( بصيرة فى لو )
وهى حرف شرط للماضى. ويقل فى المستقبل. وقال سيبويه: حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. وقال غيره: حرف امتناع لامتناع. وقيل: لمجرد الربط. وقيل: الصحيح أنه فى الماضى لامتناع ما يليه، واستلزام تاليه، ثم ينتفى الثانى إن ناسب ولم يخلف المقدم غيره، نحو: {لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا}؛ لا إن خلفه؛ نحو: لو كان إنسانا لكان حيوانا. ويثبت إن لم يناف وناسب بالأولى، كلولم يخف لم يعص، أو المساوى: كلولم تكن ربيبته لما حلت للرضاع، أو الأدون؛ كقولك: لو انتفت أخوة النسب لما حلت للرضاع.
وترد للتمنى والعرض، والتقليل، نحو: ولو بظلف محرق.
وتكون مصدرية بمنزلة أن، إلا أنها / لا تنصب، نحو قوله تعالى: {ودوا لو تدهن}، وقوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر}.
وقد ورد بمعنى إن، نحو قوله تعالى: {ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين}، وقوله تعالى: {لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث}، {ولو أعجبك حسنهن}، ولو جاء على فرس. وقول الشاعر:
*قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت بأطهار*
وقولنا: لو شرط للماضى معناه أن لو يفيد عقد السببية والمسببية بين الجملتين بعدها، وبهذا يجامع إن الشرطية؛ وبتقييد الشرط بالماضى يفارق إن، فإنها للمستقبل. ومع تنصيص النحاة على قلة ورود لو للمستقبل فإنهم أوردوا لها أمثلة، منها قوله:
*ولو تلتقى أصداؤنا بعد موتنا * ومن دون رمسينا من الأرض سبسب*
*لظل صدى صوتى وإن كنت رمة * لصوت صدى ليلى يهش ويطرب*
وقول توبة ابن الحمير:
*ولو أن ليلى الأخيلية سلمت * على ودونى جندل وصفائح*
*لسلمت تسليم البشاشة أوزقا * إليها صدى من جانب القبر صائح*
وقول الآخر:
*لا يلفك الراجوك
إلا مظهرا * خلق الكرام ولو تكون عديما*
وقد أكثر الخائضون القول فى لو الامتناعية. وعبارة سيبويه مقتضية أن التالى فيها كان بتقدير وقوع المقدم قريب الوقوع؛ لإتيانه بالسين فى قوله: سيقع. وأما عبارة المعربين: أنها حرف امتناع لامتناع فقد ردها جماعة من مشايخنا المحققين، قالوا: دعوى دلالتها على الامتناع مطلقا منقوضة بمالا قبل به. ثم نقضوا بمثل قوله تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله}، قالوا: فلو كانت حرف امتناع لامتناع لزم نفاد الكلمات مع عدم كون كل ما فى الأرض من شجرة أقلاما تكتب الكلمات، وكون البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وكون السبعة الأبحر مملوءات مدادا وهى تمد ذلك البحر؛ وقول عمر رضى الله عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. قالوا. فيلزم ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف، وهو عكس المراد.
ثم اضطربت عباراتهم. وكان أقربها إلى التحقيق كلام شيخنا أبى الحسن بن عبد الكافى، فإنه قال: تتبعت مواقع (لو) من الكتاب العزيز، والكلام الفصيح، فوجدت المستمر فيها انتفاء الأول وكون وجوده لو فرض مستلزما لوجود الثانى. وأما الثانى فإن كان الترتيب بينه وبين الأول مناسبا ولم يخلف الأول غيره فالثانى منتف فى هذه الصورة؛ كقوله تعالى: {لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا}، وكقول القائل: لو جئتنى لأكرمتك. لكن المقصود الأعظم فى المثال الأول نفى الشرط ردا على من ادعاه، وفى المثال الثانى أن الموجب لانتفاء الثانى هو انتفاء الأول لا غير. وإن لم يكن الترتيب بين الأول والثانى مناسبا لم يدل على انتفاء الثانى، بل على وجوده من باب الأولى، مثل: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فإن المعصية منفية عند عدم الخوف. فعند الخوف أولى وإن كان الترتيب مناسبا ولكن الأول عند انتفائه شىء آخر يخلفه بما / يقتضى وجود الثانى [فالثانى غير منتف]، كقولنا: لو كان إنسانا لكان حيوانا؛ فإنه عند انتفاء الإنسانية قد يخلفها غيرها مما يقتضى وجود الحيوانية. وهذا ميزان مستقيم مطرد حيث وردت لو وفيها معنى الامتناع.
وقال بعض العصريين ممن يود تصحيح عبارة سيبويه وترجيحها: مدلول لو الشرطية امتناع التالى لامتناع المقدم مطلقا. وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول مني لأملأن جهنم}، فالمعنى والله أعلم - ولكن حق القول فلم أشأ، أولم أشأ فحق القول: {ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولاكن الله سلم}، أى فلم يريكموهم لذلك. {ولو شئنا لرفعناه بها ولاكنه أخلد إلى الأرض}، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولاكن الله ذو فضل على العالمين}، {ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جآءتهم البينات ولاكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا ولاكن الله يفعل ما يريد}، {ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولاكن ليبلوكم}، {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أوليآء ولاكن كثيرا منهم فاسقون}، {ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشآء الله
ولاكن أكثرهم يجهلون}، {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والأرض ولاكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}، {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولاكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا}، {لو أنفقت ما في الأرض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم ولاكن الله ألف بينهم}، {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولاكن بعدت عليهم الشقة}، {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولاكن كره الله انبعاثهم}، {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}، {ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولاكن يضل من يشآء ويهدي من يشآء}، {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} وغير ذلك من الآيات. وفى الحديث: "لو كنت متخذا [من أمتى خليلا] لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخى وصاحبى". وفى رواية: ولكن أخوة الإسلام، "ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، لكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر". وقال امرؤ القيس:
*ولو أنما أسعى لأدنى معيشة * كفانى ولم أطلب قليل من المال*
*ولكنما أسعى لمجد مؤثل * وقد يدرك المجد المؤثل أمثالى*
وقال طرفة بن العبد:
*فلو كان مولاى امرأ هو غيره * لفرج كربى أو لأنظرنى غدى*
ولكن مولاى امرؤ هو خانقى * على الشكر والتسآل أو أنا مفتد*
وقال قريط بن أنيف
العنبرى:
*لو كنت من مازن لم تستبح إبلى * بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا*
*لكن قومى وإن كانوا ذوى عدد * ليسوا من الشر فى شىء وإن هانا*
هكذا وقع فى جمهور نسخ الحماسة. والصواب: بنو الشقيقة. والنسخ / محرفة. وقال آخر:
*رأين فتى لا صيد وحش يهمه * فلو صافحت إنسا لصافحنه معا*
*ولكن أرباب المخاض يشفهم * إذا اقتفروه واحدا أو مشيعا*
وقال آخر:
*ولو خفت أنى إن كففت تحيتى * تنكبت عنى رمت أن تتنكبا*
*ولكن إذا ما حل كره فسامحت * به النفس يوما كان للكره أذهبا*
وقال آخر:
*فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت * ولكن حمد الناس ليس بمخلد*
فهذه الأماكن وأمثالها صريحة فى أنها للامتناع، لأنها عقبت بحرف الاستدراك داخلا على فعل الشرط منفيا لفظا أو معنى، فهى بمنزلة: {وما رميت إذ رميت ولاكن الله رمى}. فإذا كانت دالة على الامتناع ويصح تعقيبها بحرف الاستدراك دل على أن ذلك عام فى جميع مواردها، وإلا يلزم الاشتراك، وعدم صحة تعقيبها بالاستدراك. وذلك ظاهر كلام سيبويه، فلم يخرج عنه.
وأما قول من قال: إنه ينتقض كونه للامتناع بقوله تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} الآية، وبالأثر العمرى: لو لم يخف، وبقول النبى صلى الله عليه وسلم: "لو لم تكن ربيبتى فى حجرى لما حلت لى" فإنه يمكن رد جميع ذلك إلى الامتناع. وإيضاح ذلك بأن تقول: إذا قلنا: امتنع طلوع الشمس لوجود الليل فليس معناه انتفاء طلوع الشمس رأسا بل انتفاؤه لوجود الليل. وفرق بين انتفائه لذلك وانتفائه المطلق، فإن الأول أخص من الثانى. ولا يلزم من ارتفاع الخاص ارتفاع العام. فاذا قلنا: لو حرف امتناع لامتناع كان المعنى به أن التالى يمتنع امتناعا مضافا إلى امتناع المقدم. وليس المعنى به أنه يمتنع مطلقا. وإذا قلت
فيمن قيل لك انتقض وضوءه لأنه مس ذكره: لم ينتقض لأنه مس، فإنه لم يمس، ولكن لناقض آخر غير المس، صح؛ ولذلك لك أن تقول: لم ينتقض لأنه لم يمس. كل هذا كلام صحيح، وإن كان وضوءه منتقضا عندك بناقض آخر؛ فإن حاصل كلامك أن الانتقاض بالنسبة إلى المس لم يحصل، ولا يلزم من ذلك انتفاء أصل الانتقاض، فإنما يلزم مطلقا الامتناع فى لو الشرطية لو قلنا: إن مقتضاه الامتناع مطلقا، ونحن لم نقل ذلك، وإنما قلنا: يقتضى امتناعا منكرا لامتناع منكر، فالمنفى خاص لا عام.
إذا عرفت هذا فنقول: قد يؤتى بلو مسلطة على ما يحسب العقل كونه إذا وجد مقتضيا لوجود شىء آخر، مرادا بها أن ذلك لا يلزم تحقيقا لاستحالة وجود ذلك الشىء الآخر الذى ظن أنه يوجد عند وجود ما يحسبه العقل مقتضيا؛ كما تقول لعابد الشمس: لو عبدتها ألف سنة ما أغنت عنك من الله شيئا، فإن مرادك أن عبادتها لا تغنى. وفى الحقيقة الازدياد من عبادتها ازدياد من عدم الإغناء، ولكن لما كان الكلام خطابا لمن يعتقدها مغنية حسن إخراجه فى هذا القالب. وكذلك تقول للسائل إذا أحكمت أمر منعه: لو تضرعت إلى بألف شفيع ما قضيت لك سؤلا. ولذلك إذا [كان] بصيغة إن الشرطية لم يكن له مفهوم عند المعترفين بمفهوم الشرط؛ كما فى قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}، لأن المراد قطع الإياس. والإتيان بصيغة لو فيما ضربناه مثلا لتحقق الامتناع لا لمقابله.
وأما ما أوردوه نقضا، وأنه يلزم نفاد الكلمات عند انتفاء كون ما فى الأرض من شجرة أقلاما، وهو الواقع؛ فيلزم النفاد وهو مستحيل؛ فالجواب أن النفاد إنما يلزم انتفاؤه لو كان المقدم مما لا يتصور العقل أنه مقتض للانتفاء. أما إذا كان مما قد يتصوره العقل مقتضيا فألا يلزم عند انتفائه أولى وأحرى. وهذا لأن الحكم إذا كان لا يوجد مع وجود المقتضى فألا يوجد عند انتفائه أولى. فمعنى (لو) فى الآية أنه لو وجد الحكم المقتضى لما وجد الحكم، لكن لم يوجد فكيف يوجد. وليس المعنى: لكن لم يوجد فوجد؛ لامتناع وجود الحكم بلا مقتض.
فالحاصل أن ثم أمرين: أحدهما: امتناع الحكم لامتناع المقتضى. وهو مقرر فى بدائه العقول؛ وثانيهما: وجوده عند وجوده، وهو الذى أتت (لو) للتنبيه على انتفائه مبالغة فى الامتناع. فلولا تمكنها فى الدلالة على الامتناع مطلقا لما أتى بها. فمن زعم أنها والحالة هذه لا تدل عليه فقد عكس ما يقصده العرب بها، فإنها إنما تأتى بلو هنا للمبالغة فى الدلالة على الانتفاء؛ لما للو من التمكن فى الامتناع.
فإذا تبين هذا أنقله إلى الأثر وغيره، فنقول: لو لم يخف الله لم يعصه لما عنده من إجلال الله تعالى والخشية، وإذا لم يخف يكون المانع واحدا وهو الإجلال. فالمعصية منتفية على التقديرين، وجئ بلو تنبيها على الامتناع بالطريقة التى قدمناها لا على مطلق الامتناع.
فإن قلت: قوله لو لم يخف لم يعص إذا جعلنا لو للامتناع صريح فى وجود المعصية، مستندا إلى وجود الخوف، وهذا لا يقبله العقل. قلنا: المعنى: لو انتفى خوفه انتفى عصيانه، لكن لم ينتف خوفه فلم ينتف عصيانه مستندا إلى أمر وراء الخوف.
وأما قوله: ترد للتمنى فشاهده قوله تعالى: {فلو أن لنا كرة}، أى فليت لنا كرة؛ ولهذا نصب (فيكون) فى جوابها، كما انتصب (فأفوز) فى جواب كنت فى قوله تعالى: {ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}.
وأما العرض فمثاله: لو تنزل عندنا فتصيب خيرا.
وأما التقليل فذكره بعض النحاة؛ وكثر استعمال الفقهاء له، وشاهده قوله تعالى: {ولو على أنفسكم}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق
تمرة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "التمس ولو خاتما من حديد"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا ولو بظلف محرق".
وقد يسأل عن قوله تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا}، ويقال: إن الجملتين يتركب منهما قياس وحينئذ ينتج: لو علم الله فيهم لتولوا وهذا مستحيل.
الجواب أن التقدير: لأسمعهم إسماعا نافعا، ولو أسمعهم إسماعا غير نافع لتولوا.
جواب ثان: أن يقدر ولو أسمعهم على تقدير عدم علم الخير فيهم.
جواب ثالث: أن التقدير: ولو علم الله فيهم خيرا وقتاما لتولوا بعد ذلك.
قال الشيخ أثير الدين: وقد ركب أبو العباس بن مريسح ما دخلت عليه لو تركيبا غريبا غير عربى فقال:
*ولو كلما / كلب عوى ملت نحوه * أجاوبه إن الكلاب كثير*
*ولكن مبالاتى بمن صاح أو عوى * قليل فإنى بالكلاب بصير*