط أن تأتي اللغات السبع في كل كلمة من كلم القرآن ، بل يجوز أن تأتي في الكلمة وجهان أو ثلاثة فصاعدا إلى سبعة ، ولم تأت سبعة أوجه إلا في كلمات محصورة .
- وقال صاحب السنة : ( وليس معنى ذلك أن يقرأ كل فريق بما شاء مما يوافق لغته من غير توقيف ، بل كل هذه الحروف منصوصة ، وكلها كلام الله عزوجل ، نزل بها الروح الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى أن يقرأ ويقرئ بجميع ذلك ، وهي كلها متفقة المعاني وإن اختلف بعض حروفها ) .
2- المراد بالسبعة أحرف التوسعة وليس حصرا للعدد : قال الإمام أبوشامة المقدسي : وهذا كما قيل في معنى قوله تعالى : ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) أنه جرى كالمثل في التعبير عن التكثير لا حصرا في هذا العدد .
3- هي سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو : أقبل وهلم وتعال ، وعلى هذا أكثر أهل العلم .
دليلهم :
- حديث أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( أقرئت القرآن فقلت: على حرف أو حرفين، فقال لي الملك الذي عندي: على حرفين، فقلت: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، هكذا حتى بلغ سبعة أحرف وليس منها إلا شاف كاف، غفورا رحيما، عليما حكيما، عزيزا حكيما، أي ذلك قلت فإنه كذلك) -زاد بعضهم- (ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب ).
- وقد جاء عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: {للذين آمنوا انظرونا}، مهلونا، أخرونا، أرجئونا، وكان يقرأ: {كلما أضاء لهم مشوا فيه}، مروا فيه، سعوا فيه، كل هذه الحروف كان يقرأ بها أبي بن كعب، إلا أن مصحف عثمان الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد".
4- سبعة أنحاء وأصناف ، فمنها زاجر ومنها آمر ومنها حلال ومنها حرام ومنها محكم ومنها متشابه ، واحتجوا على ذلك بدليل لم يثبت .
قال أحمد بن أبي عمران : من قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد وذكر الإمام أبو شامة المقدسي : أن هذا المعنى لايراد به تفسير الأحرف السبعة وإنما هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه وأنواعه وهذا هو تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الكتاب الأول نزل من باب واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب ) . ولم يجمع كتاب مما تقدم هذه الأبواب السبعة ، فزبور داود عليه السلام تذكر ومواعظ ، وإنجيل عيسى عليه السلام تمجيد ومحامد وحض على الصفح والإعراض .
5- وقال بعضهم : معنى ذلك هو الاختلاف الواقع في القرآن يجمع ذلك سبعة أوجه :
الجمع والتوحيد، كقوله تعالى: (وكتبه) "وكتابه"،
والتذكير والتأنيث، كقوله تعالى: ( لا يقبل ) و"لا تقبل"،
والإعراب، كقوله تعالى: "المجيد" و (المجيد )،
والتصريف، كقوله تعالى: "يعرشون" و (يعرشون)،
والأدوات التي يتغير الإعراب لتغيرها، كقوله تعالى: "ولكن الشياطين" (ولكن الشياطين)،
واللغات، كالهمز وتركه، والفتح، والكسر، والإمالة، والتفخيم ، والمد، والقصر، والإدغام، والإظهار، وتغيير اللفظ والنقط ، كقوله تعالى: "ننشرها" و {ننشزها}، ونحو ذلك .
6 -و قال بعضهم : سبعة أوجه مختلفة في القراءة : منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته : مثاله : "ويضيق صدري " (ويضيق صدري) بالرفع والنصب فيهما،
ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا تتغير صورته، مثل (ربنا باعد بين أسفارنا) و "ربنا باعد بين أسفارنا"
ومنها ما يتغير معناه بالحروف واختلافها باللفظ ولا تتغير صورته في الخط، مثل (إلى العظام كيف ننشرها) بالراء والزاي،
ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه، مثل ( كالعهن المنفوش ) و(كالصوف المنفوش)،
ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل (وطلح منضود )"وطلع منضود".
ومنها التقديم والتأخير، مثل (وجاءت سكرة الموت بالحق) "وجاء سكرة الحق بالموت"،
ومنها الزيادة والنقصان، نحو "نعجة أنثى"، و"من تحتها" في آخر التوبة .
الرد على هذا القول :
رد الإمام أبو شامة المقدسي رحمه الله على هذا القول : بأن الرخصة كانت من الرسول صلى الله عليه وسلم والعرب ليس لهم يومئذ كتاب يعتبرونه ولا رسم يتعارفونه ، وإنما كانوا يعرفون الألفاظ بجرسها ، ويجدونها بمخارجها ، ولم يدخل عليهم يومئذ من اتفاق الحروف مادخل بعدهم على الكتبين من اشتباه الصور ، وإنما القراءة سنة يأخذها الآخر عن الاول .
الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف :
لعجز العرب عن أخذ القرآن على غيرها؛ لأنهم كانوا أميين لا يكتبون ، إلا القليل منهم، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك، حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءوا بذلك على تحفظ ألفاظه، ولم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا بخلافها، وتلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص، لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد .
في المجموع في المصحف هل هو جميع الأحرف السبعة التي أبيحت القراءة عليها ، أو حرف واحد منها ؟
القول الأول : أنه حرف منها وهو حرف زيد بن ثابت ، صرح به أبو جعفر الطبري والأكثرون .
وذكر أن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت ، كما أنها إذا حنثت فهي مخيرة بأن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت ، فحملهم عثمان رضي الله عنه على حرف واحد وجمعهم على مصحف واحد وأحرق ما عداه فأطاعته الأمة ورأت أن فعله هذا هو الرشد والهداية ، وتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها حتى عفت آثارها ولا سبيل لأحد إليها اليوم لدثورها ، وقد كانت رخصة انتهت بكثرة المسلمين واجتهاد القراء وتمكنهم من الحفظ .
القول الثاني :
أنه جميعها ، وهو قول القاضي أبي بكر ، واستبعد أن يسقط عثمان رضي الله عنه قراة قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعفو أثرها .
القول الثالث :
أنه جميعها فيما جمعه أبو بكر ، وواحد منها فيما حمعه عثمان ، وهذا قول الشاطبي .
القول الرابع :
هذه القراءات التي نقرؤها هي بعض من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن ، ذكره أبو العباس أحمد بن عمار المقرئ .
وخلاصة القول : بأن الله تعالى جمع الأمة بحسن اختيار الصحابة على مصحف واحد وهو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما القراءة باللغات المختلفة مما يوافق الخط والكتاب فالفسحة فيه باقية والتوسعة قائمة بعد ثبوتها وصحتها بنقل العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يلزم في ذلك التواتر بل تكفي الآحاد الصحيحة من الاستفاضة وموافقة خط المصحف وعدم المنكرين لها نقلا وتوجيها من حيث اللغة كما ذكر ذلك الإمام أبوشامة المقدسي .