الشيخ: . . . بالنسبة للمقطوع ينزل درجة عن النوع الذي قبله,ودرجتين عن النوع الذي قبل ذلك؛فالمقطوع هو ما جاء عن التابعي,أي: ما أضيف إلى التابعي,من قول أو فعل,وينبغي أن نعرف أن هناك فرقا بين المقطوع والمنقطع؛فالمقطوع وصف للمتن,والمنقطع وصف للسند,فلا تلاقي بينهما,ومن وجد من أهل العلم أنه ساوى بينهما فهو تجوز ليس بجيد ، وهذا منقول عن الشافعي رحمه الله,والطبراني رحمه الله ، أنهم يطلقون المقطوع على المنقطع,فلعلهم بهذا لم يجعلوا لما جاء عن التابعين وصفا محددا,وإنما التفتوا للإسناد بالذات.
لكن الصواب أن يفرق بين هذه الأنواع الثلاثة: ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام,وما جاء عن الصحابة ، وما جاء عن التابعين.
وأما إذا أردنا أن نحدد وصف السند,فنعبر عنه بالانقطاع,قد يتساءل أحدنا فيقول: ما الفائدة من وصف هذه الأنواع الثلاثة,أو هذا النقل الذي عن النبي صلى الله عليه وسلم,أو عن الصحابة,أو عن التابعين؟
نقول: الفائدة ظاهرة وجلية؛ فما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام,فهو الذي لا يختلف في الاحتجاج به,إذا صح وثبت.
أما ما جاء عن الصحابة,فهو محل نظر؛ فمن العلماء من يحتج بما جاء عن الصحابة,وفق شروط محددة,ومنهم من لا يحتج به .
وأما ما جاء عن التابعين,فكما جاء عن أبي حنيفة: هم رجال ونحن رجال ، فما جاء عن التابعين الأعم الأغلب أن الأئمة لا يحتجون به,لكن بعض أهل العلم يستأنس بما جاء عن التابعين,ويعتبره هو العمل الذي دائما يشير إليه الترمذي وغيره أيضا من العلماء,فيقولون: هذا لم يجر عليه العمل,أو لم يأت به العمل ونحو ذلك.
فما جاء به العمل عن التابعين,وبالذات إذا كان محل اتفاق بينهم,أو قول أكثرهم,ففي الحقيقة أنه يهم جدا عند العلماء,الذين يهتمون بالأحكام والعقائد.
أما ما هو القول الراجح في الاحتجاج بما جاء عن الصحابة,فأختصر لكم ذلك اختصارا بالآتي,فنقول:
ما جاء عن الصحابة,إما أن يكون موصولا عن واحد فقط,أو منقولا عن أكثر من واحد ، وإما أن يكون المنقول عن الصحابي أو الصحابة فيه نص من كتاب أو سنة,أو ليس فيه نص لا من كتاب ولا من سنة ، وإذا كان النقل عن أكثر من واحد فإما أن يتفقوا,وإما أن يختلفوا .
كل هذه الأمور الثلاثة واردة,فإذا كان هناك نص من كتاب أو سنة,فالنص هو الأصل,وما جاء عن الصحابة يعتبر ملتحلقا به,إن كان متفقا معه,فإن خالف فالعمدة على النص من الكتاب والسنة,ولا عبرة بمخالفة الصحابي؛لأنه قد يخالف عن اجتهاد,ولكن العبرة بما جاء في النص,إن كان صحيحا صريحا في الدلالة .
أما إن لم يكن هناك نص, لا من كتاب ولا من سنة, فإن كان عن صحابي واحد,فما يذهب إليه بعض الأئمة كالإمام أحمد الأخذ بما جاء عن الصحابي,إذا لم يكن في الباب سواه.
وأنا أرى أن هذا هو المنهج الصحيح,ويمكن أن يمثل لهذا بمثل ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن من ترك نسكا فعليه دم) أنا لا أذكر أن هناك نصا يمكن أن يخدمنافي هذه المسألة سوى ما جاء عن ابن عباس,ولا نعرف له مخالفا ، لذلك أخذ بعض أهل العلم بما جاء عن ابن عباس ، فما ترك واجبا من واجبات الحج أوجبوا عليه الدم جبرانا لترك ذلك الواجب بناء على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا .
وحقيقة من حيث أيضا الطمأنينة إلى الآثار,لو صورت نفسك يا أخي أمام مسألة عارضة من المسائل,ورأيت أن هذا الصحابي قد قال في تلك المسألة بقول,ورأيك واجتهادك أداك إلى قول مخالف له,لكنك تفتقد الدليل من الكتاب والسنة,وليس هناك إلا القياس,فأنا أقول: إن ما جاء عن الصحابي أولى بالأخذ مما جاء بالآراء والأقيسة؛لأن هذا الصحابي من المحتمل جدا أن يكون أخذ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم,ويحتمل أيضا أن لا يكون أخذه عن النبي عليه الصلاة والسلام,فمادام أن الاحتمال موجود,فهذا ينبغي أن نضعه في الحسبان.
بالإضافة إلى أن الصحابة لو قاسوا فهم أصفى وأنقى عقولا منا,وأحسن أقيسة منا؛لقرب عهدهم بالوحي ، فاجتهاد الصحابي لو سلمنا بأن المسألة محل اجتهاد, اجتهاد الصحابي أولى بالطمأنينة إليه من قول من سواه,اللهم إلا أن يكون معارضا بنص ، فلو كان معارضا بنص فلا كلام.
لكن ما دام المسألة ليس فيها نص,فما يذهب إليه الصحابي هو الذي ينبغي الأخذ به في هذه الحال,وهذا الذي أراه راجحا إن شاء الله تعالى.
أما لو جاء النقل عن أكثر من صحابي,فإن وجدنا النقل عنهم واحدا,فإن هذا يعتبر إما إجماعا أو شبيها بالإجماع ، مثل ما نقل عنهم رضي الله تعالى عنهم في مسألة كفر تارك الصلاة ، فإننا لا نعرف بينهم خلافا في أن تارك الصلاة يكفر ، كل ما جاء من نقل عن الصحابة وجدناه يؤيد أحد المفهومين من الأحاديث التي جاءت في إطلاق الكفر على تارك الصلاة.
لذلك أنا أعتبر ما جاء عنهم,إن لم نقل: إجماعا فعلى الأقل يكون يقال: لا يعلم له مخالف ، أي: من الصحابة ، أما لو كان بينهم خلاف فإن الخلاف في هذه الحال -وطبعا هذا كله على فرض أنه ليس في المسألة نص- فإن الخلاف في هذه الحال ينبغي أن ينظر إليه بتجرد, فيمكن أن يرجح أحد القولين بناء على مرجحات الرأي والقياس,وهذا في حال الحاجة إليه,ويمكن أن يترك القول الآخر لمعارضته لما ذكرناه من الرأي والقياس.
فهذا بالنسبة لما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم,من أقوال ليس فيها نص .
ابتدأ بعد ذلك ابن الصلاح يتكلم عما يتعلق بهذه المسألة,مما جاء عن الصحابة,رضي الله تعالى عنهم,وكل هذا استطراد في مبحث الآثار,وما جاء عنه,لكن الغريب أنه جعل هذا الكلام بعد الكلام على المقطوع,وكان الأولى أن يكون هذا الكلام بعد الكلام على الموقوف,لكن لعله نظر إلى أن هذه الأنواع كلها جاءت بمساق واحد,فتكلم عن تعريفاتها ، وما يتعلق بالتعريف,ثم ابتدأ بعد ذلك يتكلم عن ما يتعلق بها من هذه المسألة التي يمكن أن تكون مرتبطة بالموقوف والمرفوع أيضا.
القارئ: قال: وقد تكلم الشيخ أبو عمرو على قول الصحابي: كنا نفعل أو نقول كذا,إن لم يضفه إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر البرقاني عن شيخه: أبي بكر الإسماعيلي: إنه من قبيل الموقوف.وحكم النيسابوري برفعه ؛ لأنه يدل على التقرير.ورجحه ابن الصلاح.
قال: ومن هذا القبيل قول الصحابي: كنا لا نرى بأسا بكذا,أو كانوا يفعلون أو يقولون أو يقال كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم,إنه من قبيل المرفوع ، وقول الصحابي: أمرنا بكذا,أو نهينا عن كذا مرفوع مسند عند أصحاب الحديث,وهو قول أكثر أهل العلم,وخالف في ذلك فريق منهم أبو بكر الإسماعيلي,وكذا الكلام على قوله: من السنة كذا,وقول أنس: أمر بلال أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة ، قال: وما قيل من أن تفسير الصحابي في حكم مرفوع,فإنما ذلك فيما كان سبب نزول أو نحو ذلك.
أما إذا قال الراوي عن الصحابي,يرفع الحديث أو ينميه,أو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم,فهو عند أهل الحديث من قبيل المرفوع الصريح في الرفع.والله أعلم.
الشيخ: هذا الكلام أيها الإخوة,إنما أخذ بعد تتبع لعدة أحاديث وجدت فيها هذه الأوصفات,التي ذكرها ابن الصلاح وابن كثير تبعا له في هذا المبحث؛لأن هناك بعض الألفاظ التي جاءت مما لا يدل اللفظ ظاهرا على أن ذلك نسب للنبي صلى الله عليه وسلم,فلم يقل مثلا: كنا نفعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا ، أو كنا نقول بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا ، لو جاء الكلام بهذه الصورة لما اختلفوا فيه,ولما تنازعوا,ولكن لما قيل: كنا نفعل كذا أصبح الكلام الآن محتملا لأن يكون في عهد النبي عليه الصلاة والسلام, وفي عهد غيره, كأبي بكر وعمر.
أو "كنا نقول كذا" يمكن أن يكون واردا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم,أو على عهد أبي بكر وعمر أو غيرهما .
لأجل هذا حصل الاختلاف بين العلماء,في هل تؤدي هذه العبارات ما يساوي أن الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم , أو لا تؤدي هذا المفهوم ؟
القول الراجح والصحيح: أن كل ما جاء من هذا القبيل فهو في حكم المرفوع؛ لأن الصحابي لا يقول: كنا نفعل كذا,إلا وهناك قرينة على أنه رضي الله تعالى عنه أراد الاحتجاج بهذا الفعل .
والاحتجاج إنما هو ما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم,فهو يشير إلى أننا كنا نفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل,ولو كان في ذلك مثلا نهي لنهينا عنه ، وكنا نقول: كذا وكذا ، ولو كان هذا القول غير جائز,لما حصل الإقرار لنا عليه,أي: لجاء النص بخلافه ، مثل قول أبي سعيد وجابر رضي الله تعالى عنهما: (كنا نعزل والقرآن ينزل,ولو كان في ذلك نهي لنهينا),هذا شبيه به,يعني حينما يقول: كنا نفعل,وإن لم يضفه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي هذا إشارة إلى أنهم أرادوا زمن النبي عليه الصلاة والسلام؛لأنه هو الذي يحصل به الاحتجاج,أما لو كان في الكلام قرينة على أنه ما أراد زمن النبي عليه الصلاة والسلام,وإنما يمكن أن يكون أراد زمن أبي بكر وعمر,فالحال تختلف الآن,لكن كل ما كان في مقام الاحتجاج,لا يتصور أن الصحابي يطلق هذه اللفظة,إلا فيما كان عن النبي عليه الصلاة والسلام,أو فيما كان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام .
ثم إن بعضهم خالف فيما لو قال الصحابي,أو فيما لو أضاف الصحابي ذلك إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم,قال: مع هذا أيضا لا يمكن أن يكون مرفوعا,مثل: قول أبي سعيد وجابر الذي ذكرته: (كنا نعزل والقرآن ينزل,ولو كان في ذلك نهي لنهينا).
ولكن هذا الخلاف يعتبر خلافا شاذا,وإلا بعضهم قال: لا يلزم من هذا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم؛لأنه لم يرهم ، فكل واحد يفعل هذا الفعل في بيته,وليس ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم,لا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أقره عليه .
لكن يرد عليه: أن الوحي في ذلك الزمان كان ينزل,وكان ينزل في تقويم بعض الأخطاء التي تحصل في المجتمع الإسلامي آنذاك ، حتى لو لم يره النبي صلى الله عليه وسلم,فربما نزل الوحي على أن هناك من يفعل كذا,ومن يصنع كذا,وربما قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبروقال: ما بال أقوام يفعلون كذا.فلا يترك الناس على خطأ يخطئوه,ولو كان ذلك غير جائز لما أقرهم الشارع عليه.
مما يلتحق بهذا أيضا قول الصحابي: كنا لا نرى بأسا بكذا,أو كانوا يفعلون,أو يقولون,أو يقال كذا ، هذا فيما لم يضف إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، أما لو أضيف إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم,فالرفع واضح حينذاك.
إذن نحن نعرف أن هذه المسألة يمكن أن ترد على ثلاثة مقامات,أو في ثلاثة أحوال: إما أن يقول الصحابي: كنا نفعل كذا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم,أو كنا نقول كذا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم,أو كنا لا نرى بأسا بكذا والنبي صلى الله عليه وسلم يرانا ، أو كانوا يفعلون كذا,أو يقولون كذا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
المهم أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام قد شاهدهم,أو سمعهم وأقرهم على ذلك,فهذا لا يختلف فيه إطلاقا بأنه مرفوع,وليس محل نزاع.
الذي دونه أن يذكر هذا,مع إضافته إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم,لكن دون أن ينص على أنه حضر ذلك أو شاهده وأقره ، مثل هذه الألفاظ التي جاءت أمامنا: كنا نفعل كذا ، مثل قول أبي سعيد وجابر: (كنا نعزل والقرآن ينزل) يعني: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم,وفي عهد نزول الوحي (ولو كان في ذلك نهي لنهينا).
فقلت: إن الصواب في هذا,أنه من قبيل المرفوع,وأن الخلاف الذي جاء فيه يعتبر خلافا شاذا جدا ،.
الثالث: أن يقال: كنا نفعل,ولا يضاف إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم,أو كنا نقول,أو كنا نرى,ولا يضاف إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم,فضلا عن أن يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حضره وأقره, فهذا الرأي الراجح فيه أيضا,أنه من قبيل المرفوع,اللهم إلا أن يكون هناك قرينة تدل على أنهم أرادوا زمن أبي بكر وعمر,أو غيرهما.
فأظن الآن المسألة واضحة بهذا التفصيل الثلاثي,ومن هذا القبيل أيضا إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا,أو نهينا عن كذا,فإنما يقصد الصحابة رضي الله تعالى عنهم الأخذ من صاحب الأمر وصاحب النهي ، وهذا إنما هو للنبي صلى الله عليه وسلم,فهو الذي أمره ونهيه حجة ، لذلك يعتبر هذا أكثر تأكيدا من سابقه؛لأن الدلالة واضحة في هذا,أنهم أرادوا النبي عليه الصلاة والسلام,وإن كان هناك من خالف,لكن خلافه في هذه المسألة أيضا يعتبر خلافا شبيها بالشاذ .
فعلى كل حال كل, هذا يعتبر مرفوعا مسندا عند أصحاب الحديث ، أما قوله: مسندا,فلا يلزم أن يكون ما ذكر مرويا بإسناد متصل,بل قد يكون مرويا بإسناد منقطع,أو معضل,أو معلق,أو ما إلى ذلك,لكن هذا يعتبر كله من قبيل المرفوع إلى النبي عليه الصلاة و السلام ، فلعله أراد بالإسناد ههنا بناء على كلام ابن عبد البر.
كما أنني أحب أن أنبه إلى أن ما كنا ذكرناه في تعريف المسند والمتصل: أنه ما اتصل سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا بالنسبة للمسند ، وبالنسبة للمتصل: هو ما اتصل سنده إلى منتهاه.
المراد باتصال السند ههنا ظاهرا ، الاتصال الظاهر ، وأما ما قد يرد من علل خفية تبين أن في الإسناد انقطاعا؛ إما بتدليس,أو إرسال خفي,فلا يرد ههنا,ولا يخرج الحديث عن هذا الوصف,فلو جاءنا حديث مروي بإسناد فيه راو موصوف بالتدليس,والحديث مروي إلى النبي صلى الله عليه وسلم,لأمكننا أن نقول: إن هذا الحديث مسند بهذه الصورة,فلا يخرجه عن تعريف الحاكم .
كذلك أيضا لو جاءنا حديث مروي بإسناد ظاهره الاتصال إلى التابعي.. الصحابي,أو التابعي,لكن فيه راو موصوف بالتدليس,فلا يخرجه عن وصف المتصل في هذه الحال ، وإنما الذي يخرج عن وصف الاتصال,ما كان الانقطاع فيه ظاهرا ، فالانقطاع عندنا قسمان,أو السقط قسمان:
سقط ظاهر,وسقط خفي .وهذه سيأتي الكلام عليها إن شاء الله بعد قليل.
(طيب) قال: "وهو قول أكثر أهل العلم".وهذا ظاهر من خلال الكلام الذي ذكرناه,"وخالف في ذلك فريق" والمخالفة كما رأينا تختلف؛ فمنها مخالفة يمكن أن تكون محتملة,كمن خالف في قول الصحابي: كنا نفعل كذا.ولم يضف ذلك إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا في هذه الحال نقول: إن الرأي الراجح فيه أنه يريد زمن النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكن من خالف في هذا فخلافه محتمل.
أما الذي يخالف فيما إذا أضيف ذلك إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم,فهذا خلافه خلاف شاذ .
كذلك أيضا استطرد العلماء في الكلام على بعض العبارات,التي جاءت في بعض الأدلة,مثل قولهم: من السنة كذا ، مثل قول أنس: (من السنة إذا تزوج البكر أن يقيم عندها سبعة) فقوله: من السنة في هذه الحال أنا لا أدري هل هو قول أنس أو قول أبي قتادة.
على كل حال قول أحد الصحابة قوله: من السنة كذا.يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم,ومن المستبعد أن يكون أراد سنة أبي بكر وعمر ؛ لأن الصحابة,بل والتابعين,وفي الأعم الأغلب أنهم لا يطلقون هذا إلا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم,ويدل عليه أن أظنه سالم بن عبد الله بن عمر ، لما روي حديثا بهذه الصورة من السنة,عن أبيه عبد الله بن عمر: من السنة كذا . قيل له: سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال: وهل يطلقون هذا إلا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.أو كما جاء في عبارته.
وكلامه هذا أظنه موجودا في صحيح البخاري ، كذلك قول أنس: (أمر بلال) من الذي يأمر بلالا؟ إنما الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم, (أمر بلال أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة).فهذا أراد به النبي عليه الصلاة و السلام,بعضهم أشار إلى أن الصحابي أيضا إذا أشار إلى أن من فعل كذا (فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) هو من قبيل المرفوع,وهذا أيضا ظاهر وواضح وجلي.
لكن الذي يخالف في هذه المسألة يخالف على اعتبار آخر,ويقول: لماذا لم يذكر الصحابي لفظ النبي عليه الصلاة و السلام,يعني: حينما يقول أبو هريرة: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)في الرجل الذي خرج بعد الآذان,أو كقول عمار بن ياسر: (من صام اليوم الذي يشك فيه,فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) يقولون: لماذا لم يذكر الصحابي لفظ النبي عليه الصلاة والسلام؟
ويدقق في هذا كثيرا الأصوليون يقولون: لأن العبارة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفهمها الصحابي أمرا يفيد الوجوب ، ولذلك يعتبر من خالف هذا الأمر عاصيا,بينما لو نظر في تلك العبارة لما دلت على الوجوب.
فهذا كلام أيضا معتبر,ولكن الراجح أن هذا يعتبر من قبيل المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم,ويكون حكمه كحكم التصريح باللفظ.
هناك مسـألة أخرى ، وهي أن ما قيل من تفسير الصحابة لبعض الآيات هل يعتبر هذا من قبيل المرفوع,أو لا يعتبر كذلك ؟
الصواب في هذه الحالة: أن ننظر فيما نقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم,فيما يتعلق بتفسير القرآن,فإن كان ما جاء يعتبر سبب نزول تلك الآية,كأن يقول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا وكذا ، ويذكر حادثة معينة,كقول جابر مثلا في سبب نزول قول الله جل وعلا: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} أن السبب أن اليهود كانوا يقولون: إن الرجل إذا أتى امرأته من الخلف أصبح الولد أحول . أي: من الخلف في القبل.
فمثل هذا القول من جابر رضي الله عنه في سبب نزول قول الله جل وعلا,هذا يدل على أن ما جاء عن جابر ههنا من قبيل المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم,أما إذا كان ما جاء عن الصحابي,إنما هو في بيان معنى لآية,فهذه الآية لا تخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون أمر فيه مجال للاجتهاد,وبالذات وفق كلام لغة العرب,وما تفهمه العرب من لغاتها,وإما أن لا يكون فيه مجال للاجتهاد,كالإخبار عن المغيبات ، مثل الحديث عن بني إسرائيل السابقين والأمم الماضية,أو الحديث عن الفتن وأشراط الساعة,أو وصف أحوال اليوم الآخر ، إما في عرصات القيامة,أو أحوال البرزخ,أو في الجنة,أو في النار,أو في وصف نعيم الجنة,أو غير ذلك من المقامات والأحوال,فإن كان هناك مجال للرأي فيما جاء عن الصحابي في تفسير آية,فإن هذا لا يعتبر من قبيل المرفوع ، وإنما يعتبر ذلك تفسير صحابي يمكن أن يعول عليه,إلا إذا خالفه تفسير صحابي آخر .
وأما إذا كان مما لا مجال للاجتهاد فيه,ولا مجال للرأي فيه,كالإخبار عن المغيبات التي أشرت إليه فإنهم في هذه الحال ينظرون, فإن كان ذلك الذي جاء عن الصحابي مما يمكن أن يؤخذ عن أهل الكتاب,نظروا في حال ذلك الصحابي: هل هو ممن أخذ عن أهل الكتاب أو لا؟ فإن كان ممن يأخذ عن أهل الكتاب,كأبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، فإنهم في هذه الحال لا يعدونه من قبيل المرفوع؛لاحتمال أن يكون تلقاه عن أهل الكتاب.
مثل ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم في الإخبار عن قصة الرجل الذي قال الله جل وعلا فيه: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين}... إلى آخر الآيات.
قالوا:إنه كان بلعام بن باعوراء ، وذكروا قصة له في حادثة مع موسى,وأنه انحاز مع قومه الكفرة ضد موسى ومن معه من المؤمنين ، فهذه القصة جاءت عن بعض الصحابة,لكن عرف من خلال نقل أولئك الصحابة,أن هذا مما أخذ عن بني إسرائيل,وأنه لا يمكن أن يكون أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم,أو كما جاء في قصة الرجل الذي هو العابد برصيصا: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين},ذكروا أيضا قصة في هذا لهذا العابد برصيصا, وأنه زنى بامرأة وفجر بها وقتلها وقتل ولدها,إلى غير ذلك مما يمكن أن تكونوا اطلعتم عليه.
على كل حال هذا كله يمكن أن ينحي ما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذا المقام عن أن يكون من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم,أما إذا كان الصحابي من المعروفين بعدم الأخذ عن أهل الكتاب,كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنهم يعتبرون ما جاء عنه له حكم المرفوع .
ولذلك أخرج مسلم رحمه الله في صحيحه حديث عبد الله بن مسعود, أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: ((يؤتى بجهنم يوم القيامة, ولها سبعون ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)). مع العلم أن هذا الحديث الراجح فيه من حيث الإسناد, أنه موقوف على ابن مسعود ،وأن حفص بن غياث أخطأ على سفيان الثوري حينما ذكر الحديث عنه على أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم,وانتقد الدارقطني مسلما على إخراجه لهذا الحديث؛ لأن الصواب فيه ما رواه الجمع الكثير عن سفيان الثوري,على أنه موقوف على ابن مسعود.
لكن سواء كان موقوفا على ابن مسعود,أو غير موقوف,فإنه لا يختلف تماما عن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛لأن هذا له حكم المرفوع,فابن مسعود لا يمكن أن يكون قال هذا من قبل رأيه,وإنما لابد أن يكون أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛لأنه أيضا لم يكن معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب,وهذه مسألة واضحة وبينة إن شاء الله تعالى .
إذا كان الصحابي أيضا يحدث بحديث,فيما يتعلق بتفسير القرآن,أو حتى غير تفسير القرآن , ولكن هذا الحديث لا يمكن بحال من الأحوال أن يقوله من قبل رأيه ، ولا يمكن أيضا أن يكون أخذه عن غير النبي صلى الله عليه وسلم,يعني: كأهل الكتاب ، فهذا أيضا يكون له حكم الرفع,ولو كان ذلك الصحابي من المعروفين بالأخذ عن أهل الكتاب.
ولذلك اعتبر بعض أهل العلم ما جاء عن بعض الصحابة,من زيادة التكبيرات في صلاة الجنازة مثلا,أو زيادة عدد الركوعات في صلاة الكسوف ، اعتبروا ذلك كأنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم,على اعتبار أن الصحابي لا يمكن أن يصلي هذه الصلاة إلا وهو قد أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا مثل ما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الزيادة في عدد الركوعات في صلاة الكسوف.
فأصبحت المسألة الآن واضحة بهذه الصورة.
أمر آخر,وهو الذي آخر هذا المبحث: وهو ما لو قال الصحابي.. أو ما لو جاء في الحديث,آسف .. ما لو جاء في الحديث معنا قوله: يرفع الحديث أو ينميه أو يبلغ به, فإن قال: يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم,أو ينميه إلى النبي صلى الله عليه وسلم,أو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم, فهذه المسألة لا أعرف خلافا فيها بأنها من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا؛ بدليل وجود الإضافة إلى النبي عليه الصلاة و السلام.
ولذلك ما كان ينبغي لابن كثير ههنا,أن يذكر هذه اللفظة,وهو قوله: النبي صلى الله عليه وسلم؛لأن هذه -إن شاء الله- مما لا نزاع فيها؛لوضوحها وجلائها,ولكن التي يمكن أن ينازع فيها هي ما لو جاء في الرواية يبلغ به أو يرفع الحديث أو ينميه,ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم,فهل يقصدون أنه يرفعه إلى النبي عليه الصلاة و السلام,وهو صاحب المقام الرفيع,أو ينميه,أي: يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم,أو يبلغ به أي: النبي صلى الله عليه وسلم؟
نقول: الراجح من هذا,أنهم يريدون النبي عليه الصلاة والسلام؛ وإنما فعل ذلك اختصارا.
وههنا قد نتساءل فنقول: لماذا هذا الاختلاف؟ ولماذا لا يقولون في الرواية ما يشفي الغليل ويقطع لك الخلاف في هذه المسألة؟ فلماذا يقولون هذه الألفاظ: يرفع الحديث,ينميه,يبلغ به من السنة كذا ، كانوا يفعلون كذا؟ لماذا لا يذكر كل شيء بصراحة؟
أقول: إنه أحيانا,وهذا أهم الأسباب,يدفعهم لهذا الورع في الرواية؛فبعضهم كان إذا جاء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذته رعشة,وأخذ يتصبب منه العرق,وظهرت عليه علامات الخوف ، مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه,ولذلك كان في كثير من الأحيان يذكر الحديث كأنه هو الذي قاله,بينما هو أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم يستحضرون قول النبي عليه الصلاة و السلام: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)).وفي لفظ آخر: ((من تقول علي ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار)).
وكان بعضهم إذا حدث بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أو كما قال . أو كذا أو كذا ، يحاول أن يضع الاحتمالات؛حتى يخرج نفسه عن أن يكون زاد في الحديث أو نقص أو أبدل لفظة مكان لفظة,فيخشى أن يكون مشمولا بقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا,ولأجل أن بعضهم لا يكون مستحضرا للكلام برمته وبدقة ، يعبرون بهذه التعبيرات,كل ذلك خوفا من أن يكونوا مهددين ومتوعدين لما ذكرته لكم من الأحاديث.
إلى هنا ننتهي من هذه الأنواع التي كما قلت: هي مقدمة بين يدي الأنواع الآتية, سيأتينا أنواع ستة فيما يتعلق بالسقط في الإسناد؛ لأنني قلت: إن الطعن إما أن يكون بسبب سقط في الإسناد أو بسبب طعن في الراوي,فالسقط في الإسناد يدخل فيه أنواع ستة وهي: المرسل,والمنقطع,والمعضل,والمعلق,والمدلس,والمرسل إرسالا خفيا,ونجد أن هذه الأنواع الستة تنقسم إلى قسمين: فمنها ما يقال عنه: إنه من باب السقط الجلي,أي: الواضح البين,ومنها ما هو من السقط الخفي,الذي لا يدرك إلا.. أو لا يدركه إلا العلماء الجهابذة النقاد .
أما الأنواع التي تتعلق بالسقط الجلي,فهي أربعة: المرسل,والمنقطع,والمعضل,والمعلق.
وأما الأنواع المتعلقة بالسقط الخفي,فهما اثنان: المدلس,والمرسل إرسالا خفيا .
وكل هذه سيأتي الكلام عليها إن شاء الله في الأنواع الآتية ، أنا أفضل أن نستمر قليلا ، هل فيكم نشاط نستمرا (ولا) نتوقف ؟ يكفي يعني ساعة ونصف (هه)؟ نستمر إن شاء الله. تفضل.