دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > الإكسير في علم التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 محرم 1432هـ/29-12-2010م, 08:19 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي معاني القرآن


القسم الأول
في معاني القرآن

[الإكسير في علم التفسير: 31]
القسم الأول أما الأقسام فأولها في بيان احتياج بعض قراء القرآن إلى التفسير والتأويل: اعلم أن الكلام إما أن يكون متضح اللفظ والمعنى، أو لا.
فالأول لا حاجة له إلى تفسير، بل هو بين بنفسه، لاتضاح لفظه، واشتهاره وضعًا أو عرفًا، ونصوصيته في معناه نحو {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ}. فإن لفظ الإنزال والسماء والماء والإسقاء معروفة مشهورة، ونصوصيتها في مدلولاتها غير منكورة.
أما الثاني وهو عدم الإيضاح في لفظه ومعناه جميعا، لاشتراك نحو: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} للطهر والحيض، وعسعس الليل لأقبل وأدبر، {وَلا يَمَسُّهُ إِلّا الُمطَهَّرُون}، لاحتماله النهي والخبر، أو لظهور تشبيه، كآيات الصفات نحو {يَداهُ مَبْسوطَتانِ}، {وَجْهُ رَبِّكَ}، {وَلْتُصْنَعَ عَلَى عَينِي}، {وَلا
[الإكسير في علم التفسير: 33]
أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ}. أو لغرابة في اللفظ نحو {ضاقَ بِهِمْ ذَرْعا}، {ذَنُوبًا مِثْل ذَنوبِ أَصْحابِهِمْ}، {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وهو المحتاج إلى التفسير فإن قلت ما فائدة ورود هذه الأقسام التي يحتاج بعض قرائها إلى التفسير في القرآن، وهو إنما ترك لتكليف الخلق للعمل بمضمونه، وقد كان إنزاله جميعه متضحا عريا عن الإشكال والإجمال -كالقسم الأول-، أحرى أن تبادر الأفهام إلى معناه، فتبادر القلوب والأبدان إلى امتثال مقتضاه؟. قلت: فائدته من وجوه: أحدها: أن القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم، وهي مشتملة على القسمين: أعني المتضح وغيره، وكلاهما عندهم بليغ حسن في موضعه كما سيأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى، فلو خلا القرآن من أحدهما لكان مقصرا عن رتبة اللغة. فلا يصلح إذًا للإعجاز.
الثاني: أنه تعالى أنزل المتضح، ليتعبد المكلفون بالعمل به بادئ الرأي: أعني على الفور من غير احتياج إلى نظر، وأنزل غير المتضح الذي يمكن التوصل إلى معرفة معناه بالنظر، ليتعبد العلماء بالاجتهاد في استخراج معناه، والمقلدون لهم بتقليدهم فيه، وتلقينهم له عنهم بالقبول، فيعظم أجر الفريقين ما دام تعبدهم به، وأنزل ما استند بتأويله كالمتشابه، ليتعبد الجميع بالإيمان، ولهذا أثنى على المؤمنين به بقوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} على ما قررناه في كتاب «بغية السائل»، وحينئذ لا تنافي بين هذا وبين قولك: إنما أنزل لتكليف الخلق بالعمل بمضمونه، لأن العمل بمضمون المفهوم منه، والإيمان بغير المفهوم منه تعبدان
[الإكسير في علم التفسير: 34]
صحيحان يحصل بينهما تمييز الطاعة من العصيان والكفر من الإيمان وهذا من خرج الجواب عن بقية سؤالك.
الثالث: لعله تعالى جعل إنزال هذا القسم شركا من أشراك الضلال يوقع فيه من يعترض عليه به مثل هذا السائل الذي وظيفته الانقياد والتسليم لأمر مولاه الذي لا يسأل عما يفعل، وقد وقع ذلك منه بإخباره الصادق عن نفسه حيث يقول: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} فجعل منه على المستضعفين سببا لإضلال المعترضين المكذبين، وكذلك قوله تعالى: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم}.
الرابع: لو فرضنا أن ليس في إنزاله حكمة تظهر لنا، لكن يجب حمله على حكمة خفيت عنا لقيام الدليل على حكمته تعالى، وأنه لا يفعل شيئا عبثا لا لحكمة ولو ذهب ذاهب إلى إنكار الحكمة من كل فعل لم تظهر له حكمته، لكان حينئذ مدعيا مساواة الله تعالى في علمه، ومشاركته في معلوماته، ودعوى ذلك كفر، هذا كله إن قلنا: إن أفعال الله تعالى معللة، وإن قلنا: إنها لا تعلل استرحنا من الجواب عن هذا السؤال أصلا، إذا ثبت هذا وأن في القرآن ما يحتاج إلى التفسير، فاعلم أنه قد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنا لا نجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها وهذا نقل عن الصحابة رضي الله عنهم، وظاهره أنهم كانوا يأخذون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع احتمال أنهم كانوا يأخذونه عن غيره من الصحابة، أو عنه عليه السلام وعن غيره، فإنه كان على عهده صلى الله عليه وسلم من يؤخذ عنه العلم ويفتي من الصحابة رضوان الله عليهم، وأشد الأحوال ما ادعيناه: أنهم كانوا يأخذونه عنه عليه السلام، وأنه لم يمت حتى أخذ عنه تفسير القرآن حرفًا حرفًا، لكن مع ذلك فإنا نجزم أن في
[الإكسير في علم التفسير: 35]
التفاسير المتداولة بيني الأمة ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، ولو عرض عليه لرده وزجر قائله، ونعرف ذلك من اختلاف أقوال المفسرين في الحرف الواحد أو الآية الواحدة على عشرة أقوال وأكثر وأقل بعضها يرد بعضا أو يضاده، أو يناقضه وأقل ما فيه أن تختلف تلك الأقوال أو بعضها بالعموم والخصوص وسبب ذلك أن ما أخذه بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم من التفسير، تناقلوه فيما بينهم على حسب الإمكان، ولعل بعضهم مات ولم ينقل ما عنده منه، لمبادرة الموت له، ثم تفرق الصحابة رضي الله عنهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد، ونقلوا ما عملوه من التفسير إلى تابعيهم وليس كل صحابي علم تفسير جميع القرآن، بل بعضه، إذ الجامعون للقرآن على عهده صلى الله وسلم كانوا نفرا معدودين، وشرذمة قليلين، فألقى الصحابي ذلك البعض إلى تابعه، ولعل ذلك التابعي لم يجتمع بصحابي آخر يكمل له التفسير، أو اجتمع بمن لا زيادة عنده على ما عنده عن الصحابي الذي أخذ عنه، فاقتصر عليه، وشرع يكمل تفسير القرآن باجتهاده استنباطًا من اللغة تارة. ومن السنة تارة ثانية، ومن نظير الآية المطلوب تفسيرها من القرآن تارة ثالثة، ومن مدارك أخر رآها صالحة لأخذ التفسير منها: كالتاريخ، وأيام الأمم الخالية، والقضايا الإسرائيليات ونحوها، فاتسعت الخرق، وكثر الدخل في التفسير، حتى آل الأمر إلى الأقوال الكثيرة، فتفعل كل طبقة من المفسرين كفعل التي قبلها، من زيادة الوجوه، والأقوال، والاختيارات، كما نراهم يصرحون به في تفاسيرهم، وينسبون الأقوال إلى آرائهم ومذاهبهم، وهذا بعينه هو كان السبب في اختلاف مذاهب الفقهاء رحمهم الله: أعني تفرق الصحابة في البلاد، واختصاص بعضهم بما ليس عند غيره من ناسخ أو منسوخ، أو زيادة في حكم من تقييد مطلق أو تخصيص عام ونحوه، فأفتى كل منهم بما انتهى إليه علمه، ثم انضم إلى ذلك اختلافهم في تأويل الكتاب والسنة بحسب ما فهموه من اختلاف اللغات، والقرائن، والأحوال، ثم تلقى ذلك عنهم التابعون رحمهم الله، فمن بعدهم، -فلا جرم- كثر الخلاف جدًا، كما حكى عبد الوارث بن سعيد قال قدمت مكة فوجدت بها، أبا
[الإكسير في علم التفسير: 36]
فحنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة رحمهم الله، فقلت لأبي حنيفة: ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا؟ قال: البيع باطل والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال: البيع جائز، والشرط جائز، فقلت: سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة فأتيت أبي حنيفة فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط البيع باطل، والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: ما أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها، البيع جائز والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كِدام عن محارب بن دثار عن جابر رضي الله عنه قال: بعت من النبي صلى الله عليه وسلم ناقة وشرط لي حملها إلى المدينة، البيع جائز والشرط جائز، قلت: فقد استند كل من هؤلاء الأئمة إلى دليل، لكن وقع التقصير من كل منهم إما من جهة أنه لم يحفظ ما عند صاحبه، وإما من جهة الجمع بين الأحاديث بتنزيلها على اختلاف أحوال، أو غير ذلك من التصرفات الفقهية، وقد
[الإكسير في علم التفسير: 37]
صرح الحميدي رحمه الله بأن سبب اختلاف مذاهب الفقهاء هو ما ذكرته فيه، وإذا جاء مثل هذا في مذاهب الفقهاء جاز مثله في مذاهب المفسرين، لاشتراكهما في السبب، وكونهما من الدين، فإن قلت لا يظن بعلماء السلف الصالح مع ورعهم وزهدهم وثقتهم وأمانتهم، وما كانوا عليه من خوف الله ورهبته، وتعليم آياته وكتبه، أن يقدموا على تأويل القرآن من عندهم مع علمهم بقوله عليه السلام: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي وحسنه وفي لفظ وأضاف: ((فقد أخطأ))، وبما حكي عن الصدِّيق رضي الله عنه من قوله: أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم". وكان الأصمعي مع تقدمه وسعة باعه في اللغة، يحتمي تفسير القرآن وإعرابه، وإذا احتمى تفسيره والكلام فيه مثل هذين الإمامين المتقدمين في عصرهما، فغيرهما ممن هو دونهما أولى، وحينئذ يتعين حمل كل ما نقل من تفسير القرآن على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: قد بينا أن نسبة جميع ما نقل من التفسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما لا سبيل إليه البته، لوقوع الخلاف فيه، والتناقض، وتصريح كثير من المفسرين بنسبة أقوالهم إلى أنفسهم، وأما ما ذكرت من الشبهة فلا مريه في إنصاف السلف الصالح بما ذكرت، من الصفات الجميلة، لكن ذلك لا ينافي كلامهم في القرآن لوجوه:
أحدها: أن تقدير صحة الحديث المذكور يجوز أنهم ما علموه. أو أن الذي علمه منهم لم يتكلم فيه، ولسنا ندعي أن جميعهم تكلم فيه، بل بعضهم وحينئذ يكون خطأ من أخطأ منهم في تأويله، خطأ اجتهاديا وهو مرفوع كما في أحكام الفروع.
[الإكسير في علم التفسير: 38]
الثاني: بتقدير أنهم علموا الحديث لكن الممنوع من الكلام هو العامي أو الضعيف الذي ليس له أهلية الكلام فيه بدليل قوله عليه السلام: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)) صححه الترمذي أما العلم المتأهل للكلام فيه فليس ممنوعا منه، ذكر ذلك الحسين بن مسعود في مقدمة تفسيره لمفهوم الحديث ومن هذا يخرج الجواب عن حكاية الصديق لأن سكوته كان عما لا يعلم منه بدليل قوله «إذا قلت في القرآن ما لا أعلم» وبدليل أنه قد تكلم في أحكام الشريعة بما علم، وليس الكلام في القرآن بأعظم خطرا من الكلام في الأحكام، إذ الكل كلام في دين الله تعالى.
وأما الأصمعي رحمه الله فإن كان احتماؤه للكلام فيه بما لا يعلم فهو غاية التوفيق والصواب، لأن كلامه إذا فيه يحرم، وإن كان مع العلم، فذلك إما جمود وجبن وإما خروج إلى السلامة، واكتفاء بمن تكلم فيه قبله، وفي عصره من الأئمة الذين هم حجة عليه وله.
الثالث: لعل علماء السلف رحمهم الله رأوا أن الكلام في القرآن متعين عليهم، وأنهم أولى به ممن أتى بعدهم، لقربهم من التنزيل ومعرفة التأويل، فيكون ورعهم وزهدهم وخشيتهم هي الحاملة لهم على الكلام فيه خشية أن يدرس من علم شريعة الله ودينه ما لا يمكن تداركه، ورأوا أن الخطأ عنهم في ذلك موضوع كالأحكام الفرعية الاجتهادية، وذلك كما حكي عن موسى بن عقبة لما رأى ما دخل على مغازي النبي صلى الله عليه وسلم من الزيادة والنقص جمع ما صح عنده من المغازي ليحرسها بذلك من الكذب، فأثنى العلماء عليه بها وحكموا بأنها أصح المغازي. إذا ثبت ذلك، وأن علماء الأمة سلفا وخلفا قالوا في التفسير باجتهادهم مما لم يثبت أخذه بخصوصه من الشارع وجب وضع قانون يتوصل به إلى علم التفسير فنقول وبالله التوفيق: كلما أردنا فهم معنى كلام الله عز وجل فلا يخلو إما أن يكون بيانا بنفسه كالقسم الأول من قسمي الكلام المذكورين، أو لا، فإن كان فلا إشكال، إذ المراد منه هو المفهوم منه.
[الإكسير في علم التفسير: 39]
لكل عاقل كالمفهوم من قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى}، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ}، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}، ونحو ذلك.
وإن لم يكن كذلك، فلا يخلو: إما أن يكون في تأويله دليل عقلي قاطع، أو نص عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتري، أو اتفاق من العلماء إجماعي، أو نص أحادي صحيح، أو لا يكون شيء من ذلك، فإن كان فيه شيء من الطرق المذكورة، وجب المصير فيه إلى ما دل على أنه المراد منه، سواء كان ما دل عليه أحد هذه الطرق موافقًا لظاهر لفظ الكلام أو لا.
أما العقلي القاطع والتواتر، فلإفادتهما العلم القاطع، فلا يعارضه الظاهر المحتمل ولذلك قدمناهما.
وأما الإجماع فلاستلزامه دليلاً تقوم به الحجة من نص أو غيره، إذ لا إجماع إلا عن مستند، ولقيام الدليل على عصمة الأمة من أن تجمع على خطأ، ومثال ذلك تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}، {ولا خمسة إلا هو سادسهم}.
ونحوه، على أنه كذلك بعلمه لا بد أنه -والإجماع على هذا التأويل- مستند إلى العقل القاطع باستحالة التجزئة، والتبعض والحلول عليه تعالى.
وأما الأحادي الصحيح فلأنه يعتاد عليه الظن، ويوجب العمل والعلم على مذهب مرجوح، فكان أولى من غيره، وإن لم يكن في تأويله شيء من الطرق المذكورة، مثل
[الإكسير في علم التفسير: 40]
إن كان فيه آحاد ضعيفة، أو شيء عن أصحاب التواريخ والسير غير مفيد للعلم بصحة ما دل عليه، أو ظنه بدليل خارج من قرينة عقلية أو غيرها، أو تأويل مختلف فيه متعارض عن العلماء، نظرنا: فإن كان ما ورد فيه من الأحاديث الضعيفة والتواريخ والسير المذكورة موافقًا للمفهوم من ظاهر الكلام، أو من فحواه، أو معقوله، حمل الكلام على ما فهم منه، وكان الخبر الضعيف ونحوه مؤكدًا لما استفيد من اللفظ، وإن لم يكن موافقًا للمفهوم من ظاهر اللفظ أو معقوله ألغي، لضعفه وضعف ما يفيده الظن إن أفاده، واعتبر مفهوم ظاهر الكلام لقوته وقوة ما يفيده من ظن أن المراد ما لم يمنع منه مانع أقوى منه، إذ المقصود من الكلام الإفهام، والظاهر من المتكلم الحكيم إرادة ظاهر الكلام. وأما ما ورد فيه التأويل المختلف عن العلماء، فذلك الاختلاف إما أن يشتمل على التناقض والتضاد أو لا، فإن اشتمل عليه (كالقُرء) التي صُير في تأويلها إلى الحيض مرة، وإلى الإطهار أخرى، كان أحد النقيضين أو الضدين متعينًا للإرادة، لاستحالة الامتثال بالجمع بينهما، وحينئذ يجب التوصل إلى المراد المتعين بطريق قوي راجح من الطرق المتقدم ذكرها أو غيرها إن أمكن، وإن لم يشتمل على التناقض، بل كان مجرد اختلاف، وتعدد أقوال، فإن احتمل اللفظ جميعها وأمكن أن تكون مرادة منه، وجب حمله على جميعها ما أمكن، سواء كان احتماله لها مساويًا، أو كان في بعضها أرجح من بعض، وإلا فحمله على بعضها دون بعض إلغاء للفظ بالنسبة إلى بعض محتملاته من غير موجب، وهو غير جائز، ولأنه لو جاز أن يكون مرادًا، فإعمال اللفظ بالنسبة إليه أحوط من إهماله، نعم إن كان احتماله لها متفاوتًا في الرجحان، جاز في مقام الترجيح تقديم الأرجح فالأرجح بحسب دلالة اللفظ عليه، أو جلالة قائله، أو عاضده الخارجي، وغير ذلك من وجوه الترجيحات. ومثال ذلك، أعني: احتمال اللفظ للوجوه المتعددة قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}. قيل هي: مساقط النجوم في المغرب، وقيل: إن منه نزول القرآن، لأنه نزل في ثلاث وعشرين سنة فاللفظ يحتمل القولين، فيجوز أن يكون القسم بهما مرادًا لله عز وجل، لأنهما
[الإكسير في علم التفسير: 41]
عظيمان لاسيما على قول من يقول: يجوز إرادة حقيقة اللفظ، ومجازه جميعًا منه، وكذلك الأشياء التي أقسم الله بها نحو: {وَالضُّحَى}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قيل: المراد القسم بحقائقها، لعظم الآيات فيها، وقيل: القسم بخالقها وربها على حذف المضاف، أي: ورب الضحى، والليل، والشمس، والقمر، فيجوز إرادة المعنيين في القسم، وأنه تعالى أقسم بنفسه، وبعظم آياته الصادرة عن قدرته، فيكون هذا في الحقيقة قسمًا بذاته وصفته، وكذا قوله تعالى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قيل: هو الشفاعة، وقيل: الوسيلة، وقيل: يجلسه معه على العرش، وقيل غير ذلك، إلى اثني عشر قولاً، واللفظ يحتملها، وإرادتها جائزة، واجتماعها ممكن، إذ لا مانع من أن الله تعالى يقبل شفاعته حيث يشفع، ويعطيه الوسيلة وهي منزلة في أعلى منازل الجنة، ولهذا قال: إنها لا تنبغي إلا لرجل واحد من بني آدم، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة، حلت عليه الشفاعة، ويجلسه معه على العرش على أصل أهل السنة فيه، وأنه سرير جوهري، ولا عبرة بما يقوله المبتدعة من لزوم التجسيم، إذ لا صيور له عند التحقيق، وقد حكي عن محمد بن ساقلا أنه قال: لو حلف حالف بالطلاق أن الله تعالى يُجلس محمدًا صلى الله عليه وسلم معه على العرش، لما حنثته.
واعلم أن هذا القول منه، ليس لأن هذا الإجلاس مقطوع به، بل لكونه ممكنا جائز الوقوع والإرادة من اللفظ، وإنما المقطوع به المقام المحمود في الجملة، أما خصوص هذا الإجلاس أو غيره من الأقوال سوى ما تواترت به السنة، أو استفاضت من الشفاعة فلا، وإنما لم يحنثه أبو إسحاق لما ذكرناه من الإمكان، ولكون صحة
[الإكسير في علم التفسير: 42]
النكاح وثبوته متيقنًا، فلا يحكم بدفعه بأمر محتمل، وإن لم تمكن إرادة تلك الأقوال جميعها من اللفظ، لدليل دل على عدم إمكانها منه، لم يحمل إلا على ما أمكن إرادته منها منه والله أعلم.
واعلم أن التزام هذا القانون في التفسير يدفع عنك كثيرا من خبط المفسرين بتباين أقوالهم، واختلاف آرائهم، وإنما ينتفع بالتزام هذا القانون من كانت له يد في معرفة المعقول، والمنقول، واللغة وأوضاعها، ومقتضيات ألفاظها، والمعاني، والبيان، بحيث إذا استبهم عليه تفسير آية، وتعارضت فيها الأقوال، صار إلى ما دل عليه القاطع العقلي، أو النقلي على تفصيل سبق، ثم إلى مقتضى اللفظ لغة، ونحو ذلك. أما من كان قاصرًا فيما ذكرناه، فلا ينتفع بما قررناه، لأنه يكون كمن له سيف قاطع، لكن لا تقله يده، لعلة به، فيقول كما قال صخر بن عمرو عند ذلك:
أَهُم بفعل الحزمِ لو أستطيعُه = وقد حيل بين العير والنزوانِ
فإن قلت: لا شك أن المفسرين نقلوا كل ما بلغهم من وجوه التفسير، ولم يتعرض أحد منهم لما ذكرت، فدل على أنه غير معتبر، ويؤكد ذلك أنهم تتبعوا ألفاظ القرآن ومعانيه، فلم يتركوا منها شيئًا إلا تكلموا عليه، فإخلالهم مع ذلك بهذا القانون الذي زعمت: أن لا سبيل إلى الانتصاف من علم التفسير بدونه بعيد جدًا.
قلت: نقل المفسرون كل ما بلغهم من وجوه التفسير، وعدم تعرضهم للقانون الذي ذكرته لا يدل على عدم اعتباره، لجواز أنهم نقلوا ما نقلوه، ليعتبر بالقانون المذكور، ألا ترى أن رواة الحديث نقلوا كل ما بلغهم منه: من صحيح وسقيم، ثم إن جهابذة النقد منهم وضعوا للحديث قانونًا معتبرًا اعتبروا به أحوال الرواة، ونقحوا به إحكام الروايات، حتى عرف السقيم من الصحيح، والمعدل من الجريح، واتضح المبهم، وفصح الأعجم، وزال الإشكال، وارتفع الإجمال، ثم إن الفقهاء تسلموا
[الإكسير في علم التفسير: 43]
الحديث من أهله، وفيه المتعارض والموهم، للتناقض، فانتدبت له نقادهم وهم الأصوليون، فوضعوا له قانون الأصول، فاعتبروه منه، فأزالوا تعارضه، ونفوا تناقضه، بحمل مطلقه على مقيده، وعامه على خاصه، وإعمال ناسخه، وإهمال منسوخه، فاستخرجوا بذلك لأنفسهم أقوالاً في الفقه متعارضة، وآراء مختلفة متناقضة، فتسلمها أهل كل مذهب عن إمامهم فاجتهدوا فيها باعتبارها قوانين ذلك الإمام، وقواعد مذهبه، تارة بتقرير النصين، وحملها على اختلاف حالين، وتارة بطرد القولين بالنقل والتخريج في المسألتين، حتى جعلوا له مذهبًا واحدًا، الفُتيا عليه لا تكاد تختلف، ولم يقل أحد: إن نقل المحدثين، والأئمة، والفقهاء لجميع ما صار إليهم، دليل على عدم اعتبار القوانين المميزة لما يجب إعماله مما يجب إهماله، كذلك ههنا ولا فرق. ثم إنا ما رأينا، ولا سمعنا، ولا عقلنا أن أحدًا يفتح طريقًا إلى مقصد نجيب يُوصل إليه قطعًا، وهو سهل سمح خالٍ من حجر، وخطر، وعارض سوء، يقال له: إن أحدًا ممن تقدمك لم يفتح هذا الطريق، وذلك دليل على أنه غير موصل إلى المقصود به، إذ هذا استدلال بالجهل، أو العدم على العلم الموجود، ومن الجائز غفل عنه المتقدم عما تنبه عليه المتأخر، وإلا لوجب أن لا يزداد علم الشريعة عما كان عليه في أول طبقاته، وقد زاد زيادة كثيرة، وما ذاك إلا لاستدراك المتأخرين على من سبقهم، وزيادتهم على ما قرروه، وتنبيههم على ما أغفلوه، والله أعلم بالصواب.
[الإكسير في علم التفسير: 44]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
معاني, القرآن

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:26 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir