( بصيرة فى التوبة)
تاب إلى الله توبا، وتوبة، ومتابا، وتابة، وتتوبة: رجع عن المعصية، وهو تائب، وتواب. وتاب الله عليه: وفقه للتوبة، أو رجع به من التشديد إلى التخفيف، أو رجع عليه بفضله، وقبوله. وهو تواب على عباده. واستتابه: سأله أن يتوب.
والتوبة من أفضل مقامات السالكين؛ لأنها أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقها العبد أبدا، ولا يزال فيها إلى الممات. وإن ارتحل السالك منها إلى منزل آخر ارتحل به، ونزل به. فهى بداية العبد، ونهايته. وحاجته إليها فى النهاية ضرورية؛ كما حاجته إليها فى البداية كذلك.
وقد قال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون} وهذه الآية فى سورة مدنية، خاطب الله تعالى بها أهل الإيمان، وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم، وصبرهم، وهجرتهم، وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعلق المسبب بسببه، وأتى بأداة (لعل) المشعر بالترجى؛ إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجوا الفلاح إلا التائبون، جعلنا الله منهم. وقد قال - تعالى -: {ومن لم يتب فأولائك هم الظالمون} قسم العباد إلى تائب، وظالم. وما قسم ثالث البتة، وأوقع الظلم على من يم يتب، ولا أظلم منه بجهله بربه، وبحقه، وبعيب نفسه، وبآفات أعماله. وفى الصحيح: "يا أيها الناس توبوا إلى الله؛ فإنى أتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة"، وكان أصحابه يعدون له فى المجلس الواحد قبل أن يقوم: (رب اغفر لى وتب على إنك أنت التواب الرحيم) مائة مرة، وما صلى قط بعد نزول سورة النصر إلا قال فى صلاته: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لى.
وقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله} يريد بالتوبة تمييز البقية من العزة: بأن يكون المقصود من التوبة تقوى الله، وهو خوفه، وخشيته، والقيام بأمره، واجتناب نهيه، فيعمل بطاعته على نور من الله، يرجو ثواب الله، ويترك معصية الله على نور من الله، يخاف عقاب الله، لا يريد بذلك عز الطاعة؛ فإن للطاعة والتوبة عزا ظاهرا وباطنا، فلا يكون مقصوده العزة، وإن علم أنها تحصل له بالطاعة، والتوبة. فمن تاب لأجل أمر فتوبته مدخولة.
وسرائر التوبة ثلاثة أشياء هذا أحدها، والثانى نسيان الجناية
. والثالث التوبة من الإسلام والإيمان. قلنا المراد منه التوبة من رؤية التوبة وأنها إنما حصلت له بتوفيق الله، ومشيئته؛ ولو خلى ونفسه لم يسمح بها البتة. فإذا رآها من نفسه، وغفل عن منة الله عليه، تاب من هذه الرؤية، والغفلة. ولكن هذه الرؤية ليست التوبة ولا جزأها، ولا شرطها، بل جناية أخرى حصلت له بعد التوبة، فيتوب من هذه الجناية؛ كما تاب من الجناية الأولى. فما تاب إلا مذنب أولا، وآخرا. والمراد التوبة من نقصان التوبة وعدم توفيتها حقها.
ووجه ثالث لطيف. وهو أنه من حصل له مقام الأنس بالله - تعالى - وصفاء وقته مع الله - تعالى - بحيث يكون إقباله على الله، واشتغاله بذكر آلائه وأسمائه وصفاته، أنفع شئ له، متى نزل عن هذا الحال اشتغل بالتوبة من جناية سالفة، قد تاب منها، وطالع الجناية، واشتغل بها عن الله تعالى، فهذا نقص ينبغى أن يتوب إلى الله منه. وهى توبة من هذه التوبة، لأنه نزول من الصفاء إلى الجفاء. فالتوبة من التوبة إنما تعقل على أحد هذه الوجوه الثلاثة. والله أعلم.
واعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله فى توبته نظر إلى أمور. أحدها النظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفا، وخشية تحمله على التوبة.
الثانى: أن ينظر إلى أمره تعالى ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة، والإقرار على نفسه بالذنب.
الثالث: أن ينظر إلى تمكين الله تعالى إياه منها، وتخليته بينه وبينها، وتقديرها عليه، وأنه لو شاء لعصمه منها، فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة بالله، وأسمائه وصفاته، وحكمته، ورحمته، ومغفرته، وعفوه، وحلمه، وكرمه، وتوجب له هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء، لا تحصل بدون لوازمها، ويعلم ارتباط الخلق، والأمر، والجزاء. بالوعد والوعيد بأسمائه، وصفاته، وأن ذلك موجب الأسماء، والصفات، وأثرها فى الوجود، وأن كل اسم مفيض لأثره. وهذا المشهد يطلعه على رياض مؤنقة المعارف، والإيمان، وأسرار القدر، والحكمة يضيق عن التعبير [عنها] نطاق الكلم والنظر.
الرابع: نظره إلى الآمر له بالمعصية، وهو شيطانه الموكل به، فيفيده النظر إليه اتخاذه عدوا، وكمال الاحتراز منه، والتحفظ والتيقظ لما يريده منه عدوه، وهو لا يشعر؛ فإنه يريد أن يظفر به فى عقبة من سبع عقبات بعضها أصعب من بعض: عقبة الكفر بالله، ودينه، ولقائه، ثم عقبة البدعة، إما باعتقاده خلاف الحق، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الرسوم المحدثة. قال بعض مشايخنا: تزوجت الحقيقة الكافرة، بالبدعة الفاجرة، فولد بينهما خسران الدنيا والآخرة، ثم عقبة الكبائر (يزينها له وأن الإيمان فيه الكفاية. ثم عقبة الصغائر بأنها مغفورة ما اجتنبت الكبائر) ولا يزال يجنيها حتى يصر عليها، ثم عقبة المباحات، فيشغله بها عن الاستكثار من الطاعات. وأقل ما يناله منه تفويت الأرباح العظيمة، ثم عقبة الأعمال المرجوحة، المفضولة يزينها له، ويشغله بها عما هو أفضل وأعظم ربحا. ولكن أين أصحاب هذه العقبة؛ فهم الأفراد فى العالم. والأكثرون قد ظفر بهم فى العقبة الأولى. فإن عجز عنه فى هذه العقبات جاء فى عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، على حسب مرتبته فى الخير. وهذه نبذة من لطائف أسرار التوبة رزقنا الله تعالى [إياها] بمنه وفضله إنه حقيق بذلك.
وورد التوبة فى القرآن على ثلاثة أوجه:
الأول: بمعنى التجاوز والعفو. وهذا مقيد بعلى: {فتاب عليكم}، {أو يتوب عليهم}، {ويتوب الله على من يشآء}.
الثانى: بمعنى الرجوع، والإنابة. وهذا مقيد بإلى: {تبت إليك}، {توبوا إلى الله}، {فتوبوا إلى بارئكم}.
الثالث: بمعنى الندامة على الزلة، وهذا غير مقيد لا بإلى، ولا بعلى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا}، {فإن تبتم فهو خير لكم}.
ويقال: إن التوبة من طريق المعنى على ثلاثة أنواع، ومن طريق اللفظ وسبيل اللطف على ثلاثة وثلاثين درجة:
أما المعنى فالأول: التوبة من ذنب يكون بين العبد وبين الرب. وهذا يكون بندامة الجنان، واستغفار اللسان.
والثانى: التوبة من ذنب يكون بين العبد وبين طاعة الرب. وهذا يكون بجبر النقصان الواقع فيها.
الثالث: التوبة من ذنب يكون بين العبد وبين الخلق. وهذه تكون بإرضاء الخصوم بأى وجه أمكن.
وأما درجات اللطف فالأولى: أن الله أمر الخلق بالتوبة، وأشار بأيها التى تليق بحال المؤمن {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون}.
الثانية: لا تكون التوبة مثمرة حتى يتم أمرها {توبوا إلى الله توبة نصوحا}.
الثالثة: لا تنظر أنك فريد فى طريق التوبة؛ فإن أباك آدم كان مقدم التائبين: {فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه}، والكليم موسى لم يكن له لما علا على الطور تحفة غير التوبة {سبحانك تبت إليك}.
ثم إنه بشر الناس بالتمتع من الأعمال، واستحقاق فضل الرءوف الغفار: {ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا}. وأشار صالح على قومه بالتوبة، وبشرهم بالقربة والإجابة: {ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}. وسيد المرسلين مع الأنصار والمهاجرين سلكوا طريق الناس: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين}. والصديق الأكبر اقتدى فى التوبة بسائر النبيين: {تبت إليك وإني من المسلمين}.
أصحاب النبى ما نالوا التوبة إلا بتوفيق الله . {ثم تاب عليهم ليتوبوا} تحرزا من انتشار أمرن بالتوبة {إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما} ومن توقف عن سلوك طريق الناس وسم جبين حاله بميسم الخائبين: {ومن لم يتب فأولائك هم الظالمون} الأزواج اللائقة بخاتم النبيين تعين بالتوبة: {قانتات تائبات}.
الرجال لا يقعدهم على سرير السرور إلا التوبة: {التائبون العابدون} ولا يظن التواب اختصاص النعت به (فإنا جعلنا) هذا الوصف من جملة صفات العلى: {إن الله كان توابا} وإذا وفقنا العبد للتوبة تارة قربناه بالحكمة {وأن الله تواب حكيم} وإذا قبلنا منه التوبة قرباه بالرحمة: {وأنا التواب الرحيم}. والمؤمن إذا تاب أقبلنا عليه بالقبول، وتكفلنا له بنيل المأمول: {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات}.
وإن أردت أن تكون فى أمان الإيمان، مصاحبا لسلاح الصلاح، فعليك بالتوبة: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا} {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا} {ومن تاب وعمل صالحا} وإذا أقبل العبد على باب التوبة استحكم عقد أخوته، مع أهل الإسلام: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}. ومن تاب، وقصد الباب، حصل له الفرج بأفضل الأسباب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} ومن أثار غبار المعاصى، وأتبعه برشاش الندم، غلبت حكمتنا الطاعة على المعصية، وسترت الزلة بالرحمة: {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم}.
السارق المارق إذا لاذ وتحرم بالتوبة قبل القدرة عليه، فلا سبيل للإيذاء إليه : {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم}. وإذا أردت التوبة فأنا المريد لتوبتك قبل: {والله يريد أن يتوب عليكم} وإذا تبت بتوبتى عليك، وتوفيقى لك، جازيت بالمحبة: {إن الله يحب التوابين}. وإنا لا نقبل توبة من يؤخر توبته إلى آخر الوقت: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}. وإنما يتقبل توبة من تتصل توبته بزلته، وتقترن بمعصيته: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}. أعظم الذنوب قتل النفس وإذا حصل خطأ من غير عمد فبالتوبة والصيام كفر: {فصيام شهرين متتابعين توبة من الله}. نهينا سيد المرسلين عن التحكم على عبادنا؛ فإن ذلك إلينا. ونحن نتوب عليهم لو نشاء: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} لا تفر من التوبة؛ فإنها خير لك فى الدارين: {فإن يتوبوا يك خيرا لهم}، {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم} ومن رمى بنفسه فى هوة الكفر فلا توبة له {لن تقبل توبتهم} أيظنون أنا لا نقبل توبة المخلص من عبادنا: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} نحن نأخذ بيد المذنب، ونقبل باللطف توبته: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب}، {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده}.
ولهذا قيل: التوبة قصار المذنبين، وغسال المجرمين، وقائد المحسنين، وعطار المريدين، وأنيس المشتاقين، وسائق إلى رب العالمين.