دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دروس التفسير لبرنامج إعداد المفسّر > دروس تفسير سورة النساء

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الأول 1440هـ/17-11-2018م, 04:26 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير سورة النساء [ من الآية (31) إلى الآية (33) ]

قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا (31) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}

تفسير قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا (31)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلا كريما}
{تجتنبوا} تتركوا نهائيا.

والكبائر حقيقتها: أنها كل ما وعد اللّه عليه النار نحو القتل والزنا والسّرقة وأكل مال اليتيم.
ويروى عن ابن عباس: الكبائر إلى أن تكون سبعين أقرب منها إلى أن تكون سبعا.

قال بعضهم: الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين.
والكبائر: ما كبر وعظم من الذنوب.
وقوله - عزّ وجلّ -
{وندخلكم مدخلا كريما}
الاسم على أدخلت، ومن قال: " مدخلا " بفتح الميم، فهو مبني على دخل مدخلا، يعني به ههنا الجنة). [معاني القرآن: 2/45]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً (31)
تجتنبوا معناه: تدعون جانبا، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير» وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر» و «يدخلكم» على علامة الغائب، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم» بزيادة «من» وقرأ السبعة سوى نافع «مدخلا» بضم الميم، وقرأ نافع: «مدخلا» بالفتح وقد رواه أيضا أبو بكر عن عاصم هاهنا وفي الحج، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في مدخل ومخرج صدقٍ [الإسراء: 80] أنهما بضم الميم، قال أبو علي: «مدخلا» بالفتح يحتمل أن يكون مصدرا، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر، التقدير: ويدخلكم فتدخلون مدخلا، ويحتمل أن يكون مكانا، فيعمل فيه الفعل الظاهر، وكذلك يحتمل «مدخلا» بضم الميم للوجهين، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف، تقديره: ويدخلكم الجنة، واختلف أهل العلم في «الكبائر»، فقال علي بن أبي طالب: هي سبع، الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذكر كقول علي، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى: إنّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى [محمد: 25]، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات، الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقال عبد الله بن عمر: هي تسع «الإشراك بالله، والقتل، والفرار، والقذف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد الحرام، والذي يستسحر، وبكاء الوالدين من العقوق» قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي: هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي إن تجتنبوا وقال عبد الله بن مسعود: هي أربع أيضا الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وروي أيضا عن ابن مسعود: هي ثلاث: القنوط، واليأس، والأمن المتقدمة، وقال ابن عباس أيضا وغيره: «الكبائر» كل ما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك، وقالت فرقة من الأصوليين: هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال، وقال رجل لابن عباس: أخبرني عن الكبائر السبع، فقال: هي إلى السبعين أقرب، وقال ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو كبير، فهنا يدخل الزنا، وشرب الخمر، والزور، والغيبة، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها، بل ذكر بعضها مثالا، وعلى هذا القول أئمة الكلام: القاضي، وأبو المعالي، وغيرهما: قالوا: وإنما قيل: صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي، بالجميع واحد، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم، عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله.
واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعا بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث، وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء، والمشيئة ثابتة، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة. ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها: قوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48 و 116] وكريماً يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب، كما تقول: ثوب كريم، وكريم المحتد، وهذه آية رجاء، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعا، قوله: إن تجتنبوا الآية، وقوله: إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به [النساء: 48 و 116]، وقوله: ومن يعمل سوءاً أو يظلم [النساء: 110] وقوله أيضا: يضاعفها [النساء: 40] وقوله: والّذين آمنوا باللّه ورسله الآية [النساء: 152]). [المحرر الوجيز: 2/531-534]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم [وندخلكم مدخلا كريمًا]}. أي: إذا اجتنبتم كبائر الآثام الّتي نهيتم عنها كفّرنا عنكم صغائر الذّنوب وأدخلناكم الجنّة؛ ولهذا قال: {وندخلكم مدخلا كريمًا}.
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدثنا مؤمل بن هشام، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدّثنا خالد بن أيّوب، عن معاوية بن قرّة، عن أنسٍ [يرفعه]: " الّذي بلغنا عن ربّنا، عزّ وجلّ، ثمّ لم نخرج له عن كلّ أهلٍ ومالٍ أن تجاوز لنا عمّا دون الكبائر، يقول اللّه [تعالى] {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم [وندخلكم مدخلا كريمًا]} ".
وقد وردت أحاديث متعلّقةٌ بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسّر:
قال الإمام أحمد: حدّثنا هشيم عن مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن قرثع الضّبّي، عن سلمان الفارسيّ قال: قال لي النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "أتدري ما يوم الجمعة؟ " قلت: هو اليوم الّذي جمع اللّه فيه أباكم. قال: "لكن أدري ما يوم الجمعة، لا يتطهّر الرّجل فيحسن طهوره، ثمّ يأتي الجمعة فينصت حتّى يقضي الإمام صلاته، إلّا كان كفّارةً له ما بينه وبين الجمعة المقبلة، ما اجتنبت المقتلة وقد روى البخاريّ من وجهٍ آخر عن سلمان نحوه.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثني المثنّى [بن إبراهيم] حدّثنا أبو صالحٍ، حدّثنا اللّيث، حدّثني خالدٌ، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن نعيمٍ المجمر، أخبرني صهيبٌ مولى العتواري، أنّه سمع من أبي هريرة وأبي سعيدٍ يقولان: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومًا فقال: "والّذي نفسي بيده" -ثلاث مرّاتٍ-ثمّ أكبّ، فأكبّ كلّ رجلٍ منّا يبكي، لا ندري على ماذا حلف عليه ثمّ رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحبّ إلينا من حمر النّعم، فقال [صلّى اللّه عليه وسلّم] ما من عبدٍ يصلّي الصّلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزّكاة، ويجتنب الكبائر السّبع، إلّا فتحت له أبواب الجنّة، ثمّ قيل له: ادخل بسلامٍ".
وهكذا رواه النّسائيّ، والحاكم في مستدركه، من حديث اللّيث بن سعدٍ، رواه الحاكم أيضًا وابن حبّان في صحيحه، من حديث عبد اللّه بن وهبٍ، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلالٍ، به. ثمّ قال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرجاه.
تفسير هذه السّبع:
وذلك بما ثبت في الصّحيحين من حديث سليمان بن بلالٍ، عن ثور بن زيدٍ، عن سالمٍ أبي الغيث، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول اللّه، وما هنّ؟ قال: "الشّرك باللّه، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، والسّحر، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
طريقٌ أخرى عنه: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا فهد بن عوف، حدّثنا أبو عوانة، عن عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "الكبائر سبعٌ، أوّلها الإشراك باللّه، ثمّ قتل النّفس بغير حقّها، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم إلى أن يكبر، والفرار من الزّحف، ورمي المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة".
فالنّصّ على هذه السّبع بأنّهنّ كبائر لا ينفي ما عداهنّ، إلّا عند من يقول بمفهوم اللّقب، وهو ضعيفٌ عند عدم القرينة، ولا سيّما عند قيام الدّليل بالمنطوق على عدم المفهوم، كما سنورده من الأحاديث المتضمّنة من الكبائر غير هذه السّبع، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال:
حدّثنا أحمد بن كاملٍ القاضي، إملاءً حدّثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمّدٍ، حدّثنا معاذ بن هانئٍ، حدّثنا حرب بن شدّاد، حدّثنا يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عبد الحميد بن سنان، عن عبيد بن عمير، عن أبيه -يعني عمير بن قتادة-رضي اللّه عنه أنّه حدّثه -وكانت له صحبةٌ-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجّة الوداع: "ألا إنّ أولياء اللّه المصلّون من يقيم الصلوات الخمس الّتي كتبت عليه، ويصوم رمضان ويحتسب صومه، يرى أنّه عليه حقٌّ، ويعطي زكاة ماله يحتسبها، ويجتنب الكبائر الّتي نهى اللّه عنها". ثمّ إنّ رجلًا سأله فقال: يا رسول اللّه، ما الكبائر؟ فقال: "تسعٌ: الشّرك باللّه، وقتل نفس مؤمنٍ بغير حقٍّ وفرار يوم الزّحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا، ثمّ قال: لا يموت رجلٌ لا يعمل هؤلاء الكبائر، ويقيم الصّلاة، ويؤتي الزّكاة، إلّا كان مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في دارٍ أبوابها مصاريعٌ من ذهبٍ".
وهكذا رواه الحاكم مطوّلًا وقد أخرجه أبو داود والتّرمذيّ مختصرًا من حديث معاذ بن هانئٍ، به وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ من حديثه مبسوطًا ثمّ قال الحاكم: رجاله كلّهم يحتجّ بهم في الصّحيحين إلّا عبد الحميد بن سنان.
قلت: وهو حجازيٌّ لا يعرف إلّا بهذا الحديث، وقد ذكره ابن حبّان في كتاب الثّقات، وقال البخاريّ: في حديثه نظرٌ.
وقد رواه ابن جريرٍ، عن سليمان بن ثابتٍ الجحدريّ، عن سلم بن سلامٍ، عن أيّوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد بن عمير، عن أبيه، فذكره. ولم يذكر في الإسناد: عبد الحميد بن سنانٍ، فاللّه أعلم .
حديثٌ آخر في معنى ما تقدّم: قال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا أحمد بن يونس، حدّثنا يحيى بن عبد الحميد، حدّثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد، عن المطّلب عن عبد اللّه بن حنطبٍ عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: صعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المنبر فقال: "لا أقسم، لا أقسم". ثمّ نزل فقال: "أبشروا، أبشروا، من صلّى الصّلوات الخمس، واجتنب الكبائر السّبع، نودي من أبواب الجنّة: ادخل". قال عبد العزيز: لا أعلمه إلّا قال: "بسلامٍ". قال المطّلب: سمعت من سأل عبد اللّه بن عمرو: أسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يذكرهنّ؟ قال: نعم: "عقوق الوالدين، وإشراكٌ باللّه، وقتل النّفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزّحف، وأكل الرّبا".
حديثٌ آخر في معناه: قال أبو جعفر بن جريرٍ في التّفسير: حدّثنا يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، أخبرنا زياد بن مخراق عن طيسلة بن ميّاسٍ قال: كنت مع النّجدات، فأصبت ذنوبًا لا أراها إلّا من الكبائر، فلقيت ابن عمر فقلت له: إنّي أصبت ذنوبا لا أراها إلّا من الكبائر قال: ما هي؟ قلت: أصبت كذا وكذا. قال: ليس من الكبائر. قلت: وأصبت كذا وكذا. قال: ليس من الكبائر قال -بشيءٍ لم يسمّه طيسلة-قال: هي تسعٌ وسأعدّهنّ عليك: الإشراك باللّه، وقتل النّفس بغير حقّها والفرار من الزّحف، وقذف المحصنة، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم ظلمًا، وإلحادٌ في المسجد الحرام، والّذي يستسحر وبكاء الوالدين من العقوق. قال زيادٌ: وقال طيسلة لمّا رأى ابن عمر: فرقي. قال: أتخاف النّار أن تدخلها؟ قلت: نعم. قال: وتحبّ أن تدخل الجنّة؟ قلت: نعم. قال: أحيٌّ والداك؟ قلت: عندي أمّي. قال: فواللّه لئن أنت ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطّعام، لتدخلنّ الجنّة ما اجتنبت الموجبات.
طريقٌ أخرى: قال ابن جريرٍ: حدّثنا سليمان بن ثابتٍ الجحدري الواسطيّ، حدّثنا سلم بن سلامٍ، حدّثنا أيّوب بن عتبة، عن طيسلة بن عليٍّ النّهديّ قال: أتيت ابن عمر وهو في ظل أراك يوم عرفة، وهو يصبّ الماء على رأسه ووجهه قلت أخبرني عن الكبائر؟ قال: هي تسعٌ. قلت: ما هي؟ قال: الإشراك باللّه، وقذف المحصنة -قال: قلت: قبل القتل ؟ قال: نعم ورغما -وقتل النّفس المؤمنة، والفرار من الزّحف، والسّحر، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، وإلحاد بالبيت الحرام، قبلتكم أحياءً وأمواتًا.
هكذا رواه من هذين الطّريقين موقوفًا، وقد رواه عليّ بن الجعد، عن أيّوب بن عتبة، عن طيسلة بن علي [النهدي] قال: أتيت ابن عمر عشيّة عرفة، وهو تحت ظلّ أراكة، وهو يصبّ الماء على رأسه، فسألته عن الكبائر، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "هنّ سبعٌ". قال: قلت: وما هنّ؟ قال: "الإشراك باللّه، وقذف المحصنة -قال: قلت: قبل الدّم؟ قال: نعم ورغمًا -وقتل النّفس المؤمنة، والفرار من الزّحف، والسّحر، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وإلحادٌ بالبيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا".
وكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب، عن أيّوب بن عتبة اليمانيّ -وفيه ضعفٌ -واللّه أعلم.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا زكريّا بن عديّ، حدّثنا بقيّة، عن بحير بن سعدٍ عن خالد بن معدان: أنّ أبا رهم السّمعيّ حدّثهم، عن أبي أيّوب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من عبد اللّه لا يشرك به شيئًا، وأقام الصّلاة، وآتى الزّكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر، فله الجنّة -أو دخل الجنّة" فسأله رجلٌ: ما الكبائر؟ فقال الشّرك باللّه، وقتل نفسٍ مسلمةٍ، والفرار يوم الزّحف".
ورواه أحمد أيضًا والنّسائيّ، من غير وجهٍ، عن بقيّة.
حديثٌ آخر: روى الحافظ أبو بكر ابن مردويه في تفسيره، من طريق سليمان بن داود اليمانيّ -وهو ضعيفٌ-عن الزّهريّ، عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزمٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أهل اليمن كتابًا فيه الفرائض والسّنن والدّيات، وبعث به مع عمرو بن حزمٍ، قال: وكان في الكتاب: "إنّ أكبر الكبائر عند اللّه يوم القيامة: إشراكٌ بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حقٍّ، والفرار في سبيل اللّه يوم الزّحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلّم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم".
حديثٌ آخر: فيه ذكر شهادة الزّور؛ قال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدثنا شعبة، حدّثني عبيد اللّه بن أبي بكرٍ قال: سمعت أنس بن مالكٍ قال: ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الكبائر -أو سئل عن الكبائر-فقال: "الشّرك باللّه، وقتل النفس، وعقوق الوالدين". وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " قال: "قول الزّور -أو شهادة الزّور". قال شعبة: أكبر ظنّي أنّه قال" "شهادة الزّور".
أخرجاه من حديث شعبة به. وقد رواه ابن مردويه من طريقين آخرين غريبين عن أنسٍ، بنحوه.
حديثٌ آخر: أخرجه الشّيخان من حديث عبد الرّحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ "، قلنا: بلى يا رسول اللّه، قال: "الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين" وكان متّكئًا فجلس فقال: "ألا وشهادة الزّور، ألا وقول الزّور". فما زال يكرّرها حتّى قلنا: ليته سكت.
حديثٌ آخر: فيه ذكر قتل الولد، وهو ثابتٌ في الصّحيحين، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قلت: يا رسول اللّه، أيّ الذّنب أعظم؟ -وفي روايةٍ: أكبر-قال: "أن تجعل للّه ندا وهو خلقك" قلت: ثمّ أيّ؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". قلت: ثمّ أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" ثمّ قرأ: {والّذين لا يدعون مع اللّه إلهًا آخر [ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا]} إلى قوله: {إلا من تاب} [الفرقان: 68].
حديثٌ] آخر [ فيه ذكر شرب الخمر. قال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهبٍ، حدّثني أبو صخرٍ: أنّ رجلًا حدّثه عن عمرة بن حزمٍ أنّه سمع عبد اللّه بن عمرو بن العاص وهو بالحجر بمكّة وسئل عن الخمر، فقال: واللّه إنّ عظيمًا عند اللّه الشيخ مثلي يكذب في هذا المقام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فذهب فسأله ثمّ رجع فقال: سألته عن الخمر فقال: "هي أكبر الكبائر، وأمّ الفواحش، من شرب الخمر ترك الصّلاة ووقع على أمّه وخالته وعمّته" غريبٌ من هذا الوجه.
طريقٌ أخرى: رواها الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد العزيز بن محمّدٍ الدّراوردي، عن داود بن صالحٍ، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أنّ أبا بكرٍ الصّدّيق، رضي اللّه عنه، وعمر بن الخطّاب وأناسًا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ورضي اللّه عنهم أجمعين، جلسوا بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه، فأرسلوني إلى عبد اللّه بن عمرو بن العاص أسأله عن ذلك، فأخبرني أنّ أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك، فوثبوا إليه حتّى أتوه في داره، فأخبرهم أنّهم تحدّثوا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ملكا من بني إسرائيل أخذ رجلًا فخيّره بين أن يشرب خمرًا أو يقتل نفسًا، أو يزاني أو يأكل لحم خنزيرٍ، أو يقتله فاختار شرب الخمر وإنّه لمّا شربها لم يمتنع من شيء أراده منه، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبًا: "ما من أحدٍ يشرب خمرًا إلّا لم تقبل له صلاةٌ أربعين ليلةً، ولا يموت أحدٌ في مثانته منها شيءٌ إلّا حرّم اللّه عليه الجنّة فإن مات في أربعين ليلةً مات ميتةً جاهليّةً".
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه جدًّا، وداود بن صالحٍ هو التّمار المدنيّ مولى الأنصار، قال الإمام أحمد: لا أرى به بأسًا. وذكره ابن حبّان في الثّقات، ولم أر أحدًا جرحه.
حديثٌ آخر: عن عبد اللّه بن عمرو وفيه ذكر اليمين الغموس. قال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن فراسٍ، عن الشّعبيّ، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "أكبر الكبائر الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين، أو قتل النّفس -شعبة الشّاكّ-واليمين الغموس". ورواه البخاريّ والتّرمذيّ والنّسائيّ من حديث شعبة: زاد البخاريّ وشيبان، كلاهما عن فراس، به.
حديثٌ آخر: في اليمين الغموس: "قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثنا اللّيث بن سعدٍ، حدّثنا هشام بن سعدٍ، عن محمّد بن يزيد بن مهاجر بن قنفذ التّيميّ، عن أبي أمامة الأنصاريّ، عن عبد اللّه بن أنيسٍ الجهنيّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: أكبر الكبائر الشّرك باللّه، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وما حلف حالفٌ باللّه يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة، إلّا كانت وكتةً في قلبه إلى يوم القيامة". وهكذا رواه] الإمام [ أحمد في مسنده، وعبد بن حميدٍ في تفسيره، كلاهما عن يونس بن محمّدٍ المؤدّب، عن اللّيث بن سعدٍ، به. وأخرجه التّرمذيّ] في تفسيره [ عن عبد بن حميدٍ] به [ ثمّ قال: وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وأبو أمامة الأنصاريّ هذا هو ابن ثعلبة، ولا يعرف اسمه. وقد روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أحاديث.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجّاج المزّي: وقد رواه عبد الرّحمن بن إسحاق المدنيّ، عن محمّد بن زيدٍ، عن عبد اللّه بن أبي أمامة، عن أبيه عن عبد اللّه بن أنيسٍ. فزاد عبد اللّه بن أبي أمامة.
قلت: هكذا وقع في تفسير ابن مردويه وصحيح ابن حبّان، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق كما ذكره شيخنا، فسح الله في أجله.
حديثٌ آخر: عن عبد اللّه بن عمرٍو، في التّسبّب إلى شتم الوالدين. قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عمرو بن عبد اللّه الأوديّ، حدّثنا وكيعٌ، عن مسعر وسفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرّحمن، عن عبد اللّه بن عمرٍو -رفعه سفيان إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ووقفه مسعرٌ على عبد اللّه بن عمرٍو -قال: "من الكبائر أن يشتم الرجل والديه": قالوا: وكيف يشتم الرّجل والديه؟ قال: "يسبّ الرجل أبا الرّجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسب أمه".
وقد أخر هذا الحديث البخاريّ عن أحمد بن يونس، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوفٍ، عن أبيه، عن عمّه حميد بن عبد الرّحمن بن عوفٍ، عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه". قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟! قال: "يسبّ الرجل أبا الرّجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه".
وهكذا رواه مسلمٌ من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم، به مرفوعًا بنحوه. وقال التّرمذيّ: صحيحٌ.
وثبت في الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر".
حديثٌ آخر في ذلك: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم دحيم، حدّثنا عمرو بن أبي سلمة، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من أكبر الكبائر عرض الرّجل المسلم، والسّبّتان والسّبّة ".
هكذا روي هذا الحديث، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب في سننه، عن جعفر بن مسافرٍ، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمّدٍ، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجلٍ مسلمٍ بغير حقٍّ، ومن الكبائر السّبّتان بالسّبّة".
وكذا رواه ابن مردويه من طريق عبد اللّه بن العلاء بن زير عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكر مثله.
حديثٌ آخر: في ذكر الجمع بين الصّلاتين من غير عذرٍ؛ قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حنش عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من جمع بين الصّلاتين من غير عذرٍ، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر". وهكذا رواه أبو عيسى التّرمذيّ عن أبي سلمة يحيى بن خلفٍ، عن المعتمر بن سليمان، به ثمّ قال: حنش هو أبو عليٍّ الرّحبيّ، وهو حسين بن قيسٍ، وهو ضعيفٌ عند أهل الحديث، ضعّفه أحمد وغيره.
وقد روى ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا إسماعيل بن عليّة، عن خالدٍ الحذّاء، عن حميد بن هلالٍ، عن أبي قتادة -يعني العدويّ-قال: قرئ علينا كتاب عمر: من الكبائر جمعٌ بين الصّلاتين -يعني بغير عذر-والفرار من الزّحف، والنّهبة.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ: والغرض أنّه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصّلاتين كالظّهر والعصر تقديمًا أو تأخيرًا، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسببٍ من الأسباب الشّرعيّة، فإذا تعاطاه أحدٌ بغير شيءٍ من تلك الأسباب يكون مرتكبًا كبيرةً، فما ظنّك بمن ترك الصلاة بالكلّيّة؟ ولهذا روى مسلمٌ في صحيحه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "بين العبد وبين الشّرك ترك الصّلاة " وفي السّنن عنه، عليه السّلام، أنّه قال: "العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة، فمن تركها فقد كفر" وقال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" وقال: "من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله".
حديثٌ آخر: فيه اليأس من روح اللّه، والأمن من مكر اللّه. قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصمٍ النّبيل، حدّثنا أبي، حدّثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان متّكئًا فدخل عليه رجلٌ فقال: ما الكبائر؟ فقال: "الشّرك باللّه، واليأس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والأمن من مكر اللّه، وهذا أكبر الكبائر".
وقد رواه البزّار، عن عبد اللّه بن إسحاق العطّار، عن أبي عاصمٍ النّبيل، عن شبيب بن بشرٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه، ما الكبائر؟ قال: "الإشراك باللّه، واليأس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه عز وجل".
وفي إسناده نظرٌ، والأشبه أن يكون موقوفًا، فقد روي عن ابن مسعودٍ نحو ذلك قال ابن جريرٍ:
حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا هشيم، أخبرنا مطرّفٌ، عن وبرة بن عبد الرّحمن، عن أبي الطّفيل قال: قال ابن مسعودٍ: أكبر الكبائر الإشراك باللّه والإياس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والأمن من مكر اللّه.
وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق، عن وبرة، عن أبي الطّفيل، عن ابن مسعودٍ، به ثمّ رواه من طرق عدّةٍ، عن أبي الطّفيل، عن ابن مسعودٍ. وهو صحيحٌ إليه بلا شكّ.
حديثٌ آخر: فيه سوء الظّنّ باللّه؛ قال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن بندار، حدّثنا أبو حاتمٍ بكر بن عبدان، حدّثنا محمّد بن مهاجرٍ حدّثنا أبو حذيفة البخاريّ، عن محمّد بن عجلان، عن نافعٍ، عن ابن عمر أنّه قال:] قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [ "أكبر الكبائر سوء الظّنّ باللّه عزّ وجلّ". حديثٌ غريبٌ جدًّا.
حديثٌ آخر: فيه التّعرّب بعد الهجرة، قد تقدّم في رواية عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا، قال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رشدين، حدّثنا عمرو بن خالدٍ الحرّانيّ، حدّثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن محمد بن سهل ابن أبي حثمة عن أبيه قال: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "الكبائر سبعٌ، ألا تسألوني عنهنّ؟ الشّرك باللّه، وقتل النفس، والفرار يوم الزّحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، وقذف المحصنة، والتّعرّب بعد الهجرة".
وفي إسناده نظرٌ، ورفعه غلطٌ فاحشٌ والصّواب ما رواه ابن جريرٍ: حدّثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا يزيد، أخبرنا محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن سهيل بن أبي حثمة عن أبيه قال: إنّي لفي هذا المسجد -مسجد الكوفة-وعليٌّ، رضي اللّه عنه، يخطب الناس على المنبر، فقال: يا أيّها النّاس، الكبائر سبعٌ فأصاخ الناس، فأعادها ثلاث مرّاتٍ، ثمّ قال: لم لا تسألوني عنها؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال: الإشراك باللّه، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، والفرار يوم الزّحف، والتّعرّب بعد الهجرة. فقلت لأبي: يا أبت، التّعرّب بعد الهجرة، كيف لحق هاهنا؟ قال: يا بنيّ، وما أعظم من أن يهاجر الرّجل، حتّى إذا وقع سهمه في الفيء، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيًّا كما كان.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا هاشم، حدّثنا أبو معاوية -يعني شيبان-عن منصورٍ، عن هلال بن يساف، عن سلمة بن قيسٍ الأشجعيّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حجّة الوداع: "ألا إنّما هنّ أربعٌ: ألّا تشركوا باللّه شيئًا، ولا تقتلوا النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، ولا تزنوا، ولا تسرقوا". قال: فما أنا بأشحّ عليهنّ منّي، إذ سمعتهنّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
ثمّ رواه أحمد أيضًا والنّسائيّ وابن مردويه، من حديث منصورٍ، بإسناده مثله.
حديثٌ آخر: تقدّم من رواية عمر بن المغيرة، عن داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "الإضرار في الوصيّة من الكبائر". والصّحيح ما رواه غيره، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ [قوله] قال ابن أبي حاتمٍ: وهو الصّحيح عن ابن عبّاسٍ من قوله.
حديثٌ آخر في ذلك: "قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أحمد بن عبد الرّحمن، حدّثنا عبّاد بن عبّادٍ، عن جعفر بن الزّبير، عن القاسم، عن أبي أمامة؛ أنّ ناسًا من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذكروا الكبائر وهو متّكئٌ، فقالوا: الشّرك باللّه، وأكل مال اليتيم، وفرارٌ من الزّحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزّور، والغلول، والسّحر، وأكل الرّبا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "فأين تجعلون {الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنًا قليلا} [آل عمران:77]؟! إلى آخر الآية. في إسناده ضعفٌ، وهو حسنٌ.
ذكر أقوال السّلف في ذلك:
قد تقدّم ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعليٍّ، رضي اللّه عنهما، في ضمن الأحاديث المذكورة. وقال ابن جريرٍ:
حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، عن ابن عون، عن الحسن: أنّ ناسًا سألوا عبد اللّه بن عمرٍو بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب اللّه، أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك؟ فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر، رضي اللّه عنه، فقال: متى قدمت؟
فقال: منذ كذا وكذا قال: أبإذنٍ قدمت؟ قال: فلا أدري كيف ردّ عليه. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ ناسًا لقوني بمصر فقالوا: إنّا نرى أشياء من كتاب اللّه، أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبّوا أن يلقوك في ذلك فقال: اجمعهم لي. قال: فجمعتهم له -قال ابن عونٍ: أظنّه قال: في بهو-فأخذ أدناهم رجلًا فقال: نشدتك باللّه وبحقّ الإسلام عليك، أقرأت القرآن كلّه؟ قال: نعم قال فهل أحصيته في نفسك؟ قال اللّهمّ لا. قال: ولو قال: نعم لخصمه. قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثمّ تتبّعهم حتّى أتى على آخرهم. قال: فثكلت عمر أمّه. أتكلّفونه أن يقيم النّاس على كتاب اللّه؟! قد علم ربّنا أنّه ستكون لنا سيّئاتٌ. قال: وتلا {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلا كريمًا]} ثمّ قال: هل علم أهل المدينة -أو قال: هل علم أحدٌ-بما قدمتم؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم.
إسنادٌ حسنٌ ومتنٌ حسنٌ، وإن كان من رواية الحسن عن عمر، وفيها انقطاعٌ، إلّا أنّ مثل هذا اشتهر فتكفي شهرته.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنانٍ، حدّثنا أبو أحمد -يعني الزّبيريّ-حدّثنا عليّ بن صالحٍ، عن عثمان بن المغيرة، عن مالك بن جوينٍ، عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، قال: الكبائر الإشراك باللّه، وقتل النّفس، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار من الزّحف، والتّعرّب بعد الهجرة، والسّحر، وعقوق الوالدين، وأكل الرّبا، وفراق الجماعة، ونكث الصّفقة.
وتقدّم عن ابن مسعودٍ أنّه قال: أكبر الكبائر الإشراك باللّه، واليأس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والأمن من مكر اللّه، عزّ وجلّ.
وروى ابن جريرٍ، من حديث الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ، والأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، كلاهما عن ابن مسعودٍ قال: الكبائر من أوّل سورة النّساء إلى ثلاثين آيةً منها. ومن حديث سفيان الثّوريّ وشعبة، عن عاصم بن أبي النّجود، عن زرّ بن حبيش، عن ابن مسعودٍ قال: الكبائر من أوّل سورة النّساء إلى ثلاثين آيةً منها ثمّ تلا {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلا كريمًا]}
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا المنذر بن شاذان، حدّثنا يعلى بن عبيدٍ، حدّثنا صالح بن حيّان، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: أكبر الكبائر: الشّرك باللّه، وعقوق الوالدين، ومنع فضول الماء بعد الرّيّ، ومنع طروق الفحل إلا بجعلٍ.
وفي الصّحيحين، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وفيهما عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "ثلاثةٌ لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ: رجلٌ على فضل ماءٍ بالفلاة يمنعه ابن السّبيل"، وذكر الحديث بتمامه.
وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه مرفوعًا: "من منع فضل الماء وفضل الكلأ منعه اللّه فضله يوم القيامة".
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسين بن محمّد بن شنبة الواسطيّ، حدّثنا أبو أحمد حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلمٍ، عن مسروقٍ، عن عائشة، قالت: ما أخذ على النّساء من الكبائر. قال ابن أبي حاتمٍ: يعني قوله: {على أن لا يشركن باللّه شيئًا ولا يسرقن [ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك]} الآية [الممتحنة: 12].
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، حدّثنا زياد بن مخراق، عن معاوية بن قرّة قال: أتينا أنس بن مالكٍ، فكان فيما حدّثنا قال: لم أر مثل الّذي بلغنا عن ربّنا تعالى ثمّ لم نخرج له عن كلّ أهلٍ ومالٍ. ثمّ سكت هنية ثمّ قال: واللّه لما كلّفنا ربّنا أهون من ذلك، لقد تجاوز لنا عمّا دون الكبائر، فما لنا ولها، ثمّ تلا {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلا كريمًا]}.
أقوال ابن عبّاسٍ في ذلك:
روى ابن جريرٍ، من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن طاوسٍ قال: ذكروا عند ابن عبّاسٍ الكبائر فقالوا: هي سبعٌ، فقال: هي أكثر من سبعٍ وسبعٍ. قال سليمان: فما أدري كم قالها من مرّةٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا قبيصة، حدّثنا سفيان، عن ليثٍ، عن طاوسٍ قال: قلت لابن عبّاسٍ: ما السّبع الكبائر؟ قال: هي إلى السّبعين أقرب منها إلى السّبع.
ورواه ابن جريرٍ، عن ابن حميدٍ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ قال: جاء رجلٌ إلى ابن عبّاسٍ فقال: أرأيت الكبائر السّبع الّتي ذكرهنّ اللّه؟ ما هنّ؟ قال: هنّ إلى السّبعين أدنى منهنّ إلى سبعٍ.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ عن طاوسٍ، عن أبيه قال: قيل لابن عبّاسٍ: الكبائر سبعٌ؟ قال: هنّ إلى السّبعين أقرب، وكذا قال أبو العالية الرياحي، رحمه الله.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا المثنّى، حدّثنا أبو حذيفة، حدّثنا شبل، عن قيسٍ عن سعدٍ، عن سعيد بن جبير؛ أنّ رجلًا قال لابن عبّاسٍ: كم الكبائر؟ سبعٌ؟ قال: هنّ إلى سبعمائةٍ أقرب منها إلى سبعٍ، غير أنّه لا كبيرة مع استغفارٍ، ولا صغيرة مع إصرارٍ. وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، من حديث شبلٍ، به.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} قال: الكبائر كلّ ذنبٍ ختمه اللّه بنارٍ أو غضب أو لعنةٍ أو عذابٍ. ورواه ابن جريرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن حربٍ الموصليّ، حدّثنا ابن فضيلٍ، حدّثنا شبيبٌ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: الكبائر: كلّ ما وعد اللّه عليه النّار كبيرةٌ. وكذا قال سعيد بن جبيرٍ والحسن البصريّ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، أخبرنا أيّوب، عن محمّد بن سيرين قال: نبّئت أنّ ابن عبّاسٍ كان يقول: كلّ ما نهى اللّه عنه كبيرةٌ. وقد ذكرت الطّرفة [فيه] قال: هي النّظرة.
وقال أيضًا: حدّثنا أحمد بن حازمٍ، أخبرنا أبو نعيمٍ، حدّثنا عبد اللّه بن معدان، عن أبي الوليد قال: سألت ابن عبّاسٍ عن الكبائر فقال هي كلّ شيءٍ عصي اللّه فيه فهو كبيرةٌ.
أقوال التّابعين
قال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، عن ابن عون، عن محمّدٍ قال: سألت عبيدة عن الكبائر، فقال: الإشراك باللّه، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه بغير حقّها، وفرار يوم الزّحف، وأكل مال اليتيم بغير حقّه، وأكل الرّبا، والبهتان. قال: ويقولون: أعرابيّةٌ بعد هجرةٍ. قال ابن عونٍ: فقلت لمحمّدٍ: فالسّحر؟ قال: إنّ البهتان يجمع شرًّا كبيرًا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن عبيدٍ المحاربي حدّثنا أبو الأحوص سلّام بن سليمٍ، عن أبي إسحاق، عن عبيد بن عمير قال: الكبائر سبعٌ، ليس منهنّ كبيرةٌ إلّا وفيها آيةٌ من كتاب اللّه: الإشراك باللّه منهنّ: {ومن يشرك باللّه فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطّير أو تهوي به الرّيح} [الحجّ:31] و {إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنّما يأكلون في بطونهم نارًا} [النّساء: 10] {الّذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ} [البقرة: 275] و {إنّ الّذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} [النّور: 23] والفرار من الزّحف: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زحفًا [فلا تولّوهم الأدبار]} [الأنفال: 15]، والتّعرّب بعد الهجرة: {إنّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى} [محمّدٍ: 25]، وقتل المؤمن: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها} الآية [النّساء: 93].
وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ من حديث أبي إسحاق، عن عبيد، بنحوه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا المثنّى، حدّثنا أبو حذيفة، حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيح، عن عطاءٍ -يعني ابن أبي رباحٍ-قال: الكبائر سبعٌ: قتل النّفس، وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزّور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزّحف.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة قال: كان يقال شتم أبي بكرٍ وعمر، رضي اللّه عنهما، من الكبائر.
قلت: وقد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى تكفير من سبّ الصّحابة، وهو روايةٌ عن مالك بن أنسٍ، رحمه اللّه: وقال محمّد بن سيرين: ما أظنّ أحدًا ينتقص أبا بكرٍ، وعمر، وهو يحبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. رواه التّرمذيّ.
وقال ابن أبي حاتمٍ أيضًا: حدّثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد اللّه بن عيّاش، قال زيد بن أسلم في قول اللّه عزّ وجلّ: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} من الكبائر: الشّرك، والكفر بآيات اللّه ورسوله، والسّحر، وقتل الأولاد، ومن دعا للّه ولدًا أو صاحبةً، ومثل ذلك من الأعمال، والقول الّذي لا يصلح معه عملٌ، وأمّا كلّ ذنبٍ يصلح معه دينٌ، ويقبل معه عملٌ فإنّ اللّه يغفر السّيّئات بالحسنات.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا بشر بن معاذٍ، حدّثنا يزيد، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} الآية: إنّما وعد اللّه المغفرة لمن اجتنب الكبائر. وذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "اجتنبوا الكبائر، وسدّدوا، وأبشروا".
وقد روى ابن مردويه من طرقٍ عن أنسٍ، وعن جابرٍ مرفوعًا: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي" ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعفٌ، إلّا ما رواه عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي". فإنّه إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشّيخين وقد رواه أبو عيسى التّرمذيّ منفردًا به من هذا الوجه، عن عبّاسٍ العنبري، عن عبد الرّزّاق ثمّ قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وفي الصّحيح شاهدٌ لمعناه، وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذكر الشّفاعة: "أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للخاطئين المتلوّثين".
وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حدّ الكبيرة فمن قائلٍ: هي ما عليه حدٌّ في الشرع.
ومنهم من قال: هي ما عليه وعيدٌ لخصوصه من الكتاب والسّنّة. وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمّدٍ الرّافعيّ، في كتابه الشّرح الكبير الشّهير، في كتاب الشّهادات منه: ثمّ اختلف الصّحابة، رضي اللّه [تعالى] عنهم، فمن بعدهم في الكبائر، وفي الفرق بينها وبين الصّغائر، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوهٌ:
أحدها: أنّها المعصية الموجبة للحدّ.
والثّاني: أنّها المعصية الّتي يلحق صاحبها الوعيد الشّديد بنصّ كتابٍ أو سنّةٍ. وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهو وإلى الأوّل أميل، لكنّ الثّاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر.
والثّالث: قال إمام الحرمين في "الإرشاد" وغيره: كلّ جريمةٍ تنبئ بقلّة اكتراث مرتكبها بالدّين ورقّة الدّيانة، فهي مبطلةٌ للعدالة.
والرّابع: ذكر القاضي أبو سعيدٍ الهرويّ أنّ الكبيرة: كلّ فعل نصّ الكتاب على تحريمه، وكلّ معصيةٍ توجب في جنسها حدًّا من قتلٍ أو غيره، وترك كلّ فريضةٍ مأمورٍ بها على الفور، والكذب في الشّهادة، والرّواية، واليمين.
هذا ما ذكره على سبيل الضّبط.
ثمّ قال: وفصّل القاضي الرّويانيّ فقال: الكبائر سبعٌ: قتل النّفس بغير الحقّ، والزّنا، واللّواط، وشرب الخمر، والسّرقة، وأخذ المال غصبًا، والقذف. وزاد في "الشّامل" على السّبع المذكورة: شهادة الزّور. وأضاف إليها صاحب العدّة: أكل الرّبا، والإفطار في رمضان بلا عذرٍ، واليمين الفاجرة، وقطع الرّحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزّحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصّلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها، بلا عذرٍ، وضرب المسلم بلا حقٍّ، والكذب على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عمدًا، وسبّ أصحابه، وكتمان الشّهادة بلا عذرٍ، وأخذ الرّشوة، والقيادة بين الرّجال والنّساء، والسّعاية عند السّلطان، ومنع الزّكاة، وترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلّمه، وإحراق الحيوان بالنّار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سببٍ، واليأس من رحمة اللّه، والأمن من مكر اللّه ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. وممّا يعدّ من الكبائر: الظّهار، وأكل لحم الخنزير والميتة إلّا عن ضرورةٍ.
ثمّ قال الرّافعيّ: وللتّوقّف مجالٌ في بعض هذه الخصال.
قلت: وقد صنّف النّاس في الكبائر مصنّفاتٌ، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد اللّه الذّهبيّ الّذي بلغ نحوًا من سبعين كبيرةً، وإذا قيل: إن الكبيرة [هى] ما توعد الشّارع عليها بالنّار بخصوصها، كما قال ابن عبّاسٍ، وغيره، وتتبّع ذلك، اجتمع منه شيءٌ كثيرٌ، وإذا قيل: كلّ ما نهى اللّه [تعالى] عنه فكثيرٌ جدًّا، واللّه [تعالى] أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 2/271-286]

تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله -جلّ وعزّ- {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعض للرّجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيب ممّا اكتسبن واسألوا اللّه من فضله إنّ اللّه كان بكلّ شيء عليما}
قيل: لا ينبغي أن يتمنى الرجل مال غيره ومنزل غيره، فإن ذلك هو الحسد، ولكن ليقل: اللهم إني أسألك من فضلك، وقيل إنّ أمّ سلمة قالت:
ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وغزونا وكان لنا ثواب الرجال.
وقال بعضتهم: قال الرجال: ليتنا فضلنا في الآخرة على النساء كما فضلنا في الدنيا.
وهذا كله يرجع إلى تمني الإنسان ما لغيره). [معاني القرآن: 2/45-46]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن وسئلوا اللّه من فضله إنّ اللّه كان بكلّ شيءٍ عليماً (32)
سبب الآية أن النساء قلن: ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أو نحوه، وقال الرجال: ليت لنا في الآخرة حظا زائدا على النساء، كما لنا عليهن في الدنيا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأن في تمنيهم هذا تحكما على الشريعة وتطرقا إلى الدفع في صدر حكم الله، فهذا نهي عن كل تمنّ لخلاف حكم شرعي، ويدخل في النهي أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا، على أن يذهب ما عند الآخر، إذ هذا هو الحسد بعينه، وقد كره بعض العلماء أن يتمنى أحد حال رجل ينصبه في فكره وإن لم يتمنّ زوال حاله، وهذا في نعم الدنيا، وأما في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمناه فذلك جائز، وذلك موجود في حديث النبي عليه السلام في قوله «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل» وفي غير موضع، ولقوله تعالى: وسئلوا اللّه من فضله وقوله تعالى: للرّجال نصيبٌ الآية قال قتادة: معناه من الميراث، لأن العرب كانت لا تورث النساء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف، ولفظة الاكتساب ترد عليه ردا بينا، ولكنه يتركب على قول النساء: ليتنا ساوينا الرجال في الميراث، فكأنه قيل بسببهن: لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه، وقالت فرقة:
معناه من الأجر والحسنات، فكأنه قيل للناس: لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به، لاختيار ترونه أنتم، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيبا من الأجر والفضل، بحسب اكتسابه فيما شرع له.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول هو الواضح البيّن الأعم، وقالت فرقة: معناه: لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به، فهي نصيبه، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت للنساء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كقول الذي قبله، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير، وقرأ جمهور السبعة «واسألوا» بالهمز وسكون السين، وقرأ الكسائي وابن كثير «وسلوا» ألقيا حركة الهمزة على السين، وهذا حيث وقعت اللفظة إلا في قوله وسئلوا ما أنفقتم [الممتحنة: 10] فإنهم أجمعوا على الهمز فيه، قال سعيد بن جبير، وليث بن أبي سليم: هذا في العبارات والدين وأعمال البر ليس في فضل الدنيا، وقال الجمهور: ذلك على العموم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، وقوله: واسألوا يقتضي مفعولا ثانيا، فهو عند بعض النحويين في قوله: من فضله التقدير واسألوا الله فضله، وسيبويه لا يجيز هذا لأن فيه حذف «من» في الواجب، والمفعول عنده مضمر، تقديره واسألوا الله الجنة أو كثيرا أو حظا من فضله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو الأصح، ويحسن عندي أن يقدر المفعول- أمانيكم، إذ ما تقدم يحسن هذا التقدير، وقوله: بكلّ شيءٍ عليماً معناه: أن علم الله قد أوجب الإصابة والإتقان والإحكام، فلا تعارضوا بثمن ولا غيره، وهذه الآية تقتضي أن الله يعلم الأشياء، والعقائد توجب أنه يعلم المعدومات الجائز وقوعها وإن لم تكن أشياء، والآية لا تناقض ذلك، بل وقفت على بعض معلوماته وأمسكت عن بعض). [المحرر الوجيز: 2/535-537]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن واسألوا اللّه من فضله إنّ اللّه كان بكلّ شيءٍ عليمًا (32)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قال: قالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، يغزو الرّجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ}
ورواه التّرمذيّ عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن أمّ سلمة أنّها قالت: قلت: يا رسول اللّه ... فذكره، وقال: غريبٌ ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، أنّ أمّ سلمة قالت ...
ورواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من حديث الثّوريّ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قال: قالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث! فنزلت: {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن} ثمّ نزلت: {أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى} [آل عمران: 195].
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: وكذا روى سفيان بن عيينة، يعني عن ابن أبي نجيحٍ بهذا اللّفظ. وروى يحيى القطّان ووكيع بن الجرّاح، عن الثّوريّ، وعن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن أمّ سلمة قالت: قلت: يا رسول اللّه = وروي عن مقاتل بن حيّان وخصيف نحو ذلك.
وروى ابن جريرٍ من حديث ابن جريجٍ، عن عكرمة ومجاهدٍ أنّهما قالا أنزلت في أمّ سلمة.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن شيخٍ من أهل مكّة قال: نزلت هذه الآية في قول النّساء: ليتنا الرّجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل اللّه عزّ وجلّ.
وقال ابن أبي حاتمٍ أيضًا: حدّثنا أحمد بن القاسم بن عطيّة، حدّثني أحمد بن عبد الرّحمن، حدّثني أبي، حدّثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفرٍ -يعني ابن أبي المغيرة-عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في] قوله [ {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن} قال: أتت امرأةٌ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: يا نبيّ اللّه، للذّكر مثل حظّ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجلٍ، فنحن في العمل هكذا، إن عملت امرأةٌ حسنةً كتبت لها نصف حسنةٍ. فأنزل اللّه هذه الآية: {ولا تتمنّوا} فإنه عدل مني، وأنا صنعته.
وقال السّدّيّ: قوله: في الآية {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ} فإنّ الرّجال قالوا: نريد أن يكون لنا من الأجر الضّعف على أجر النّساء، كما لنا في السّهام سهمان. وقالت النّساء: نريد أن يكون لنا أجرٌ مثل أجر الرّجال الشّهداء، فإنّا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى اللّه ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي قال: ليس بعرض الدّنيا.
وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ} قال ولا يتمنّى الرّجل فيقول: "ليت لو أنّ لي مال فلانٍ وأهله! " فنهى اللّه عن ذلك، ولكن يسأل اللّه من فضله.
وكذا قال محمّد بن سيرين والحسن والضّحّاك وعطاءٌ نحو ذلك وهو الظّاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصّحيح: "لا حسد إلّا في اثنتين: رجلٌ آتاه اللّه مالًا فسلّطه على هلكته في الحقّ، فيقول رجلٌ: لو أنّ لي مثل ما لفلانٍ لعملت مثله. فهما في الأجر سواءٌ" فإنّ هذا شيءٌ غير ما نهت الآية عنه، وذلك أنّ الحديث حضّ على تمنّي مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمنّي عين نعمة هذا، فقال: {ولا تتمنّوا ما فضّل اللّه به بعضكم على بعضٍ} أي: في الأمور الدّنيويّة، وكذا الدّينيّة أيضًا لحديث أمّ سلمة، وابن عبّاسٍ. وهكذا قال عطاء بن أبي رباحٍ: نزلت في النّهي عن تمنّي ما لفلانٍ، وفي تمنّي النّساء أن يكنّ رجالًا فيغزون. رواه ابن جريرٍ.
ثمّ قال: {للرّجال نصيبٌ ممّا اكتسبوا وللنّساء نصيبٌ ممّا اكتسبن} أي: كلٌّ له جزاءٌ على عمله بحسبه، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ. وهو قول ابن جريرٍ.
وقيل: المراد بذلك في الميراث، أي: كلٌّ يرث بحسبه. رواه التّرمذيّ عن ابن عبّاسٍ:
ثمّ أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: {واسألوا اللّه من فضله}] أي [ لا تتمنّوا ما فضّل به بعضكم على بعضٍ، فإنّ هذا أمرٌ محتومٌ، والتّمنّي لا يجدي شيئًا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإنّي كريمٌ وهّابٌ.
وقد روى التّرمذيّ، وابن مردويه من حديث حمّاد بن واقدٍ: سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "سلوا اللّه من فضله؛ فإنّ اللّه يحبّ أن يسأل وإنّ أفضل العبادة انتظار الفرج".
ثمّ قال التّرمذيّ: كذا رواه حمّاد بن واقدٍ، وليس بالحافظ، ورواه أبو نعيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبيرٍ، عن رجلٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وحديث أبي نعيمٍ أشبه أن يكون أصحّ
وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع، عن إسرائيل. ثمّ رواه من حديث قيس بن الربيع، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه: "سلوا اللّه من فضله، فإنّ اللّه يحبّ أن يسأل، وإنّ أحبّ عباده إليه الّذي يحب الفرج".
ثمّ قال: {إنّ اللّه كان بكلّ شيءٍ عليمًا} أي: هو عليمٌ بمن يستحقّ الدّنيا فيعطيه منها، وبمن يستحقّ الفقر فيفقره، وعليمٌ بمن يستحقّ الآخرة فيقيّضه لأعمالها، وبمن يستحقّ الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ ولهذا قال: {إنّ اللّه كان بكلّ شيءٍ عليمًا} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/286-288]

تفسير قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله - عزّ وجلّ - {ولكلّ جعلنا موالي ممّا ترك الوالدان والأقربون والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إنّ اللّه كان على كلّ شيء شهيدا} أي: جعلنا الميراث لمن هو مولى الميّت، والمولى: كلّ من يليك، وكلّ من والاك فهو مولى لك في المحبّة.
والمولى: مولى نعمة نحو مولى العبد.
والمولى: العبد إذا عتق.
وقوله
{والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} هؤلاء كانوا في الجاهلية، كان الرجل الذليل يأتي الرّجل العزيز فيعاقده، أي: يحالفه، ويقول له أنا ابنك ترثني وأرثك؛ حرمتي حرمتك، ودمي دمك، وثأرى ثأرك، وأمر اللّه - عزّ وجلّ - بالوفاء لهم.
وقيل: إن ذلك أمر به قبل تسمية المواريث.

وقيل أيضا: أمر أن يوفّى لهم بعقدهم الذي كان في الجاهلية، ولا يعقد المسلمون مثل ذلك.
وقال بعضهم: الذي يعقد على الموالاة، ويجب أن يجعل له نصيب في المال يذهب إلى أن ذلك من الثلث الذي هو للميت.
وإجماع الفقهاء: أنّه لا ميراث لغير من وصف من الآباء والأبناء، وذوي العصبة والموالي والأزواج). [معاني القرآن: 2/46]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ولكلٍّ جعلنا موالي ممّا ترك الوالدان والأقربون والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إنّ اللّه كان على كلّ شيءٍ شهيداً (33) الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم فالصّالحات قانتاتٌ حافظاتٌ للغيب بما حفظ اللّه واللاّتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً إنّ اللّه كان عليًّا كبيراً (34)
«كل» إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر، فهي بمثابة قبل وبعد، ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل، على حد قبل وبعد، فالمقدر هنا على قول فرقة، ولكل أحد وعلى قول فرقة «ولكل شيء» يعني التركة، والمولى في كلام العرب: لفظة يشترك فيها القريب القرابة، والصديق، والحليف، والمعتق، والمعتق، والوارث، والعبد، فيما حكى ابن سيده، ويحسن هنا من هذا الاشتراك الورثة، لأنها تصلح على تأويل «ولكل أحد»، وعلى تأويل، «ولكل شيء» وبذلك فسر قتادة والسدي وابن عباس وغيرهم: أن «الموالي» العصبة والورثة، قال ابن ابن زيد: لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيها، وذلك في قول الله تعالى: فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدّين ومواليكم [الأحزاب: 5].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد سمي قوم من العجم ببني العم، وممّا متعلقة «بشيء»، تقديره ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة، وهي متعلقة على تأويل «ولكل أحد» بفعل مضمر تقديره: ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، ويحتمل على هذا أن تتعلق «من» ب موالي، وقوله: والّذين رفع بالابتداء والخبر في قوله: فآتوهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «عاقدت» على المفاعلة أي إيمان هؤلاء عاقدت أولئك، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «عقدت» بتخفيف القاف على حذف مفعول، تقديره: عقدت إيمانكم حلفهم أو ذمتهم، وقرأ حمزة في رواية علي ابن كبشة عنه، «عقّدت» مشددة القاف، واختلف المتأولون في من المراد ب الّذين، فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وقتادة وغيرهم: هم الأحلاف، فإن العرب كانت تتوارث بالحلف فشدد الله ذلك بهذه الآية، ثم نسخه بآية الأنفال وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه [الأنفال: 75] وقال ابن عباس أيضا: هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ ذلك بما تقدم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وورد لابن عباس: أن المهاجرين كانوا يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فنزلت الآية في ذلك ناسخة، وبقي إيتاء النصيب من النصر والمعونة، أو من المال على جهة الندب في الوصية، وقال سعيد بن المسيب: هم الأبناء الذين كانوا يتبنون، والنصيب الذي أمر الناس بإيتائه هو الوصية لا الميراث، وقال ابن عباس أيضا: هم الأحلاف إلا أن النصيب هو المؤازرة في الحق والنصر والوفاء بالحلف لا الميراث، وروي عن الحسن: أنها في قوم يوصى لهم فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان، وشهيداً معناه: أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة). [المحرر الوجيز: 2/537-539]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولكلٍّ جعلنا موالي ممّا ترك الوالدان والأقربون والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إنّ اللّه كان على كلّ شيءٍ شهيدًا (33)}
قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبير، وأبو صالحٍ، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسّدّيّ، والضّحّاك، ومقاتل بن حيّان، وغيرهم في قوله: {ولكلٍّ جعلنا موالي} أي: ورثةً. وعن ابن عبّاسٍ في روايةٍ: أي عصبة. قال ابن جريرٍ: والعرب تسمّي ابن العمّ مولًى، كما قال الفضل بن عبّاسٍ:
مهلا بني عمّنا مهلا موالينا = لا تظهرن لنا ما كان مدفونا
قال: ويعني بقوله: {ممّا ترك الوالدان والأقربون} من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام: ولكلّكم -أيّها النّاس-جعلنا عصبةً يرثونه ممّا ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له.
وقوله: {والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} أي: والّذين تحالفتم بالأيمان المؤكّدة -أنتم وهم-فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلّظة، إنّ اللّه شاهدٌ بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثمّ نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفّوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدةً.
قال البخاريّ: حدّثنا الصّلت بن محمّدٍ، حدّثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرّفٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولكلٍّ جعلنا موالي} قال: ورثةً، {والّذين عقدت أيمانكم} كان المهاجرون لمّا قدموا المدينة يرث المهاجريّ الأنصاريّ، دون ذوي رحمه؛ للأخوّة الّتي آخى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بينهم، فلمّا نزلت {ولكلٍّ جعلنا موالي} نسخت، ثمّ قال: {والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} من النّصر والرّفادة والنّصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصي له.
ثمّ قال البخاريّ: سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس عن طلحة.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، حدّثنا إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {والّذين عقدت أيمانكم [فآتوهم نصيبهم]} الآية، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجريّ الأنصاريّ، دون ذوي رحمه؛ بالأخوّة الّتي آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بينهم، فلمّا نزلت هذه الآية: {ولكلٍّ جعلنا موالي ممّا ترك الوالدان والأقربون} نسخت. ثمّ قال: {والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}
وحدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا حجّاج، عن ابن جريج -وعثمان بن عطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: {والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} فكان الرّجل قبل الإسلام يعاقد الرّجل، يقول: ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كلّ حلف كان في الجاهليّة أو عقد أدركه الإسلام، فلا يزيده الإسلام إلّا شدّةً، ولا عقد ولا حلفٌ في الإسلام". فنسختها هذه الآية: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه} [الأنفال:75].
ثمّ قال: وروي عن سعيد بن المسيّب، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، والحسن، وسعيد بن جبير، وأبي صالحٍ، والشّعبي، وسليمان بن يسار، وعكرمة، والسّدّي، والضّحّاك، وقتادة، ومقاتل بن حيّان أنّهم قالوا: هم الحلفاء.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ -ورفعه-قال: "ما كان من حلفٍ في الجاهليّة لم يزده الإسلام إلّا حدّةً وشدّةً".
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا وكيعٌ، عن شريكٌ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -وحدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل عن يونس، عن محمّد بن عبد الرّحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا حلف في الإسلام، وكلّ حلف كان في الجاهليّة فلم يزده الإسلام إلّا شدّة، وما يسرّني أنّ لي حمر النّعم وإنّي نقضت الحلف الّذي كان في دار النّدوة" هذا لفظ ابن جريرٍ.
وقال ابن جريرٍ أيضًا: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، عن عبد الرّحمن بن إسحاق عن الزّهريّ، عن محمّد بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه، عن عبد الرّحمن بن عوفٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "شهدت حلف المطيّبين، وأنا غلامٌ مع عمومتي، فما أحبّ أنّ لي حمر النّعم وأنا أنكثه". قال الزّهريّ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لم يصب الإسلام حلفا إلّا زاده شدّةً". قال: "ولا حلف في الإسلام". وقد ألّف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بين قريشٍ والأنصار.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضّل عن عبد الرّحمن بن إسحاق، عن الزّهريّ، بتمامه.
وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا هشيم، أخبرني مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التّوأم، عن قيس بن عاصمٍ: أنّه سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحلف، قال: فقال: "ما كان من حلفٍ في الجاهليّة فتمسّكوا به، ولا حلفٍ في الإسلام".
وكذا رواه أحمد عن هشيمٍ.
وحدّثنا أبو كريبٍ حدّثنا وكيع، عن داود بن أبي عبد اللّه، عن ابن جدعان، عن جدّته، عن أمّ سلمة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا حلف في الإسلام، وما كان من حلفٍ في الجاهليّة لم يزده الإسلام إلّا شدّةً".
وحدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا يونس بن بكيرٍ حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه عن جدّه قال: لمّا كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة عام الفتح قام خطيبًا في النّاس فقال: "يا أيّها النّاس، ما كان من حلفٍ في الجاهليّة، لم يزده الإسلام إلّا شدّةً، ولا حلف في الإسلام".
ثمّ رواه من حديث حسينٍ المعلّم، وعبد الرّحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيبٍ، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ، حدّثنا ابن نميرٍ وأبو أسامة، عن زكريّا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعمٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "لا حلف في الإسلام، وأيّما حلفٍ كان في الجاهليّة لم يزده الإسلام إلّا شدّةً".
وهكذا رواه مسلمٌ عن عبد اللّه بن محمد، وهو أبو بكر بن أبي شيبة، بإسناده، مثله. ورواه أبو داود عن عثمان عن محمّد بن أبي شيبة، عن محمّد بن بشرٍ وابن نمير وأبي أسامة، ثلاثتهم عن زكريّا -وهو ابن أبي زائدة -بإسناده، مثله.
ورواه ابن جريرٍ من حديث محمّد بن بشرٍ، به. ورواه النّسائيّ من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، عن زكريّا، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا هشيمٌ، قال: مغيرة أخبرني، عن أبيه، عن شعبة بن التّوأم، عن قيس بن عاصمٍ: أنّه سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحلف، فقال: "ما كان من حلفٍ في الجاهليّة فتمسّكوا به، ولا حلف في الإسلام".
وكذا رواه شعبة، عن مغيرة -وهو ابن مقسم-عن أبيه، به.
وقال محمّد بن إسحاق، عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أمّ سعدٍ بنت الرّبيع، مع ابن ابنها موسى بن سعدٍ -وكانت يتيمةً في حجر أبي بكرٍ -فقرأت عليها {والّذين عقدت أيمانكم} فقالت: لا ولكن: {والّذين عقدت أيمانكم} قالت: إنّما نزلت في أبي بكرٍ وابنه عبد الرّحمن، حين أبى أن يسلم، فحلف أبو بكرٍ أن لا يورّثه، فلمّا أسلم حين حمل على الإسلام بالسّيف أمر اللّه أن يؤتيه نصيبه.
رواه ابن أبي حاتمٍ، وهذا قولٌ غريبٌ، والصّحيح الأوّل، وأنّ هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف، ثمّ نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعقود والعهود، والحلف الّذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدّم في حديث جبير بن مطعمٍ وغيره من الصّحابة: لا حلف في الإسلام، وأيّما حلفٍ كان في الجاهليّة لم يزده الإسلام إلّا شدّةً.
وهذا نصٌّ في الرّدّ على ما ذهب إلى التّوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وروايةٌ عن أحمد بن حنبلٍ، رحمه اللّه.
والصحيح قول الجمهور ومالكٍ والشّافعيّ وأحمد في المشهور عنه؛ ولهذا قال تعالى: {ولكلٍّ جعلنا موالي ممّا ترك الوالدان والأقربون} أي: ورثهً من أقربائه من أبويه وأقربيه، وهم يرثونه دون سائر النّاس، كما ثبت في الصّحيحين، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكرٍ" أي: اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الّذين ذكرهم اللّه في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه العصبة، وقوله: {والّذين عقدت أيمانكم} أي: قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم، أي من الميراث، فأيّما حلفٌ عقد بعد ذلك فلا تأثير له.
وقد قيل: إنّ هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الماضي أيضًا، فلا توارث به، كما قال ابن أبي حاتمٍ.
حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، حدّثنا إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مصرّف، عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاسٍ: {فآتوهم نصيبهم} قال: من النّصرة والنّصيحة والرّفادة، ويوصى له، وقد ذهب الميراث.
ورواه ابن جريرٍ، عن أبي كريبٍ، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهدٍ، وأبي مالكٍ، نحو ذلك.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: {والّذين عقدت أيمانكم} قال: كان الرّجل يعاقد الرّجل، أيّهما مات ورثه الآخر، فأنزل اللّه: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفًا} [الأحزاب: 6]. يقول: إلّا أن يوصوا لأوليائهم الّذين عاقدوا وصيّةً فهو لهم جائزٌ من ثلث مال الميّت، وذلك هو المعروف.
وهذا نصّ غير واحدٍ من السّلف: أنّها منسوخةٌ بقوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفًا}
وقال سعيد بن جبيرٍ: {فآتوهم نصيبهم} أي: من الميراث. قال: وعاقد أبو بكرٍ مولًى فورثه. رواه ابن جريرٍ.
وقال الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب: أنزلت هذه الآية في الّذين كانوا يتبنّون رجالًا غير أبنائهم، يورّثونهم، فأنزل اللّه فيهم، فجعل لهم نصيبًا في الوصيّة، وردّ الميراث إلى الموالي في ذي الرّحم والعصبة وأبى اللّه للمدّعين ميراثًا ممّن ادّعاهم وتبنّاهم، ولكن جعل لهم نصيبًا من الوصيّة. رواه ابن جرير.
وقد اختار ابن جريرٍ أنّ المراد بقوله: {فآتوهم نصيبهم} أي: من النّصرة والنّصيحة والمعونة، لا أنّ المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث -حتّى تكون الآية منسوخةً، ولا أنّ ذلك كان حكمًا ثمّ نسخ، بل إنّما دلّت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النّصرة والنّصيحة فقط، فهي محكمةٌ لا منسوخةٌ.
وهذا الّذي قاله فيه نظرٌ، فإنّ من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحدٍ من السّلف، وكما قال ابن عبّاسٍ: كان المهاجريّ يرث الأنصاريّ دون قراباته وذوي رحمه، حتّى نسخ ذلك، فكيف يقول: إنّ هذه الآية محكمة غير منسوخة ؟! والله أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 2/288-292]





* للاستزادة ينظر: هنا

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:42 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir