دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 رجب 1442هـ/14-02-2021م, 03:46 AM
فداء حسين فداء حسين غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - مستوى الإمتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 955
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
اللهم علمنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.

ملاحظة: الهدايات والفوائد مبثوثة في جمل التفسير ولم أضعها في مسائل مستقلة.
تفسير سورة العصر:

اسم السورة:
سورة العصر, أو (والعصر) بإثبات الواو كما جاء في مجاز القرآان لأبي عبيدة, وفي مصنف عبد الرزاق الصنعاني, والبخاري وغيرهم على حكاية أوّل كلمة فيها، أي: سورة هذه الكلمة.
ما جاء في فضلها:
ذكر الطبراني في المعجم الأوسط من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن حصن ، قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله ﷺ إذا التقيا، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر "سورة العصر" إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر.
ورواه البيهقي في شعب الإيمان.

وقد ذكر ابن كثير في تفسيره بأن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب , وذلك بعد ما بعث رسول الله ﷺ وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ قال(٢) لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ فقال: " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها. فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفز نقز. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب(.
قال ابن كثير بعدها: (وقد رأيت أبا بكر الخرائطي أسند في كتابه المعروف ب " مساوي الأخلاق " ، في الجزء الثاني منه ، شيئا من هذا أو قريبا منه .).

عدد آياتها:
عدد آيات سورة العصر ثلاث آيات, وهذا مجمع عليه, واختلف العلماء هل هي مكية أو مدنية:
هي مكّيّة؛ قاله ابن عباس وابن الزبير.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: (مكية، وهذا على قول الجمهور).
وقاله الزجاج, وابن حزم, والثعلبي, والواحدي, والداني, وابن عطية وغيرهم,
وقال الشوكاني: (وهي مكّيّةٌ في قول الجمهور).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاسٍ قال: (نزلت سورة العصر بمكّة).

وذهب مجاهد وقتادة ومقاتل بأن السورة مدنية.

والصواب ما ذهب إليه الجمهور.

قوله تعالى: (والعصر):
بدأت السورة بالقسم, قال تعالى: (والعصر), أقسم الله تعالى بالعصر, والله سبحانه يقسم بما شاء, وليس للعباد أن يقسموا إلا به تعالى وتقدس.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: (فإن الله يُقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته،فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه، وقدرته، ومشيئته، ورحمته، وحكمته، وعظمته، وعزَّته، فهو سبحانه يقسم بها لأنَّ إقسامه بها تعظيم له سبحانه، ونحن المخلوقون ليس لنا أن نُقسم بها بالنص والإجماع، بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يُقسم بشيء من المخلوقات).

وقسم الله سبحانه بشيء تنبيه على أهميته ومكانته, ووقوع القسم به من خالقه؛ دعوة إلى التفكر فيه وتدبر حاله.

في معنى العصر:
جاء في مقاييس اللغة لابن فارس:
عصر:
العين والصاد والراء أصولٌ ثلاثة صحيحة: فالأوَّل دهرٌ وحين، والثاني ضَغْط شيء حتَّى يتحلَّب، والثالث تَعَلُّقٌ بشيءٍ وامتساكٌ به.فالأوَّل العَصْر، وهو الدَّهر. قال الله:{ وَالعَصْرِ. إنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}.

المراد بالعصر:
تنوعت عبارات المفسرين من السلف في بيان المراد من (العصر), لكن يجمعها قول واحد وهو أن المراد به الدهر أو الزمان, وندكر هنا بعضا مما ورد من أقوالهم:
القول الأول: هو ساعة من ساعات النهار, قاله ابن عباس, رواه الطبري عن علي عن أبي صالح عن معاوية، عن علي عنه.
وقاله قتادة, رواه عنه معمر, رواه عبدالرزاق الصنعاني.

وجاء تحديد هذه الساعة بالعشي, ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي:
أخْرَجَه ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ, قال في قوله تعالى:﴿والعَصْرِ﴾: هو ما قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ مِنَ العَشِيِّ. ذكره السيوطي قي الدر المنثور.
وقاله الحسن من طريق معمر, رواه عبدالرزاق الصنعاني والطبري في تفسيره.

وقال مقاتل: عصر النهار وهو آخر ساعة في النهار¸ رواه عبد الخالق بن الحسن بن أبي روبا في المنسوب إلى مقاتل.

توجيه القول:
يطلق العصر على النهار, ويطلق على العشي كما قال قطرب : وقالوا: العصر العشيّ. يقال: أتيتك عصراً أي عشيّاً.
وقول الله عزّ وجلّ:{والعصر إنّ الإنسان لفي خسرٍ} يكون على ذلك وعلى الدّهر. يقال: مضى عصرٌ من الدهر وعصرٌ.
قال الأَزهري: يَقَع العشيُّ على ما بَيْنَ زَوالِ الشمْسِ إلى وَقْت غُروبها، كل ذلك عَشِيٌّ، فإذا غابَتِ الشَّمْسُ فهو العِشاءُ.
وقال الفراهيدي في كتاب العين: (العشي، آخر النهار، فإذا قلت: عشية فهي ليوم واحد، تقول: لقيته عشية يوم كذا، وعشية من العشيات، وإذا صغروا العشي قالوا: عشيشيان، وذلك عند الشفى وهو آخر ساعة من النهار عند مغيربان الشمس.)

قال ابي بن كعب: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال: « (أقسم ربكم بآخر النهار). ذكره القرطبي وابن عطية بلا سند ولم يذكر تخريجه.

وقد جاء في نصوص الشرع مزيد عناية بوقت العصر, ففيه ختام أعمال اليوم, والأعمال بخواتيمها, وفيه اجتماع الملائكة كما جاء في الحديث من قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه الذي رواه أبو هريرة عنه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر...) الحديث.
لذلك غلظت اليمين في هذا الوقت كما جاء في الحديث المتفق عليه, الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ ولا ينظرُ إليهم ولهم عذابٌ أليمٌ :...) وذكر منهم: ( ورجلٌ حلف على يمينٍ بعدَ صلاةِ العصرِ لقد أُعطَى بسلعَتِه أكثرَ مما أَعْطى ) الحديث.
وفسر الكثير من أهل العلم الصلاة في قوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} بأنها صلاة العصر لعظم هذا الوقت عند أهل الإسلام وعند غيرهم.
قال الطبري بعد أن رجح القول بأن الصلاة المقصودة هي صلاة العصر: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة "، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت, وذلك لقربه من غروب الشمس).

القول الثاني: صلاة العصر, قاله مقاتل ولفظه: ( أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى), ذكره البغوي وابن الجوزي. (ولم أجده في التفسير المنسوب إلى مقاتل في تفسيره لسورة العصر).
قال الخليل: (قالوا: وبه سمِّيت صَلاةُ العصر، لأنَّها تُعْصَر، أي تؤخَّر عن الظُّهر).

توجيه القول:
هو من باب حمل اللفظ على دلالته الشرعية, كذلك لعظم ما جاء في فضل صلاة العصر, فهي الصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى:{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ},
وقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال : قلنا لعبيدة : سل عليا عن الصلاة الوسطى . فسأله فقال : كنا نرى أنها الصبح ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب : (شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى ، صَلَاةِ الْعَصْرِ).
ولِما في مُصْحَفِ حَفْصَةَ: (والصَّلاةُ الوُسْطى صَلاةُ العَصْرِ).

وهي الصلاة الفضلى, وقد عظمت كما عظم وقتها:
فوقتها وقت اجتماع الملائكة كما ذكرنا في الحديث السابق¸ وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم التهويل والتحذير من التفريط فيها, كما جاء عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» . رواه البخاري.
وصلاة العصر إحدى صلاتي العشي, فقد جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين...) الحديث.

القول الثالث: قيل: هو قسم بعصر النبي ﷺ، لفضله بتجديد النبوة فيه .ذكره القرطبي, وذكره الرازي, والماوردي وابن عاشور.
قال الفخر الرازي : فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله تعالى : {وأنت حل بهذا البلد } وبعمره في قوله: { لعمرك }.
قال ابن عاشور: (ويجوز أن يراد عصر الإِسلام كلِه وهو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم عصر الأمة الإِسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس)
وقول ابن عاشور أعم من قول الرازي.

توجيه القول:
ساق ابن عاشور الحديث الذي رواه البخاري ليبين وجه قوله بأن العصر هو عصر الأمة الإسلامية, فقد قال عليه الصلاة والسلام: (مَثَلُ المُسْلِمِينَ واليَهُودِ والنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ له عَمَلًا إلى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إلى نِصْفِ النَّهَارِ فَقالوا: لا حَاجَةَ لَنَا إلى أجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: أكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَومِكُمْ ولَكُمُ الذي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا، حتَّى إذَا كانَ حِينَ صَلَاةِ العَصْرِ قالوا: لكَ ما عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَومِهِمْ حتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، واسْتَكْمَلُوا أجْرَ الفَرِيقَيْنِ).

القول الرابع : العصر هو الدهر, قاله ابن عباس, وزيد بن أسلم, ويحيى بن زياد الفراء, وعبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري, ومكي بن أبي طالب, ورجحه جمهور المفسرين وهو الراجح, وهو قول عام يجمع حميع ما سبق من الأقوال.
قال ابن عباس: العصر: الدهر.
أخرجه ابن المنذر. ذكره السيوطي.
قال الفراء :ويقال للدهر: العصر. ويقال: أقمت عنده عَصْرًا، وعُصْرًا.
قال ابن السكيت: والعَصْر: الدهر .
وتسمية الدهر عصراً أمر معروف في اللغة, قال الخليل: والعَصْران: اللَّيل والنهار.
ولَنْ يلبث العَصْرانِ يومٌ وليلة إذا اختلفا أن يُدرِكا ما تَيَمَّما
ويوم وليلة بدل من العصران.

لهذا قال ابن كيسان بأن المراد بالعصر الليل والنهار. ذكره البغوي في تفسيره. وقاله العسقلاني.
فالدهر هو تعاقب الليل والنهار, فلا منافاة بين القولين.

وسبب الاختلاف الواقع في تحديد المراد بالعصر هو الاشتراك اللغوي في لفظ العصر، فهو يطلق على عدة معان، وبهذا يرجع الخلاف إلى أكثر من معنى، وكل هذه الأقوال محتملة, لكن القول بأنه الدهر يشمل الأوقات كلها, لذا جاء تعريف (العصر) باللام تعريفا للعهد الذهني، أي: كل عصر.

لذا رجح الطبري -رحمه الله تعالى-وغبره من المفسرين عموم لفظ العصر لجميع الأوقات فقال: (والصوابُ من القولِ فِي ذلك: أنْ يُقالَ: إنَّ ربَّنا أقسمَ بالعصرِ {وَالْعَصْرِ} اسمٌ للدهرِ، وهو العشيُّ والليلُ والنهارُ، ولم يُخصِّصْ ممَّا شمِلَهُ هذا الاسمُ معنًى دونَ معنًى، فكلُّ ما لزِمَهُ هذا الاسمُ فداخلٌ فيما أقْسَمَ بهِ جلَّ ثناؤُه.(

قال الواحدي:
والعصر بهذه المعاني صحيح في اللغة؛ يقال للدهر: العصر، والعصر، والعصر، أنشد ابن السكيت:
ثم اتقى وأي عصر يتقى ... بعلبة وقلعه المعلق
ويقال لليوم، والليلة، والغداة، والعشي: العصر.
قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
(فإبداله اليوم، والليلة من "العصران" يدل على أنهما العصران، أنشد ابن السكيت:
وأمطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
قال: العصران: الغداة والعشي
قال الليث: والعصر العشي، وأنشد:
تروح بنا يا عمر ... وقد قصر العصر
قال: وبه سميت صلاة (العصر)
وقال أهل المعاني في "العصر" بجميع هذه المعاني عبرة للناظرة من جهة مرور الليل والنهار؛ على تقدير الأدوار من جهة أخذالنهار في التقضي، والليل في المجيء.

وكان عليّ رضى الله عنه يقرأ ذلك: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْر وإنه فيه إلى آخر الدهر﴾ .
قال عمرو ذي مرّ،: سمعت عليا رضى الله عنه يقرأ هذا الحرف ﴿وَالْعَصْرِ وَنَوَائِب الدَّهْرِ، إنَ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، وإنه فيه إلى آخر الدهر﴾ .
رواه الطبري من طرق عن عمرو بن ذي مرة.

أقوال أخرى:
وقد جاء عن كعب القرظي التوقف في تعيين المراد بالعصر, فقال: (قسم أقسم به ربنا تبارك وتعالى), رواه عنه عبدالعزيز بن أبي رواد, رواه عبدالرزاق الصنعاني.
ولعله من باب الورع والله أعلم.

وقيل المراد (ورب العصر) , كم في قوله تعالى:{فورب السماء والأرض} ذكره الزجاج ولم يعزوه.
وهذا القول ضعيف, فالأصل عدم الحذف وعدم التقدير.

لماذا أقسم الله بالعصر؟
أولا : أتى هذا القسم الله بالعصر تذكيرا بعظيم قدرة الله تعالى في خلق العالم وأحواله، فالزمن محل لوقوع الكثير من الآيات المتغيرة التي تدل من تفكر فيها على وجود خالق ومدبر لها, ففيه تعاقب الليل والنهار بهيئة منتظمة تتحقق فيها مصالح العالم على اكمل ترتيب ونظام, وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها آية من آيات الرب تعالى وبرهان من براهين قدرته وحكمته, وفيه التنبيه والإشارة إلى عظيم خلق الله للشمس, وانتظام حركتها, وما تجلبه من منافع للأرض ومن يعيش عليها بلا استثناء, فلا حياة بدونها, فهي النور الحسي الذي جعل الله المنافع الحسية والبدنية لجميع الكائنات متعلقة به, كما جعل في النور المعنوي؛ نور الوحي, قيام جميع منافع الروح والقلب.
لذا لما حاج إبراهيم قومه وجههم إلى النظر في الآيات المتغيرة كالشمس والقمر, تأتي وتذهب, والقصد بيان وتأكيد أنها مربوبه ومدبرة, كما قال تعالى عنه:{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} الآيات.

ثانيا: كذلك في الإقسام بالعصر التنبيه على أمور عظيمة مباركة؛ مثل الصلاة المخصوصة وهي صلاة العصر, لما جاء من عظيم فضلها حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي رواه عنه أبو موسى الأشعري: (عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى البردين دخل الجنة) .
أو التذكير بعصر معين مبارك, على قول من قال بأنه عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: وقت العصر فيه الإعلام بانتهاء النهار, فهو الوقت الذي ينقطع الناس فيه عادة عن أعمال النهار بما فيها من كد وسعي وجهد وتعب- سواء أعمال الرجال خارج البيت سعيا في طلب الرزق أو طلب العلم, أو أعمال النساء داخل بيوتهن- فيتطلع المرء بعدها إلى الراحة في السكن والمأوى, يتطلع إلى السكينة والطمأنينة بعد يوم طويل شاق.
والإقسام بهذا الوقت-والله أعلم- فيه تنبيه إلى ما يحصل به من انتهاء يوم مر أوشكت صفحاته أن تطوى بما فيها, فلو تفكر الإنسان في هذا الأمر وهو يرى الشمس قد تغير لونها واصفرت بعد أن كانت بيضاء نقية, كأنها مريض تغير لون وجهه من شدة المرض والتعب, وأصبحت تميل إلى جهة المغرب, كحال المريض المتعب الذي يوشك على السقوط, فيتغير لونها كلما اقتربت من الرحيل, تاركة ألوانا في الأفق يخبو بريقها وشعاعها شيئا فشيئا حتى تنطفئ بالكلية مخلفة وراءها ظلام دامس؛
وهذا يذكر العبد بأن ما وهبه الله له من وقت في هذه الحياة لا بد أن ينتهي وتطوى صفحاته بما احتوته من عمل.

فالإقسام بالعصر فيه التنبيه على الزمان الذي تقع فيه أفعال العباد من خير وشر وغيره, تنبيه للعبد على هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه, لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم-كما عند البخاري-في الحديث الذي رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ), فحري بالعبد الفطن أن يستغل ما وهبه الله من الوقت, وليعلم بأن ما فات منه لا يمكن استدراكه.

فلو تفكر في هذا لما خلد إلى الراحة والدعة, ولأخذ من الراحة ما يقيمه ويقدره على العمل لله, كما قال تعالى:{فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب}, وكما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة في الحديث الذي رواه الترمذي, قال عليه الصلاة والسلام: (...وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ).

فالزمان رأس مال الإنسان في هذه الحياة, وهو عمره ; كلفه الله باستغلاله في فترة وجوده في هذه الدنيا، فالدنيا بالنسبة إليه كالسوق الذي يتاجر فيه برأس ماله, فإن أعمله في خير ربح، وإن أعمله في شر خسر, لذا قال تعالى:{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}.

وقال عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها), وهذا فيه تأكيد على أن رأس مال الإنسان عمره .

رابعا: جاء الإقسام بالعصر تأكيدا على عاقبة أعمال العباد وجزائها، فمن خلق الزمان وابتدأ الحياة قادر على أن يعيد الإنسان بعد موته, وقادر على محاسبته على ما وقع منه, لذا أقسم الله في كتابه بهذه الآيات الدالة على كمال قدرته سبحانه : الليل والنهار والشمس والقمر والضحى والصبح, فكل ما له بداية لا بد أن ينتهي ويزول, تذهب الشمس ويأتي القمر, يأتي الليل فيتلاشى النهار, فمن تفكر فيها أيقن بالجزاء, ومن أيقن عمل في أيامه قبل رحيلها, كما قال تعالى :{كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}, فهذا العمل في هذه الساعات هو زاد العبد إلى الآخرة, فلن ينفعه غيره, بل لا قيمة لغيره عند رحيله إلى الحياة الحقيقية.
رابعا: ذكر الرازي وجها آخر فقال: (ويعرض عز وجل لما في الأقسام به من التعظيم بنفي أن يكون له خسران أو دخل فيه كما يزعمه من يضيف الحوادث إليه وفي إضافة الخسران بعد ذلك للإنسان اشعار بأنه صفة له لا للزمان).

قال القاسمي: (كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم، وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضا. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب، كما اعتاد الناس أن يقولوا: (زمان مشؤوم)، و: (وقت نحس)، و: (دهر سوء)، وما يشبه ذلك. بل هو عاد للحسنات كما هو عاد للسيئات، وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة!).

قال الألوسي: (وتعقب بأن استعمال العصر بذلك المعنى غير ظاهر).

جواب القسم:
ولما أقسم سبحانه وتعالى بالعصر؛ جاء جواب القسم بعده مباشرة فقال: (إن الإنسان لفي خسر), والإنسان كما جاء في المصباح المنير :
(" الإِنْسَانُ " مِنَ الناس اسم جِنَسٍ يقع على الذَّكَرِ والأُنثْى والواحد ...).
وقد ورد قولان في المراد بالإنسان هنا, قول عام وقول خاص:

أما القول الخاص:
قال بعض المفسرين بأن المراد ب(الإنسان) الكافر, بدليل استثناء المؤمنين بعد ذلك, قاله البغوي وأضاف: (و"الخسران": ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره بالمعاصي، وهما أكبر رأس ماله.), وذكره القرطبي .
وجاء تخصيص هذا القول بالتنصيص على بعض الكفار بعينهم, كما ذكر ذلك القرطبي, فساق حديثا لأبي بن كعب قال فيه: قرأت على رسول الله ﷺ والعصر ثم قلت: ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: والعصر قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: إن الإنسان لفي خسر: أبو جهل...) الحديث
وذكر قول ابن عباس في رواية أبي صالح, وروى الضحاك عنه قال: يريد جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود ابن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، والأسود بن عبد يغوث.
وقال مقاتل بأن السورة نزلت في أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب, فقال: (يعني أنه في ضلال أبدا حتى يدخل النار). رواه عبد الخالق بن الحسن بن أبي روبا في المنسوب إلى مقاتل.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}قال: يعني أبا جهلِ بنَ هِشامٍ). ذكره السيوطي في الدر المنثور.

أما القول العام: فقد جاء عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر}, قال: يعني آدم وبنيه.
رواه عبد الرحمن بن حسن الهمذاني عن إبراهيم عن آدم عن أبي داود الواسطي عن أبي علي عنه.
وجاء عنه قوله: (الناس كلهم) رواه عنه عبدالعزيز بن أبي رواد, رواه عبدالرزاق الصنعاني.
وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم, ذكره السيوطي في الدر المنثور.
وقال الزجاج: الإنسان ههنا في معنى الناس، كما تقول: قد كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، تريد قد كثر الدراهم.
وقال مكي: الناس
ورجحه الطبري وابن عطية وابن الجوزي وابن جزي والماوردي وابن القيم وابن كثير والشوكاني وغيرهم.
قال الطبري: (واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد).

والصحيح بأن اللفظ عام كما سنبين, قال الطبري رحمه الله تعالى: وقولُهُ: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} يقولُ: إنَّ ابنَ آدمَ لفي هلكةٍ ونقصانٍ.).
أما تخصيصه بالكافر أو بالتنصيص على أبي لهب وأبي جهل؛ فهم أولى الناس بوسمهم بوصف الخسارة المطلقة, فهم أصحاب النصيب الأعظم, ولا يعني هذا تخصيص الخسارة بهم فقط, فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فحجم الخسارة يختلف من شخص لآخر, بل تختلف بين الكفار أنفسهم كما سنبين إن شاء الله.

لذا جاءت كلمة (الإنسان) في الآية مفردة, ومع ذلك فقد أفادت العموم كونها تحلت ب(أل) الاستغراقية, الذي يصير المفرد بسببهما صيغة عموم، قالمراد هنا جنس الإنسان، وعلامة العموم أن تحل كلمة (كُل) محلَّ (أل).
ودل على العموم أيضا قوله تعالى:{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فلفظ الآية يقتضي أنه ليس إنسانا واحدا.
ودل على العموم أيضا الاستثناء بعده, فالاستثناء معيار العموم, فإذا كان اللفظ يصلح للاستثناء منه فإنه عام اللفظ.


قوله تعالى: (لفي خسر):
الخسر لغة هو النقصان؛ قاله ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" وفي "تفسير غريب القرآن" , حيث قال: الخسران: النقصان، وقاله ابن شجرة في: "النكت والعيون"، والثعلبي في "الكشف والبيان".
قال الطبري: (يقول: إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان.)

أما المراد ب(الخسر) فقد ذكر الماوردي فيه أربعة أوجه:
أحدها: لفي هلاك، قاله السدي.
الثاني: لفي شر، قاله زيد بن أسلم.
الثالث: لفي نقص، قاله ابن شجرة.
الرابع: لفي عقوبة.

ويمكن تقسيم عبارات المفسرين بحسب ما ذهبوا إليه في تفسير (الإنسان):
فمن قال بأن المراد ب (الإنسان) في الآية هو الكافر؛ قال بأن الخسارة هي العقوبة وهي دخول النار في الآخرة, ومنهم من قال بأن الخسارة هي ما كانوا فيه من ضلال في الدنيا أكبهم الله بسببه في النار في الآخرة.
فيكون معنى الآية: كل كافر لفي ضلال حتى يموت فيه، فيدخل النار, فتكون خسارته في الآخرة.
قال مجاهد: (لفي خسر: يعني لفي ضلال, ثم استثنى فقال: إلا من آمن).
رواه آدم بن أبي إياس في التفسير المنسوب إلى مجاهد

كما قال الفراء: لفي عقوبة بذنوبه، وأن يخسر أهله، ومنزله، وماله في الجنة.
وقال مكي بن أبي طالب: (وقيل: الخسر: دخول النار، يعني به الكافر.).
وقال الأخفش : هلكة , وقاله السدي, نسبه إليه الماوردي.

والقول بأن (الخسر) هو الضلال؛ من تفسير المسبب بسببه, فسبب الخسران في الآخرة هو ما وقع فيه العبد من ضلال, كما قال تعالى:{ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال:{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
أما تفسير الخسر بالعقوبة فهو كقوله تعالى:﴿وَكانَ عاقِبَةُ أمْرِها خُسْرًا﴾, فالخسران هو نوع العقوبة الواقعة عليهم.

ومن قال بأن المراد ب (الإنسان) في الآية هو جنس الإنسان؛ قال بعموم الخسارة في الدنيا والآخرة.
قال البغوي: (والخسران: ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره بالمعاصي؛ وهما أكبر رأس ماله).

ولا تعارض بين القولين, فالقول الأول داخل في عموم القول الثاني¸ والكافر أحق بالخسارة من غيره, لكن القول بعموم الخسارة يناسب سياق الآيات من سورة العصر, وعموم ألفاظها, وسيأتي إن شاء الله الكلام عن درجات الخسارة.

ولفظ (خسر) يشمل جميع ما يتعرض له الإنسان من نقصان وهلكة سواء كان هذا في الدنيا أو في الآخرة:
فالإنسان يتقلب في أطوار, فينقلب من ضعف إلى قوة, ثم يعود من قوة إلى ضعفا وشيبة, كما قال تعالى ذلك عنه:
فتضعف الحواس
وتضعف الذاكرة
وتتناقص أيام عمره
وتتناقص قوته
وهذا يكون حاله في جميع أموره...
وعلى هذا الحال يخسر الكافر الدنيا والآخرة، أما المؤمن وإن كان قد تعرض في دنياه لخسارة القوة البدنية, وما قاساه فيها؛ فهو لا يذكر مقابلة لما سيكون عليه حاله في الآخر.
لذا قال رسول الله ﷺفيما رواه مسلم: ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط).
وقال: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). رواه مسلم.
وفي هذا تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه، لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه.
وفيه الإرشاد على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح، وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد.

وأتى بقوله: ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ ليكون أبلغ من قوله: (إن الإنسان لخاسر)؛ وذلك أنَّ معنى (في) الظرفية، فكأن الإنسان منغمس في الخسر، كإحاطة الظرف بالمظروف, والخسران محيط به من كل جانب, ومثل هذا التعبير يبعث الرعب والهلع في القلوب الحية, لذا تبدأ في البحث عن المخرج, تبدأ في البحث عن أسباب النجاة, فيتصور العبد نفسه كالغريق الذي يصرخ لعل أحدا ينقذه وينتشله من بحر الخسارة, فإذا أصبحت هذه حاله تهيأت نفسه لقبول ما جاء بعدها من أسباب النجاة, فتقع الكلمات على أسماع قد تشوقت لمعرفة ما ينجيها, فألقى صاحبها سمعه وأصغى بآذانه, وتقع كذلك على قلوب قد أزال الخوف من الخسارة ما فيها من عوائق بحثا عن النجاة, فدبت فيها الحياة, فوقع العلاج على محل صالح مستعد لقبوله؛ بعد أن انتفت الموانع وتحققت الشروط.

واختيار لفظ الخسارة من أحسن ما يكون, فهو لفظ يسترعي انتباه السامع, فالإنسان مجبول على محبة الربح والهرب من الخسارة, لذلك خاطب الله تعالى الناس بما يلفت انتباههم, وبما جبلت عليه فطرهم.

وقد جاءت ألفاظ التجارة والخسران والربح والأجر في آيات متعددة في القرآن، لعظيم وقعها على النفس, فالإنسان مجبول على حب ما يلائمه والحرص على تحصيله, وكراهية ما يؤذيه والفرار منه واتخاذ وقاية منه.
لذا نجد بأن الله تعالى قال :{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}
وقال:{ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليمتؤمنون بالله ورسوله}
وقال:{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}
وقال:{ ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}

- والتنكير في قوله:(خسر)؛ قيل للتعظيم, أي في خسر عظيم، ويجوز أن يكون للتنويع؛ أي نوع من الخسر غير ما يعرفه الإنسان, فتتعدد أنواع الخسارة بالنسبة إليه, وفي هذا

- وقد تضمنت الآياتان السابقتان حكما ومحكوما عليه ومحكوما به؛ فالحكم هو ما حكم به تعالى على الإنسان, كل الإنسان من النقصان والخسران, والمحكوم عليه هو الإنسان ابن آدم, والمحكوم به هو الخسران.

- وقد أكد الله جل ثناؤه قوله:(إن الإنسان لفي خسر) بأربعة مؤكدات:
أولها: القسم
ثانيها: (إن)
ثالثها: اللام
رابعها: الجملة الإسمية
وأفاد اجتماع هذه المؤكدات التهويل والإنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس.

الكلام في قوله تعالى:{ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ ِ}:
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى إن جنس الإنسان واقع في خسارة محققة, وبعد أن تطلعت النفوس وتشوقت لمعرفة كيفية النجاة من هذه الخسارة؛ جاء الفرج, وجاءت البشرى¸ وجاء الترغيب بعد الترهيب بقوله تعالى: (إلا).
فالناجون من الخسارة لهم وصف معين لا تتم النجاة إلا بتحقيقه؛
فأول ما ذكر من أوصافهم هو الإيمان, فهم من آمن بجميع ما أمر الله بالإيمان به, والإيمان عند أهل السنة والجماعة هو قول واعتقاد وعمل.
فلا يكون المقصود بالإيمان مجرد التصديق, بل يدخل في مسماه العمل, فالتصديق بالأمور التي يتطلب التصديق بها عملا؛ لا يسمى الإنسان فيها (مصدقا) إلا إذا صاحب تصديقه عملا, لذا قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وكان هذا بعد أن شرع إبراهيم عليه السلام بتنفيذ ما أمره الله به من ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام.
وأول ما يدخل في الإيمان هو الإيمان بأركانه الستة, وجميعها تعود على الإيمان بالله, فمن حقق الإيمان بالله؛ حقق الإيمان بجميع ما أمر به الله وارتضاه.

وحصول الإيمان يقتضي حصول العلم قبله, فلا يكون إيمانا على الحقيقة إلا إذا سبقه العلم.
ومن حصل له الإيمان على الصفة التي أمر الله بها: حصل له اليقين, ومن حصل له اليقين سهل عليه العمل.
وقد ذكر القرطبي حديثا فيه تخصيص (الذين آمنوا...) بالخلفاء الراشدين, فذكر في تفسيره قول أبي بن كعب: قرأت على رسول الله ﷺ والعصر ثم قلت: ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: والعصر قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: إن الإنسان لفي خسر: أبو جهل إلا الذين آمنوا: أبو بكر، وعملوا الصالحات عمر. وتواصوا بالحق عثمان وتواصوا بالصبر "علي".
ثم قال: وهكذا خطب أبن عباس على المنبر موقوفا عليه.
وقد ذكره بلا سند ولم يذكر تخريجه.
واللفظ عام, والخلفاء الراشدون أولى الناس بالدخول به.

ثم قال تعالى:(وعملوا الصالحات):
قال ابن كثير: (فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم).
قد ذكرنا بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ومع ذلك عطف بالواو العمل على الإيمان، والواو هنا للمغايرة بين حقائق الأشياء، وحقيقة الإيمان أكبر من حقيقة العمل, لأن العمل جزء من الإيمان, فهذا من عطف الخاص على العام، والفائدة من عطف الخاص على العام هنا هي التنبيه على أنه في الحكم مثل الأول، فدل على شرفه ومكانته، وعلى وجوب الاهتمام به, وفي هذا رد على المرجئة.
وكذلك فيه التنبيه على أن العبد لو عمل عملا يظنه صالحا؛ لفا يكون مقبولا عند الله إلا بشرط الإيمان.

والعمل الصالح هو العمل المرضي عند الله تعالى، ولا يكون مرضيا مقبولا عنده سبحانه إلا إذا توفر فيه شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله, وهذا الشرط يرجع لشهادة أن لا إله إلا الله.
الشرط الثاني: المتابعة، ويعني هذا وقوع العمل موافقا لما شرعه الله وأمر به, كما بين لنا ذلك النبي عليه الصلاة والسلام, فيجب متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, وهذا الشرط يرجع لشهادة أن محمدا رسول الله.
فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين كان مرفوضا مردودا لا ثواب عليه لقوله تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} , وقال سبحانه:{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبله الله، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبله الله حتى يكون خالصا صوابا، والخالص الذي يريد به وجه الله، والصالح أن يكون على السنة.
قال الطبري: (يقول: إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه.).

فكل أهل الملل والنحل يعملون، بل إن منهم من ينقطع للعبادة طوال حياته كالرهبان في صوامعهم، ومع ذلك فعمله لن ينفعه عند الله تعالى لأنه عَمِلَ غير صالح، وقد قال تعالى ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾وقال : ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ﴾وقال: ﴿ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾.

وقد أمر الله الأنبياء والرسل بالعمل الصالح فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾
وقال سبحانه ﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
وأمر سبحانه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته بلزوم العمل الصالح فقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [.
وتوجيه الأمر بعبادة ما إلى الأنبياء, وأمرهم بأمر أقوامهم بها؛ لدليل على أهميتها وعظم مكانتها.

قوله تعالى: ( وتَواصَوْا بالحَقِّ):
جاء في المراد بالحق ثلاثة أقوال:
القول الأول : أنه التوحيد، قاله يحيى بن سلام, وقاله الزجاج: (تواصوا بالإقامة على توحيد اللّه والإيمان بنبيه عليه السلام).
توجيه القول:
فُسر الحق بما سبق, وهو الإيمان والعمل الصالح, والتوحيد ركن الإيمان الأعظم الذي يقوم عليه, وهو الركن الأول من أركان الإيمان, والإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام- أيضا من أركان الإيمان, ولا يتحقق إسلام المرء إلا به, فالإيمان بالله وبنبيه هو حقيقة تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

الثاني: أنه القرآن، قاله قتادة والحسن.
قول قتادة: رواه الطبري عن بشر عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة.
وقول الحسن رواه الطبري عن ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور، عن معمر، عن الحسن.
وبسند آخر عن عمر عن ابن بكار الكلاعي، عن خطاب بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سنان أبو روح السكوني عنه.

توجيه القول:
فسر قتادة والحسن الحق بالقرآن، وهو تفسير صحيح؛ فالقرآن حق، وهو من تسمية المسمى بأحد معانيه التي يحتملها, قال تعالى:{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ }.

الثالث: إنه الله، قاله السدي. ذكره الماوردي والقرطبي.
وهذا كما في قوله تعالى:{ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} وكما جاء في حديث تميم بن أوس رضي الله عنه- المتفق عليه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله...) الحديث.
والنصيحة لله تتضمن الإيمان به وتوحيده بجميع أنواع التوحيد المأمور بها, والله سبحانه هو الذي أمر بالإيمان وأمر بعمل الصالحات.

فلا تعارض بين الأقوال, بل جميعها تتفق في أن التواصي يكون بجميع ما أمر الله سبحانه به, وبجميع ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم,: بالمرسِل والرسالة والرسول.
والوصية بالحق تشمل الشريعة كلها، فتشمل كل ما جاءت الوصبة به في القرآن والسنة, في مثل قوله تعالى: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾, وقوله: ﴿ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾و وقول ابن مسعود رضي الله عنه: " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية.
فهو الوصية بلزوم الصراط المستقيم بلا ريب, والذي نسأل الله أن يهدينا إليه في قولنا:{اهدنا الصراط المستقيم}.

وقوله تعالى:{وتواصوا بالصبر}:
قال قتادة والحسن: الصبر على طاعة الله.
قال قتادة ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ قال: الصبر: طاعة الله.
رواه الطبري عن بشر، عن يزيد، عن سعيد، عنه
قال الحسن ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ قال: الصبر: طاعة الله.
رواه الطبري عن ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور، عن معمر، عنه.
قال الزجاج: {وتواصوا بالصّبر} على طاعة اللّه والجهاد في سبيله والقيام بشرائع نبيه

القول الثاني:قال هشام بن حسان: الصبر على ما افترض الله, ذكره الماوردي.
القول الثالث: الصبر عن المحارم واتباع الشهوات. قاله الماوردي

والصبر لغة هو الحبس, قال الجوهري: الصبر حَبْس النفس عند الجزَع.
وقد عرفه ابن القيم فقال: (الصبر هو حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره).
وقال الجرجاني في تعريفاته:(ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله)
وقال الراغب الأصفهاني معرفا الصبر: (حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه).

فيكون المراد بالصبر؛ الصبر بأنواعه الثلاثة:
- الصبر على طاعة الله
- الصبر عن محارم الله
- الصبر على اقدار الله

والأقوال التي ذكرها المفسرون في تفسير المراد بالصبر من قبيل تفسير الصبر بجزء مما يقع عليه, والصبر في الآية يشمل جميع أنواع الصبر, فهي كلها داخلة في طاعة الله.
فيكون التواصي بالصبر على جميع ما سبق من الحق, والتواصي بالصبر على ما سيلقاه العبد في خلال سيره على الصراط المستقيم, فالدينُ كلُّه يحتاج إلى صبر:
- ولهذا قالَ تعالى لرسولِهِ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزمِ مِنَ الرُّسُلِ.
- وقالَ سبحانَهُ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا.
- وقال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ.
- وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ.
- وقالَ تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ


- ولما كانت الآيات في سياق المدح؛ جاء الوصف بلفظ (وتواصوا) ولم يقل: ويتواصون لئلا يقع أمرا, فدل ذلك على رغبتهم في الثبات على الحق والصبر, فمن المؤكد أن من يوصي غيره بملازمة أمر؛ يراه جديرا بالملازمة, فهو لما كمل نفسه سعى إلى تكميل غيره.
كما إن التواصي بالحق والصبر يعين على ثبات الموصي إن تعرض للغفلة, فهو يذكر نفسه ويذكر غيره.
ولفظ (تواصوا) دل على أن الحق ثقيل, وبأن المحن تلازمه, فتحقيقه لا يكون إلا بمخالفة الهوى والله المستعان.

- وقد دلت السورة على أن الإقدام على المعصية يحصل بالترك، وهو عدم الإقدام على الطاعة، أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل، فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل.

- ولجميع ما ذكرناه من تفسير اهذه السورة؛قال الشافعي رحمه الله: (لوْ ما أنزلَ اللَّهُ حجةً على خلقِهِ إلاَّ هذهِ السورةَ لكَفَتْهُم) وفي رِوَايةٍ: (لو فكَّر النَّاسُ في هذهِ السورةِ لكَفَتْهُم ), فلو نظروا فيها وتأملوها لوجدوا فيها:
طريق الحق, وكيفية سلوكه والثبات عليه, وما يضاده والعاقبة, لوجدوا فيها النجاة لهم ولغيرهم, لوجدوا فيها صلاح النفس وصلاح المجتمع, فهي قد حوت حقا أصول الدين.
فالعلاقة بين الخسارة والمسائل الأربعة علاقة عكسية؛
فكلما حرص العبد على تحقيقها؛ قلت خسارته, لذلك تفاوت الناس في الربح والخسارة:
فهناك من تكون خسارته مطلقة وهو الكافر.
وهناك من سيكون ربحه مطلقا, وهم السابقون, وأقل منهم ربحا هم المقتصدون, وهم مراتب ودرجات, وكذا السابقون.
ومنهم من سيكون ربحه بحسب ما حقق من المسائل الأربعة.

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي ﴿والعصر﴾ قال: قسم أقسم به ربنا وتبارك وتعالى ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾ قال: الناس كلهم ثم استثنى فقال: ﴿إلا الذين آمنوا﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وعملوا الصالحات﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وتواصوا بالحق﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وتواصوا بالصبر﴾ يشترط عليهم.

فسبحان القائل:{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}, فمع قلة ألفاظ السورة؛ احتوت على معان وفوائد ولطائف لو جمعت لكتبت في مجلدات.

تم بحمد الله وتوفيقه.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 3 رجب 1442هـ/14-02-2021م, 02:14 PM
فداء حسين فداء حسين غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - مستوى الإمتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 955
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فداء حسين مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
اللهم علمنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.

ملاحظة: الهدايات والفوائد مبثوثة في جمل التفسير ولم أضعها في مسائل مستقلة.
تفسير سورة العصر:

اسم السورة:
سورة العصر, أو (والعصر) بإثبات الواو كما جاء في مجاز القرآان لأبي عبيدة, وفي مصنف عبد الرزاق الصنعاني, والبخاري وغيرهم على حكاية أوّل كلمة فيها، أي: سورة هذه الكلمة.
ما جاء في فضلها:
ذكر الطبراني في المعجم الأوسط من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن حصن ، قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله ﷺ إذا التقيا، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر "سورة العصر" إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر.
ورواه البيهقي في شعب الإيمان.

وقد ذكر ابن كثير في تفسيره بأن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب , وذلك بعد ما بعث رسول الله ﷺ وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ قال(٢) لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ فقال: " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها. فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفز نقز. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب(.
قال ابن كثير بعدها: (وقد رأيت أبا بكر الخرائطي أسند في كتابه المعروف ب " مساوي الأخلاق " ، في الجزء الثاني منه ، شيئا من هذا أو قريبا منه .).

عدد آياتها:
عدد آيات سورة العصر ثلاث آيات, وهذا مجمع عليه, واختلف العلماء هل هي مكية أو مدنية:
هي مكّيّة؛ قاله ابن عباس وابن الزبير.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: (مكية، وهذا على قول الجمهور).
وقاله الزجاج, وابن حزم, والثعلبي, والواحدي, والداني, وابن عطية وغيرهم,
وقال الشوكاني: (وهي مكّيّةٌ في قول الجمهور).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاسٍ قال: (نزلت سورة العصر بمكّة).

وذهب مجاهد وقتادة ومقاتل بأن السورة مدنية.

والصواب ما ذهب إليه الجمهور.

قوله تعالى: (والعصر):
بدأت السورة بالقسم, قال تعالى: (والعصر), أقسم الله تعالى بالعصر, والله سبحانه يقسم بما شاء, وليس للعباد أن يقسموا إلا به تعالى وتقدس.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: (فإن الله يُقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته،فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه، وقدرته، ومشيئته، ورحمته، وحكمته، وعظمته، وعزَّته، فهو سبحانه يقسم بها لأنَّ إقسامه بها تعظيم له سبحانه، ونحن المخلوقون ليس لنا أن نُقسم بها بالنص والإجماع، بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يُقسم بشيء من المخلوقات).

وقسم الله سبحانه بشيء تنبيه على أهميته ومكانته, ووقوع القسم به من خالقه؛ دعوة إلى التفكر فيه وتدبر حاله.

في معنى العصر:
جاء في مقاييس اللغة لابن فارس:
عصر:
العين والصاد والراء أصولٌ ثلاثة صحيحة: فالأوَّل دهرٌ وحين، والثاني ضَغْط شيء حتَّى يتحلَّب، والثالث تَعَلُّقٌ بشيءٍ وامتساكٌ به.فالأوَّل العَصْر، وهو الدَّهر. قال الله:{ وَالعَصْرِ. إنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}.

المراد بالعصر:
تنوعت عبارات المفسرين من السلف في بيان المراد من (العصر), لكن يجمعها قول واحد وهو أن المراد به الدهر أو الزمان, وندكر هنا بعضا مما ورد من أقوالهم:
القول الأول: هو ساعة من ساعات النهار, قاله ابن عباس, رواه الطبري عن علي عن أبي صالح عن معاوية، عن علي عنه.
وقاله قتادة, رواه عنه معمر, رواه عبدالرزاق الصنعاني.

وجاء تحديد هذه الساعة بالعشي, ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي:
أخْرَجَه ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ, قال في قوله تعالى:﴿والعَصْرِ﴾: هو ما قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ مِنَ العَشِيِّ. ذكره السيوطي قي الدر المنثور.
وقاله الحسن من طريق معمر, رواه عبدالرزاق الصنعاني والطبري في تفسيره.

وقال مقاتل: عصر النهار وهو آخر ساعة في النهار¸ رواه عبد الخالق بن الحسن بن أبي روبا في المنسوب إلى مقاتل.

توجيه القول:
يطلق العصر على النهار, ويطلق على العشي كما قال قطرب : وقالوا: العصر العشيّ. يقال: أتيتك عصراً أي عشيّاً.
وقول الله عزّ وجلّ:{والعصر إنّ الإنسان لفي خسرٍ} يكون على ذلك وعلى الدّهر. يقال: مضى عصرٌ من الدهر وعصرٌ.
قال الأَزهري: يَقَع العشيُّ على ما بَيْنَ زَوالِ الشمْسِ إلى وَقْت غُروبها، كل ذلك عَشِيٌّ، فإذا غابَتِ الشَّمْسُ فهو العِشاءُ.
وقال الفراهيدي في كتاب العين: (العشي، آخر النهار، فإذا قلت: عشية فهي ليوم واحد، تقول: لقيته عشية يوم كذا، وعشية من العشيات، وإذا صغروا العشي قالوا: عشيشيان، وذلك عند الشفى وهو آخر ساعة من النهار عند مغيربان الشمس.)

قال ابي بن كعب: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال: « (أقسم ربكم بآخر النهار). ذكره القرطبي وابن عطية بلا سند ولم يذكر تخريجه.

وقد جاء في نصوص الشرع مزيد عناية بوقت العصر, ففيه ختام أعمال اليوم, والأعمال بخواتيمها, وفيه اجتماع الملائكة كما جاء في الحديث من قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه الذي رواه أبو هريرة عنه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر...) الحديث.
لذلك غلظت اليمين في هذا الوقت كما جاء في الحديث المتفق عليه, الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ ولا ينظرُ إليهم ولهم عذابٌ أليمٌ :...) وذكر منهم: ( ورجلٌ حلف على يمينٍ بعدَ صلاةِ العصرِ لقد أُعطَى بسلعَتِه أكثرَ مما أَعْطى ) الحديث.
وفسر الكثير من أهل العلم الصلاة في قوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} بأنها صلاة العصر لعظم هذا الوقت عند أهل الإسلام وعند غيرهم.
قال الطبري بعد أن رجح القول بأن الصلاة المقصودة هي صلاة العصر: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة "، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت, وذلك لقربه من غروب الشمس).

القول الثاني: صلاة العصر, قاله مقاتل ولفظه: ( أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى), ذكره البغوي وابن الجوزي. (ولم أجده في التفسير المنسوب إلى مقاتل في تفسيره لسورة العصر).
قال الخليل: (قالوا: وبه سمِّيت صَلاةُ العصر، لأنَّها تُعْصَر، أي تؤخَّر عن الظُّهر).

توجيه القول:
هو من باب حمل اللفظ على دلالته الشرعية, كذلك لعظم ما جاء في فضل صلاة العصر, فهي الصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى:{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ},
وقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال : قلنا لعبيدة : سل عليا عن الصلاة الوسطى . فسأله فقال : كنا نرى أنها الصبح ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب : (شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى ، صَلَاةِ الْعَصْرِ).
ولِما في مُصْحَفِ حَفْصَةَ: (والصَّلاةُ الوُسْطى صَلاةُ العَصْرِ).

وهي الصلاة الفضلى, وقد عظمت كما عظم وقتها:
فوقتها وقت اجتماع الملائكة كما ذكرنا في الحديث السابق¸ وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم التهويل والتحذير من التفريط فيها, كما جاء عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» . رواه البخاري.
وصلاة العصر إحدى صلاتي العشي, فقد جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين...) الحديث.

القول الثالث: قيل: هو قسم بعصر النبي ﷺ، لفضله بتجديد النبوة فيه .ذكره القرطبي, وذكره الرازي, والماوردي وابن عاشور.
قال الفخر الرازي : فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله تعالى : {وأنت حل بهذا البلد } وبعمره في قوله: { لعمرك }.
قال ابن عاشور: (ويجوز أن يراد عصر الإِسلام كلِه وهو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم عصر الأمة الإِسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس)
وقول ابن عاشور أعم من قول الرازي.

توجيه القول:
ساق ابن عاشور الحديث الذي رواه البخاري ليبين وجه قوله بأن العصر هو عصر الأمة الإسلامية, فقد قال عليه الصلاة والسلام: (مَثَلُ المُسْلِمِينَ واليَهُودِ والنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ له عَمَلًا إلى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إلى نِصْفِ النَّهَارِ فَقالوا: لا حَاجَةَ لَنَا إلى أجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: أكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَومِكُمْ ولَكُمُ الذي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا، حتَّى إذَا كانَ حِينَ صَلَاةِ العَصْرِ قالوا: لكَ ما عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَومِهِمْ حتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، واسْتَكْمَلُوا أجْرَ الفَرِيقَيْنِ).

القول الرابع : العصر هو الدهر, قاله ابن عباس, وزيد بن أسلم, ويحيى بن زياد الفراء, وعبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري, ومكي بن أبي طالب, ورجحه جمهور المفسرين وهو الراجح, وهو قول عام يجمع حميع ما سبق من الأقوال.
قال ابن عباس: العصر: الدهر.
أخرجه ابن المنذر. ذكره السيوطي.
قال الفراء :ويقال للدهر: العصر. ويقال: أقمت عنده عَصْرًا، وعُصْرًا.
قال ابن السكيت: والعَصْر: الدهر .
وتسمية الدهر عصراً أمر معروف في اللغة, قال الخليل: والعَصْران: اللَّيل والنهار.
ولَنْ يلبث العَصْرانِ يومٌ وليلة إذا اختلفا أن يُدرِكا ما تَيَمَّما
ويوم وليلة بدل من العصران.

لهذا قال ابن كيسان بأن المراد بالعصر الليل والنهار. ذكره البغوي في تفسيره. وقاله العسقلاني.
فالدهر هو تعاقب الليل والنهار, فلا منافاة بين القولين.

وسبب الاختلاف الواقع في تحديد المراد بالعصر هو الاشتراك اللغوي في لفظ العصر، فهو يطلق على عدة معان، وبهذا يرجع الخلاف إلى أكثر من معنى، وكل هذه الأقوال محتملة, لكن القول بأنه الدهر يشمل الأوقات كلها, لذا جاء تعريف (العصر) باللام تعريفا للعهد الذهني، أي: كل عصر.

لذا رجح الطبري -رحمه الله تعالى-وغبره من المفسرين عموم لفظ العصر لجميع الأوقات فقال: (والصوابُ من القولِ فِي ذلك: أنْ يُقالَ: إنَّ ربَّنا أقسمَ بالعصرِ {وَالْعَصْرِ} اسمٌ للدهرِ، وهو العشيُّ والليلُ والنهارُ، ولم يُخصِّصْ ممَّا شمِلَهُ هذا الاسمُ معنًى دونَ معنًى، فكلُّ ما لزِمَهُ هذا الاسمُ فداخلٌ فيما أقْسَمَ بهِ جلَّ ثناؤُه.(

قال الواحدي:
والعصر بهذه المعاني صحيح في اللغة؛ يقال للدهر: العصر، والعصر، والعصر، أنشد ابن السكيت:
ثم اتقى وأي عصر يتقى ... بعلبة وقلعه المعلق
ويقال لليوم، والليلة، والغداة، والعشي: العصر.
قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
(فإبداله اليوم، والليلة من "العصران" يدل على أنهما العصران، أنشد ابن السكيت:
وأمطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
قال: العصران: الغداة والعشي
قال الليث: والعصر العشي، وأنشد:
تروح بنا يا عمر ... وقد قصر العصر
قال: وبه سميت صلاة (العصر)
وقال أهل المعاني في "العصر" بجميع هذه المعاني عبرة للناظرة من جهة مرور الليل والنهار؛ على تقدير الأدوار من جهة أخذالنهار في التقضي، والليل في المجيء.

وكان عليّ رضى الله عنه يقرأ ذلك: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْر وإنه فيه إلى آخر الدهر﴾ .
قال عمرو ذي مرّ،: سمعت عليا رضى الله عنه يقرأ هذا الحرف ﴿وَالْعَصْرِ وَنَوَائِب الدَّهْرِ، إنَ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، وإنه فيه إلى آخر الدهر﴾ .
رواه الطبري من طرق عن عمرو بن ذي مرة.

أقوال أخرى:
وقد جاء عن كعب القرظي التوقف في تعيين المراد بالعصر, فقال: (قسم أقسم به ربنا تبارك وتعالى), رواه عنه عبدالعزيز بن أبي رواد, رواه عبدالرزاق الصنعاني.
ولعله من باب الورع والله أعلم.

وقيل المراد (ورب العصر) , كم في قوله تعالى:{فورب السماء والأرض} ذكره الزجاج ولم يعزوه.
وهذا القول ضعيف, فالأصل عدم الحذف وعدم التقدير.

لماذا أقسم الله بالعصر؟
أولا : أتى هذا القسم الله بالعصر تذكيرا بعظيم قدرة الله تعالى في خلق العالم وأحواله، فالزمن محل لوقوع الكثير من الآيات المتغيرة التي تدل من تفكر فيها على وجود خالق ومدبر لها, ففيه تعاقب الليل والنهار بهيئة منتظمة تتحقق فيها مصالح العالم على اكمل ترتيب ونظام, وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها آية من آيات الرب تعالى وبرهان من براهين قدرته وحكمته, وفيه التنبيه والإشارة إلى عظيم خلق الله للشمس, وانتظام حركتها, وما تجلبه من منافع للأرض ومن يعيش عليها بلا استثناء, فلا حياة بدونها, فهي النور الحسي الذي جعل الله المنافع الحسية والبدنية لجميع الكائنات متعلقة به, كما جعل في النور المعنوي؛ نور الوحي, قيام جميع منافع الروح والقلب.
لذا لما حاج إبراهيم قومه وجههم إلى النظر في الآيات المتغيرة كالشمس والقمر, تأتي وتذهب, والقصد بيان وتأكيد أنها مربوبه ومدبرة, كما قال تعالى عنه:{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} الآيات.

ثانيا: كذلك في الإقسام بالعصر التنبيه على أمور عظيمة مباركة؛ مثل الصلاة المخصوصة وهي صلاة العصر, لما جاء من عظيم فضلها حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي رواه عنه أبو موسى الأشعري: (عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى البردين دخل الجنة) .
أو التذكير بعصر معين مبارك, على قول من قال بأنه عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: وقت العصر فيه الإعلام بانتهاء النهار, فهو الوقت الذي ينقطع الناس فيه عادة عن أعمال النهار بما فيها من كد وسعي وجهد وتعب- سواء أعمال الرجال خارج البيت سعيا في طلب الرزق أو طلب العلم, أو أعمال النساء داخل بيوتهن- فيتطلع المرء بعدها إلى الراحة في السكن والمأوى, يتطلع إلى السكينة والطمأنينة بعد يوم طويل شاق.
والإقسام بهذا الوقت-والله أعلم- فيه تنبيه إلى ما يحصل به من انتهاء يوم مر أوشكت صفحاته أن تطوى بما فيها, فلو تفكر الإنسان في هذا الأمر وهو يرى الشمس قد تغير لونها واصفرت بعد أن كانت بيضاء نقية, كأنها مريض تغير لون وجهه من شدة المرض والتعب, وأصبحت تميل إلى جهة المغرب, كحال المريض المتعب الذي يوشك على السقوط, فيتغير لونها كلما اقتربت من الرحيل, تاركة ألوانا في الأفق يخبو بريقها وشعاعها شيئا فشيئا حتى تنطفئ بالكلية مخلفة وراءها ظلام دامس؛
وهذا يذكر العبد بأن ما وهبه الله له من وقت في هذه الحياة لا بد أن ينتهي وتطوى صفحاته بما احتوته من عمل.

فالإقسام بالعصر فيه التنبيه على الزمان الذي تقع فيه أفعال العباد من خير وشر وغيره, تنبيه للعبد على هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه, لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم-كما عند البخاري-في الحديث الذي رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ), فحري بالعبد الفطن أن يستغل ما وهبه الله من الوقت, وليعلم بأن ما فات منه لا يمكن استدراكه.

فلو تفكر في هذا لما خلد إلى الراحة والدعة, ولأخذ من الراحة ما يقيمه ويقدره على العمل لله, كما قال تعالى:{فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب}, وكما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة في الحديث الذي رواه الترمذي, قال عليه الصلاة والسلام: (...وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ).

فالزمان رأس مال الإنسان في هذه الحياة, وهو عمره ; كلفه الله باستغلاله في فترة وجوده في هذه الدنيا، فالدنيا بالنسبة إليه كالسوق الذي يتاجر فيه برأس ماله, فإن أعمله في خير ربح، وإن أعمله في شر خسر, لذا قال تعالى:{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}.

وقال عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها), وهذا فيه تأكيد على أن رأس مال الإنسان عمره .

رابعا: جاء الإقسام بالعصر تأكيدا على عاقبة أعمال العباد وجزائها، فمن خلق الزمان وابتدأ الحياة قادر على أن يعيد الإنسان بعد موته, وقادر على محاسبته على ما وقع منه, لذا أقسم الله في كتابه بهذه الآيات الدالة على كمال قدرته سبحانه : الليل والنهار والشمس والقمر والضحى والصبح, فكل ما له بداية لا بد أن ينتهي ويزول, تذهب الشمس ويأتي القمر, يأتي الليل فيتلاشى النهار, فمن تفكر فيها أيقن بالجزاء, ومن أيقن عمل في أيامه قبل رحيلها, كما قال تعالى :{كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}, فهذا العمل في هذه الساعات هو زاد العبد إلى الآخرة, فلن ينفعه غيره, بل لا قيمة لغيره عند رحيله إلى الحياة الحقيقية.
رابعا: ذكر الرازي وجها آخر فقال: (ويعرض عز وجل لما في الأقسام به من التعظيم بنفي أن يكون له خسران أو دخل فيه كما يزعمه من يضيف الحوادث إليه وفي إضافة الخسران بعد ذلك للإنسان اشعار بأنه صفة له لا للزمان).

قال القاسمي: (كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم، وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضا. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب، كما اعتاد الناس أن يقولوا: (زمان مشؤوم)، و: (وقت نحس)، و: (دهر سوء)، وما يشبه ذلك. بل هو عاد للحسنات كما هو عاد للسيئات، وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة!).

قال الألوسي: (وتعقب بأن استعمال العصر بذلك المعنى غير ظاهر).

جواب القسم:
ولما أقسم سبحانه وتعالى بالعصر؛ جاء جواب القسم بعده مباشرة فقال: (إن الإنسان لفي خسر), والإنسان كما جاء في المصباح المنير :
(" الإِنْسَانُ " مِنَ الناس اسم جِنَسٍ يقع على الذَّكَرِ والأُنثْى والواحد ...).
وقد ورد قولان في المراد بالإنسان هنا, قول عام وقول خاص:

أما القول الخاص:
قال بعض المفسرين بأن المراد ب(الإنسان) الكافر, بدليل استثناء المؤمنين بعد ذلك, قاله البغوي وأضاف: (و"الخسران": ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره بالمعاصي، وهما أكبر رأس ماله.), وذكره القرطبي .
وجاء تخصيص هذا القول بالتنصيص على بعض الكفار بعينهم, كما ذكر ذلك القرطبي, فساق حديثا لأبي بن كعب قال فيه: قرأت على رسول الله ﷺ والعصر ثم قلت: ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: والعصر قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: إن الإنسان لفي خسر: أبو جهل...) الحديث
وذكر قول ابن عباس في رواية أبي صالح, وروى الضحاك عنه قال: يريد جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود ابن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، والأسود بن عبد يغوث.
وقال مقاتل بأن السورة نزلت في أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب, فقال: (يعني أنه في ضلال أبدا حتى يدخل النار). رواه عبد الخالق بن الحسن بن أبي روبا في المنسوب إلى مقاتل.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}قال: يعني أبا جهلِ بنَ هِشامٍ). ذكره السيوطي في الدر المنثور.

أما القول العام: فقد جاء عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر}, قال: يعني آدم وبنيه.
رواه عبد الرحمن بن حسن الهمذاني عن إبراهيم عن آدم عن أبي داود الواسطي عن أبي علي عنه.
وجاء عنه قوله: (الناس كلهم) رواه عنه عبدالعزيز بن أبي رواد, رواه عبدالرزاق الصنعاني.
وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم, ذكره السيوطي في الدر المنثور.
وقال الزجاج: الإنسان ههنا في معنى الناس، كما تقول: قد كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، تريد قد كثر الدراهم.
وقال مكي: الناس
ورجحه الطبري وابن عطية وابن الجوزي وابن جزي والماوردي وابن القيم وابن كثير والشوكاني وغيرهم.
قال الطبري: (واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد).

والصحيح بأن اللفظ عام كما سنبين, قال الطبري رحمه الله تعالى: وقولُهُ: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} يقولُ: إنَّ ابنَ آدمَ لفي هلكةٍ ونقصانٍ.).
أما تخصيصه بالكافر أو بالتنصيص على أبي لهب وأبي جهل؛ فهم أولى الناس بوسمهم بوصف الخسارة المطلقة, فهم أصحاب النصيب الأعظم, ولا يعني هذا تخصيص الخسارة بهم فقط, فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فحجم الخسارة يختلف من شخص لآخر, بل تختلف بين الكفار أنفسهم كما سنبين إن شاء الله.

لذا جاءت كلمة (الإنسان) في الآية مفردة, ومع ذلك فقد أفادت العموم كونها تحلت ب(أل) الاستغراقية, الذي يصير المفرد بسببهما صيغة عموم، قالمراد هنا جنس الإنسان، وعلامة العموم أن تحل كلمة (كُل) محلَّ (أل).
ودل على العموم أيضا قوله تعالى:{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فلفظ الآية يقتضي أنه ليس إنسانا واحدا.
ودل على العموم أيضا الاستثناء بعده, فالاستثناء معيار العموم, فإذا كان اللفظ يصلح للاستثناء منه فإنه عام اللفظ.


قوله تعالى: (لفي خسر):
الخسر لغة هو النقصان؛ قاله ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" وفي "تفسير غريب القرآن" , حيث قال: الخسران: النقصان، وقاله ابن شجرة في: "النكت والعيون"، والثعلبي في "الكشف والبيان".
قال الطبري: (يقول: إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان.)

أما المراد ب(الخسر) فقد ذكر الماوردي فيه أربعة أوجه:
أحدها: لفي هلاك، قاله السدي.
الثاني: لفي شر، قاله زيد بن أسلم.
الثالث: لفي نقص، قاله ابن شجرة.
الرابع: لفي عقوبة.

ويمكن تقسيم عبارات المفسرين بحسب ما ذهبوا إليه في تفسير (الإنسان):
فمن قال بأن المراد ب (الإنسان) في الآية هو الكافر؛ قال بأن الخسارة هي العقوبة وهي دخول النار في الآخرة, ومنهم من قال بأن الخسارة هي ما كانوا فيه من ضلال في الدنيا أكبهم الله بسببه في النار في الآخرة.
فيكون معنى الآية: كل كافر لفي ضلال حتى يموت فيه، فيدخل النار, فتكون خسارته في الآخرة.
قال مجاهد: (لفي خسر: يعني لفي ضلال, ثم استثنى فقال: إلا من آمن).
رواه آدم بن أبي إياس في التفسير المنسوب إلى مجاهد

كما قال الفراء: لفي عقوبة بذنوبه، وأن يخسر أهله، ومنزله، وماله في الجنة.
وقال مكي بن أبي طالب: (وقيل: الخسر: دخول النار، يعني به الكافر.).
وقال الأخفش : هلكة , وقاله السدي, نسبه إليه الماوردي.

والقول بأن (الخسر) هو الضلال؛ من تفسير المسبب بسببه, فسبب الخسران في الآخرة هو ما وقع فيه العبد من ضلال, كما قال تعالى:{ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال:{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
أما تفسير الخسر بالعقوبة فهو كقوله تعالى:﴿وَكانَ عاقِبَةُ أمْرِها خُسْرًا﴾, فالخسران هو نوع العقوبة الواقعة عليهم.

ومن قال بأن المراد ب (الإنسان) في الآية هو جنس الإنسان؛ قال بعموم الخسارة في الدنيا والآخرة.
قال البغوي: (والخسران: ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره بالمعاصي؛ وهما أكبر رأس ماله).

ولا تعارض بين القولين, فالقول الأول داخل في عموم القول الثاني¸ والكافر أحق بالخسارة من غيره, لكن القول بعموم الخسارة يناسب سياق الآيات من سورة العصر, وعموم ألفاظها, وسيأتي إن شاء الله الكلام عن درجات الخسارة.

ولفظ (خسر) يشمل جميع ما يتعرض له الإنسان من نقصان وهلكة سواء كان هذا في الدنيا أو في الآخرة:
فالإنسان يتقلب في أطوار, فينقلب من ضعف إلى قوة, ثم يعود من قوة إلى ضعفا وشيبة, كما قال تعالى ذلك عنه:
فتضعف الحواس
وتضعف الذاكرة
وتتناقص أيام عمره
وتتناقص قوته
وهذا يكون حاله في جميع أموره...
وعلى هذا الحال يخسر الكافر الدنيا والآخرة، أما المؤمن وإن كان قد تعرض في دنياه لخسارة القوة البدنية, وما قاساه فيها؛ فهو لا يذكر مقابلة لما سيكون عليه حاله في الآخر.
لذا قال رسول الله ﷺفيما رواه مسلم: ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط).
وقال: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). رواه مسلم.
وفي هذا تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه، لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه.
وفيه الإرشاد على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح، وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد.

وأتى بقوله: ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ ليكون أبلغ من قوله: (إن الإنسان لخاسر)؛ وذلك أنَّ معنى (في) الظرفية، فكأن الإنسان منغمس في الخسر، كإحاطة الظرف بالمظروف, والخسران محيط به من كل جانب, ومثل هذا التعبير يبعث الرعب والهلع في القلوب الحية, لذا تبدأ في البحث عن المخرج, تبدأ في البحث عن أسباب النجاة, فيتصور العبد نفسه كالغريق الذي يصرخ لعل أحدا ينقذه وينتشله من بحر الخسارة, فإذا أصبحت هذه حاله تهيأت نفسه لقبول ما جاء بعدها من أسباب النجاة, فتقع الكلمات على أسماع قد تشوقت لمعرفة ما ينجيها, فألقى صاحبها سمعه وأصغى بآذانه, وتقع كذلك على قلوب قد أزال الخوف من الخسارة ما فيها من عوائق بحثا عن النجاة, فدبت فيها الحياة, فوقع العلاج على محل صالح مستعد لقبوله؛ بعد أن انتفت الموانع وتحققت الشروط.

واختيار لفظ الخسارة من أحسن ما يكون, فهو لفظ يسترعي انتباه السامع, فالإنسان مجبول على محبة الربح والهرب من الخسارة, لذلك خاطب الله تعالى الناس بما يلفت انتباههم, وبما جبلت عليه فطرهم.

وقد جاءت ألفاظ التجارة والخسران والربح والأجر في آيات متعددة في القرآن، لعظيم وقعها على النفس, فالإنسان مجبول على حب ما يلائمه والحرص على تحصيله, وكراهية ما يؤذيه والفرار منه واتخاذ وقاية منه.
لذا نجد بأن الله تعالى قال :{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}
وقال:{ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليمتؤمنون بالله ورسوله}
وقال:{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}
وقال:{ ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}

- والتنكير في قوله:(خسر)؛ قيل للتعظيم, أي في خسر عظيم، ويجوز أن يكون للتنويع؛ أي نوع من الخسر غير ما يعرفه الإنسان, فتتعدد أنواع الخسارة بالنسبة إليه, وفي هذا

- وقد تضمنت الآياتان السابقتان حكما ومحكوما عليه ومحكوما به؛ فالحكم هو ما حكم به تعالى على الإنسان, كل الإنسان من النقصان والخسران, والمحكوم عليه هو الإنسان ابن آدم, والمحكوم به هو الخسران.

- وقد أكد الله جل ثناؤه قوله:(إن الإنسان لفي خسر) بأربعة مؤكدات:
أولها: القسم
ثانيها: (إن)
ثالثها: اللام
رابعها: الجملة الإسمية
وأفاد اجتماع هذه المؤكدات التهويل والإنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس.

الكلام في قوله تعالى:{ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ ِ}:
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى إن جنس الإنسان واقع في خسارة محققة, وبعد أن تطلعت النفوس وتشوقت لمعرفة كيفية النجاة من هذه الخسارة؛ جاء الفرج, وجاءت البشرى¸ وجاء الترغيب بعد الترهيب بقوله تعالى: (إلا).
فالناجون من الخسارة لهم وصف معين لا تتم النجاة إلا بتحقيقه؛
فأول ما ذكر من أوصافهم هو الإيمان, فهم من آمن بجميع ما أمر الله بالإيمان به, والإيمان عند أهل السنة والجماعة هو قول واعتقاد وعمل.
فلا يكون المقصود بالإيمان مجرد التصديق, بل يدخل في مسماه العمل, فالتصديق بالأمور التي يتطلب التصديق بها عملا؛ لا يسمى الإنسان فيها (مصدقا) إلا إذا صاحب تصديقه عملا, لذا قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وكان هذا بعد أن شرع إبراهيم عليه السلام بتنفيذ ما أمره الله به من ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام.
وأول ما يدخل في الإيمان هو الإيمان بأركانه الستة, وجميعها تعود على الإيمان بالله, فمن حقق الإيمان بالله؛ حقق الإيمان بجميع ما أمر به الله وارتضاه.

وحصول الإيمان يقتضي حصول العلم قبله, فلا يكون إيمانا على الحقيقة إلا إذا سبقه العلم.
ومن حصل له الإيمان على الصفة التي أمر الله بها: حصل له اليقين, ومن حصل له اليقين سهل عليه العمل.
وقد ذكر القرطبي حديثا فيه تخصيص (الذين آمنوا...) بالخلفاء الراشدين, فذكر في تفسيره قول أبي بن كعب: قرأت على رسول الله ﷺ والعصر ثم قلت: ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: والعصر قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: إن الإنسان لفي خسر: أبو جهل إلا الذين آمنوا: أبو بكر، وعملوا الصالحات عمر. وتواصوا بالحق عثمان وتواصوا بالصبر "علي".
ثم قال: وهكذا خطب أبن عباس على المنبر موقوفا عليه.
وقد ذكره بلا سند ولم يذكر تخريجه.
واللفظ عام, والخلفاء الراشدون أولى الناس بالدخول به.

ثم قال تعالى:(وعملوا الصالحات):
قال ابن كثير: (فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم).
قد ذكرنا بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ومع ذلك عطف بالواو العمل على الإيمان، والواو هنا للمغايرة بين حقائق الأشياء، وحقيقة الإيمان أكبر من حقيقة العمل, لأن العمل جزء من الإيمان, فهذا من عطف الخاص على العام، والفائدة من عطف الخاص على العام هنا هي التنبيه على أنه في الحكم مثل الأول، فدل على شرفه ومكانته، وعلى وجوب الاهتمام به, وفي هذا رد على المرجئة.
وكذلك فيه التنبيه على أن العبد لو عمل عملا يظنه صالحا؛ لفا يكون مقبولا عند الله إلا بشرط الإيمان.

والعمل الصالح هو العمل المرضي عند الله تعالى، ولا يكون مرضيا مقبولا عنده سبحانه إلا إذا توفر فيه شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله, وهذا الشرط يرجع لشهادة أن لا إله إلا الله.
الشرط الثاني: المتابعة، ويعني هذا وقوع العمل موافقا لما شرعه الله وأمر به, كما بين لنا ذلك النبي عليه الصلاة والسلام, فيجب متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, وهذا الشرط يرجع لشهادة أن محمدا رسول الله.
فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين كان مرفوضا مردودا لا ثواب عليه لقوله تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} , وقال سبحانه:{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبله الله، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبله الله حتى يكون خالصا صوابا، والخالص الذي يريد به وجه الله، والصالح أن يكون على السنة.
قال الطبري: (يقول: إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه.).

فكل أهل الملل والنحل يعملون، بل إن منهم من ينقطع للعبادة طوال حياته كالرهبان في صوامعهم، ومع ذلك فعمله لن ينفعه عند الله تعالى لأنه عَمِلَ غير صالح، وقد قال تعالى ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾وقال : ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ﴾وقال: ﴿ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾.

وقد أمر الله الأنبياء والرسل بالعمل الصالح فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾
وقال سبحانه ﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
وأمر سبحانه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته بلزوم العمل الصالح فقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [.
وتوجيه الأمر بعبادة ما إلى الأنبياء, وأمرهم بأمر أقوامهم بها؛ لدليل على أهميتها وعظم مكانتها.

قوله تعالى: ( وتَواصَوْا بالحَقِّ):
جاء في المراد بالحق ثلاثة أقوال:
القول الأول : أنه التوحيد، قاله يحيى بن سلام, وقاله الزجاج: (تواصوا بالإقامة على توحيد اللّه والإيمان بنبيه عليه السلام).
توجيه القول:
فُسر الحق بما سبق, وهو الإيمان والعمل الصالح, والتوحيد ركن الإيمان الأعظم الذي يقوم عليه, وهو الركن الأول من أركان الإيمان, والإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام- أيضا من أركان الإيمان, ولا يتحقق إسلام المرء إلا به, فالإيمان بالله وبنبيه هو حقيقة تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

الثاني: أنه القرآن، قاله قتادة والحسن.
قول قتادة: رواه الطبري عن بشر عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة.
وقول الحسن رواه الطبري عن ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور، عن معمر، عن الحسن.
وبسند آخر عن عمر عن ابن بكار الكلاعي، عن خطاب بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سنان أبو روح السكوني عنه.

توجيه القول:
فسر قتادة والحسن الحق بالقرآن، وهو تفسير صحيح؛ فالقرآن حق، وهو من تسمية المسمى بأحد معانيه التي يحتملها, قال تعالى:{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ }.

الثالث: إنه الله، قاله السدي. ذكره الماوردي والقرطبي.
وهذا كما في قوله تعالى:{ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} وكما جاء في حديث تميم بن أوس رضي الله عنه- المتفق عليه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله...) الحديث.
والنصيحة لله تتضمن الإيمان به وتوحيده بجميع أنواع التوحيد المأمور بها, والله سبحانه هو الذي أمر بالإيمان وأمر بعمل الصالحات.

فلا تعارض بين الأقوال, بل جميعها تتفق في أن التواصي يكون بجميع ما أمر الله سبحانه به, وبجميع ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم,: بالمرسِل والرسالة والرسول.
والوصية بالحق تشمل الشريعة كلها، فتشمل كل ما جاءت الوصبة به في القرآن والسنة, في مثل قوله تعالى: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾, وقوله: ﴿ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾و وقول ابن مسعود رضي الله عنه: " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية.
فهو الوصية بلزوم الصراط المستقيم بلا ريب, والذي نسأل الله أن يهدينا إليه في قولنا:{اهدنا الصراط المستقيم}.

وقوله تعالى:{وتواصوا بالصبر}:
قال قتادة والحسن: الصبر على طاعة الله.
قال قتادة ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ قال: الصبر: طاعة الله.
رواه الطبري عن بشر، عن يزيد، عن سعيد، عنه
قال الحسن ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ قال: الصبر: طاعة الله.
رواه الطبري عن ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور، عن معمر، عنه.
قال الزجاج: {وتواصوا بالصّبر} على طاعة اللّه والجهاد في سبيله والقيام بشرائع نبيه

القول الثاني:قال هشام بن حسان: الصبر على ما افترض الله, ذكره الماوردي.
القول الثالث: الصبر عن المحارم واتباع الشهوات. قاله الماوردي

والصبر لغة هو الحبس, قال الجوهري: الصبر حَبْس النفس عند الجزَع.
وقد عرفه ابن القيم فقال: (الصبر هو حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره).
وقال الجرجاني في تعريفاته:(ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله)
وقال الراغب الأصفهاني معرفا الصبر: (حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه).

فيكون المراد بالصبر؛ الصبر بأنواعه الثلاثة:
- الصبر على طاعة الله
- الصبر عن محارم الله
- الصبر على اقدار الله

والأقوال التي ذكرها المفسرون في تفسير المراد بالصبر من قبيل تفسير الصبر بجزء مما يقع عليه, والصبر في الآية يشمل جميع أنواع الصبر, فهي كلها داخلة في طاعة الله.
فيكون التواصي بالصبر على جميع ما سبق من الحق, والتواصي بالصبر على ما سيلقاه العبد في خلال سيره على الصراط المستقيم, فالدينُ كلُّه يحتاج إلى صبر:
- ولهذا قالَ تعالى لرسولِهِ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزمِ مِنَ الرُّسُلِ.
- وقالَ سبحانَهُ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا.
- وقال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ.
- وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ.
- وقالَ تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ


- ولما كانت الآيات في سياق المدح؛ جاء الوصف بلفظ (وتواصوا) ولم يقل: ويتواصون لئلا يقع أمرا, فدل ذلك على رغبتهم في الثبات على الحق والصبر, فمن المؤكد أن من يوصي غيره بملازمة أمر؛ يراه جديرا بالملازمة, فهو لما كمل نفسه سعى إلى تكميل غيره.
كما إن التواصي بالحق والصبر يعين على ثبات الموصي إن تعرض للغفلة, فهو يذكر نفسه ويذكر غيره.
ولفظ (تواصوا) دل على أن الحق ثقيل, وبأن المحن تلازمه, فتحقيقه لا يكون إلا بمخالفة الهوى والله المستعان.

- وقد دلت السورة على أن الإقدام على المعصية يحصل بالترك، وهو عدم الإقدام على الطاعة، أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل، فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل.

- ولجميع ما ذكرناه من تفسير اهذه السورة؛قال الشافعي رحمه الله: (لوْ ما أنزلَ اللَّهُ حجةً على خلقِهِ إلاَّ هذهِ السورةَ لكَفَتْهُم) وفي رِوَايةٍ: (لو فكَّر النَّاسُ في هذهِ السورةِ لكَفَتْهُم ), فلو نظروا فيها وتأملوها لوجدوا فيها:
طريق الحق, وكيفية سلوكه والثبات عليه, وما يضاده والعاقبة, لوجدوا فيها النجاة لهم ولغيرهم, لوجدوا فيها صلاح النفس وصلاح المجتمع, فهي قد حوت حقا أصول الدين.
فالعلاقة بين الخسارة والمسائل الأربعة علاقة عكسية؛
فكلما حرص العبد على تحقيقها؛ قلت خسارته, لذلك تفاوت الناس في الربح والخسارة:
فهناك من تكون خسارته مطلقة وهو الكافر.
وهناك من سيكون ربحه مطلقا, وهم السابقون, وأقل منهم ربحا هم المقتصدون, وهم مراتب ودرجات, وكذا السابقون.
ومنهم من سيكون ربحه بحسب ما حقق من المسائل الأربعة.

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي ﴿والعصر﴾ قال: قسم أقسم به ربنا وتبارك وتعالى ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾ قال: الناس كلهم ثم استثنى فقال: ﴿إلا الذين آمنوا﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وعملوا الصالحات﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وتواصوا بالحق﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وتواصوا بالصبر﴾ يشترط عليهم.

فسبحان القائل:{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}, فمع قلة ألفاظ السورة؛ احتوت على معان وفوائد ولطائف لو جمعت لكتبت في مجلدات.

تم بحمد الله وتوفيقه.

المصادر:
- التفسير المنسوب لمقاتل
- جامع البيان للطبري
- النكت والعيون للماوردي
- الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن أبي طالب
- التفسير البسيط للواحدي
- الكشف والبيان للثعلبي
- معالم التنزيل للبغوي
- زاد المسير لابن الجوزي
- المحرر الوجبز لابن عطية
- مفاتح الغيب لفخر الدين الرازي
- التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
- البحر المحيط لأبي حيان
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير
- الدر المنثور للسيوطي
- نظم الدرر للبقاعي
- فتح القدير للشوكاني
- التحرير والتنوير لابن عاشور
- روح المعاني للألوسي
- فتح البيان لصديق حسن خان
- أضواء البيان للشنقيطي
- تيسير الكريم الرحمن للسعدي
- تفسير ابن عثيمين

مصادر أخرى سوى كتب التفسير:
- المجلد الأول من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
- التبيان في أقسام القرآن لابن القيم
- شرح ثلاثة الأصول وأدلتها للشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله
- شرح ثلاثة الأصول وأدلتها للشيخ عبد العزيز الداخل حفظه الله

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 3 رجب 1442هـ/14-02-2021م, 09:22 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فداء حسين مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
اللهم علمنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.

ملاحظة: الهدايات والفوائد مبثوثة في جمل التفسير ولم أضعها في مسائل مستقلة.
تفسير سورة العصر:

اسم السورة:
سورة العصر, أو (والعصر) بإثبات الواو كما جاء في مجاز القرآان لأبي عبيدة, وفي مصنف عبد الرزاق الصنعاني, والبخاري وغيرهم على حكاية أوّل كلمة فيها، أي: سورة هذه الكلمة.
ما جاء في فضلها:
ذكر الطبراني في المعجم الأوسط من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن حصن ، قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله ﷺ إذا التقيا، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر "سورة العصر" إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر.
ورواه البيهقي في شعب الإيمان.

وقد ذكر ابن كثير في تفسيره بأن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب , وذلك بعد ما بعث رسول الله ﷺ وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ قال(٢) لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ فقال: " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها. فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفز نقز. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب(.
قال ابن كثير بعدها: (وقد رأيت أبا بكر الخرائطي أسند في كتابه المعروف ب " مساوي الأخلاق " ، في الجزء الثاني منه ، شيئا من هذا أو قريبا منه .).

عدد آياتها:
عدد آيات سورة العصر ثلاث آيات, وهذا مجمع عليه, واختلف العلماء هل هي مكية أو مدنية:
هي مكّيّة؛ قاله ابن عباس وابن الزبير.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: (مكية، وهذا على قول الجمهور).
وقاله الزجاج, وابن حزم, والثعلبي, والواحدي, والداني, وابن عطية وغيرهم,
وقال الشوكاني: (وهي مكّيّةٌ في قول الجمهور).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاسٍ قال: (نزلت سورة العصر بمكّة).

وذهب مجاهد وقتادة ومقاتل بأن السورة مدنية.

والصواب ما ذهب إليه الجمهور.

قوله تعالى: (والعصر):
بدأت السورة بالقسم, قال تعالى: (والعصر), أقسم الله تعالى بالعصر, والله سبحانه يقسم بما شاء, وليس للعباد أن يقسموا إلا به تعالى وتقدس.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: (فإن الله يُقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته،فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه، وقدرته، ومشيئته، ورحمته، وحكمته، وعظمته، وعزَّته، فهو سبحانه يقسم بها لأنَّ إقسامه بها تعظيم له سبحانه، ونحن المخلوقون ليس لنا أن نُقسم بها بالنص والإجماع، بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يُقسم بشيء من المخلوقات).

وقسم الله سبحانه بشيء تنبيه على أهميته ومكانته, ووقوع القسم به من خالقه؛ دعوة إلى التفكر فيه وتدبر حاله.

في معنى العصر:
جاء في مقاييس اللغة لابن فارس:
عصر:
العين والصاد والراء أصولٌ ثلاثة صحيحة: فالأوَّل دهرٌ وحين، والثاني ضَغْط شيء حتَّى يتحلَّب، والثالث تَعَلُّقٌ بشيءٍ وامتساكٌ به.فالأوَّل العَصْر، وهو الدَّهر. قال الله:{ وَالعَصْرِ. إنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}.

المراد بالعصر:
تنوعت عبارات المفسرين من السلف في بيان المراد من (العصر), لكن يجمعها قول واحد وهو أن المراد به الدهر أو الزمان, وندكر هنا بعضا مما ورد من أقوالهم:
القول الأول: هو ساعة من ساعات النهار, قاله ابن عباس, رواه الطبري عن علي عن أبي صالح عن معاوية، عن علي عنه.
وقاله قتادة, رواه عنه معمر, رواه عبدالرزاق الصنعاني.

وجاء تحديد هذه الساعة بالعشي, ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي:
أخْرَجَه ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ, قال في قوله تعالى:﴿والعَصْرِ﴾: هو ما قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ مِنَ العَشِيِّ. ذكره السيوطي قي الدر المنثور.
وقاله الحسن من طريق معمر, رواه عبدالرزاق الصنعاني والطبري في تفسيره.

وقال مقاتل: عصر النهار وهو آخر ساعة في النهار¸ رواه عبد الخالق بن الحسن بن أبي روبا في المنسوب إلى مقاتل.

توجيه القول:
يطلق العصر على النهار, ويطلق على العشي كما قال قطرب : وقالوا: العصر العشيّ. يقال: أتيتك عصراً أي عشيّاً.
وقول الله عزّ وجلّ:{والعصر إنّ الإنسان لفي خسرٍ} يكون على ذلك وعلى الدّهر. يقال: مضى عصرٌ من الدهر وعصرٌ.
قال الأَزهري: يَقَع العشيُّ على ما بَيْنَ زَوالِ الشمْسِ إلى وَقْت غُروبها، كل ذلك عَشِيٌّ، فإذا غابَتِ الشَّمْسُ فهو العِشاءُ.
وقال الفراهيدي في كتاب العين: (العشي، آخر النهار، فإذا قلت: عشية فهي ليوم واحد، تقول: لقيته عشية يوم كذا، وعشية من العشيات، وإذا صغروا العشي قالوا: عشيشيان، وذلك عند الشفى وهو آخر ساعة من النهار عند مغيربان الشمس.)

قال ابي بن كعب: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال: « (أقسم ربكم بآخر النهار). ذكره القرطبي وابن عطية بلا سند ولم يذكر تخريجه.

وقد جاء في نصوص الشرع مزيد عناية بوقت العصر, ففيه ختام أعمال اليوم, والأعمال بخواتيمها, وفيه اجتماع الملائكة كما جاء في الحديث من قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه الذي رواه أبو هريرة عنه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر...) الحديث.
لذلك غلظت اليمين في هذا الوقت كما جاء في الحديث المتفق عليه, الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ ولا ينظرُ إليهم ولهم عذابٌ أليمٌ :...) وذكر منهم: ( ورجلٌ حلف على يمينٍ بعدَ صلاةِ العصرِ لقد أُعطَى بسلعَتِه أكثرَ مما أَعْطى ) الحديث.
وفسر الكثير من أهل العلم الصلاة في قوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} بأنها صلاة العصر لعظم هذا الوقت عند أهل الإسلام وعند غيرهم.
قال الطبري بعد أن رجح القول بأن الصلاة المقصودة هي صلاة العصر: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة "، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت, وذلك لقربه من غروب الشمس).

القول الثاني: صلاة العصر, قاله مقاتل ولفظه: ( أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى), ذكره البغوي وابن الجوزي. (ولم أجده في التفسير المنسوب إلى مقاتل في تفسيره لسورة العصر).
قال الخليل: (قالوا: وبه سمِّيت صَلاةُ العصر، لأنَّها تُعْصَر، أي تؤخَّر عن الظُّهر).

توجيه القول:
هو من باب حمل اللفظ على دلالته الشرعية, كذلك لعظم ما جاء في فضل صلاة العصر, فهي الصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى:{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ},
وقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال : قلنا لعبيدة : سل عليا عن الصلاة الوسطى . فسأله فقال : كنا نرى أنها الصبح ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب : (شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى ، صَلَاةِ الْعَصْرِ).
ولِما في مُصْحَفِ حَفْصَةَ: (والصَّلاةُ الوُسْطى صَلاةُ العَصْرِ).

وهي الصلاة الفضلى, وقد عظمت كما عظم وقتها:
فوقتها وقت اجتماع الملائكة كما ذكرنا في الحديث السابق¸ وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم التهويل والتحذير من التفريط فيها, كما جاء عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» . رواه البخاري.
وصلاة العصر إحدى صلاتي العشي, فقد جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين...) الحديث.

القول الثالث: قيل: هو قسم بعصر النبي ﷺ، لفضله بتجديد النبوة فيه .ذكره القرطبي, وذكره الرازي, والماوردي وابن عاشور.
قال الفخر الرازي : فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله تعالى : {وأنت حل بهذا البلد } وبعمره في قوله: { لعمرك }.
قال ابن عاشور: (ويجوز أن يراد عصر الإِسلام كلِه وهو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم عصر الأمة الإِسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس)
وقول ابن عاشور أعم من قول الرازي.

توجيه القول:
ساق ابن عاشور الحديث الذي رواه البخاري ليبين وجه قوله بأن العصر هو عصر الأمة الإسلامية, فقد قال عليه الصلاة والسلام: (مَثَلُ المُسْلِمِينَ واليَهُودِ والنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ له عَمَلًا إلى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إلى نِصْفِ النَّهَارِ فَقالوا: لا حَاجَةَ لَنَا إلى أجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: أكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَومِكُمْ ولَكُمُ الذي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا، حتَّى إذَا كانَ حِينَ صَلَاةِ العَصْرِ قالوا: لكَ ما عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَومِهِمْ حتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، واسْتَكْمَلُوا أجْرَ الفَرِيقَيْنِ).

القول الرابع : العصر هو الدهر, قاله ابن عباس, وزيد بن أسلم, ويحيى بن زياد الفراء, وعبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري, ومكي بن أبي طالب, ورجحه جمهور المفسرين وهو الراجح, وهو قول عام يجمع حميع ما سبق من الأقوال.
قال ابن عباس: العصر: الدهر.
أخرجه ابن المنذر. ذكره السيوطي.
قال الفراء :ويقال للدهر: العصر. ويقال: أقمت عنده عَصْرًا، وعُصْرًا.
قال ابن السكيت: والعَصْر: الدهر .
وتسمية الدهر عصراً أمر معروف في اللغة, قال الخليل: والعَصْران: اللَّيل والنهار.
ولَنْ يلبث العَصْرانِ يومٌ وليلة إذا اختلفا أن يُدرِكا ما تَيَمَّما
ويوم وليلة بدل من العصران.

لهذا قال ابن كيسان بأن المراد بالعصر الليل والنهار. ذكره البغوي في تفسيره. وقاله العسقلاني.
فالدهر هو تعاقب الليل والنهار, فلا منافاة بين القولين.

وسبب الاختلاف الواقع في تحديد المراد بالعصر هو الاشتراك اللغوي في لفظ العصر، فهو يطلق على عدة معان، وبهذا يرجع الخلاف إلى أكثر من معنى، وكل هذه الأقوال محتملة, لكن القول بأنه الدهر يشمل الأوقات كلها, لذا جاء تعريف (العصر) باللام تعريفا للعهد الذهني، أي: كل عصر.

لذا رجح الطبري -رحمه الله تعالى-وغبره من المفسرين عموم لفظ العصر لجميع الأوقات فقال: (والصوابُ من القولِ فِي ذلك: أنْ يُقالَ: إنَّ ربَّنا أقسمَ بالعصرِ {وَالْعَصْرِ} اسمٌ للدهرِ، وهو العشيُّ والليلُ والنهارُ، ولم يُخصِّصْ ممَّا شمِلَهُ هذا الاسمُ معنًى دونَ معنًى، فكلُّ ما لزِمَهُ هذا الاسمُ فداخلٌ فيما أقْسَمَ بهِ جلَّ ثناؤُه.(

قال الواحدي:
والعصر بهذه المعاني صحيح في اللغة؛ يقال للدهر: العصر، والعصر، والعصر، أنشد ابن السكيت:
ثم اتقى وأي عصر يتقى ... بعلبة وقلعه المعلق
ويقال لليوم، والليلة، والغداة، والعشي: العصر.
قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
(فإبداله اليوم، والليلة من "العصران" يدل على أنهما العصران، أنشد ابن السكيت:
وأمطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
قال: العصران: الغداة والعشي
قال الليث: والعصر العشي، وأنشد:
تروح بنا يا عمر ... وقد قصر العصر
قال: وبه سميت صلاة (العصر)
وقال أهل المعاني في "العصر" بجميع هذه المعاني عبرة للناظرة من جهة مرور الليل والنهار؛ على تقدير الأدوار من جهة أخذالنهار في التقضي، والليل في المجيء.

وكان عليّ رضى الله عنه يقرأ ذلك: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْر وإنه فيه إلى آخر الدهر﴾ .
قال عمرو ذي مرّ،: سمعت عليا رضى الله عنه يقرأ هذا الحرف ﴿وَالْعَصْرِ وَنَوَائِب الدَّهْرِ، إنَ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، وإنه فيه إلى آخر الدهر﴾ .
رواه الطبري من طرق عن عمرو بن ذي مرة.

أقوال أخرى:
وقد جاء عن كعب القرظي التوقف في تعيين المراد بالعصر, فقال: (قسم أقسم به ربنا تبارك وتعالى), رواه عنه عبدالعزيز بن أبي رواد, رواه عبدالرزاق الصنعاني.
ولعله من باب الورع والله أعلم.

وقيل المراد (ورب العصر) , كم في قوله تعالى:{فورب السماء والأرض} ذكره الزجاج ولم يعزوه.
وهذا القول ضعيف, فالأصل عدم الحذف وعدم التقدير.

لماذا أقسم الله بالعصر؟
أولا : أتى هذا القسم الله بالعصر تذكيرا بعظيم قدرة الله تعالى في خلق العالم وأحواله، فالزمن محل لوقوع الكثير من الآيات المتغيرة التي تدل من تفكر فيها على وجود خالق ومدبر لها, ففيه تعاقب الليل والنهار بهيئة منتظمة تتحقق فيها مصالح العالم على اكمل ترتيب ونظام, وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها آية من آيات الرب تعالى وبرهان من براهين قدرته وحكمته, وفيه التنبيه والإشارة إلى عظيم خلق الله للشمس, وانتظام حركتها, وما تجلبه من منافع للأرض ومن يعيش عليها بلا استثناء, فلا حياة بدونها, فهي النور الحسي الذي جعل الله المنافع الحسية والبدنية لجميع الكائنات متعلقة به, كما جعل في النور المعنوي؛ نور الوحي, قيام جميع منافع الروح والقلب.
لذا لما حاج إبراهيم قومه وجههم إلى النظر في الآيات المتغيرة كالشمس والقمر, تأتي وتذهب, والقصد بيان وتأكيد أنها مربوبه ومدبرة, كما قال تعالى عنه:{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} الآيات.

ثانيا: كذلك في الإقسام بالعصر التنبيه على أمور عظيمة مباركة؛ مثل الصلاة المخصوصة وهي صلاة العصر, لما جاء من عظيم فضلها حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي رواه عنه أبو موسى الأشعري: (عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى البردين دخل الجنة) .
أو التذكير بعصر معين مبارك, على قول من قال بأنه عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: وقت العصر فيه الإعلام بانتهاء النهار, فهو الوقت الذي ينقطع الناس فيه عادة عن أعمال النهار بما فيها من كد وسعي وجهد وتعب- سواء أعمال الرجال خارج البيت سعيا في طلب الرزق أو طلب العلم, أو أعمال النساء داخل بيوتهن- فيتطلع المرء بعدها إلى الراحة في السكن والمأوى, يتطلع إلى السكينة والطمأنينة بعد يوم طويل شاق.
والإقسام بهذا الوقت-والله أعلم- فيه تنبيه إلى ما يحصل به من انتهاء يوم مر أوشكت صفحاته أن تطوى بما فيها, فلو تفكر الإنسان في هذا الأمر وهو يرى الشمس قد تغير لونها واصفرت بعد أن كانت بيضاء نقية, كأنها مريض تغير لون وجهه من شدة المرض والتعب, وأصبحت تميل إلى جهة المغرب, كحال المريض المتعب الذي يوشك على السقوط, فيتغير لونها كلما اقتربت من الرحيل, تاركة ألوانا في الأفق يخبو بريقها وشعاعها شيئا فشيئا حتى تنطفئ بالكلية مخلفة وراءها ظلام دامس؛
وهذا يذكر العبد بأن ما وهبه الله له من وقت في هذه الحياة لا بد أن ينتهي وتطوى صفحاته بما احتوته من عمل.

فالإقسام بالعصر فيه التنبيه على الزمان الذي تقع فيه أفعال العباد من خير وشر وغيره, تنبيه للعبد على هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه, لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم-كما عند البخاري-في الحديث الذي رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما : (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ), فحري بالعبد الفطن أن يستغل ما وهبه الله من الوقت, وليعلم بأن ما فات منه لا يمكن استدراكه.

فلو تفكر في هذا لما خلد إلى الراحة والدعة, ولأخذ من الراحة ما يقيمه ويقدره على العمل لله, كما قال تعالى:{فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب}, وكما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة في الحديث الذي رواه الترمذي, قال عليه الصلاة والسلام: (...وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ).

فالزمان رأس مال الإنسان في هذه الحياة, وهو عمره ; كلفه الله باستغلاله في فترة وجوده في هذه الدنيا، فالدنيا بالنسبة إليه كالسوق الذي يتاجر فيه برأس ماله, فإن أعمله في خير ربح، وإن أعمله في شر خسر, لذا قال تعالى:{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}.

وقال عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها), وهذا فيه تأكيد على أن رأس مال الإنسان عمره .

رابعا: جاء الإقسام بالعصر تأكيدا على عاقبة أعمال العباد وجزائها، فمن خلق الزمان وابتدأ الحياة قادر على أن يعيد الإنسان بعد موته, وقادر على محاسبته على ما وقع منه, لذا أقسم الله في كتابه بهذه الآيات الدالة على كمال قدرته سبحانه : الليل والنهار والشمس والقمر والضحى والصبح, فكل ما له بداية لا بد أن ينتهي ويزول, تذهب الشمس ويأتي القمر, يأتي الليل فيتلاشى النهار, فمن تفكر فيها أيقن بالجزاء, ومن أيقن عمل في أيامه قبل رحيلها, كما قال تعالى :{كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}, فهذا العمل في هذه الساعات هو زاد العبد إلى الآخرة, فلن ينفعه غيره, بل لا قيمة لغيره عند رحيله إلى الحياة الحقيقية.
رابعا: ذكر الرازي وجها آخر فقال: (ويعرض عز وجل لما في الأقسام به من التعظيم بنفي أن يكون له خسران أو دخل فيه كما يزعمه من يضيف الحوادث إليه وفي إضافة الخسران بعد ذلك للإنسان اشعار بأنه صفة له لا للزمان).

قال القاسمي: (كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم، وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضا. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب، كما اعتاد الناس أن يقولوا: (زمان مشؤوم)، و: (وقت نحس)، و: (دهر سوء)، وما يشبه ذلك. بل هو عاد للحسنات كما هو عاد للسيئات، وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة!).

قال الألوسي: (وتعقب بأن استعمال العصر بذلك المعنى غير ظاهر).

جواب القسم:
ولما أقسم سبحانه وتعالى بالعصر؛ جاء جواب القسم بعده مباشرة فقال: (إن الإنسان لفي خسر), والإنسان كما جاء في المصباح المنير :
(" الإِنْسَانُ " مِنَ الناس اسم جِنَسٍ يقع على الذَّكَرِ والأُنثْى والواحد ...).
وقد ورد قولان في المراد بالإنسان هنا, قول عام وقول خاص:

أما القول الخاص:
قال بعض المفسرين بأن المراد ب(الإنسان) الكافر, بدليل استثناء المؤمنين بعد ذلك, قاله البغوي وأضاف: (و"الخسران": ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره بالمعاصي، وهما أكبر رأس ماله.), وذكره القرطبي .
وجاء تخصيص هذا القول بالتنصيص على بعض الكفار بعينهم, كما ذكر ذلك القرطبي, فساق حديثا لأبي بن كعب قال فيه: قرأت على رسول الله ﷺ والعصر ثم قلت: ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: والعصر قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: إن الإنسان لفي خسر: أبو جهل...) الحديث
وذكر قول ابن عباس في رواية أبي صالح, وروى الضحاك عنه قال: يريد جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود ابن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، والأسود بن عبد يغوث.
وقال مقاتل بأن السورة نزلت في أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب, فقال: (يعني أنه في ضلال أبدا حتى يدخل النار). رواه عبد الخالق بن الحسن بن أبي روبا في المنسوب إلى مقاتل.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}قال: يعني أبا جهلِ بنَ هِشامٍ). ذكره السيوطي في الدر المنثور.

أما القول العام: فقد جاء عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر}, قال: يعني آدم وبنيه.
رواه عبد الرحمن بن حسن الهمذاني عن إبراهيم عن آدم عن أبي داود الواسطي عن أبي علي عنه.
وجاء عنه قوله: (الناس كلهم) رواه عنه عبدالعزيز بن أبي رواد, رواه عبدالرزاق الصنعاني.
وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم, ذكره السيوطي في الدر المنثور.
وقال الزجاج: الإنسان ههنا في معنى الناس، كما تقول: قد كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، تريد قد كثر الدراهم.
وقال مكي: الناس
ورجحه الطبري وابن عطية وابن الجوزي وابن جزي والماوردي وابن القيم وابن كثير والشوكاني وغيرهم.
قال الطبري: (واستثنى الذين آمنوا من الإنسان، لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد).

والصحيح بأن اللفظ عام كما سنبين, قال الطبري رحمه الله تعالى: وقولُهُ: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} يقولُ: إنَّ ابنَ آدمَ لفي هلكةٍ ونقصانٍ.).
أما تخصيصه بالكافر أو بالتنصيص على أبي لهب وأبي جهل؛ فهم أولى الناس بوسمهم بوصف الخسارة المطلقة, فهم أصحاب النصيب الأعظم, ولا يعني هذا تخصيص الخسارة بهم فقط, فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فحجم الخسارة يختلف من شخص لآخر, بل تختلف بين الكفار أنفسهم كما سنبين إن شاء الله.

لذا جاءت كلمة (الإنسان) في الآية مفردة, ومع ذلك فقد أفادت العموم كونها تحلت ب(أل) الاستغراقية, الذي يصير المفرد بسببهما صيغة عموم، قالمراد هنا جنس الإنسان، وعلامة العموم أن تحل كلمة (كُل) محلَّ (أل).
ودل على العموم أيضا قوله تعالى:{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فلفظ الآية يقتضي أنه ليس إنسانا واحدا.
ودل على العموم أيضا الاستثناء بعده, فالاستثناء معيار العموم, فإذا كان اللفظ يصلح للاستثناء منه فإنه عام اللفظ.


قوله تعالى: (لفي خسر):
الخسر لغة هو النقصان؛ قاله ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" وفي "تفسير غريب القرآن" , حيث قال: الخسران: النقصان، وقاله ابن شجرة في: "النكت والعيون"، والثعلبي في "الكشف والبيان".
قال الطبري: (يقول: إن ابن آدم لفي هلَكة ونقصان.)

أما المراد ب(الخسر) فقد ذكر الماوردي فيه أربعة أوجه:
أحدها: لفي هلاك، قاله السدي.
الثاني: لفي شر، قاله زيد بن أسلم.
الثالث: لفي نقص، قاله ابن شجرة.
الرابع: لفي عقوبة.

ويمكن تقسيم عبارات المفسرين بحسب ما ذهبوا إليه في تفسير (الإنسان):
فمن قال بأن المراد ب (الإنسان) في الآية هو الكافر؛ قال بأن الخسارة هي العقوبة وهي دخول النار في الآخرة, ومنهم من قال بأن الخسارة هي ما كانوا فيه من ضلال في الدنيا أكبهم الله بسببه في النار في الآخرة.
فيكون معنى الآية: كل كافر لفي ضلال حتى يموت فيه، فيدخل النار, فتكون خسارته في الآخرة.
قال مجاهد: (لفي خسر: يعني لفي ضلال, ثم استثنى فقال: إلا من آمن).
رواه آدم بن أبي إياس في التفسير المنسوب إلى مجاهد

كما قال الفراء: لفي عقوبة بذنوبه، وأن يخسر أهله، ومنزله، وماله في الجنة.
وقال مكي بن أبي طالب: (وقيل: الخسر: دخول النار، يعني به الكافر.).
وقال الأخفش : هلكة , وقاله السدي, نسبه إليه الماوردي.

والقول بأن (الخسر) هو الضلال؛ من تفسير المسبب بسببه, فسبب الخسران في الآخرة هو ما وقع فيه العبد من ضلال, كما قال تعالى:{ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال:{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
أما تفسير الخسر بالعقوبة فهو كقوله تعالى:﴿وَكانَ عاقِبَةُ أمْرِها خُسْرًا﴾, فالخسران هو نوع العقوبة الواقعة عليهم.

ومن قال بأن المراد ب (الإنسان) في الآية هو جنس الإنسان؛ قال بعموم الخسارة في الدنيا والآخرة.
قال البغوي: (والخسران: ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره بالمعاصي؛ وهما أكبر رأس ماله).

ولا تعارض بين القولين, فالقول الأول داخل في عموم القول الثاني¸ والكافر أحق بالخسارة من غيره, لكن القول بعموم الخسارة يناسب سياق الآيات من سورة العصر, وعموم ألفاظها, وسيأتي إن شاء الله الكلام عن درجات الخسارة.

ولفظ (خسر) يشمل جميع ما يتعرض له الإنسان من نقصان وهلكة سواء كان هذا في الدنيا أو في الآخرة:
فالإنسان يتقلب في أطوار, فينقلب من ضعف إلى قوة, ثم يعود من قوة إلى ضعفا وشيبة, كما قال تعالى ذلك عنه:
فتضعف الحواس
وتضعف الذاكرة
وتتناقص أيام عمره
وتتناقص قوته
وهذا يكون حاله في جميع أموره...
وعلى هذا الحال يخسر الكافر الدنيا والآخرة، أما المؤمن وإن كان قد تعرض في دنياه لخسارة القوة البدنية, وما قاساه فيها؛ فهو لا يذكر مقابلة لما سيكون عليه حاله في الآخر.
لذا قال رسول الله ﷺفيما رواه مسلم: ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط).
وقال: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). رواه مسلم.
وفي هذا تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه، لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه.
وفيه الإرشاد على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح، وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد.

وأتى بقوله: ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ ليكون أبلغ من قوله: (إن الإنسان لخاسر)؛ وذلك أنَّ معنى (في) الظرفية، فكأن الإنسان منغمس في الخسر، كإحاطة الظرف بالمظروف, والخسران محيط به من كل جانب, ومثل هذا التعبير يبعث الرعب والهلع في القلوب الحية, لذا تبدأ في البحث عن المخرج, تبدأ في البحث عن أسباب النجاة, فيتصور العبد نفسه كالغريق الذي يصرخ لعل أحدا ينقذه وينتشله من بحر الخسارة, فإذا أصبحت هذه حاله تهيأت نفسه لقبول ما جاء بعدها من أسباب النجاة, فتقع الكلمات على أسماع قد تشوقت لمعرفة ما ينجيها, فألقى صاحبها سمعه وأصغى بآذانه, وتقع كذلك على قلوب قد أزال الخوف من الخسارة ما فيها من عوائق بحثا عن النجاة, فدبت فيها الحياة, فوقع العلاج على محل صالح مستعد لقبوله؛ بعد أن انتفت الموانع وتحققت الشروط.

واختيار لفظ الخسارة من أحسن ما يكون, فهو لفظ يسترعي انتباه السامع, فالإنسان مجبول على محبة الربح والهرب من الخسارة, لذلك خاطب الله تعالى الناس بما يلفت انتباههم, وبما جبلت عليه فطرهم.

وقد جاءت ألفاظ التجارة والخسران والربح والأجر في آيات متعددة في القرآن، لعظيم وقعها على النفس, فالإنسان مجبول على حب ما يلائمه والحرص على تحصيله, وكراهية ما يؤذيه والفرار منه واتخاذ وقاية منه.
لذا نجد بأن الله تعالى قال :{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}
وقال:{ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليمتؤمنون بالله ورسوله}
وقال:{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}
وقال:{ ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}

- والتنكير في قوله:(خسر)؛ قيل للتعظيم, أي في خسر عظيم، ويجوز أن يكون للتنويع؛ أي نوع من الخسر غير ما يعرفه الإنسان, فتتعدد أنواع الخسارة بالنسبة إليه, وفي هذا

- وقد تضمنت الآياتان السابقتان حكما ومحكوما عليه ومحكوما به؛ فالحكم هو ما حكم به تعالى على الإنسان, كل الإنسان من النقصان والخسران, والمحكوم عليه هو الإنسان ابن آدم, والمحكوم به هو الخسران.

- وقد أكد الله جل ثناؤه قوله:(إن الإنسان لفي خسر) بأربعة مؤكدات:
أولها: القسم
ثانيها: (إن)
ثالثها: اللام
رابعها: الجملة الإسمية
وأفاد اجتماع هذه المؤكدات التهويل والإنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس.

الكلام في قوله تعالى:{ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ ِ}:
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى إن جنس الإنسان واقع في خسارة محققة, وبعد أن تطلعت النفوس وتشوقت لمعرفة كيفية النجاة من هذه الخسارة؛ جاء الفرج, وجاءت البشرى¸ وجاء الترغيب بعد الترهيب بقوله تعالى: (إلا).
فالناجون من الخسارة لهم وصف معين لا تتم النجاة إلا بتحقيقه؛
فأول ما ذكر من أوصافهم هو الإيمان, فهم من آمن بجميع ما أمر الله بالإيمان به, والإيمان عند أهل السنة والجماعة هو قول واعتقاد وعمل.
فلا يكون المقصود بالإيمان مجرد التصديق, بل يدخل في مسماه العمل, فالتصديق بالأمور التي يتطلب التصديق بها عملا؛ لا يسمى الإنسان فيها (مصدقا) إلا إذا صاحب تصديقه عملا, لذا قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وكان هذا بعد أن شرع إبراهيم عليه السلام بتنفيذ ما أمره الله به من ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام.
وأول ما يدخل في الإيمان هو الإيمان بأركانه الستة, وجميعها تعود على الإيمان بالله, فمن حقق الإيمان بالله؛ حقق الإيمان بجميع ما أمر به الله وارتضاه.

وحصول الإيمان يقتضي حصول العلم قبله, فلا يكون إيمانا على الحقيقة إلا إذا سبقه العلم.
ومن حصل له الإيمان على الصفة التي أمر الله بها: حصل له اليقين, ومن حصل له اليقين سهل عليه العمل.
وقد ذكر القرطبي حديثا فيه تخصيص (الذين آمنوا...) بالخلفاء الراشدين, فذكر في تفسيره قول أبي بن كعب: قرأت على رسول الله ﷺ والعصر ثم قلت: ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: والعصر قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: إن الإنسان لفي خسر: أبو جهل إلا الذين آمنوا: أبو بكر، وعملوا الصالحات عمر. وتواصوا بالحق عثمان وتواصوا بالصبر "علي".
ثم قال: وهكذا خطب أبن عباس على المنبر موقوفا عليه.
وقد ذكره بلا سند ولم يذكر تخريجه.
واللفظ عام, والخلفاء الراشدون أولى الناس بالدخول به.

ثم قال تعالى:(وعملوا الصالحات):
قال ابن كثير: (فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم).
قد ذكرنا بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ومع ذلك عطف بالواو العمل على الإيمان، والواو هنا للمغايرة بين حقائق الأشياء، وحقيقة الإيمان أكبر من حقيقة العمل, لأن العمل جزء من الإيمان, فهذا من عطف الخاص على العام، والفائدة من عطف الخاص على العام هنا هي التنبيه على أنه في الحكم مثل الأول، فدل على شرفه ومكانته، وعلى وجوب الاهتمام به, وفي هذا رد على المرجئة.
وكذلك فيه التنبيه على أن العبد لو عمل عملا يظنه صالحا؛ لفا يكون مقبولا عند الله إلا بشرط الإيمان.

والعمل الصالح هو العمل المرضي عند الله تعالى، ولا يكون مرضيا مقبولا عنده سبحانه إلا إذا توفر فيه شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله, وهذا الشرط يرجع لشهادة أن لا إله إلا الله.
الشرط الثاني: المتابعة، ويعني هذا وقوع العمل موافقا لما شرعه الله وأمر به, كما بين لنا ذلك النبي عليه الصلاة والسلام, فيجب متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, وهذا الشرط يرجع لشهادة أن محمدا رسول الله.
فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين كان مرفوضا مردودا لا ثواب عليه لقوله تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} , وقال سبحانه:{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبله الله، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبله الله حتى يكون خالصا صوابا، والخالص الذي يريد به وجه الله، والصالح أن يكون على السنة.
قال الطبري: (يقول: إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه.).

فكل أهل الملل والنحل يعملون، بل إن منهم من ينقطع للعبادة طوال حياته كالرهبان في صوامعهم، ومع ذلك فعمله لن ينفعه عند الله تعالى لأنه عَمِلَ غير صالح، وقد قال تعالى ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾وقال : ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ﴾وقال: ﴿ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾.

وقد أمر الله الأنبياء والرسل بالعمل الصالح فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾
وقال سبحانه ﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
وأمر سبحانه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته بلزوم العمل الصالح فقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [.
وتوجيه الأمر بعبادة ما إلى الأنبياء, وأمرهم بأمر أقوامهم بها؛ لدليل على أهميتها وعظم مكانتها.

قوله تعالى: ( وتَواصَوْا بالحَقِّ):
جاء في المراد بالحق ثلاثة أقوال:
القول الأول : أنه التوحيد، قاله يحيى بن سلام, وقاله الزجاج: (تواصوا بالإقامة على توحيد اللّه والإيمان بنبيه عليه السلام).
توجيه القول:
فُسر الحق بما سبق, وهو الإيمان والعمل الصالح, والتوحيد ركن الإيمان الأعظم الذي يقوم عليه, وهو الركن الأول من أركان الإيمان, والإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام- أيضا من أركان الإيمان, ولا يتحقق إسلام المرء إلا به, فالإيمان بالله وبنبيه هو حقيقة تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

الثاني: أنه القرآن، قاله قتادة والحسن.
قول قتادة: رواه الطبري عن بشر عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة.
وقول الحسن رواه الطبري عن ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور، عن معمر، عن الحسن.
وبسند آخر عن عمر عن ابن بكار الكلاعي، عن خطاب بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سنان أبو روح السكوني عنه.

توجيه القول:
فسر قتادة والحسن الحق بالقرآن، وهو تفسير صحيح؛ فالقرآن حق، وهو من تسمية المسمى بأحد معانيه التي يحتملها, قال تعالى:{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ }.

الثالث: إنه الله، قاله السدي. ذكره الماوردي والقرطبي.
وهذا كما في قوله تعالى:{ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} وكما جاء في حديث تميم بن أوس رضي الله عنه- المتفق عليه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله...) الحديث.
والنصيحة لله تتضمن الإيمان به وتوحيده بجميع أنواع التوحيد المأمور بها, والله سبحانه هو الذي أمر بالإيمان وأمر بعمل الصالحات.

فلا تعارض بين الأقوال, بل جميعها تتفق في أن التواصي يكون بجميع ما أمر الله سبحانه به, وبجميع ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم,: بالمرسِل والرسالة والرسول.
والوصية بالحق تشمل الشريعة كلها، فتشمل كل ما جاءت الوصبة به في القرآن والسنة, في مثل قوله تعالى: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾, وقوله: ﴿ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾و وقول ابن مسعود رضي الله عنه: " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية.
فهو الوصية بلزوم الصراط المستقيم بلا ريب, والذي نسأل الله أن يهدينا إليه في قولنا:{اهدنا الصراط المستقيم}.

وقوله تعالى:{وتواصوا بالصبر}:
قال قتادة والحسن: الصبر على طاعة الله.
قال قتادة ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ قال: الصبر: طاعة الله.
رواه الطبري عن بشر، عن يزيد، عن سعيد، عنه
قال الحسن ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ قال: الصبر: طاعة الله.
رواه الطبري عن ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور، عن معمر، عنه.
قال الزجاج: {وتواصوا بالصّبر} على طاعة اللّه والجهاد في سبيله والقيام بشرائع نبيه

القول الثاني:قال هشام بن حسان: الصبر على ما افترض الله, ذكره الماوردي.
القول الثالث: الصبر عن المحارم واتباع الشهوات. قاله الماوردي

والصبر لغة هو الحبس, قال الجوهري: الصبر حَبْس النفس عند الجزَع.
وقد عرفه ابن القيم فقال: (الصبر هو حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره).
وقال الجرجاني في تعريفاته:(ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله)
وقال الراغب الأصفهاني معرفا الصبر: (حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه).

فيكون المراد بالصبر؛ الصبر بأنواعه الثلاثة:
- الصبر على طاعة الله
- الصبر عن محارم الله
- الصبر على اقدار الله

والأقوال التي ذكرها المفسرون في تفسير المراد بالصبر من قبيل تفسير الصبر بجزء مما يقع عليه, والصبر في الآية يشمل جميع أنواع الصبر, فهي كلها داخلة في طاعة الله.
فيكون التواصي بالصبر على جميع ما سبق من الحق, والتواصي بالصبر على ما سيلقاه العبد في خلال سيره على الصراط المستقيم, فالدينُ كلُّه يحتاج إلى صبر:
- ولهذا قالَ تعالى لرسولِهِ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزمِ مِنَ الرُّسُلِ.
- وقالَ سبحانَهُ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا.
- وقال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ.
- وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ.
- وقالَ تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ


- ولما كانت الآيات في سياق المدح؛ جاء الوصف بلفظ (وتواصوا) ولم يقل: ويتواصون لئلا يقع أمرا, فدل ذلك على رغبتهم في الثبات على الحق والصبر, فمن المؤكد أن من يوصي غيره بملازمة أمر؛ يراه جديرا بالملازمة, فهو لما كمل نفسه سعى إلى تكميل غيره.
كما إن التواصي بالحق والصبر يعين على ثبات الموصي إن تعرض للغفلة, فهو يذكر نفسه ويذكر غيره.
ولفظ (تواصوا) دل على أن الحق ثقيل, وبأن المحن تلازمه, فتحقيقه لا يكون إلا بمخالفة الهوى والله المستعان.

- وقد دلت السورة على أن الإقدام على المعصية يحصل بالترك، وهو عدم الإقدام على الطاعة، أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل، فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل.

- ولجميع ما ذكرناه من تفسير اهذه السورة؛قال الشافعي رحمه الله: (لوْ ما أنزلَ اللَّهُ حجةً على خلقِهِ إلاَّ هذهِ السورةَ لكَفَتْهُم) وفي رِوَايةٍ: (لو فكَّر النَّاسُ في هذهِ السورةِ لكَفَتْهُم ), فلو نظروا فيها وتأملوها لوجدوا فيها:
طريق الحق, وكيفية سلوكه والثبات عليه, وما يضاده والعاقبة, لوجدوا فيها النجاة لهم ولغيرهم, لوجدوا فيها صلاح النفس وصلاح المجتمع, فهي قد حوت حقا أصول الدين.
فالعلاقة بين الخسارة والمسائل الأربعة علاقة عكسية؛
فكلما حرص العبد على تحقيقها؛ قلت خسارته, لذلك تفاوت الناس في الربح والخسارة:
فهناك من تكون خسارته مطلقة وهو الكافر.
وهناك من سيكون ربحه مطلقا, وهم السابقون, وأقل منهم ربحا هم المقتصدون, وهم مراتب ودرجات, وكذا السابقون.
ومنهم من سيكون ربحه بحسب ما حقق من المسائل الأربعة.

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي ﴿والعصر﴾ قال: قسم أقسم به ربنا وتبارك وتعالى ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾ قال: الناس كلهم ثم استثنى فقال: ﴿إلا الذين آمنوا﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وعملوا الصالحات﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وتواصوا بالحق﴾ ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: ﴿وتواصوا بالصبر﴾ يشترط عليهم.

فسبحان القائل:{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}, فمع قلة ألفاظ السورة؛ احتوت على معان وفوائد ولطائف لو جمعت لكتبت في مجلدات.

تم بحمد الله وتوفيقه.


أ

أحسنت وأجدت في تفسير السورة

وفاتك ذكر الفوائد السلوكية، وإن كنت قد أشرت لبعضها في أثناء التفسير.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, السادس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:01 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir