رسالة في تفسير قول الله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع}
السؤال يأتي في اللغة على معنيين:
أحدهما: سؤال استفسار واستفهام؛ والأصل فيه أن يُعدَّى بعن؛ كما في قول الله تعالى: {يسألونك عن الأهلّة} وقوله تعالى: {واسألهم عن القرية} وذلك إذا لم يُذكر السؤال؛ فإذا ذُكر السؤال نصَّا أو تقديراً عُدّي بنفسه؛ كما في قول الله تعالى: {فاسأله ما بال النسوة}.
والآخر: سؤال طلب أو دعاء، والأصل فيه أن يُعدَّى بنفسه، ومنه قول الله تعالى: {واسألوا الله من فضله}، وقوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً}.
وقد يُعدَّى بأن كما في قول الله تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء}
وقد يُعدّى لفظ السؤال على المعنيين بحرف الباء:
فمن الأول: قول الله تعالى: {الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً}
وقال ربيعة بن مقروم:
وأجزي القروض وفاءً بها ... ببؤسى بئيسا ونُعمى نعيما
وقومي فإن أنت كذّبتني ... بقولي فاسأل بقومي عليما
وقال علقمة الفحل:
فإن تسألوني بالنساء فإنني... بصير بأدواء النساء طبيب
وقال لبيد:
أولئك قومي إن سألت بخِيمِهم ... وقد يُخبَرُ الأنباءَ من كان جاهلا
وأظهر الأقوال أنه مضمّن معنى الاحتفاء والعناية والاهتمام.
ومن الثاني: قول عمر بن أبي ربيعة:
فقلت لها : يا سُكْنَ إني لسائلٌ .. سؤالَ كريمٍ ما سألتُ بخيلاً
سَأَلْتُ بِأَنْ تَعْصي بِنَا قَوْل كَاشِحٍ .. وإنْ كان ذا قربى لكم ودخيلا
***
وقول الله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} اختلف فيه على أقوال:
القول الأول: السؤال بمعنى الدعاء، وهو قول مجاهد وقتادة
- قال مجاهد: (دعا داعٍ بعذاب واقع). رواه ابن جرير.
- وقال قتادة: (سأل عذابَ الله أقوام فبيَّن الله على من يقع). رواه ابن جرير.
وممن قال بهذا القول من قال: الباء واقعة لتضمّن السؤال معنى الاستعجال.
- قال ابن كثير: ({سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ} فيه تضمينٌ دلّ عليه حرف "الباء"، كأنّه مقدر: يستعجل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ، كقوله: {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اللّه وعده} أي: وعذابه واقعٌ لا محالة).
القول الثاني: السؤال بمعنى الاستفهام، والباء بمعنى عن، وهو قول حكاه غلام ثعلب، وابن عطية.
القول الثالث: سال غير مهموزة، من السَّيل، و"سائل" اسم وادٍ في جهنَّم، وهذا القول حكاه ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وذُكر عن ابن عباس أنه قرأ: [ سالَ سيلٌ بعذاب واقع ]
ولم أقف على إسناده، ولا يقال بمثله إلا أن تصحّ القراءة.
وقراءة [سال] من غير همز هي قراءة نافع وابن عامر من السبعة، وهي محتملة لأن تكون بمعنى "سأل" إلا أنّ الهمزة سُهّلت، ومحتملة لأن تكون من سال يَسِيل.
قال أبو منصور الأزهري: (من قرأ [سال] بغير همز فالمعنى: جرى وادٍ بعذاب من الله، من سال يسيل، كأنه قال: سال وادٍ بعذاب واقع ...
وجائز أن يكون (سال) غير مهموز ويكون بمعنى (سأل) فخفف همزه، وهو أحب إليّ من قول من ذهب به إلى سيل الوادي، لتتفق القراءتان).
والآية تحتمل الأقوال الثلاثة، وجائزٌ أن يكون فيمن نزلت فيهم هذه الآية من استعجل العذاب بدعائه، وأن يكون فيهم من سأل عنه سؤال استهزاء؛ أو سؤال حفاوة واستعجال لوقوعه؛ فشملت الآية هذه الطوائف كلها بلفظ وجيز.
وأما القول الثالث فالقول به موقوف على صحّة القراءة المذكورة عن ابن عباس أو صحة خبر يوافقها.
- قال ابن عاشور: (ومن بلاغة القرآن تعدية {سأل} بالباء ليصلح الفعل لمعنى الاستفهام والدعاء والاستعجال).